قضايا وآراء

"آلاء" للشاعرة زبيدة بشير .. زهرة النيلوفر تتطلع إلى طائر الشعر

وتفاعل الذات معها، لذلك تتنقل بن القصائد من صورة واستعارة الى أخرى تجسد عبرها الشاعرة معاني الروح في نورها وعتمتها، في بهجتها ووحشتها، في حضور المعنى وغيابه، فهي تقوم على انشطار بن عالمين ينفصلان، ليمتزجا في صور أخرى تكتشفها الذات المتأملة، المتهجدة، تنأى وتقترب من حقيقتها الوجودية، تستعير الصور الأسطورية، والصور الحسية، والصور الذهنية لترسم صورة الذات الشعرية .

 

تستعير الشاعرة زبيدة بشير من " زهرة النيلوفر " ذاتها الشعرية التي تبتت ونمت تلقائيا، وهي المتشبعه بلغة القرآن، والمتلقية للعلوم النقلية والعقلية، فالشعر ينمو عبر اغتسال الذات عبر اللغة التي تنطوي على طاقات الخلق والإبداع والتجلي، فزهرة النيلوفر من خلال التعريف لها المصاحب للقصيدة : " حسب الأسطورة الهندية نبتت تلقائيا في الماء العذب على أرض طيبة، وطائر لطيف يتدانى منها عند مهبط الشمس، فتضم عليه أوراقها، وتغيب به في الماء، فإذا أشرق الصبح طفت على وجه الماء وتفتحت أوراقها، فينطلق الطائر " (ص10)، فالتلازم بين الزهرة والطائر في ماء الوجود هو الذي منح اللغة لحظاتها الانطولوجية، بين طياتها، وفي انتزاع هذا الظائر تفقد اللغة قدرتها على تجلي الكمون ... فثمة تلازم بين اللغة والروح (الزهرة والطائر) في حالات الطهارة الشعائرية (الماء العذب)، وفي غياب هذه الروح القادمة من الأعالي والتي تستكنهها الذات عبر الحلم الخلاق في سكون الليل، وفي ماء الوجود ... فاللغة تفقد بدرها ونجومها وغيومها وبالتالي تفقد ضوءها ... ولكنها تأبى أن تعيش في هذا الدجى وهي تحن الى طائر الروح، وبذلك تخرج الشاعرة في هذا الديوان من ترسبات الحنين للمعنى الغائب في ديوانها الأول، وترنو نحو استدعاء ذلك الغائب وهي ترسم لوحة الذات الشعرية : لتبقى الزهرة تلك المرأة الشاعرة التي تونو لاكتمال بعدها الثاني عبر طائر المعرفة  ...

 

الزهــرة البيــضاء حــنت        فاستطابت فيضها وحبورهـــــــا

جاءتـك تـرفل في الضياء         وملكتك فؤادها وسحرهـــــــــا

فأخذت طير الــــحب منـها       واختصرت عطاءها وسطورها

ما خفت من غضب السماء      ولا رعيت وفاءا وشعورهــــــــا

لا تعتــذر فالــعذر لا يكـفي      لفـــــــهم حزنــــها ودمـــــــوعها

أطفأت في ليل كتب بدرها       ونــــجــومـــها وغـــــــيـــومـــها

لكنها ستظل شامخة تداري       بالتـــرفــــع والابـــاء خضوعها ( ص 10-11)

 

تنتقل الشاعرة في قصيدة " نجمة " لتعمق حالات الوحشة والعتمة في لغة تسبح في الدجى وقد غادرت ماء الوجود، لترى ظلالها وأوهامها، والأبعاد المظلمة لهذه الكتلة الضوئية التائهة، فهي تتساءل حين رفرف القلب (هل هو الحلم أم خيال السراب؟) ص19، ففي شعلة الذات يستحيل طيف الأخر الى طيف زائف، فهو غائب، واللغة تبصر هذا الغياب (وإذا بالطيف وهم وزيف) ص 20، لتكشف لنا الشاعرة عن المسافة الطويلة التي تفصلها عن ذلك النور الغائب، وهي بذلك توظف اللغة الفيزيائية في تعريفها للطيف الذي يفصل بين كوكب واخر، سيما وإن كان هذا الطيف غير مرئي  ... فتنحو إلى البحث عن ذلك الجانب في صورة طبيعية، يكمن داخلها، في قصيدة " الطلع النضيد "، وهي تعطي تفسيرا لذلك الغلاف الذي ينطوي على مادة إخصاب النخلة،  وهي في تأملها للطلع النضيد بدت كمن ترى انبراء هذا الطيف في صورة مجسمة وملموسة، وترى في هذا الاكتشاف الفردي لحظة مشتركة، تستحق التوقف :

 

قفوا جميــــعا ...           قليل الحزن يجمعنا

وومضة النــــــور          مازالت بأيــــــــدينا

لا تتركوها لشـجو          اليأس تخمـــــــدها

فلحظة الصفـــــــو          من أغلى أمانينا ( ص 13)

 

ويختلف سبر الذات لعوالمها من الاستعارة والرمز الى الحقائق الواضحة، لذلك تختلف قيمة قصائدها وهي تعبر عن حتمية بزوغ نور المعنى، وقد بدا لنا في قصيدة " شروق " أنها تستعيض عن الرمز الى المعنى المباشر، وإلى لغة العقل الذي يرى الظواهر واضحة، ولغة العاطفة وهي تحمل رسالة النور، ليستحيل المبدع الى نبي كما وصفته المدارس الرومنسية " الضوء الهادي للبشرية "، وهي بذلك تقطع مسافة طويلة في سبرها لهذا الضوء الكامن في روح وقلب وجسد الشاعرة، ينعكس في أكثر من صورة وأكثر من مشهد، وهي ترسم لحظة التحول، من العتمة الى الضوء ... مما يدل على التجدد وعلى حركة الذات تصارع الوهم، وتكتب الحقائق عبر الصور المرئية ... والشمس التي تبقى مصدر الحركة والطاقة والجهد والضوء المنتشر، تبقى من أكثر الاستعارات لنور الحقيقة سواء كانت مرئية أو روحية .

 

ستشرق الشمس مهما امتدت الظلم

وجرحنا في رحاب الأمن يلتئم

فننشر النور في ذرات كوكبنا

كأننا من ظلم الأمس ننتقم ( ص52)

 

وتبزغ الشمس على غلاف الديوان المكتوب باللون الأصفر، وتنشر أشعتها في فضاء الورقة حيث الظل الداكن ... فالصورة والظل يتلازمان، والضوء والعتمة يتلازمان، والحقيقة والوهم يتراءان، ليشطر هذا الديوان صور الذات وهي تتحول من الظلام الى النور بعدما ودعت وهمها وكتبت أحرف حقيقتها الروحية بسبائك أشعة الشمس الساطعة .... وهي بذلك تشعرنا باهمية تجربتها الذاتية الخالصة في وأد الوهم الذي تستحق عليه الأجر، فذلك نتاج جهد وتأمل :

 

سانحا أو بارحا ماذا يهم ؟

نحن أقوى من تباريح الألم

إن وأدنا الوهم فالأجر لنا .......ص69

 

وخلاصة القول يمكن لنا أن نتبين أن شعر زبيدة بشير يرتبط بحلم الذات الشاعرة الأنثى التي تبحث عن عنصر الذكورة الذي يرقى بلغتها وبذاتها الشاعرة، ويمنحها الحلم في الارتقاء بوضعها ورسم ملامحها في حالة تجلي الكمون ... وزبيدة بشير التي رسم اسمها في تونس في سجل من ذهب تحلم به كل امرأة مبدعة، فقد منحت هذا الأجر حقا حين وقع إطلاق اسمها على الجائزة التي تمنحها الكريديف سنويا حول ابداعات المرأة ... وعادت إلى نشر قصائدها، لتعود إلى الواجهة بقوة ....

 

زبيدة بشير هذه المرأة المبدعة التي عادت الى الساحة الثقافية عودة لا ئقة، هي أنموذج للمرأة التي كرسها إبداعها الذي ينطوي على تحقيق حلم اكتمال الكيان، وشعرها ارهاصات لأزمنة تتعاقب لتنصهر في الزمن النفسي للشاعرة، فالماضي والحاضر والمستقبل كلها أزمنة حافلة بالتطلع، والفضاءات التي تتوزع بين الذات المبدعة وشعرها هي فضاءات للجهد والحركة النفسية، تتأمل الفضاء الخارجي كمجال للبحث عن ابعاد الذات في الأطياف والصور .....

 

أمسكت بالجمر في كفي فما احترقت

مازال يسكنهم فضل به عرفوا

وإن بدت في عيون الناس تحترق

إن ساءهم حظهم يسمو به خلق

لأن عنصرنا في البدء متحد

الله هم - كم أضاءوا حولهم غسقا

فالنار بالنور تزكو حين ينبثق

كأنهم من شعاع الشمس قد خلقوا ( 2)

 

وزبيدة بشير التي عاشت مراحل مهمة من تاريخ البلاد التونسية وعملت في الإعلام، وشاركت في الندوات في فترات تحرر المراة، تحولت الآن إلى صورة مشعة تعلق عليها المرأة الحديثة المتطلعة إلى طموحات لا تنتهي حلمها، فأرجو أن تكون مناسبة تكريم الملحق الثقافي لجريدة " الحرية "  لهذه الشاعرة الفذة مناسبة جدية للنظر في إبداع المرأة من الداخل بما يحمله من ارهاصات ورؤى، ومناسبة لالتزام النزاهة في النظر إلى إبداع المرأة، وتجاوز النظرة الدونية للمرأة التي تقوم على تكريسها عبر التوصيات وإغفال المواهب النسائية الفذة ....

 

........................

(1) آلاء: مجموعة شعرية للشاعرة زبيدة بشير، صادر عن الكريديف، في 2002، ط1

(2) مجلة الحياة الثقافية، العدد 185، سبتمبر 2007، ص130

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1386 الاثنين 26/04/2010)

 

 

  

في المثقف اليوم