قضايا وآراء

أقنعة شعار: (ما بعد الأيدولوجيا)

وقد جاء تعبيره هذا متزامناً مع ابتداء التفكير في طرح مشاريع النهايات، مع الفكر البنيوي وفلسفة ما بعد الحداثة.. وأعتقد بأنَّ التفكير بأسلوب "الما بعد" و"استخدام لغة النهايات" يأتي دائماً لاحقاً لازمة وتحوّل كبيرين، فنظرية بيل القائلة بنهاية الأيدولوجيا جاءت تعليقاً وتأملاً في نهاية التجربة النازية والفاشية، ونظرية فوكوياما القائلة بـ"نهاية التأريخ" جاءت لاحقة للسقوط الكبير للاتحاد السوفيتي وما سُمي بـ"المعسكر الاشتراكي" آنذاك، وما قيل حول ذلك بانهيار الفلسفة الماركسية وانحلال مشروعها المجتمعي الاشتراكي، وبالطبع فإنَّ هذا الانهيار أدَّى إلى خفوت ذلك السجال الأيدولوجي، الذي كان ممتداً خلال فترة الحرب الباردة، وعند بداية التسعينات أخذت كثير من المنتديات الفكرية والإعلامية تتحدث عن دخول البشرية في عصرٍ جديد، وزمن ثقافي جديد "اتفق" على تسميته حيناً بعصر "ما بعد الأيدولوجيا" وحيناً آخر بـ"عصر التقنية"، وثالثاً بـ"عصر العولمة"، وغير ذلك من التسميات التي تختلف مدلولاتها المباشرة، بيد أنها تلتقي في النهاية عند الاعتقاد بأن هذا العصر هو عصر سيخفت فيه صراع الأفكار والنظريات الشمولية، وسيستعاض عنه بزمن تقني يتم فيه الصراع ليس على المُثل الفكرية، بل على وحدة ثقافية تشترك في الاقتناع بها، بقدر ما ستتكتل على مصالح اقتصادية، "تشترك" في اقتسامها.

وهكذا نرى أنَّه في كل مرّة يُرفع هذا الشعار ما بعد الأيدولوجيا أو نهاية الأيدولوجيا، ولكنه يعجز هذا النوع من التفكير عن إبصار الأبعاد الحقيقية للأحداث. هذا أحد الأسباب التي تُفسّر في تقديرنا سطحية التحليل الذي قدّمه فوكوياما، ولم تستطع، بفعل هذا الدوي، أن تُنصت إلى ذلك النبض الخافت العميق، نبض الأسباب الفعلية للانهيار. حيث يظن هؤلاء أن معنى "موت الأيديولوجيا" هو انتهاء الرؤى الشمولية الكليانية مثل الشيوعية، وأن الانتقال إلى ما بعد الأيديولوجيا دلالة على ارتقاء الوعي الأوروبي إلى انفتاح الفكر وليبراليته، بينما الصحيح في تقديرنا أن ما يسمى بموت الأيديولوجيا يدل على خلل بنيوي أعمق من كل هذا السطح الظاهر، خلل يمس المرجعية الثقافية الغربية بأكملها، حيث يعكس عجزها عن توليد قناعة فكرية وتحديد معنى للوجود والعالم قادر على إقناع العقل وطمأنة الشعور.

ولإيضاح موقفنا هذا نقول: إذا كان القرن السابع عشر، ثم إلى حدٍ ما القرن الثامن عشر أيضاً، زمن ابتداع الأنساق الفلسفية الكبرى، مثل فلسفات ديكارت وسبينوزا ولايبنز وبيكون، والنقدية الكانطية. وإذا كان القرن التاسع عشر زمن الرؤى والأنساق الفلسفية السياسية والتاريخية الكبرى، المتمثلة في الهيجلية والماركسية والسانسيمونية والوضعية. فإن القرن العشرين، سواء من الناحية الفلسفية أو السياسية، كان قرناً متواضعاً على مستوى الإبداع داخل سياق تطور الفكر الغربي، فقد كان من حيث النظريات السياسية والرؤى الفلسفية عالة على القرن التاسع عشر تحديداً. ونحن إذا استثنينا من القرن العشرين هوسرل وهيدغر وهوايتهيد، فإن جملة الأسماء الفلسفية التي التمعت فيه بدءاً من سارتر وفتجنشطين وانتهاء بمشيل فوكو وجاك دريدا، هي بالمعيار الفلسفي الصارم مجرد أقزام بالقياس إلى كانط أو هيجل، لكن ميزتها أنها أقزام أثارت من الضجيج قدراً غير قليل. أما على المستوى السياسي، فإن النظريات التي اشتغل بها القرن العشرون كانت كلها مستدانة ومعارة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي كانت نظريات مستعارة من روسو ومونتسكيو وهيجل وماركس. ولم يُضف هذا القرن العشرون على مستوى التنظير السياسي إلا النظرية الفاشية والنازية مع موسوليني وهتلر. ولا أعتقد أن هذه تعد إضافة تستحق أن تحمد.

وحتى على مستوى الإبداع الفني، عمل هذا القرن على إفساد الذوق، أكثر مما عمل على تجويده وترقيته، فموسيقا القرن التاسع عشر مثلاً نجدها موسيقا تطفح بالمعنى وبحس وجداني وشعوري قوي راقٍ، بينما موسيقى القرن العشرين (قرن ضحالة الفكر وتبلد الشعور والإحساس) هي موسيقا الطنين وليس موسيقى الإحساس والتفكير، إنها موسيقى ضجيج الآلة لا موسيقا الحس الوجداني. وما وجد في هذا القرن من استثناءات هو من قبيل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.

ولذا ليس من المستغرب أن ينتهي قرن الضحالة هذا بعد أن عجز عن الإبداع الفكري إلى القول بانتهاء عصر التفكير وزوال المثل الفكرية والاستعاضة عن ذلك بغطس الرأس في جديد التقنية والإنصات إلى إيقاع الآلة النشاز. فعندما أخذ العقل الأوروبي يكتشف محدوديته بعد النقد الكانطي، وعندما انحصر التأثير الكنسي بفعل النقد الفلسفي المادي في القرنين الثامن والتاسع عشر، وعندما انحسرت الأيديولوجيا المادية في القرن العشرين، استبدل العقل الأوروبي بالأيديولوجيا المسؤولة عن إعطاء معنى ودلالة للعالم، بأيديولوجيا تسفه كل محاولة لإعطاء معنى ودلالة!! وذلك لأنه أدرك مسبقاً عجزه عن إعطاء الدلالة والإقناع بها. إنها أيديولوجية جديدة، أيديولوجية عصر التقنية التي تريد أن تغطس بالرأس البشري في عدم التفكير، وإشغاله بشيئين فقط هما "الإنتاج" و"الإستهلاك".

إنها أيديولوجية تدفع نحو عالم بلا فكر، ولا حس نقدياً، عالم الآلة والشهوة: الآلة كمصدر للإنتاج، والشهوة كدافع للاستهلاك. وبين جدل الإنتاجية والاستهلاكية يُراد للكائن الإنساني أن يستقيل من وظيفته كإنسان مفكر، ويستحيل إلى حيوان مستهلك، وتلك في الحقيقة هي أيديولوجيا العصر، أيديولوجيا عصر ما بعد الأيديولوجيا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1079  الاثنين  15/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم