قضايا وآراء

ثلاثة شعراء – مديح وهجاء!

على منطق التاريخ الصاعد للفكرة الإسلامية. وليس مصادفة أن يكون إحياء الأموات وتفعيل أشباحها في أصقاع الإمبراطورية الهائلة من خلال تفعيل وإعادة الدماء الحارة إلى القبلية وبنيتها النفسية والذهنية. وقد كانت هذه الإعادة تتعارض مع صيرورة النخبة الفكرية والروحية الجديدة. من هنا العمل الدءوب للأموية في القضاء على النخبة الروحية واستئصال أثرها المحتمل في الحياة السياسية. وقد جسدتها الأموية من خلال صنع النخبة المرتزقة واستعمال الشعر وسيلة لها عبر حصره في ثنائية المديح والهجاء. بحيث جعلت من شعرهم شعارها، ومن شعارها شعرهم. ورفع معاوية وفيما بعد يزيد وحلقات الخلفاء الأمويين هذه الممارسة إلى مصاف الثقافة الوحيدة المعقولة والمقبولة. بمعنى أن الأموية شقت لنفسها أخاديدها الخاصة في تضاريس الثقافة الإسلامية المتنوعة والهائلة. مما جعل من "الثقافة الأموية" ضيقة مسطحة ولكنها شرسة معدومة المروءة والقيم المتسامية. بعبارة أخرى، أنها أرادت سماع لسان بلا قلب، أي أصوات قابلة للمقايضة. من هنا انحصارها بمدح السلطة وهجاء معارضيها والتلذذ بينهما كما لوا نهما قطبا الوجد والوجود الوحيدين! بحيث لم يعد هناك فرقا كبيرا بين الشعراء الكبار والصغار، مما أدى إلى سحق الموهبة ومحقها في التملق والتزلف للسلطة. مع ما ترتب عليه من انتعاش للموهبة وتمرغها بين سوط السلطان ورنين النقود. وفيما بينهما تضمحل وتنعدم قيم الإحسان والعقل والإيمان. فنرى شعراء مثل العجاج يمدح معاوية بحيث يرفعه إلى مصاف الأنبياء كما في قوله:

إذا زلـزل الأقـوام لم تزلزل   عن دين موسى والرسول المرسل

أو نسمع الاحوس يقول عنه في إحدى قصائده:

ملك تديـن له المـلوك مبارك    كادت لهـيبته الجــبال تـزول

أو أن يتبرع الشاعر مسكين الدارمي بعد أن طلب منه معاوية إنشاد الشعر بمدح يزيد من اجل تقديمه للخلافة، بحيث نراه مرة يدخل على معاوية وعنده بني أمية وأشراف أهل الشام وحشد من الناس، فينشد: 

إن ادع مسـكينا فاني ابن معشر 

                      من الـناس أحمي عنهم وأذود

ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر

                      ومـروان أم مـاذا يقول سعيد

بنـي خلـفاء الله مـهلا فإنـما

                      يبوئـها الروح مـن حيث يريد

إذا المـنبر الغـربي خـلاه ربه

                      فـان أمــير المؤمنين يـزيد!!

لقد كانت هذه الصيغة الشعرية في مظهرها تحتوي على تقاليد الماضي وتقليد الانصياع الجديد للسلطة. وبالتالي فإنها كانت تحتوي على أغلفة التقاليد الوجدانية القديمة (القبلية) وتقليد الارتزاق الذي رفعته الأموية إلى مصاف المعيار الوحيد تجاه الثقافة والمثقفين. وتمثلت هذه الصيغة مظاهر تقاليد المديح والهجاء القديمة، ولكن بعد انتزاع شروطها الأولية. مما جعل منها كلمات معلقة على أستار السلطة وكعبة زوارها، التي لا اثر فيها للروح والفكر والإبداع الفردي. مما جعل من شعر الوجدان اللطيف وبر الارتزاق الكثيف. بحيث تحول إلى مجرد طقوس مملة للابتذال السياسي. غير أن ذلك لم يرفع الشعر إلى مصاف الصوت المؤثر، رغم كل المبالغ الكبيرة المصروفة عليه. كما لم يجعل منه أكثر من أقشاش تطفو على ضفاف بحر الثقافة الكبير، أي ثقافة الفكر المنظم والمنهجي للمعارضة العربية الإسلامية الكبرى.

لقد جعلت السلطة من الشعر أداة وجدانها السلطوي وجزء من معتركها الذاتي ولهوها ومرحها. ومن ثم عزلته عن مجرى الحياة العارم وإشكالاتها. بحيث أصبح أشبه ما يكون بتعبير اللسان عن الوجدان المزيف والمصطنع والمأجور. وتحول شاعر السلطة إلى هراوة خشنة أو لسان بلا قلب. وكلاهما من صنف واحد بمعايير الثقافة الحية. لقد قتلت تقاليد الأموية حقيقة الشعر بإرجاع مشاعره إلى وجدان مصطنع. وأفرغته من كل مغامرات الوعي والاجتهاد، وأثارت بالمقابل عنف المواجهة. الأمر الذي جعل من مواجهة المعارضة تجسيدا لتدرج المرء في سلالم الروح. ومن ثم جعل من أصوات السيوف والرماح في المعارك المناهضة للأموية أنغام الوجدان الحر، ومن شعر المعارضة تعبيرا عما كان يعتمل في ثقافة التحدي من قيم الحق والحقيقة. وصنع هذا التباين والاختلاف مثقف الرخام السلطوي والحطام المعنوي، وبالمقابل صنع مثقف المواجهة والتحدي. ولكل منهما إبداعه الخاص، الذي لا يخلو من متناقضات الحياة والوجود والتاريخ.

فقد كانت الأموية مسوحا متهرئة ومطرزة بالجواهر الثمينة والأصداف الرخيصة. وهي حالة معبرة عن مفارقات الصيرورة الأولى للإمبراطورية العربية الإسلامية بعد تحولها من الخلافة إلى الملك. وما استتبعها من تغير وتبدل في صيرورة الأشباح وكينونة الأرواح. غير أن الأموية كانت رغم ذلك، تتبجح بهذه المفارقة لأنها من صلب صيرورتها السياسية. الأمر الذي جعلها تولع بالشعر لقربه من وبرها الثقافي وتقاليدها الجاهلية. بعبارة أخرى، لقد جعلت الأموية من السلطة قبيلة للشعراء المرتزقة وقبلة مديحهم ومجونهم. كما جعلت من الكذب والغش والخداع والتضليل والميول المحمومة لتخريب العقل وتعكير الضمير وتشويه الجسد ميدان منازلاتهم الحسية والغريزية. وكان همها الأكبر بهذا الصدد أن يكون الشعر والشعراء خدما وعبيدا. فهي الصيغة الأقرب إلى نفسيتها وذهنيتها. وليس مصادفة أن تجعل من موهبة الأخطل والفرزدق وجرير محصورة في "النقائض" والولع فيها للدرجة التي أصبحت "فنا" من فنون الشعر. بمعنى قولبته ضمن قصور الخلفاء والأمراء والاكتفاء بما فيه من هجاء ومديح، بوصفهما العوالم الوحيدة الحية بالنسبة للمعنى والمغزى. كما ليس غريبا أن يصبح الأخطل فارسها الخائف من أتباع الأموية نفسها! وهي شخصيات نموذجية تجتمع على مدح السلطة والعيش في كنيفها!

فقد ابتدأ الأخطل (20-92 هجرية) حياته الشعرية في التملق للأموية وانتهى به. وما بينهما لم يشذ إلا في القليل النادر عن خط الارتماء في أحضان السلطة والفعل بمقاييسها. فقد ابتدأ بتطويع لسانه على قدرة القول بما تريده السلطة، بمعنى الاستعداد على بيع القلب والوجدان. وتروى عنه الحادثة الشهيرة التي هجا فيها الأنصار بطلب من يزيد بن معاوية قبل تسلمه السلطة. فعندما امتنع كعب التغلبي من هجاء الأنصار، لأنه وجد في ذلك ردة من الإيمان إلى الشرك، وكيف له أن يهجو قوما نصروا الرسول. لكنه رشح له الأخطل، واصفا لسانه مثل لسان الثور! وقد استجاب الأخطل لطلب يزيد وقال أبيات منظومة هي الأكثر إثارة من حيث وظيفتها السياسية آنذاك بحق الأنصار، من بينها تلك التي قارنهم فيها بعصابة اليهود واختتمها بحقهم في البيت المشهور:

ذهبت قريش بالمكارم كلها   واللؤم تحت عمائم الأنصار

وقد أثار هذا الهجاء حفيظة بعض الأنصار الذين انظموا إلى معسكر الأموية، مثل النعمان بن بشير، الذي واجه معاوية غاضبا بعد أن حسر عمامته عن رأسه قائلا لمعاوية:

-     يا معاوية أترى لؤما؟

-     لا بل أرى خيرا وكرما! فما ذاك؟!

-     زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائمنا!

-     ما حاجتك؟

-     لسانه.

-     ذلك لك!

وعندما بلغ الأخطل مضمون ما جرى وإمكانية قطع لسانه على ما قاله بحقهم، فان ملجأه كان مضمونا، بغض النظر عن فقدان الأموية لهذا الصفة. بمعنى انعدام الأمان والائتمان لها في شيء، باستثناء ما يخدم مصالحها. لهذا نراه يحصل على الاستجارة بيزيد حالما توجه إليه. ولما علم معاوية بإجارة يزيد إياه رد على النعمان قائلا: لا سبيل إلى ذمة يزيد! بحيث جعل الأخطل يتفاخر به. ومن ثم الانزلاق أكثر فأكثر في حضيض الأموية لإدراكه أو تحسسه، بان السلطة لا تقطع لسان دعاتها ومداحيها وأسلحتها النفسية! ومع كل يقين بهذا الصدد، يصبح الهبوط أمام أقدامها عين الارتقاء إلى مصاف المطلق، شأن المؤمنين في سجودهم أمام الإله! ونعثر على هذه النتيجة في أبياته الشعرية العديدة مثل:

وانتم أهـل بيـت لا يوازنهم 

                      بيت إذا عدت الاحساب والعدد

قوم إذا انعموا كانت فواضلهم 

                      سببا من الله لا من  ولا حـسد

والإبداع الوحيد في هذه الرتابة المملة للخنوع والزيف، هو تنوع صورها! أما البطولة الوحيدة الممكنة، والتي جرى رفعها إلى مصاف "الإبداع الشعري" فهي ألعوبة الهجاء بين أيدي الخلفاء، كما لو أن مهمة الشاعر التحول إلى قرد يزيد أو كلاب صيده! فهو الميدان الذي تبرز فيه عضلات اللسان البارعة في نطق ما هو مثير للحديث الفارغ واللغط المنحط وشغب المشاكسة الجبانة. لهذا كان بإمكان الشعراء "الفحول" الاندفاع الأهوج في هجائهم المتبادل، مثل أن يقول الأخطل في معرض الافتخار بقومه وذمه لجرير

ما زال فينا رباط الخيل معلمة   وفي كليب رباط الذل والعار

أو أن يقول جرير بحقه ما يلي:

 نــرضى عـن الله أن الناس قد

                         علموا أن لا يفاخرنا من خلقه بشر

وما لتـغلب أن عـدّت مساعيها

                         نجـم يضيء ولا شمـس ولا قمر

بل وان يهجوه بعبارات بذيئة مثل قوله:

قل للاخيطل لم تبلغ موازنتي    فاجعل لامك أير القس ميزانا

أو أن يقول بحق الفرزدق:

فانك لو تعط الفرزدق درهما    على ديـن نصرانية لتنصرا

أو أن يهجو أصول الفرزدق كلها قائلا:

لا تذكروا حلل الملوك فإنكم    بعد الزبير كحائض لم تغسل

كما هجاهما الفرزدق بأقذع الصور. والحصيلة إننا نقف أمام هجاء مفتعل. أما قيمته الوحيدة فتقوم في تلاعبهم بالكلمات والصور. وخياله لا يتعدى حدود الزيف. إذ كل ما فيه من فضائل منسوبة للنفس ورذائل منسوبة للآخر متساوية بحق الأطراف. وبالتالي فان فضيلته الفعلية تقوم في استكشاف وإظهار وإبراز رذيلة الآخر. وفي الحصيلة لا فضيلة فيه بسبب دوافع الهجاء، بوصفها ارتزاقا أو تزلفا لاستمالة ابتسامة الخلفاء الخبيثة أو ضحكهم الماجن في مجالس اللهو. وليس مصادفة أن يصبح تاريخ الشعر "الرفيع" تاريخ الهجاء بين فحول القصور الأموية! من هنا سفاهته وسخافته بمعايير الذوق والمعنى والقيمة. ففي اغلبه مجرد كلام منظوم، أو سبيكة من الأوزان الخفيفة للضحك والشماتة، والمهانة والاستهانة، والمسخرة والاستهزاء. إذ لا همّ فيه لغير إثارة التسلية المفتعلة في عالم لا روح فيه. أما النتيجة فهي موت المشاعر المسعورة والأحاسيس الحية. فالهجاء لا يقتل ولا يثير النفس والعقل والوجدان، والمديح لا يسمع غير رنين الدينار والدرهم. والنتيجة اضمحلال أثر القيم في ميزان الأقوال والأفعال، بمعنى اضمحلال قيمتها المستقلة. بحيث يصبح الجبن والشجاعة، والبخل والجود وأمثالهما شيئا واحدا، أي استواء الرذيلة والفضيلة! وإذا كانت الفضيلة المتخيلة هنا تقوم في انتزاع الحمية والغضب الغريزي من تقاليد الهجاء، بمعنى تذليل هذا النوع من الهجاء لتقاليد الماضي الدموية، فإنها فضيلة أقذر من رذيلة! وذلك لان الهجاء والمديح لم يكنا سموا على نزوع الجسد الغريزي وقيم القبيلة الإنسانية وتقاليد العزة والافتخار وما شابه ذلك، بل جزءا من تمارين الخيال الكسول لكسب القوت ورفاهية العبيد!

ولم يتحرر من هذه الصفة حتى الفرزدق (20-114 هجرية) رغم كل ما قيل فيه وعنه من سمو وجرأة وعزة وحرية. فعندما يقول الفرزدق:

وكنا إذا الجبار صّعر خده   ضربناه حتى تستقيم الأخادع

فان ذلك لا إلزام فيه. تماما كما لا إلزام عندما يقول "ولا نلين لسلطان...حتى يلين لضرس الماضغ الحجر" وأمثالها من أقوال، وذلك لان حياته في كنف الخلفاء تعبيرا مضادا لما في شعره. وعندما يقول:

أحلامنا تزن الجبال رزانة    وتخـالنا جنا إذا ما نجـهل

فإن ذلك ليس ضمانة صادقة في الأعمال. بعبارة أخرى، إنها جزء من ثقة العقل لا النفس، والعبارة لا المعنى الفعلي. وليس مصادفة أن تقترن شخصيته المناهضة للأموية بتشيعه والقصيدة المنسوبة إليه عن "تعريف" شخصية الإمام زين العابدين في معرض رده على استغراب واستفهام هشام بن عبد الملك حالما رأى الجموع تتفرق أمام شخص "مجهول" لديه هو الإمام زين العابدين نفسه. وهي القصيدة التي جرى تحويلها لاحقا إلى أغنية الفرزدق الروحية والسياسية المناهضة للأموية. أما في الواقع، فإنها مجرد مغالاة في التصوير وغلو لا يستقيم مع فكرة الروح السياسي المعارض للسلطة.

قد لا تخلو شخصية الفرزدق من معارضة للأموية لكنها جزء من مزاجه النفسي. بمعنى أنها ليست منظومة أو رؤية متجانسة فيما ادعوه بالانتماء إلى مرجعيات الروح الثقافي والعمل بمبادئه الكبرى. وهو الشيء الذي لم تتعداه ولم تجاوزه قصيدته الشهيرة المتعلقة بمدح الإمام زين العابدين. بمعنى أنها لا تحتوي من حيث الجوهر إلا على تقاليد المديح والهجاء التقليدي، رغم رقتها القوية ودفاعها الصاخب وكمونها السياسي الهائل. ويمكن رؤية هذه المكونات في الأبيات التي تملئ القصيدة في حبكتها الواقعية ونزوعها العقائدي والسياسي لحد ما. ففي حبكتها الواقعية نعثر على الأبيات التي تقول:

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله     بجــده أنبياء الله قد ختموا

من جده دان فضـل الأنبياء له    وفضل أمـته دانت له الأمم

وفي حبكتها العقائدية نعثر على الأبيات التالية:

الله شـرّفه قــدما وفضـّله     جـرى بذلك له في لوحه القلم

مـقدم بعــد ذكر الله ذكرهم      في كل بدء ومختوم به الكـلم

من يعـر فالله يعرف أولية ذا      فالدين من بيت هذا ناله الأمم

كما تحتوي في اغلب أبياتها على كمون سياسي عميق ومتنوع التأويل، لكنه لم يتحول إلى منظومة لها استقلالها في الموقف المعارض من الأموية حتى حالما تعرض لسجنها ومطاردتها. وذلك لإمكانية مقارنتها بمثيلاتها في مدح خلفاء بني أمية والحجاج الثقفي! فعندما نقرأ في قصيدته الانفة الذكر أبياتا شعرية مثل

ينمى إلى ذروة العز التي قصرت   عن نيلها عرب الإسلام والعجم

مـن معشر حبـهم دين، وبغضهم    كفر، وقربـهم منجى ومعتصم

فقد رثى مرة اثنين من آل الحجاج ماتا في نفس اليوم وهما ابنه محمد وأخيه محمد أيضا، الذي كان واليا على اليمن. وجاء هذا الرثاء على طلب من الحجاج الذي أراد من يسليه بموت الأقربين. حيث نعثر فيه على الأبيات التالية:

إن الرزيـة لا رزيّة مثلها   فقـدان مثل محـمد ومـحمد

ملكان قد خلت المنابر منهما   اخذ الحمـام عليهما بالمرصد

وعندما طلب منه الحجاج الزيادة، استكمل الفرزدق قائلا:

إني لباك على ابني يوسف جزعا   ومـثل فقدهـما للدين يبكيني

ما سدّ حي ولا مـيت مسـدّهما   إلا الخــلائف مـن بعد النبيين

وعندما قال له الحجاج "ما صنعت شيئا، إنما زدت في حزني!، عندها قال الفرزدق:

لئن جزع الحجاج من مصيبـة      تـكون لمحزون أجـلّ وأوجعا

أخ كان أغنى أيمنَ الأرضِ كله    وأغنى أبـه أهل العراقيين أجمعا

جناحـا عُقاب فـارقاه كلاهـما    ولو نزعا عن غيره لتضـعضعا

وهو تصوير دقيق من حيث الواقع رغم تعارضه مع المعنى الظاهر، المقصود في الرثاء والمديح المبطن. وذلك لان الطغاة، شأن الحجاج، ليس لها قلوب. من هنا مرور الأحداث كلها بدون الم ومعاناة. فالطغاة لا تعاني لان الأشياء بالنسبة لها سواء مازالت لا تمس حالتها. بينما تصبح أتفه الأشياء أمورا خطيرة وجليلة حالما تمس العرش والهيبة والجاه. وهي الحالة التي لا يمكن أن يشعر بها شاعر ويتحسس قبحها.

وهي الحالة التي جسدها جرير ( 30- 114 هجرية) بصورة نموذجية، بحيث يمكن اعتباره شاعر الأموية ومداحها الكبير وطبلها المدوي. 

إن نموذجية جرير تقوم بهذا الصدد في تجسيده مداح السلطة وخادمها الوضيع. بمعنى انه لم يقف في مجرى حياته ولو لمرة واحدة في موقف المعارضة لسلوكها، بما في ذلك أشده دموية واستبدادا وانحرافا على الحق. ففي مطلع حياته نراه يتلذذ في التقرب من السلطان، ويعتبر الخضوع له حقا من حقوقه! وهذه بدورها ليست الا الصيغة الفعلية للعبارة المقلوبة في الشعر عندما صورها على انه حق الخليفة عليه! ففي إحدى قصائده التي يمدح فيها عبد الملك نسمعه يقول: 

وانـي رأيـت علـي حقا    زيارتي الخـليفة وامتداحي

ألستم خير من ركب المطايا     وأندى العالمين بطـون راح

وظلت هذه العلاقة تطبع وتتحكم بعوالمه الداخلية حتى آخر أيامه، عندما نسمع يمدح في آخر قصائده الخليفة هشام بن عبد الملك:

إلى المدي نـفـزع أن    فزعنا ونستسقي بغرته الغماما

وحبل الله تعصمكم قواه   فلا نخشى لعروته انفصـاما

وما بينهما تتناغم قصائده بعبارات التملق والعبودية المتبجحة في امتداحها كما لو انه الميدان الوحيد لصفاء الوجدان! بحيث جعل من القصائد المدونة كلمات حبرها من عرق العبودية، وتكرار فج للمعاني المبتذلة وفقدان تام للمعاناة. بمعنى إننا لا نعثر فيها إلا على معاناة التقرب من السلطة والالتفاف بردائها والانتعاش بقبولها والعيش برشوتها، التي جرى رفعها إلى مصاف النعمة عندما نسمعه يقول في إحدى قصائده التي يمدح بها عبد الملك:

ولىّ الخلافة والكرامة أهلها   فالملك أفيح والعطاء جزيل

بل نراه يتبجح فيها تجاه كل من مر به من الخلفاء مازال حيا! فكما قال عن عبد الملك قال عن ابنه يزيد يمدحه بكلمات:

أما يـزيـد فـان الله فهمّـه     حكما، وأعطاه ملكا واضح النور

زوروا يــزيد فان الله فضله    واستبشروا بمـريع النبت محبور

 خـليفة الله إني قد جعلت لكم    غر سوابق من نسجي وتحبيري

وان يقول عن الوليد بن عبد الملك:

إن الوليد خليفـة لخـليفة  رفع البناء على البناء الأعظم

بعبارة أخرى، إن الأموية تتحول إلى سلسلة الحكم الإلهي. وهي سلسلة سياسية أيديولوجية فجة تجمع بين الإسلام والقبيلة، وبين الإسلام والجاهلية. ومن هذا الجمع جرى صنع المسخ الذي جسدته الأموية في صيرورتها وكينونتها. ومن ثم لم يكن شعر جرير أكثر من مشاعر التعبير المنظوم عن هذه المسخ الجديد. ولا يطرح جرير، في حال البقاء ضمن سياق النزوع العام للفكرة، فان المسار العام لها يفترض اقتران السيادة لبني هاشم وليس لآل مروان. بينما ينع جيري إلى المطابقة بين المروانية والخلافة كما لو أنها وحدة ضرورية نابعة من حقيقة الإسلام! ففي مدحه لآل مروان نسمعه يقول:

يا آل مروان إن الله فضلكم   فضلا عظيما على من دينه البدع

أو أن يستكملها في احد أبياته التي يمدح فيه هشام بن عبد الملك قائلا:

 وليتم أمرنا ولكم علينا   فضول في الحديث وفي القديم

بل وان يجعل من وجود الأموية المروانية أساس الدولة والثبات كما في أبياته القائلة:

فأضحت رواسي الملك في مستقرها  بمنتجب من آل مروان أزهرا

بحيث نراه يربط بين فضائل آل مروان التاريخية وحق الخلافة. وان يرفع هذه العلاقة إلى مستوى الرغبة الإلهية! كما في قوله مدح هشام بن عبد الملك،

لو أن الله فضل سعي قوم   صنعت لكم الخلافة والعهود

أو أن يرفع الثبات والديمومة فيها إلى الأبد كما لو انه القدر والمصير الذي لا بد منه. انطلاقا من أن تمام الملك لبني مروان هو جزء من الكرامة الإلهية!  وإن كل مخالفة لبني أمية هي جريمة عقابها الزوال كما زالت ثمود!

لقد استمدت هذه المواقف صورها من الفكرة الجبرية وتطويع الدين والأديان لمآرب الحكم. وهي الفكرة التي أسست لها الأموية عبر آلية الدهاء السياسي. من هنا سهولة تمثلها وتمثيلها عبر الشعر والشعراء. فالشعر وجدان وكلمات وصور. ولا يحكم هذه المكونات المتقلبة شيء غير الاستعداد لخلط مكوناتها. لكنه استعداد كان له تقاليده الجاهلية القوية والهشة في نفس الوقت. بمعنى استعدادها للتقلب والتحول لأنه جزء من المزاج. وبما أن مزاج السلطة متقلب تجاه الآخرين ثابت تجاه النفس، من هنا إمكانية قلب الموازين الداخلية للتقاليد الجاهلية الشعرية التي صورها القرآن بصورة دقيقة عندما قال بان الشعراء يقولون ما لا يفعلون وإنهم اقرب إلى الإغواء والأهواء. وقد استجابت هذه المكونات بفعل التاريخ والسياسة والثقافة لتقاليد الأموية القبلية بشكل عام والمروانية منها بشكل خاص. أما الحصيلة فهي صياغة وبلورة الوحدة الفعالة بين الجبرية الدينية وفكرة الاستبداد، التي قدمت الجبرية السياسية على أنها الصيغة الرفيعة للدين الجديد! وقد تمثل جرير مهمة الدعاية العلنية والمستترة لها. فقد كانت قصائده في مدح الخلفاء الأمويين تعبيرا نموذجيا للدفاع عن الجبرية السياسية. ففي مديحه لعبد الملك نسمعه يقول:

الله طوقك الخـلافة والهدى    والله لما قضى ليس تبديل

 إن الخـلافة بالذي أبليتـم   فيكم فليس لملكها تحويل

وفي مديحه ليزيد بن عبد الملك نسمعه يقول:

يكفي الخليفة أن الله فضله    عزم وثيق وعقد غير تغرير

وان يستكمل تصوير انتصاره بأنه قدر الهي كما في قوله:

وكان نصرا من الرحمن قدرّه    والله ربك ذو ملك وتقدير

ونعثر على ذات النزعة بما في ذلك في مدحه لعمر بن عبد العزيز، الذي حصل في العرف الإسلامي الورع على مكانته الخاصة في سلسلة الخلفاء الراشدين. حيث نسمعه يقول:

نال الخلافة وكانت له قدرا    كما أتى ربه موسى على قدر

كما نعثر على نفس هذا المنحى الجبري في مدحه لأيوب بن سليمان بن عبد الملك، حيث يقول:

الله أعطـاكم مــن عـلمـه بـكـم

                     حكما وما بعد حكم الله تعــقيب

    أنت الخليفة للرحمن يعرفه

                     أهل الزبور وفي التوراة مكتوب

إن تحول فكرة الجبرية السياسية إلى دين الدولة وشعراءها، قد استتبعه بالضرورة الاستظهار الطبيعي لها من خلال تحويلها إلى وحدة الحق الواجب على الأمة! ووجدت في ذلك أمرا "مقدسا". إذ تستمد مقوماتها ليس من الإسلام بل ومن الأديان عموما، لان مصدرها الأول هو الله. وهي الفكرة التي ترتقي إلى رغبة الأنبياء الأبدية. وقد جعلت الأموية من نفسها إلها جديدا، ومن سلطتها رسالة أبدية، ومن أفكارها وحيا، ومن شعراءها أنبياء. وبهذا تكون قد استكملت الدورة الضرورية التي تجعل من خنوع الآخرين فعلا اقرب إلى الإيمان الحق والوحيد! ففي مديحه لعبد الملك بن مروان، نعثر في شعر جرير على ما يمكن دعوته بفكرة صراط الاستقامة عند الخلفاء وضرورة خضوع الأمة، مثل قوله:

لولا الخليفة والقرآن نقرؤه   ما قام للناس أحكام ولا جمع

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام تأسيس أولوية الخليفة على القرآن، أي على مصدر الحق والمثال الأبدي للإسلام. الأمر الذي يجعل من الطبيعي بالنسبة لجرير القول، بان عبد الملك هو الأمين الوحيد، شأن محمد في يوم ما أمام الأمة:

أنت الأمين، أمين الله لا سرف   فيمـا وليـت ولا هيابـة ورع

  أنت المبارك يهـدي الله شيعته  إذا تفــرقـت الأهواء والشيع

عندها يصبح الخليفة عروة الروح والجسد، والعقائد والإيمان، والعقل والضمير، والحامي للوجود والكون! حينذاك يصبح القبول بما يقوله الخليفة ويعمله أشياء مقدسة لا تحتاج إلا إلى القبول، كما في مديحه ليزيد بن عبد الملك، عبر توجيه خطابه للجمهور قائلا:

هو الخليفة فارضوا ما بقى لكم   بالحق يصدع ما في قوله جنف

انطلاقا من انه الوحيد "المبارك الميمون سيرته   لولا تقوّم درء الناس لاختلفوا". بحيث تجعل هذه الخاتمة من الخليفة والأمة على طرفي نقيض أو مكونات لكل منها حدوده الحادة. الخليفة مصدر الحق الحقيقة والخلاص، والأمة مادة الخضوع والاستسلام والقبول الدائم. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام فكرة تقدم باسم الإسلام تتعارض مع حقيقته. فالإسلام ينطلق من أن الأمة لا تجتمع على خطأ أو ضلالة، بينما الجبرية السياسية الأموية حاولت أن تبرهن على أن الخليفة هو الوحيد الذي لا يخطأ، وان مصدر الخطأ يكمن في الأمة. من هنا ضرورة المخرج الدائم من خلال دوامة السجود أمام السلطة واليقين بما فيها بوصفها مصدر الحق والإخلاص. وليس مصادفة أن يقول جرير في مدحه ليزيد بن عبد الملك:

هذي البرية ترضى ما رضيت لها   إن سرت ساروا وإن قلت أربعوا وقفوا

أو أن يقول في معرض مدحه للنظام الأموي ونموذج "أمير المؤمنين" بوصفه ممثل الصراط المستقيم قائلا:

أمير المؤمنين جمـعت دينا    وحلما فاضلا لذوي الحـلوم

أمير المؤمنين على صـراط    إذا اعــوج الموارد مستقيم

 وحالما يبلغ الوجدان المرتزق هذه الذروة، أي حالما يصبح الصوت الصادح للجبرية السياسية التامة، حينذاك يصبح مدح الجبابرة (المستبدين) فعلا تلقائيا، وليكن أكثرهم شراسة وقسوة وخروجا على ابسط مقومات النزوع الإنساني كما كان الحال بالنسبة للحجاج الثقفي.

***

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1387 الثلاثاء 27/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم