قضايا وآراء

فلسفة حقوق الإنسان من الزاوية الخاصَّة بالسيد الشهيد محمَّد الصدر (1)

هذا الداء بوصفه عاملاً من عوامل الخراب في الفكر الفقهيِّ على وجه العموم، وهو أنَّ الفقهاء لا يهتمون إلا نادراً إلا بذلك الجانب العباديِّ والطقوسيّ، ويهملون إهمالاً شبه تامٍّ الجانب الآخر، وهو الجانب الخاصُّ بفقه الحقوق والمعاملات، في مفارقةٍ عجيبةٍ أشار إليها السيد الشهيد في عددٍ من المناسبات، لأنَّ المهمَّ هو أن يكون القسم الأوَّل الخاصّ بفقه العبادات أو قل القسم الخاصّ بحقوق الله، مقدِّمةً لتعزيز القسم الثاني من معادلة الشريعة الإسلامية، بداهةَ  أنَّ الله غنيٌّ مطلقٌ في الحقيقة، وهو سبحانه ليس بحاجةٍ إلى عباداتنا ولا إلى طقوسنا ولا إلى أيِّ شيءٍ آخر مما نرهق به أنفسنا من هذه العبادات المفروضة والمندوبة، لولا أنَّ لها الفاعلية الكبيرة في إحداث النقلة النوعية على صعيد تعزيز التربية الروحية والخلقية التي تؤهِّلنا لأن نقوم بأدوارنا الفردية والإجتماعية في تطبيق أوامره ونواهيه وإرشاداته سبحانه، حتى نكون في الذروة العليا من التطبيق لذلك القسم المعامليِّ من الرسائل العملية، أي أن نكون أناساً معنويين وأخلاقيين إلى أبعد حدّ، وعاملين من أجل الإرتقاء بالمصالح الإجتماعية على قاعدة العدل إلى درجة تفضيلها على المصالح الفردية في موارد التزاحم. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير المشروع الإصلاحيّ للسيد الشهيد، حيث كان مشروعه مشتملاً على بعدين يصبّان في النهاية في اكتمال الرؤية العامَّة للمشروع الدينيِّ الصدريّ، وهما:

أوَّلاً: البعد الخاصّ بتعزيز الجانب العباديِّ من الشريعة، ولكن على أن تكون الرؤية الإسلامية العميقة حاضرةً في ذهن الإنسان المسلم أثناء أداء تلك العبادات من حيث إيلاؤها فلسفةً تستبطن معانيها الدقيقة التي تشير إلى المصالح التربوية والمعنوية والروحية على المستويين الفرديِّ والإجتماعيّ، فيشعر الفرد وهو في حال أداء العبادة المعيَّنة أنه يستهدف إصلاحاً اجتماعياً مرموقاً من شأنه أن يدفع عجلة التطوُّر الروحيِّ والماديِّ للمجتمع إلى الأمام، أي أنَّ العبادة تكون بمثابة درسٍ دينيٍّ، وإعدادٍ روحيٍّ للقيام بتلك المهمات الإجتماعية فيما بعد، ومن العجيب أنَّ البسطاء من الناس استطاعوا أن يرتقوا فعلاً إلى هذا الفهم المعمَّق في زمن السيد الشهيد، فكانوا يفلسفون الأمور على هذا النحو، مستشهدين بكلمات السيد محمد الصدر في هذا المجال.

ثانياً: البعد الخاصّ بالجانب المعاملاتيّ، وهو القسم الثاني من الرسائل العملية الذي لا يحظى بالأهمية المساوية للبعد الأوَّل الخاصّ بالعبادة، كما أنَّ الفقهاء لا يولونه كبير الإهتمام تبعاً لعدم اهتمام المكلَّفين به، أما السيد محمد الصدر فقد جمع بين الإثنين في الأهمية، ورسم خطَّةً لذلك تكوَّنت من شعبتين:

الشعبة الأولى: تشتمل على الجانب التنظيريّ، وهو ما يتجلّى بشكلٍ واضحٍ في تأليفه لكتاب (فقه الأخلاق) بالإضافة إلى الكثير من النظرات المبثوثة في مؤلَّفاته الأخرى، ليكون المكلَّفون مطَّلعين على الأهمية القصوى التي تمثِّلها مسألة الجمع بين البعدين: العباديِّ والمعاملاتيِّ في بنية المشرو ع الدينيِّ والإصلاحيِّ عند السيد محمَّد الصدر.

الشعبة الثانية: يمثِّلها الجانب الحركيُّ أو الميدانيُّ للسيد الصدر نفسه، وقد توَّج مشروعه هذا بصلاة الجمعة، إذ جعلته على تماسٍّ مباشرٍ مع الجماهير الإسلامية، فتفاعلت معه تلك الجماهير، وتعلَّمت منه الدرس الإسلاميَّ الهامّ في أن تواصل المشروع الإسلاميَّ الصدريَّ بعده على النهج الحركيِّ والميدانيِّ ذاته.

إنَّ الجمع بين البعدين النظريّ والتطبيقيّ المتمثِّل بالجانب الحركيِّ الميدانيّ، هما ما تتألَّف منه تلك الخطَّة الإصلاحية التي رسمها السيد محمَّد الصدر للإنتقال بالمجتمع الإسلاميِّ من حالة الإنعزال والتفكيك اللامبرَّر بين الجانب العباديِّ والجانب المعاملاتيِّ في الشريعة الإسلامية، وإذ تمَّ له هذا الأمر، استطاع أن يركِّز الأضواء على العديد من الإنتهاكات في مجال حقوق الإنسان داخل العراق، وهذا هو الجانب الذي يهمُّنا في هذا البحث المختصر، فمع أنَّ المشروع الصدريَّ لم يتنجَّز على أرض الواقع بوصفه سلطةً تسيطر على مفاصل الشأن الإجتماعيِّ والسياسيِّ في العراق بشكلٍ مطلق، بل ظلَّ يمثِّل حالةً عفويةً يعيشها المجتمع الإسلاميُّ في العراق، إلا أنه استطاع أن يزيد من فاعلية المطالبة، وأن يكثِّف من حالة الوعي بالحقوق الإنسانية المهدورة على يد النظام الجائر، وهذا يمثِّل عملاً استثنائياً في الحقيقة، لأنَّ الصدر نفسه أشار في كتابه (نظرات إسلامية على إعلان حقوق الإنسان) إلى تلك الحقيقة التي تشير إلى أنه لا بدَّ " أثناء عرض وجهة النظر الإسلامية، لكي تكون الصورة واضحةً وصادقةً، من تصوُّر الدين الإسلاميِّ مطبَّقاً بجميع أوامره ونواهيه، وخصوصيات تشريعه، فإنَّ الإسلام إنما جاء لكي يطبَّق في المجتمع كوحدةٍ متماسكةٍ يشدُّ بعضها بعض، ليستطيع أن يثمر ثماره شهيةً ناضجةً، كما هو المتوقَّع منه، وإلا فإنه لن يثمر إلا في الحدود الضيقة التي تسمح بها الظروف الموضوعية في كلِّ جيل. لهذا، اقتضى تصوُّر مجتمعٍ مسلمٍ يتصف جميع أفراده أو أغلبهم بالإسلام، وتقوم بينهم الروابط والعواطف على أساسٍ إسلاميّ، وتحكمه حكومةٌ إسلاميةٌ شرعيةٌ تقوم بتطبيق القوانين الإسلامية على المجتمع الإسلاميّ". إذ مع كلِّ هذا، استطاع السيد محمد الصدر أن ينجز المهمَّة الوطنية والدينية الكبرى في جعل المجتمع على أهبة الإستعداد لتلقي تلك الفلسفة الصدرية حول حقوق الإنسان في الإسلام، وضرورة تقديم التضحيات في سبيلها حتى تتنجَّز على أرض الواقع بوصفها مشروعاً إسلامياً متكاملاً.

 

عدم نزاهة المقنِّن في القانون الوضعيّ

يشير الصدر إلى اعتراضاتٍ عديدةٍ على فلسفة القوانين الوضعية على وجه العموم، فمهما كانت تلك القوانين ذات بريقٍ صارخٍ كتلك الموادِّ التي يتألَّف منها الإعلان العالميُّ لحقوق الإنسان الفرنسيّ على سبيل المثال، فإنَّ الغاية من وضعه لا يمكن أن تخرج عن الأطر العامَّة لمصالح واضعيه، يتَّضح ذلك بسبيلين:

السبيل الأوَّل: بالتحليل البنيويِّ لتلك الموادِّ القانونية، إذ غالباً ما يتضح أنَّ المادَّة القانونية مصاغةٌ طبقاً لمصلحة الواضع البشريّ،"كما إنَّ إعلان حقوق الإنسان الفرنسيّ أيضاً، قد وضع لصالح طبقةٍ معينةٍ من البرجوازيين ليضمن حريتهم ورفاههم، ولم يكن يضمن في حساب واضعيه من مصالح سواهم القليل ولا الكثير" خلافاً للقانون الإلهيّ، خاصةً في الإسلام، إذ إنَّ "الإسلام  قد جاء ليخدم البشرية جميعاً بدون تمييزٍ ولا تفريقٍ، لا فرق لديه بين غنيٍّ وفقيرٍ، ولا بين ذليلٍ ووضيعٍ، كلُّهم ينعمون تحت لوائه بالسعادة والرفاه ضمن مجتمعهم الإسلاميِّ السعيد".

السبيل الثاني: بالإستناد إلى تلك القناعة الدينية التي تشير إلى أنَّ حقَّ التشريع منحصرٌ بالله عزَّ وجلّ، لأنه هو المطَّلع الوحيد على تفاصيل الواقع، كما أنَّ المقنِّن يجب أن يتوفَّر فيه عنصران لا يتوفَّران إلا فيه سبحانه، وهما:

أوَّلاً: أن يكون غنياً بشكلٍ مطلق.

ثانياً: أن يكون عالماً بشكلٍ تفصيليٍّ ودقيقٍ إلى أبعد حدٍّ بالواقع وما يتطلَّبه من التشريعات والقوانين.

 بينما لا نجد هذين العنصرين متوفِّرين عند المقنِّن البشريّ، بل إنَّ خلفيته الثقافية والأيديولوجية، بالإضافة إلى ما يتمتَّع به الإنسان من ميلٍ فطريٍّ إلى تلبية مصالحه الخاصَّة ومنافعه الإنتهازية ولو على حساب المصالح الإجتماعية العليا، كلُّ ذلك لا بدَّ له أن يترك آثاره السلبية على صياغة القانون، وأمامك أيها القارئ الدستور العراقيُّ الجديد الذي كتبه أناسٌ متخصِّصون بالتأكيد، إلا أنَّ تحليل موادِّه الدستورية تحليلاً واقعياً عميقاً يشير بوضوحٍ إلى وجود هذه الخاصِّية فيه، وهو أنه دستورٌ تمَّت صياغته طبقاً لحاجات واضعيه ورغباتهم الخاصَّة، حتى أنك ربما طالعت عدداً كبيراً من موادِّه وأقسامه فوجدته متَّجهاً صوب مصالح المسؤولين في الحكومة والشخصيات المتنفِّذة في الدولة العراقية، في حين لا تأخذ أية مادَّةٍ قانونيةٍ فيه المصالح الخاصَّة بالطبقات المحرومة في نظر الإعتبار إلا نادراً، وحتى هذا النادر يتمُّ الإلتفاف عليه إما عن طريق تشريع مادَّةٍ أخرى تنقض مضمون تلك المادَّة، وإما في مرحلة التنفيذ، إذ يتمُّ تجاهلها بشكلٍ كامل. "وإذا كان المفكِّر القانونيّ، ذا اتجاهٍ عقائديٍّ أو سياسيٍّ معيَّن، كان -لا محالة- متحمِّساً لذلك الإتجاه، يودُّ فوزه وسيطرته على الآخرين... ويرى اندحاره وخيبته كابوساً مزعجاً. وعلى كلِّ حالٍ، يكون الفرد القانونيّ، التكوين النفسيّ والإتجاه الإجتماعيّ المعيَّن الذي يستحيل عليه أن يعزله عن فكره القانونيّ... وعن إدراكه للمصالح والمفاسد العامَّة. ومهما حاول الفرد اتخاذ المسلك الموضوعيّ، والتجرُّد عن الأنانية والتعصُّب... وتصوَّر مصالح الآخرين بمعزلٍ عن مصالح نفسه... فإنه فاشلٌ وخاطىءٌ... فإنَّ اللاشعور والضغوط والملابسات العامَّة والخاصَّة والتأريخ الذي عاشه، يفرض نفسه عليه من حيث يدري ولا يدري. ومن المتعذَّر، بل المستحيل أن نجد فرداً أو جماعةً، في الفكر القانونيِّ البشريّ ذا تجرُّدٍ كاملٍ وحقيقيّ... ولن يوجد مثل هذا الفرد على مرِّ التأريخ. فإنَّ لكلِّ زمنٍ ملابساته، ولكلِّ تأريخٍ تأثيره على الفرد والجماعة". اليوم الموعود.

 

هل القانون الوضعيّ شرٌّ محض؟

هذا التساؤل مشروعٌ للغاية في ظلِّ الأحكام المسبقة التي نحملها عن قيمة القانون الوضعيّ قياساً إلى القانون الإلهيّ، إذ إنَّ هذا الأخير يتمتَّع بالعصمة المطلقة بشكلٍ مؤكَّد، وهذا هو مقتضى البحث الشرعيّ والعقليّ على السواء، لكن هل إنَّ القوانين الوضعية على حدٍّ واحدٍ من الإبتعاد عن تلبية الحاجات الواقعية للفرد والمجتمع، أم أنها تختلف من جهة أنَّ بعض منظوماتها وأطرها الفلسفية تقترب كثيراً من المضمون الإلهيّ نتيجة التوسُّع في تجارب الإنسان ومعالجته للأزمات المتعاقبة التي تنتج عن التشريع الخاطئ والتطبيق المنحرف؟

الظاهر أنَّ الإحتمال الثاني هو الأقرب إلى الصواب.إذ "كلَّما اتسع الوعي الفكريّ للإنسان على واقعه بما فيه من مشاكل وآلامٍ، ساعد ذلك على تربية الجانب القانونيّ فيه". اليوم الموعود.

فمع أنَّ النتيجة التي تقول إنَّ العقل البشريَّ لا يمكن له أن يشخِّص المصالح الواقعية للأفراد والمجتمعات بشكلٍ دقيقٍ وكاملٍ، إلا أنَّ هذا لا يعني أنَّ العقل الإنسانيَّ فاقدٌ لإمكانية التطوُّر في هذا السياق مطلقاً، ولهذا فإننا لا نناقش صحَّة أو خطأ تلك النتيجة الأولى، لأنَّ صحَّتها محسومةٌ ومطلقةٌ بالنسبة إلينا، لكننا نناقش القضية القائلة بأنَّ هناك كمالاً نسبياً من الممكن أن يحرزه العقل البشريّ في مجال دقَّة وإحكام المنظومة القانونية تبعاً لتراكم الخبرة وتعدُّد التجارب في هذا السياق.

فلو نظرنا إلى التأريخ الذي صيغت فيه مختلف المنظومات القانونية، من عهد حمورابي مثلاً إلى عهدنا الحاضر، بعيداً عن الإلتزام بالقانون الإلهيِّ الموجود في الكتب الإلهية المقدَّسة، -مع صحَّة القول بأنَّ هناك تأثراً من هذه القوانين الوضعية بالقوانين الإلهية بشكلٍ من الأشكال – لما خفيت علينا هذه الحقيقة، وهي أنَّ القانون الوضعيَّ بدأ ساذجاً وانتهى"في العصر الحاضر إلى مراقٍ عليا... حتى أصبح من أدقِّ العلوم الإنسانية. وإذا كنا قد نجد فيه بعض النواقص والإختلافات بين المفكِّرين في جملةٍ من حقوله... فإنَّ التكامل التدريجيَّ للقانون، من خلال التجارب الطويلة، كفيلٌ بأن يزيل هذه النواقص، ويزيد في إدراك الفكر القانونيِّ لذينك المرحلتين الأساسيتين، مما يفتح أمام القانون فرصة الوصول التدريجيّ إلى إدراك العدل الحقيقيّ، والتذليل الكامل للمشاكل البشرية". اليوم الموعود.

نحن نذكر هذا الكلام الذي أشكل عليه السيد محمد الصدر في اليوم الموعود لا لنعتنقه إلى النهاية، أي لا يجب أن نكتفي بمسألة توسُّع الخبرة البشرية في مجال صياغة المنظومة القانونية للدفاع عن حقِّ الشريعة الإلهية في أن تضع هي بنفسها هذه المنظومة القانونية للمجتمع البشريّ، ولكننا نذكر هذا الكلام ليفتح الطريق أمامنا للدفاع عن القضية القائلة بأنَّ التعامل مع منظومات حقوق الإنسان الغربية ممكنٌ في نهاية الأمر، بناءً على أنَّ البنية الفوقية لها تشير إلى وجود عددٍ كبيرٍ من الموادِّ الحقوقية التي تدافع عنها الشريعة الإسلامية أيضاً، مع ضرورة الإنتباه إلى أنَّ الإفتراق معها إنما يحصل على صعيد الحديث عن البنية التحتية التي تتأسَّس عليها تلك الحقوق.

 

تقييد الحريات الشخصية في الإسلام 

هذا ما يقال عن الإسلام في نطاق الحديث عن الحريات الشخصية خصوصاً، إذ يشار إلى أنَّ الإسلام لا يتيح للفرد أن يستثمر طاقاته كلَّها، إذ من الواضح أنَّ فلسفة الحقوق الغربية تبتني على أساس النظرة الليبرالية للحرية الشخصية، أي أنَّ للفرد حريةً مطلقةً في أن يفعل في كيانه ما يشاء، وأن يطلق لنفسه العنان في ممارسة حقِّه اللامحدود في ارتكاب كلِّ ما من شأنه أن يكون لاأخلاقياً طبقاً لتعاليم الأديان، ولا تنتهي حريته تلك إلا عند الحدود التي تشير إلى وجود التزاحم بينها وبين حريات الآخرين، التي تتمتَّع بالصفة ذاتها من الإطلاق بطبيعة الحال، وهنا فقط يوجد الحقُّ للدولة في أن تضع القوانين التي تنظِّم سلوك الأفراد في حالات التزاحم، أما فيما عدا ذلك، فلا يوجد أيُّ قانونٍ أو أخلاقٍ يمكن لها أن تحدَّ من حرية الفرد في أن يرتكب من الأفعال والتصرُّفات ما يشاء.

المهمّ، فإنَّ الإسلام يعرض فلسفةً أخرى حول هذه القضية، ولا يعتبر الفرد محقّاً في التمتع بحقِّ أن يفعل العديد من تلك التصرُّفات، لأنها من وجهة نظره ذات مردودٍ اجتماعيٍّ في نهاية الأمر، حتى لو كانت في الظاهر وفي الحساب القريب مما ينتمي إلى حريم الفرد ولا يتعدّاه إلى المجتمع.

لكن هل انسجمت المنظومة القانونية الغربية مع هذه الفلسفة، أم أنها عادت فوضعت الكثير من الحدود الصارمة ضدَّ ما ظاهره أنه منتمٍ إلى حريم الحرية الفردية، خذ على سبيل المثال مسألة التجارة بالمخدِّرات، فهي مسألةٌ فرديةٌ في نهاية الحال طبقاً لمعايير الفلسفة الليبرالية في قياس ما يقع في مجال الحرية الشخصية، لكنَّ القوانين في الغرب وأمريكا على السواء وقفت موقفاً حاسماً وقوياً ضدَّ شيوع هذه التجارة، مع أنَّ التاجر لا يبيع المخدِّرات إلى الأفراد قهراً، بل برضاهم التامّ، فعلى أيِّ أساسٍ تمَّ منع التجارة بالمخدِّرات إذن، فلا شكَّ أنهم قد أخذوا مردودها السلبيَّ البعيد في نظر الإعتبار.

