قضايا وآراء

مُدُنُ الملح.. مُدُنُ الجُرح

العربي ووظّف البعد التاريخي والسياسي في أعماله..روايته "شرق المتوسّط" الصادرة سنة 1977 أحدثت ضجّة وطرحت أسئلة حارقة لازالت تبحث عن إجابة...باعتبارها تناولت أحد التّابوهات..قضيّة التعذيب في بعض السجون العربيّة، بطل الرّواية "رجب" سجين سياسي يمُوتُ بعد تعرّضه للتعذيب ويطرح موته علامة استفهام أكبر من سجّانه وفي روايته "الشجر واغتيال مرزوق" يطرح قضية المثقف في مواجهة أنظمة الاستبداد والقهر التي لا ترعى للفرد حرمة ولا تعترف بحقوق الإنسان..اشتهر منيف بالخصوص بتأليفه سلسلة "مدن الملح" التي اعتبرت عملا كبيرا ومدّونة روائية ضخمة..حوالي 2500 صفحة موزّعة على خمس روايات نشرت بين 1984 – 1989 جاءت تروي عطشا في الذاكرة.. قصة البترول ونشأة الدولة في الحجاز .. مدونة وظف فيها جميع خبراته ومعارفه في ميدان البترول حيث يتعرّف القارئ على الأهمية القصوى للذهب الأسود ونتائج الاستعمال السيئ وتأثير الصناعة البترولية على نمط حياة البدو مما يمثّل نقطة انطلاق نحو اعتبارات أخرى مهمّة مثل الحداثة المصطنعة والسياسات التي تغذّي لعبة الحكم الجديدة والنظام السياسي التقليدي القائم في المنطقة والذي ينبغي أن يترك مكانه لصالح قوانين ونظم أكثر استجابة لطبيعة العصر.. عندما سئل عبد الرحمان منيف حول أسباب اختياره عنوان :"مدن الملح" ذكر أنه فضّل "مدن الملح" على "مدن البترول" ليؤكد التطوّر السريع والمصطنع للمدن التي ليست ثمرة تأسيس وتراكم عبد التاريخ وهو ما يقود إلى القول بأن البترول قاد إلى القول بأن البترول قاد إلى ولادة المدن الفقاعيّة الهائلة الشبيهة بجبال الملح التي تذوب في الماء بسرعة فائقة بالإضافة إلى أن الملح رغم كونه يعدّ ضروريا لبقاء واستمرار الكائنات الحية إلا أنه قادر على إهلاك الأراضي الزراعية وإتلافها وتحويلها إلى صحراء وسيأتي اليوم الذي تقف فيه هذه المدن الاصطناعية على حقيقة هشاشتها وعجزها عن التحوّل إلى مهد للحضارة يدعم التقدم الحقيقي...

"مدن الملح" ملحمة الصحراء والنفط والوجود عمل ضخم سلّط من خلاله عبد الرحمان منيف الضوء الساطع على ظاهرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وإنسانية شديدة التعقيد مترامية الأطراف وبفضله تحوّل من كاتب الصحراء إلى كاتب المدن...مدن الملح...مدن الجرح...نقرأ في رسالة بعث بها الرّسام مروان قصّاب باشي إلى عبد الرحمان منيف ما يلي : "أنت شبيه بصخرة ملساء ومضيئة موضوعة بين عمّان وبغداد ودمشق تنبع من جوفها جداول الإنسانية".."سيرة مدينة" من أعمال منيف خصّصه للحديث عن مسقط رأسه "عمّان" المدينة التي قال فيها مؤنس الرزّاز :"عمّان مدينة العرب الوحيدة، فلا يتجرّأ من لجأ إلى عمّان أن يزعم أنه "عمّاني" وأن اللائذ بعده بعمّان غريب أو طارئ" وهكذا يعود النهر إلى منبعه...والده نجدي ووالدته عراقيّة...ولد في عمّان...وبفضل كل ذلك كان عربيّا صاحب امتياز اسمه: الإيمان بحقوق الإنسان...إنّه أجمل وأصدق امتياز وبذلك كان مُنيفا.

رحمك الله يا عبد الرحمان. آمين.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1383 الجمعة 23/04/2010)

 

في المثقف اليوم