وعلى هذا الأساس يكون الإسلام محقّاً مئة بالمئة أن ينظر إلى العديد من الشؤون التي تبدو كما لو أنها تنتمي إلى حريم حرية الشخص نظرته إلى الشأن الإجتماعيِّ العامّ، فيشجِّع على العمل النافع، ويضع العقوبات والتعزيرات على العمل الضارّ، "وإذا كان لا بدَّ من تقييد الحرية المطلقة لأجل حفظ النظام واستتباب الأمن وسيادة القانون. فالمشرِّع الحاذق هو الذي يضع الحدود عليها بأحسن شكلٍ، يمكن به تجنُّب مساويها، وليس هو المشرِّع الذي يضع أقلَّ كميةٍ من الحدود، وكذلك فعل الإسلام في تشريعه الحكيم لمجتمعات العالم، فالإسلام ذلك الدين القيم الذي أنزل إلى البشر ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم. قد وضع الحدود على الحرية بشكلٍ يمنع الإنسان من الفساد، وينزهه عن الموبقات، ويسمو به في درجات العدالة والكمال. فهو إنما يبيحها في حدودٍ من تعاليمه الدينية والواجبات الأخلاقية، وعدم الإعتداء على حقوق الآخرين" السيد محمد الصدر. نظرات إسلامية على إعلان حقوق الإنسان

مبدأ المساواة

الناس متساوون من جهة إنسانيتهم، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ، كما أنَّ جهات التفاضل بين البشر لا تستند إلى أيٍّ من العرق أو اللون أو الجنسية أو إلى أيِّ مستندٍ آخر من الحيثيات التي لا تعتبر دخيلةً في جوهر الإنسان كالثروة أو السلطة أو القوة إلخ.

إنَّ ما عليه المدار في التفضيل في الإسلام هو العلم والتمسُّك بالفضائل الخلقية والعمل من أجل الصالح العامّ، فكلَّما كان المرء موصوفاً بهذه الصفات أكثر استحقَّ التقديم على الغير الذين لا يتَّصفون بها بنفس الدرجة، قال الله تعالى: ((من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا)_ النساء. 123- 124.وليس هذا فقط، بل إنَّ فلسفة الإسلام الحقوقية تحتاط كثيراً من أن يكون لذوي القوَّة والنفوذ من خارج ذلك المجال المعنويّ والأخلاقيّ والروحيّ سطوةٌ على ذوي الفضيلة الخلقية الذين غالباً ما يكونون مجرَّدين من عناصر القوَّة والمنعة المادية على المستوى الشخصيّ، "بل إنَّ الإسلام بنظره الثاقب، وعدالته المستقيمة، لَيذهب في المساواة إلى أبعد من ذلك. فالحاكم كما يجب أن يطبق القانون على المواطنين بالسوية وبدون أيِّ تمييزٍ، فإنه أيضاً يجب عليه أن يخضع نفسه وخاصةً أهله وأصدقاءه، فضلاً عن سائر معارفه ومتعلِّقيه، للقانون نفسه، فيخضع الظالم منهم للمظلوم من غيرهم، وإلا كان ظالماً مجحفاً بحقِّ الآخرين. وذلك كما قال سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيين (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الأشتر النخعيّ عندما ولاه مصر: (أنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حرباً حتى ينزع أو يتوب). بل إنَّ رئيس الدولة الإسلامية خاضعٌ إلى قانون المساواة، العدالة والمساواة في الحالة الإقتصادية، بل إنه أولى من سائر الشعب بذلك وأجدر، لأنه مثلٌ أعلى للشعب من ناحيةٍ، فيجب أن يتعلموا منه الخصال الحميدة العالية، وهو من ناحيةٍ أخرى رئيسٌ للدولة، فيجب أن يشعر مثل هذا الشخص بآمال وآلام شعبه، ويعيش حالته الإقتصادية كأقلِّ فردٍ  في الشعب، لئلا ينسى حالة الفقراء والمعوزين والمظلومين، ولئلا تبطره النعمة، فيستسلم إلى عالم الأحلام. ولقد كان سيد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه السلام) مثلاً رائعاً في ذلك حين نراه يقول: (لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويؤدني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنةٍ             وحولك أكبادٌ تحنُّ إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش) نظرات اسلامية

فالأصل إذن هو المساواة بين الناس، أي أنهم يولدون وهم على درجةٍ واحدةٍ من الإعتبار والأهمية، هذا من ناحية الوجود، أما من جهة ماهيات الأفراد التي يعملون على بلورتها فيما بعد، فسوف يتمايزون بطبيعة الحال، وسيصبح لكلِّ واحدٍ منهم الصفات المعنوية والروحية والأخلاقية التي تخصُّه، وتميِّزه عن الفرد الآخر، وهذا شيءٌ طبيعيٌّ للغاية، وهو ما تقرُّه فلسفة حقوق الإنسان في العصر الحديث أيضاً، أوَ لا تفتتح كلُّ الدساتير في العالم ديباجاتها بما مضمونه أنَّ الناس متساوون ولا يجوز التمييز بينهم، ثمَّ تقول إنَّ لهم الحقَّ في أن تكون لهم فرص المنافسة أمامهم مفتوحةً على درجةٍ واحدةٍ من الإمكان، ثمَّ يتنافسون طبعاً، فيتقدَّم بعضهم ويتخلَّف بعضهم الآخر، ولا تكون القوانين ظالمةً لأحدٍ في تلك الحالة، فكذلك في الإسلام، يكون بالإمكان أن يتقدَّم بلال الحبشيّ على أبي سفيان وهو من أشراف مكَّة وسادتها، ويتخلَّف أبو لهبٍ وهو عمُّ النبيِّ صلى الله عليه وآله ليأخذ المكانة العالية بدلاً منه سلمان الفارسيّ على سبيل المثال، فيكون الأوَّل منبوذاً وموعوداً بالعذاب الأليم في الآخرة، بينما يكون الثاني مقرَّباً ومن أهل البيت وموعوداً بالنعيم في الآخرة، كلُّ ذلك على أساس التحصيل المعنويِّ الراقي الذي حظي به سلمان، وعمل بموجب ضدِّه أبو لهبٍ بن عبد المطلب بطبيعة الحال.

إذن، يتعرَّض مبدأ المساواة الموجود في مرحلة الوجود إلى الإختراق الطبيعيِّ والعقلائيِّ في مرحلة الماهية، ولهذا يقول السيد محمد الصدر: "أما بالنسبة إلى إيقاف المساواة بين المواطنين عند معارضتها بالمصلحة العامة، فهو أمرٌ صحيحٌ بالنسبة إلى الإسلام في حدودٍ معينة. فإنَّ الإسلام الذي نشر تعاليمه لأجل المصلحة العامة، ولأجل أن يرقى بالبشر إلى الكمال، ليقدم الشخص الكفوء الذي يخدم شعبه ووطنه ودينه ويصلح للإدارة وتصريف الأمور على الشخص الخامل الفاسق، فإنَّ ذلك داخلٌ في الحقيقة ضمن المصلحة العامة، وإن كان يظهر بمظهر تقديم الفرد. ولكننا يجب أن نفهم أوَّلاً من هو الفرد الكفوء بحسب وجهة النظر الإسلامية لنحكم ما إذا كان تقديمه موافقاً حقاً للمصلحة العامة أو لا". نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان.

أما عن مقياس الكفاءة الذي على أساسه يتمُّ التمايز بين الأفراد في مرحلة الماهية كما أشرنا فقد بيَّنه السيد الشهيد بقوله التالي: "إنَِّ الفرد الكفوء في الإسلام ليس هو الرجوازيّ الطامع في اكتساب المال، المندفع وراء مصالحه وأهوائه، بل إنَّ معايير الكمال في الفرد المسلم هي العلم والتقوى والجهاد، قال الله (عزَّ وجلّ) في كتابه العزيز ((هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1) وقال: (إنَّ العاقبة للمتقين)(2) وقال: (وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً)(3). كلُّ هذه الأمور صفاتٌ نفسيةٌ روحيةٌ عاليةٌ، وهي أولى بأن تسعى بصاحبها نحو الكمال من الصفات المادية الرخيصة، من الطمع في العرض الزائل، والتكالب على المتاع الدنيء. وهو إلى جانب ذلك يأخذ حصافة الرأي، ودقة النظر، والقدرة على الإرادة وغيرها من الصفات في جملة المميزات للموظف في الدولة الإسلامية. ومثل هذا الموظف يستحقُّ التقديم، ويكون – بالتأكيد – تقديمه في الصالح الحقيقيّ للشعب" نظرات اسلامية في اعلان حقوق الانسان.

 

[email protected]

 

___________________

(1) الزمر آية  (39).

(2) هود آية (49).

(3) النساء آية (95)

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1386 الاثنين 26/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم