قضايا وآراء

النظريَّة الأخلاقية بين (الصدر) و(كانط)

لتلك المشتركات أو الأفكار المتشابهة في أيِّ حقلٍ من الحقول.

 ولا يقدح في تقرير هذه الحقيقة أنَّ بعض الفلاسفة يلتقون أو يفترقون ثمَّ يلتقون وهكذا في عمليةٍ مستمرةٍ لا تتوقف، مع أنَّ لكلٍّ منهم مذهباً فلسفياً معيناً لا يلتقي مع المذهب الفلسفيِّ للآخر، بالنظر إلى المرتكز الدينيّ، أو الفكريّ، أو الإيديولوجيِّ العامّ. بل إنَّ الأمر يصل أحياناً إلى درجة الإختلاف الكليِّ بينهم  فيما لو كانت وجهتنا مصوبةً نحو تقييم كلٍّ منهم وتصنيفه على ذلك الأساس الدينيِّ أو الفكريِّ أو الإيديولوجيّ. فقد يكون أحدهم حراً من الإلتزامات الدينية بشكلٍ مطلقٍ، فهو يفكر بطريقةٍ متحللةٍ من كلِّ اعتبارٍ للوحي، أو سنن الأنبياء ، فيحاول أن يكوِّن له ولقرائه من خلال تأملاته هو، بمعزلٍ عن كلِّ معيارٍ آخر مهما كان مستنداً إلى شرعيةٍ إلهيةٍ أو دينيةٍ أو سماويةٍ مذهباً فلسفياً جديداً، يحدد فيه برأيه الطريقة الأكثر منطقيةً وعقلانيةً في النظر إلى الكون والإنسان والحياة، بما في كلِّ ذلك من التفاصيل والحقول الأخرى ذات الصلة بكلِّ واحدٍ منها، فهو يوسع من دائرة الشمول لمذهبه الفلسفيِّ الخاصِّ ليشمل الأخلاق والإجتماع والسياسة والإقتصاد والتربية...إلخ.

ومنهم من هو داعيةٌ ومفكرٌ دينيٌّ مجتهدٌ في أحكام الشريعة داخل المنظومة المفاهيمية العامَّة لذلك الدين، فيحاول أن يؤسس للأفكار الفلسفية والعرفانية والإجتماعية والأخلاقية والمنطقية ...إلخ على أساسٍ من الروح العامة التي تتسرب في النصوص الدينية المقدسة التي يتألف منها ذلك الدين. ومع أنه مسلّمٌ كلياً بحقانية الوحي والكلام السننيِّ داخل دينه، إلا أنه لا يكتفي بالتلقي السطحيِّ البسيط لهذه النصوص، بل يحاول أن يغور في أعماقها إلى البواطن العميقة، ويسلِّط عليها الكثير من الأضواء النابعة من ثقافته المتشعبة الواسعة، فتضاء له الكثير من الجوانب والمناحي التي خفيت على غيره ممن لا يكونون على هذه الأهبة من الأهلية والإستعداد لمعالجة النصوص الدينية واستخراج ما فيها من الجواهر والكنوز.

الفريق الأوَّل كما هو الفريق الثاني تماماً، فإنَّ في كلِّ فريقٍ منهما الكثير من الشخصيات والمدارس والإتجاهات المتمايزة المتنوِّعة، بالرغم من أنَّ الفضاءات العامة هي نفسها التي يتنفس أجواءها الجميع.

فكما يوجد فلاسفةٌ متحررون من الإلتزامات الدينية، إلا أنَّ منهم الماركسيّ، ومنهم الوجوديُّ الذي يؤمن بالإله، والوجوديُّ الملحد، والفيلسوف النقديّ، والوضعيُّ المنطقيّ، والوضعيُّ التجريبيّ، ومنهم الحسيون، ومنهم الفلاسفة الميتافيزيقيون الروحيون،...إلخ. فهم ليسوا صنفاً واحداً، ولا يمثلون في أنفسهم اتجاهاً واحداً.

كذلك الفلاسفة الدينيون، فإنهم على الدرجة نفسها من الإختلاف والتباين، فمنهم الفيلسوف المسلم، ومنهم المسيحيّ، ومنهم اليهوديّ، والبوذيّ، والهندوسيّ...إلخ.

ولا ريب في أنَّ الإختلاف والتباين في المباني العامَّة والمرتكزات التي تشكل نقاط انطلاق الفيلسوف في التفكير تلعب دوراً حاسماً في هذا الإختلاف، وفي هذا التباين.

فمن همِّنا في هذه الدراسة الموجزة أن نركِّز حديثنا حول نقاط الإلتقاء والتشابه والإختلاف، بين مفكرين كبيرين من مفكري عصورنا الحديثة، في مجالٍ محددٍ من المجالات التي يتخذها الفلاسفة مداراً لأبحاثهم، وطرح نظرياتهم وأطروحاتهم، وهو مجال الأخلاق.

أحد هذين المفكِّرَين الكبيرين هو فيلسوف العصر الحديث كما يسمونه في الدراسات الفلسفية التي تركز الإهتمام في تسليط جهودها على الفلسفة الغربية، وسنقارب أطروحاته من خلال كتابه المعروف: تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق بالتحديد.

والمفكر الآخر، هو السيد محمد الصدر، وهو مفكر الإسلام، وباعث النهضة الفكرية الإسلامية خاصةً في العراق. وسنقارب أفكاره من خلال كتابه الشهير(فقه الأخلاق)، وبعض ما ورد في كتبه الأخرى.

إنَّ همَّنا الوحيد هو رسم حدود العلاقة بين المفكرين التقاءً وافتراقاً، دون أن نغفل حقيقة أنَّ كلاً منهما ينتمي إلى فضاءٍ دينيٍّ ومعرفيٍّ يكاد يكون مختلفاً كلياً عن الفضاء الدينيِّ والمعرفيِّ للآخر.

 

نظرةٌ عامةٌ في المذهب الأخلاقيِّ عند (كانت)

"إفعل الفعل بحيث يمكن لمسلمَّةِ سلوكك أن تصبح مبدأ تشريعٍ عامّ". بهذه العبارة نستطيع أن نؤطر المذهب الأخلاقيَّ العامَّ عند هذا الفيلسوف العظيم.

ومن العبارة التالية الأخرى نستطيع أن نتخذ منها منفذاً للولوج الرحب إلى ما هو الفحوى الداخليُّ لمضمون هذه الصورة الموجودة داخل هذا الإطار. يقول (كانت): إفعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كلِّ إنسانٍ سواك باعتبارها دائماً وفي الوقت نفسه غايةً في ذاتها، ولا تعاملها أبداً كما لو كانت مجرَّد وسيلة"[1].

إنها حقاً فكرةٌ صارمةٌ جداً، وصادمةٌ للذات، إلى درجة أنَّ الإنسان يقف أمامها ذاهلاً من هول المفاجأة التي تشير إليه باعتباره كائناً أخلاقياً مفرِّطاً بالمضمون الأخلاقيِّ المطلوب كشرطٍ لانضمامه إلى الذات الكلية الإنسانية، التي دون أن يكون حائزاً على الوثائق الرسمية للإنضمام إليها فلن يكون بمستوى اعتباره أحد أفراد كليِّ الإنسان.

ليس هناك من معيارٍ دقيقٍ صارمٍ، أكثر دقةً ولا أشدَّ صرامةً من هذا المعيار بكلِّ تأكيد، فما عليك إلا أن تضع الميزان لنفسك، أي بوحيٍ من العقل الخالص المتجرِّد من الشوائب والغرائز المنحرفة حتى تهتدي إلى الفعل الصائب عن طريق قياسه بهذا الميزان الأخلاقيِّ النابع من الذات الإنسانية الموضوعية المتخلصة من الأنانيات والإنتهازيات التي تحرف ذلك الميزان من أن يؤدي وظيفته بالدقة الأخلاقية المطلوبة.

فعليك وأنت تدخل في دائرة السلوك والتصرُّف والفعل، أن تقدم على فعلك وتصرفك وسلوكك، بنظرة وبروح من يريد لها أن تكون قانوناً عاماً يلتزم به هو مضافاً إلى كلِّ أهله وأقربائه وأصدقائه، سواءٌ بسواءٍ مع الأعداء والخصوم.

وعليك حين تقوم بتصرُّفك وفعلك وسلوكك بعد أن ترتقي بمستوياتها إلى ذروة تمنيك أن تصبح قانوناً عاماً للناس أجمعين، أن تسلك إزاء الآخرين كلِّ الآخرين باعتبارهم ذواتاً مثلك، فتحسُّ بها كما لو أنها ذاتك أنت، أو ذات أخيك، أو ذات من أهَّلت نفسك لتشعر به بصفته ذاتاً، وأن لا تعامل الآخرين مهما كانوا خصومك أو أصدقاءك بهذه الصفة، وهي أنهم ذواتٌ، وليسوا موضوعاتٍ خارجيةً تبدو لك كما لو أنها أشياء جامدةٌ أو طبيعيةٌ تتحرَّك، لكنك لا تتخيَّل أنها تحمل شعوراً وإحساساً بالكينونة الذاتية مثلك بالضبط. يقول كانت: " الإنسان وكلُّ كائنٍ عاقلٍ بوجهٍ عامٍّ يوجد كهدفٍ في ذاته، لا كمجرد وسيلةٍ يمكن هذه الإرادة أو تلك أن تستخدمه على هواها، فهو في كلِّ أفعاله سواءٌ أكانت هذه الأفعال متعلقةً به هو نفسه أم بغيره من الكائنات العاقلة الأخرى، ينبغي أن ينظر إليه في الوقت نفسه على أنه غايةٌ".

إنَّ (كانت) حساسٌ جداً في أمر الدين، فليس هو ملحداً كما يحاول الكثيرون من المهتمين بالشأن الفلسفيِّ الإيحاء به، كما انه كائنٌ أخلاقيٌّ من الطراز الأوَّل، بالرغم من أنَّ أخلاقه لا تستند إلى الأرض الواقعية من ناحية أخذ واقع النفس البشرية بعين الإعتبار.

إنَّ [كانت] رغم فلسفته النقدية، وربما بسبب هذا النوع من الفلسفة يُعدُّ كائناً دينياً من الدرجة الأولى، فهو لا يريد للأحكام العقلية التي تصلح للإنطباق بشكلٍ كليٍّ ودقيقٍ على المعطيات التجريبية والحسية أن تكون منطلقاً أو حجةً على إثبات أو نفي الخالق جلَّ وعلا.

قد يختلف معه الكثيرون، لكنهم لا يمتلكون الحقَّ في أن يجرِّدوه من إيمانه الذي ملك عليه كيانه في نهاية الأمر، فليس الطريق إلى الله منحصراً بهذا، وليس اشتراطاً على الإنسان أن يسلك السبل المنطقية والفلسفية في الوصول إلى الغاية المنشودة في الإيمان بأنَّ لهذا الكون المركَّب المعقَّد المتشعِّب في غاية الدقة والإنتظام خالقاً قادراً وحكيماً.

"شيئان يملآن نفسي إعجاباً وإجلالاً، وهما يتجددان ويزدادان على الدوام كلَّما أمعن الفكر التأمُّل فيهما: السماء المرصعة بالنجوم من فوقي، والقانون الأخلاقيُّ في نفسي"[2].

هذه هي شهادة (كانت) على إيمانه الكبير المطلق، بأنَّ الدين حقيقةٌ نهائيةٌ، وأنَّ ما نطق به الأنبياء من التنويه إلى أنَّ للكون خالقاً لا نهائية لقدراته ولصفاته هو الحقُّ الذي ينطق به الكون نفسه لأيِّ متأملٍ بصيرٍ حكيمٍ، تماماً كما قال القرآن حاكياً لسان حال قومٍ مرهفي الإحساس أمام عظمة الكون: "الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار".

إنَّ النقد الكانتيَّ للعقل، ومحاولة الإرتقاء به إلى مستوى أن يكون خالصاً، بحيث لا مجال في العقل للبرهنة على العوالم الميتافيزيقية الغيبية لا يدلُّ على أنَّ الرجل قد استهان بهذه العوالم والشؤون مما يقع في دائرة الميتافيزيقا عادةً، بل كلُّ ما يدلُّ عليه سعيه هو أنه حدَّد منطقة العمل للعقل في المجالات التي يحسن أن يتخذ من معطياته فيها حكماً، وهي العلوم التجريبية على وجه التحديد. أما تلك الشؤون والأمور الغيبية – الله، الملائكة، الجنة، النار، ...إلخ- فليس للعقل أن يستقلَّ في إصدار الأحكام القطعية فيها، بل هي شؤونٌ تقع ضمن اختصاصاتٍ أخرى في رأي (كانت)، وتعتبر منطقة الوجدان والإحساس الباطن مما يركز عليه العرفاء المسلمون غالباً هي الحكم والفيصل في مثل هذه الأمور.

قد لا نتفق مع [كانت] في نتيجةٍ مثل هذه، ونبرهن ضدَّه بأنَّ العقل له القدرة على أن يسير خطواتٍ جبارةً باتجاه التدليل على وجود الله سبحانه، والمعاد، والنبوة، وغيرها من الشؤون ذات الصلة، لكننا كما قلت آنفاً لا نستطيع أن نجرِّد الرجل من إيمانه لمجرَّد أنه نفى أن تكون مثل تلك الشؤون والقضايا مما يبحثه العقل ويصدر حكمه فيه، فلا ملازمة بين الأمرين كما هو واضحٌ.

إنَّ كتابه حول التجربة الدينية هو من أروع النصوص التأملية حول فكرة الدين وضرورته للإنسان، بل تكاد تلمح فيه شخصية [كانت] وكأنها إحدى تلك الشخصيات العرفانية الكبيرة المشهورة في الأوساط الدينية، بل إنه ليتجاوز في شفافية روحه، ورهافة إحساسه الدينيِّ الكثير من كتابات العرفاء في معالجاتهم ومحاوراهم مع ذواتهم ومع العالم، أو مع الله مباشرةً. إلا أنَّ سوء الفهم ظلمه كثيراً، وتسببت الكثير من المناهج الفلسفية التي قاطعت الله سبحانه فيما بعد، والتي شكلت تواصلاً للمعطيات الفلسفية والنقدية في مشروعه النقديِّ عموماً في إلصاق هذه النظرة الظالمة به، وتحويلها إلى شيءٍ مستقرٍّ في أذهان الكثيرين من ذوي الإهتمام بمتابعة إنتاجه الفلسفيّ.

المهمُّ أنَّ فكرة الواجب والإلزام الخلقيِّ والقانون، تستحوذ على مجمل المشروع الكانتي في التأسيس لعلم الأخلاق، فالأخلاق تتأسس عنده على أساس عقلانيةٍ تنبع من ذات الإنسان، وترتبط بخضوعٍ إراديٍّ للقانون الأخلاقيّ، مع فهمٍ خاصٍّ للحرية الإنسانية، وهو أنَّ الإنسان لا يمكن أن يكون حراً من خلال التحلل من كلِّ التزاماته، أو بأن يحقِّق كافَّة رغباته، بل تتمثل الحرية عنده في أنها نتاج الضرورة، أي إنَّ الإنسان لا يمكن أن يعيش تناقضاً بين كونه حراً وبين كونه لا يحقق كافَّة رغباته، إذ لا يكون حرمانه من بعض هذه الرغبات وتقنينها على أساس الضرورة الأخلاقية والشعور بالواجب إلا انطلاقاً من شعوره هو بضرورة أن يكون على هذه الحال، وإلا انطلاقاً من إرادته وحريته هو في أن يضع على نفسه شتى الإلتزامات والمسؤوليات.

صحيحٌ أنَّ الأخلاق الكانتية توحي بالنظرة الطوبائية الخيالية، إذ لا يمكن لفكرة الواجب الأخلاقيِّ التي يزعم [كانت] وجودها في كلِّ نفسٍ بشريةٍ بصفتها مرتكزةً فيها بصورةٍ فطريةٍ أن تكون بمجرَّدها محرِّكاً ودافعاً نهائياً للبشر للسلوك في طريق الغايات التي تتحقق من خلالها النتائج الأخلاقية التي يرومها [كانت] من التركيز على هذه الفكرة حول الواجب والإلزام الخلقيِّ النابع من الإنسان بمعزلٍ حتى عن سلطة القانون، أو بمنأى مما يشكل للإنسان دافعاً موازياً يدفعه بطريقةٍ تنسجم مع ميوله وغرائزه المهيمنة على جانبٍ كبيرٍ من مكوناته النفسية الشعورية أو اللاشعورية، وتسايرها بأسلوبٍ تتحقق من خلاله الغاية الممكنة من هذا الواجب والإلزام الأخلاقيّ، إذ يكون الحديث عن أن يضحي الإنسان بجانبٍ كبيرٍ من متعه الشخصية ومنافعه الأنوية في سبيل الآخرين ممكناً.

إلا أننا مع ذلك، نستطيع أن نقول إنَّ الواجب الكانتيّ، لو تسلسلنا قليلاً في تفاصيله ومتعلقاته من خلال ما ذكره (كانت) نفسه في كتاب (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) مما سنقوم بمتابعته بعد قليل، ينتهي إلى النتائج والغايات نفسها التي رامها الإسلام من الإنسان، بفارقٍ واحدٍ، وهو أنَّ الإسلام يعتبر أكثر واقعيةً، وأشدَّ موضوعيةً في اتخاذ السبل التي تؤدي إلى هذه النتائج. علماً أنَّ من أكبر التهم التي يوجهها خصوم الإسلام إليه هو مثاليته وبعده عن متطلبات الواقع الموضوعيِّ على حدِّ تعبيرهم، بينما الشطط الأكبر في البعد عن الواقعية يوجد في الحقيقة في هذا الكمِّ الهائل من المدارس الفلسفية التي تعيش أحلاماً طوبائيةً في أبراجها العاجية، وتتخيل أنَّ منطق الواقع والمجتمع سيكون متطابقاً مع ما تقرره من الوسائل والغايات والنتائج.

بعد أن يتدرَّج (كانت) في عرض مبادئه الفلسفية حول الواجب الأخلاقيّ، بالطريقة الصارمة التي ألمحنا إليها في العبارتين الموجودتين في صدر البحث، ينتقل إلى ضرب الأمثلة ليرى هل بالإمكان أن توجد وسيلةٌ لتحقيق ما تضمنته مبادئه في فكرة الواجب، يقول:

" أولاً: سنجد بحسب تصور الواجب الضروريِّ تجاه الذات أنَّ الشخص الذي يفكر في الإنتحار سيسأل نفسه إن كان من الممكن أن يتفق مسلكه مع فكرة الإنسانية بوصفها هدفاً في ذاته..........إلى أن يقول: ولكنَّ الإنسان ليس شيئاً وبالتالي ليس موضوعاً يمكن ببساطةٍ أن يعامل معاملة الوسيلة، بل ينبغي النظر في كلِّ أفعاله بوصفه دائماً هدفاً في ذاته. ومن ثمَّ فلست أملك حقَّ التصرُّف في الإنسان الكامن في شخصي، سواءٌ كان ذلك بتشويهه، أو إفساده أو قتله".[3]

فهنا يعامل الإنسان ذاته بحسب الفرض الكانتيِّ لمن يفكر في الإقدام على الإنتحار بوصفه ذاتاً أخرى لا يمتلكها في الحقيقة، إلا بمقدار ما يحافظ عليها، ويعتبرها غايةً وهدفاً في ذاتها، فلا يكون محقاً في قتلها، أي في أن يستخدمها بوصفها وسيلةً. هذا في الحقيقة هو منتهى النبل في التفكير غير الأنانيِّ حتى على مستوى التعامل مع الذات في مستوى الحرص عليها، وعدم الإقدام على توجيه الضرر إليها، لكنَّ نقطة الضعف الكبرى تتمثل في أنَّ الشخص عندما يسأم من حياته، ويتخيل أنَّ الموت خيرٌ لها من هذه الحياة التي هي مأساةٌ حقيقيةٌ بالنسبة إليه، أي بالنسبة إلى نفسه، فلا فرق في الواقع بينه وبين نفسه، إلا أن يكون محسناً لهذه النفس، لأنه يخلصها من معاناتها، لأنَّ الفرض لم يتضمن أنَّ هناك حالةً للنفس ترجوها في تحمل صاحبها لمشاقِّ الحياة ومعاناتها بوصفها مأساةً حقيقيةً تسبب الألم الذي يتفوق على ألم الموت، فلا إله ولا ثواب ولا عقاب تستند إليه النفس في إحجامها عن قتل نفسها، ولا مالك للنفس غيرها، فمن أين يكون الخلل بالواجب الأخلاقيِّ لو أنَّ النفس أقدمت على قتل نفسها؟. على العكس تماماً في الحالة الإفتراضية الأخرى التي تقرر أنَّ لهذه النفس مالكاً حقيقياً هو خالقها سبحانه وتعالى، وأنه هو المتصرف بها على وجه الحقيقة، وأنها مهما فقدت فرص السعادة والعدل، ومهما تحولت حياتها إلى مأساة، فإنَّ هناك رباً يرعاها ويشملها في رحمته حتى وهي في أتون المعاناة والمأساة.إذن، تبدو فكرة [كانت] هنا جميلةً وأخاذةً وذروةً في الشعور بالواجب، إلا أنها لا تستند على قاعدةٍ متينةٍ تضمن التبرير العقلانيَّ للإيفاء بمتطلبات هذا الواجب.

يقول [كانت] في النقطة الثانية "أما فيما يتعلق بالواجب الضروريّ، أو بالواجب في حقِّ الآخرين، فإنَّ الذي ينوي أن يبذل وعداً كاذباً للغير سيدرك على الفور أنه يريد أن يستخدم إنساناً آخر كوسيلةٍ فحسب، بغير أن يحتوي هذا الإنسان في نفس الوقت على الغاية في ذاته".

ثمَّ يردف بالقول: "وتزداد هذه المجافاة لمبدأ الإنسانية وضوحاً أمام العين إذا أضفنا إلى ذلك أمثلةً من الإعتداء على حرية الآخرين وممتلكاتهم، إذ يتجلى عندئذٍ أنَّ الذي يدوس على حقوق الناس إنما يقصد إلى استخدام أشخاصهم كما لو كانت مجرَّد وسيلةٍ فحسب، دون أن يضع في حسابه أنهم بصفتهم كائناتٍ عاقلةً، ينبغي أن يعدوا دائماً في نفس الوقت غاياتٍ، أي كائناتٍ لا بدَّ أن يكون في مقدورها أن تحتوي في ذاتها على الهدف من هذا الفعل نفسه" [4].

ليس هناك كلامٌ أدلُّ على أنَّ الإنسان ملاكٌ بالفطرة من هذا الكلام، فلو كان هذا الكلام شعراً لكان خارج محلِّ النقاش، لكنَّ المشكلة في أنه ليس كذلك، فهو تنظيرٌ وتقعيدٌ فلسفيٌّ للأخلاق التي يجب أن يكون عليها مطلق الإنسان.

ومن ذا الذي يناقش في أنَّ الذات الإنسانية كما إنها قابلةٌ للسموِّ إلى أعلى الدرجات، فإنها تتطلب سبلاً واقعيةً يكون بها وعن طريقها بلوغ تلك الدرجات داخلاً في حيِّز الإمكان.

إنَّ الأنانية ونكران حقِّ الآخرين هي جبلَّة الأكثرية من البشر، ما لم توجد موانع من الوسائل الترغيبية والترهيبية تحول دون أن تستشري نوازع الأنانية في الإنسان، فتطغى على الغاية من وجود العدل والمساواة والرحمة والألفة في النظام العامِّ للمجتمع. لذلك يقول الشاعر محقاً:

الظلمُ من شيم النفوس، فإن تجد   ذا عفَّةٍ، فلعلةٍ لا يظلمُ

الإنسان مجبولٌ على حبِّ نفسه، ومجبولٌ في سبيل خدمة نفسه على أن يعامل الآخرين بصفتهم وسائل وليس بصفتهم غاياتٍ. هذا هو المنطق الطبيعيُّ الواقعيُّ في الصراع بين الإرادات من أجل إحراز الأسهم الكبرى من تحقق الوجود بالنسبة للذات، ولا يكون هذا غالباً إلا بأن يتجاهل حقَّ الآخرين في أن يعاملهم بهذه الصفة المتعالية، أعني كونهم غاياتٍ.

ولكنَّ هذا الكلام لا يعني أنَّ السبل مغلقةٌ والأبواب موصدةٌ والحلول مستحيلةٌ أمام هذه المعضلة في التوفيق بين الغايات الواقعية التي تتمثل في الإرادات المتصارعة من أجل الإستئثار بأسهم التحقُّق في الوجود.

نعم، فالقرآن اتخذ سبيلاً لا يتقاطع مع هذه الجبلة الواقعية للبشر، فوضع حلوله متساوقةً ومتماشيةً وواقعةً في نفس المسار الذي تسير فيه هذه الطبيعة البشرية، فلتكن إذن نفس تلك الميول والغرائز والملكات ذات الوجهة الأنانية طريقاً لتحقيق الغاية الكانتية ذات المثالية المفرطة، فإنك أيها الإنسان الأنانيُّ مجبولٌ على أن تكون أنانيتك سلاحاً في يديك لتحافظ بها على وجودك، لكنك مع الأسف تضعها في غير موضعها وتسرف بها على الأنانيات الأخرى الموجودة في نفوس من يمتلكون حقَّ الوجود مثلك تماماً، وإنك لا تنتبه إلى هذا، إلا متى توقعت تعويضاً، وإلا متى خفت على نفسك من العقوبة، لذلك فإنَّ الله الذي تعترف بحكم وجدانك وبحكم عقلك بوجوده وبقدرته، قد وعدك في مقابل كلِّ تنازلٍ عن شهوةٍ أنانيةٍ من شهواتك التي تعتدي بها على الآخرين وتعاملهم بها بصفتهم وسائل لتحقيق غاياتك ثواباً، وجعل في مقابل كلِّ إصرارٍ منك على أن لا تفارق هذا المسلك عقاباً، وهو ثوابٌ وعقابٌ يمتازان بالخلود الأبديّ، وأنه قدَّم إليك بالوعيد فلن يظلمك، فإن شئت ربيت نفسك تربيةً عليا على هدى كتبه ورسله فبلغت مستوىً عالياً من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية، حتى لا يعود عندك الإلتفات مهماً للعقاب أو الثواب، قياساً إلى الرضا النفسيِّ الذي تشعر به من جراء قيامك بمتطلبات هذه المسؤولية، وإن لم تشأ فالله يرضى منك بأن تلتزم عملياً بمقتضى التوجيهات التي تؤدي إلى حفظ الغاية من الموجودات بالعدل والإتساق والإنسجام بين الحقوق والواجبات، وسيكون جزاؤك مرتباً على أساس ذلك الإلتزام.

فايُّ النظريتين هي الأوفق بالوصول إلى الغاية، هل هي نظرية [كانت] في الواجب، أم نظرية الإسلام التي لا تغفل هذا الواجب ولا تنكر ضرورته، ولكنها تضع له الطرائق العملية والواقعية للوصول؟.

وحول المبدأ الثالث يقول: بالنظر إلى الواجب العرضيّ [الإستحقاقيّ] تجاه الذات، لا يكفي أن يتناقض الفعل مع الإنسانية في أشخاصنا بوصفها هدفاً في ذاته، بل ينبغي كذلك أن يكون الفعل على اتفاقٍ معها. ولكنَّ الإنسانية تنطوي على استعداداتٍ تهيّء لبلوغ درجةٍ أعظم من الكمال، وتكون جزءً من الغاية التي تقصد إليها الطبيعة بالنسبة للإنسانية ممثلةً في ذواتنا، وإهمال هذه المواهب والإستعدادات قد لا يتعارض مع المحافظة على الإنسانية بوصفها غايةً في ذاتها، ولكنه يتعارض مع العمل على تحقيق هذه الغاية" [5].

ما قيل في النقطتين السابقتين من النقد والإشارة إلى ما في هذا الكلام وأمثاله من الدلالة على النبل الإنسانيِّ في شعور [كانت]، وما يكتنفه من النظرة اللاواقعية حيث لن يكون التطبيق سهلاً، بالنسبة إلى المضمون السامي الكليِّ في هذه العبارات.

إنَّ الدعوة إلى أن يكون فعل الإنسان بالإضافة إلى كونه غير متناقضٍ مع الإنسانية في شخصيته، متوافقاً معها، ومأخوذا في اعتباره تلك الإستعدادات والمواهب الموجودة في دائرة الإمكان بالنسبة للإنسان، لترتقي بها إلى حيِّز الفعلية والتحقق، دعوةٌ في غاية النبل والسموّ، ولكنها لن تكون واقعيةً إلا بمقدار ما تأخذ في اعتبارها الحالة التي جبل عليها الإنسان، وفاعلية تلك الغرائز والميول وضغوطاتها عليه باتجاه الإستئثار، وإهمال تلك الإستعدادات والمواهب وتركها بلا رعايةٍ كونها مبعثاً للتعب والإرهاق، ومتناقضةً مع الحالة الغريزية التي تدعو الإنسان إلى تجاهل كلِّ ما يعترض سبيل لذَّته ومتعته وشهوته، وأنه لا يمكن لهذا الإستئثار والسير نحو المتع والشهوات أن يضمحلّ، أو أن يكون معرضاً للتوجيه والترشيد والتنظيم، ما لم تتوقع الذات البشرية نوعاً من التعويض المجزي أو المضاعف أضعافاً كثيرةً أحياناً في مقابل هذا التنازل عن رغبتها الغريزية الجامحة بالإسئثار وبالمتع والشهوات بغضِّ النظر عن كونها محللةً أو محرَّمة.

عدم استناد هذه الأخلاقيات إلى أساسٍ متينٍ من المعرفة بالطبيعة الإنسانية، وبالقوانين التي تصلح لإغرائه بالسير نحو الكمالات النفسية أو الأخلاقية، في المراحل الأولى على الأقلّ، هو نقطة الضعف الكبرى في هذا المسلك الأخلاقيِّ الكانتيّ، بالرغم مما فيه من الدلائل على النبل الكبير، والضمير الحيِّ المرهف.

على العكس تماماً مما عليه الوضع في النظرية الإسلامية، فإنَّ رسم الحدود للغرائز والميول في ذات الإنسان يأتي متزامناً مع حالة الوعد والوعيد الإلهيين، وما يشكلانه من حافزٍ قويٍّ بالنسبة للإنسان المؤمن بيوم الجزاء للسعي الجادِّ نحو تلك الكمالات، كونها مبعثاً للراحة والسرور والسعادة الأبدية، ولتجنب تلك السبل التي تؤدي إلى ما يناقض هذه الكمالات من الرذائل الشديدة وما هو دونها في المستوى، كونها مبعثاً للعذاب وفقدان الأمل في الخلاص من الخلود في الشقاء الأبديّ.

وفي المبدأ الرابع يقول: "أنا فيما يتعلَّق بواجب الإستحقاق نحو الآخرين فإنَّ الغاية الطبيعية التي يقصد جميع الناس إلى تحقيقها هي بلوغ سعادتهم. حقاً إنَّ الإنسانية يمكن أن تظلَّ باقيةً، إذا لم يسهم أحدٌ في إسعاد غيره، ولم يتعمَّد في نفس الوقت أن يسلب منه شيئاً، غير أنَّ هذا لن يزيد عن أن يكون اتفاقاً سلبياً لا إيجابياً مع الإنسانية بوصفها غايةً في ذاتها، إذا لم يحاول أحدٌٌٌ بقدر ما في طاقته أن يعمل على إسعاد غيره".[6].

كأنَّ الانسان لا أثر للنوازع التي تبتعد به عن طريق تحقيق الخير للآخرين، وإذا كان هذا الفرض صحيحاً فلا موجب للحديث عن التربية الخلقية للإنسان في هذا الإتجاه. إذ المفروض أنه لا يحمل من النوايا في صدره إلا ذلك النوع من النوايا التي تصبُّ في هذا الطريق، فعلام الحديث عن التربية والإرشادات لهذا الإنسان الكامل؟. إنَّ هذه هي الخدعة الكبيرة التي وقع فيها التفكير الكانتيُّ رغم قوَّة التنظير، وتماسك البناء المنطقيِّ في فلسفته الأخلاقية، فهي ليست أخلاقاً عمليةً مطلقاً، إذا ما تعلَّق الأمر في إسناد العمل بهذه المقتضيات الأخلاقية المثالية للإنسان نفسه، من دون الحاجة إلى الحديث عن السند النفسيِّ أو الدينيّ، وليس نافعاً طبعاً استنادها إلى القانون الملزم، لأنها حسب الفرض نابعةٌ من الإرادة الحرَّة للإنسان، وإلا فلا معنى للحديث عن كونها أخلاقاً في نهاية المطاف.

ربما قاس (كانت) الإنسان بمعناه المطلق على نفسه، فتخيَّل الإمكانية في الجميع أن يكونوا بهذا المستوى من التفكير بالواجب الأخلاقيِّ الضروريّ، وحتى على مستوى (كانت) نفسه، فلو بحث في أعماق عقله الباطن لصادف الكثير من المستندات غير الشعور الحرِّ بالواجب بما هو واجبٌ أخلاقيٌّ، بل سيجد أنه يصدر في مثل هذا الإعتقاد عن شعورٍ دينيٍّ دفينٍ في أعماقه البعيدة، وأنه لولا توقعه للجزاء ثواباً وعقاباً لما تمسَّك بالواجب الضروريِّ الأخلاقيِّ إلى هذه الدرجة البعيدة من التمسُّك واحترام الكائن الأخلاقيِّ في أعماقه.

 

الإطار العامُّ للنظرية الأخلاقية في الإسلام

الإتجاه العامُّ للنظريات الأخلاقية في الإسلام عموماً يتخذ له طريقاً يلتقي في نقطةٍ مع الطريق الكانتيِّ في الأخلاق، كما يفترق معه في نقطةٍ أخرى هي المحكُّ الواقعيُّ في التمييز بين تلك النظريات التي لا يراد منها سوى أن تكون قابعةً في عالم المثل والمجردات، أو أنها تخصُّ أناساً يتحاورون ويتناقشون ويتساجلون في الأبراج العاجية المخصصة للفلاسفة الطوبائيين دون أن يكون تطبيق تلك النظريات على موضوعاتها في أرض الواقع من همهم، وبين النظريات التي يعتبر مجترحوها ومخترعوها أنفسهم معنيين بهذا الواقع في الدرجة الأولى، صوب تغييره واختزال عناصر الضعف والخلل والنقص فيه للإرتقاء به نحو حالةٍ أعلى من التكامل الأخلاقيِّ والسياسيِّ والدينيِّ والإجتماعيِّ وغير ذلك.

إنك لكي تكون واقعياً في تفكيرك، ولكي يكون تفكيرك منتجاً للثمرات التي تجعلها أهدافاً لتلك الأفكار والعمل الذي سيبذل في سبيل تكريس تلك الأهداف، فعليك في البدء أن تقوم بملاحظة الواقعة واستقرائها استقراءً لا يغفل جزئيةً ولو كانت صغيرةً، مما قد يكون له المدخلية الواقعية في تكوين جزء العلة التامَّة، تلك العلة التي يتوقع منها أن تكون مصدراً لمعلولها الذي لا يمكن أن يتخلف عنها، وهو هنا في المقام الإنسان الفاعل والمنفعل بالمجتمع، بحيث يكون مصدراً لتلك القيم العليا والمعنويات السامية، التي تجعله يبدو وكأنه ليس إنساناً، بل إنساناً وشيئاً ما مضافاً اليه، وهو تلك السمة الإلهية الملكوتية التي تنطبع بها كافَّة سلوكياته وتصرفاته.

غالباً ما يقال عن الإسلام أنه ليس واقعياً، وإنها لتهمةٌ أبعد ما تكون عن الإسلام، وألصق ما تكون بالمذاهب الفكرية التي تشنع عليه بذلك، فإنها لو أرادت أن تكون أخلاقيةً، أو أرادت أن تنشئ المجتمع المعنويَّ الأخلاقيّ، فإنها تتوجه إلى أساساتٍ فارغةٍ، ولا واقع لها في حقيقة الأمر، لتشيد عليها بناءاتها الأخلاقية والمعنوية، فتبدو وكأنها طلبت من الإنسان الشيء المستحيل، لأنها تغافلت عن واقعه وتكوينه النفسيِّ الذي جبل عليه. فهي تحاول أن توحي إليه بأن لا وجود لكائنٍ اسمه الله، ولا صحة لما أخبرت به النبوات من وجود الجنة والنار والجزاء عموماً من ناحية، وتطالبه بأن يتنكر إلى تكوينه الجبلّيِّ المفطور على حبِّ الذات والأنانية وجلب المزيد من المتع إلى النفس ودفع ما يمكن دفعه من أسباب الحرمان والشقاء الماديِّ والمعنويِّ بأيِّ ثمنٍ كان، حتى لو كان الثمن هو الإعتداء على الآخرين لو أوتي من القدرة ما يمكنه من الإعتداء عليهم، وحرمانهم مما ينافسونه عليه من تلك المتع والمغريات، ودفع الأضرار والأشياء التي تسبب له الألم باتجاههم من ناحيةٍ أخرى.

إنها تريد أن تبرهن للنظريات الأخلاقية التي تستند إلى الدين والوحي والجزاء، على أنَّ تحقيق الوجود على الأسس الأخلاقية الرفيعة ليس السبيل الوحيد إليه هو الدين، بل يمكن أن تتأسس الأخلاق، وتتحقق الحالة المعنوية المثالية داخل المجتمع على أساسٍ لا يستند إلى الدين والوحي والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء.

لكنها تقع في مطباتها على مستوى الإنسجام المنطقيّ، كما تقع في مطباتها على مستوى التطبيق على أرض الواقع، فلن يوجد الكائن الأخلاقيُّ في النهاية منسجماً ومتسقاً مع ذاته وعقله في توفير السعادة للمجتمع على حساب شقائه حتى، إلا على أساس الإمتثال للوحي الإلهيّ، والإعتراف بأنَّ يوم الجزاء حقّ.

نعم، قد يستطيع الإنسان أن يهتدي إلى التفاصيل الأخلاقية بنفسه على هدى تلك الكليات المستقاة من المرتكزات الفطرية المغروسة في ذات الإنسان وعقله، دون الإهتداء بالضرورة بتعاليم الوحي، ومع ذلك لن يكون متقاطعاً مع الوحي انطلاقاً من الفكرة التي تقرر أنَّ ما حكم به الدين حكم به العقل أيضاً. ولكنه حتى في هذه الحالة لن يستطيع أن يمتثل بحريةٍ وبانسجامٍ مع متطلبات العقل المستقلِّ الحاكم بجلب المنافع للإنسان من أيِّ طريقٍ كان، ودفع المضارِّ وأسباب الشقاء عنه، إلا على قاعدة التسليم العقليِّ بأنَّ هنالك حساباً، وعقاباً وثواباً معدَّين للإنسان بحسب حالات الإمتثال لمقتضيات العدل في هذه الحياة الدنيا الفانية.

من هذه النقطة بالذات، تبدأ واقعية الإسلام مسيرتها في التخطيط العقلانيِّ المبرمج على الأسس الموضوعية للواقع الذي يتشكل منه الإنسان، الواقع الذي ينطلق من الرؤية الإلهية للخالق الخبير بأحوال مخلوقه في القول القرآنيّ:"ونفسٍ وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها". حيث لا تكون النفس البشرية فاقدةً للإمكان في الحالتين معاً: حالة الخير، كما هي حالة الشرّ. بعد تقرير أنَّ الشرَّ ما هو إلا عدم الخير، أي إنه عدم الكمال بالضبط. أما السعي نحو الكمال فإمكانه مقررٌ في ذات الإنسان، من حيث وجود الإستعدادت الفطرية المرتكزة في الذات لإفاضة هذا الكمال فيما لو بذل الإنسان جهده في هذا المسار. ولا يقف المنهج الإسلاميُّ عند هذه الحدود، فهو يعلم ما لسيطرة الشهوات والرغبات على ذات الإنسان، ولا بدَّ له لكي يضع أمامها الموانع والحدود من أن يتوقع إلى درجة اليقين أحياناً حصول لحظةٍ يحاسب فيها على عدم إخضاعه تلك الشهوات والرغبات لميزان العدل، ولا معنى للعدل أصلاً ما لم توجد لحظة الجزاء هذه، ليتمَّ تعويض الذي ضحى بفوضى الغرائز والميول والرغبات لصالح النظام الإلهيِّ الذي هو قطعاً النظام الإجتماعيُّ العادل الصالح. ولتتمَّ محاسبة من لم يتخذ هذا المسلك في تنظيم عمل غرائزه وميوله بحيث لا تتقاطع مطلقاً مع مصالح الآخرين، بما هم غاياتٌ مثله وليسوا وسائل على حدِّ تعبير [كانت]، وبحيث لا يكون عملها متوائماً ومنسجماً مع غاية البشرية ككلٍّ في السعادة.

في الإعتقاد بالجزاء والقيامة تكمن القوة والفاعلية الفائقة في المنظومة الأخلاقية الإسلامية، بينما يكمن سرُّ الضعف المنهجيِّ وعدم إيجاد المحركية والدافعية في المنظومات الأخلاقية الأخرى، بالرغم من أنَّ بعضها ينهج نهج الفضيلة في رسم خططها ومناهجها، في عدم الإستناد إلى هذا الإعتقاد.

يقول السيد محمد الصدر: "إنَّ الإسلام قرن أوامره بالإثابة على إطاعتها ونواهيه بالعقاب على عصيانها، ومعنى ذلك تولّد الإحتمال ولو ضعيفاً في نفس الفرد المفكر الرشيد بالضرر، وهو الوقوع بالعذاب الذي توعَّد به الإسلام، أي إنه تولد مثل هذه القضية الشرطية في فكره: لو كان الإسلام صادقاً فإني حتماً سأعاقب"[7].

 

لا مجال في الواجب الكانتيِّ للتدرُّج في مستويات الكمال الأخلاقيّ

هناك نقطةٌ أخرى لا بدَّ من الإلماع إليها في المنهج الأخلاقيِّ عند (كانت)، وهي أنه لا توجد في نظريته حول هذا الواجب مستوياتٌ متدرجةٌ متفاوتةٌ تصلح أن تكون مقدماتٍ للصعود أعلى فأعلى في مراقي الكمال. وتشكل هذه النقطة ملمحاً آخر من ملامح المثالية المفرطة والبعد عن المنهج الواقعيِّ في التنظير للأخلاق، فكأنَّ الإنسان يولد منذ بدء التكوين والولادة فاضلاً إلى هذه الدرجة من الكمال، أو أنه ينتقل فجأةً بحركةٍ واحدةٍ من موطن النقص والرذيلة والتقصير الكليِّ في المناحي الإجتماعية والأخلاقية، ليكون إنساناً كاملاً كمالاً مطلقاً، فيكون أقرب شيءٍ إلى حالة المعصوم أو حالة الملاك. وكذلك المجتمع، طبقاً لهذه الرؤية، يوجد بصورةٍ مفاجئةٍ وجوداً معصوماً كاملاً بعصمة وكمال كلِّ أفراده، بغضِّ النظر عن وجود المحددات المانعة من بلوغ هذه الدرجات في بعض المراحل الزمنية، وبغضِّ النظر كذلك عن حاجة المجتمع للمرور في مرحلةٍ يتربى فيها بواسطة بعض الثلة المعصومة الكاملة على الخطوات التدرُّجية التي تتكفَّل شيئاً فشيئاً بحصول بعض الدرجات في هذا الإتجاه.

 

التدرُّج في المستويات هو القاعدة الأساسية في الإسلام

في الإسلام، طبقاً لرؤية آل البيت خصوصاً، فإنَّ المجتمع لا يتكوَّن من طبقةٍ معنويةٍ واحدة، ولا يوجد فيه مستوىً أخلاقيٌّ واحد، بل إنَّ الطبقات متعددةٌ ومتفاوتةٌ في الترقي في مدارج الكمال الأخلاقيّ، ويوجد تبعاً لهذا التفاوت تفاوتٌ آخر من ناحية وجود المستويات الأخلاقية والتكاملية المتدرِّجة صعوداً وهبوطاً إما نحو التكامل، أو نحو التسافل، ولا بدَّ من أخذ هذا الحال في نظر الإعتبار عند رسم الحدود ووضع المناهج للتربية والترقي في الحالة الأخلاقية العامة للمجتمعات.وتعتبر هذه الحال هي عصب الإتصال بين الكثير من التشريعات، من المحللات والمحرمات، التي تتراوح في حليتها وحرمتها بين درجات الإباحة والإستحباب، والحرمة القطعية والكراهة، فلكلِّ مستوىً تكامليٍّ ما يناسبه من هذه الأحكام. فيكون إقرار الإسلام بهذا التفاوت في المستويات التكاملية حتى مع تعرُّض المجتمع إلى التربية المكثفة من الواضحات.

 

السير التدرُّجيُّ في التربية هو السبيل للوصول إلى حالة المجتمع المتكامل نسبياً

من الأفكار المقرَّرة في الفكر الإسلاميِّ أيضاً، أن الانتقال من طور اخلاقي الى طور اكثر تكاملا، وهكذا،هو الذي يضمن للمجتمع الوصول الى حالة مرضية من التكامل، الذي وان كان تكاملاً نسبياً لا مطلقاً، الا انه يجعل المجتمع ككل بالغا درجة من الكمال، بحيث يصح تسميته بالمجتمع المعصوم على حد تعبير السيد محمد الصدر، فهو ليس معصوما باعتبار عصمة كل فرد فيه على حدة، لكنه معصوم باعتباره مجموع هؤلاء الافراد الذين تتوفر فيهم نوازع الخير بكثرة، ويتناهون عن ارتكاب ما يخالف شعور الضمير بضرورة الالتزام بالواجب الضروري الاخلاقي بجدية ايضاً.

وعصمة المجتمع من هذه الناحية لا تعني اكثر من القلة الملحوظة في نسبة الاخطاء الى درجة انها لا تذكر الى جانب كثرة اعمال الخير والاصابات في القرارات الكفيلة بانصاف كل فرد من الفرد الآخر، وانصاف كل مجتمع من المجتمع الآخر، على قاعدة العدل والمساواة الممكنة، ولا يكون كفيلاً بالوصول الى مثل هذه الدرجة من التكامل الاخلاقي، الا على اساس التربية المكثفة للانسان جيلا بعد جيل على مبادئ مرسومة من قبل اله يؤمن به الانسان، ولا يشعر مع ايمانه به وبعدالته المقتدرة باي درجة من درجات الغبن لو انه ضحى، او انه عرض نفسه للاضرار التي تنتج من انحيازه للحق، وللاسباب الكفيلة بتحقيق سعادة الآخرين، حتى لو لم يلتفت هؤلاء الآخرون الى تضحيته في سبيلهم، او استهانوا بجهوده في هذا السبيل.

" فان الفرد الذي ربي تربية اسلامية حتى امتزج دين الله القويم وتعاليمه الحكيمة بلحمه ودمه، وصارت جزءا سامياً من نفسه، وصار امتثال التعاليم الاسلامية عادة طيبة له، ولمس في نفسه اللذة الكبرى التي يجدها الفرد في الخشوع لله عز وجل، وفي التعاطف والتراحم والمحبة بين الناس. مثل هذا الفرد هو عبارة عن جميع المواطنين في المجتمع الاسلامي، يستحيل عادة صدور الذنوب والهفوات والمفاسد منه، الا ما شذ وندر من الحالات"[8].

ان الشخص الافتراضي الذي يوجه [كانت] خطابه الاخلاقي اليه، ليس شخصاً موجودا، او متحققاً لحد الآن، بل اكاد اجزم انه ليس موجوداً حتى في داخل كيان [كانت] نفسه، فهو بشخصه ايضاً واقع تحت تاثيرات خارج نطاق تلك الدائرة المتمحضة للشعور بالواجب، وان كنت لا انفي قطعا الملكات الاخلاقية الراقية لدى [كانت] ولدى من هم من طرازه، الا ان يقصد [كانت] ان انسانه المفروض في خطاباته، انما هم اولئك الاشخاص القلائل الذين نعتبر – كمسلمين- دائرة وجودهم منحصرة في الانبياء والائمة المعصومين ، فاذا كان الخطاب موجها الى بشر من الطراز الاعلى كهؤلاء، فنحن متفقون معه، لكن المشكلة تكمن في ان [كانت] يقصد غير هذا، بحيث انه يتخيل وجود هؤلاء بشكل ناجز في مساحة تتسع لكل البشر، مع ما تثبته المشاهدة والعيان، وما يعرفه كل كائن بالوجدان، من ان الاغلبية الساحقة من البشر لا يقيمون لتوجيهات [كانت]، فضلا عن ان يكونوا بهذه الصفة تحققاً، أي اعتبار.

ان الطريق التربوي الذي اختطه الاسلام للنهوض بالمستويات الاخلاقية للمجتمع لا تتقاطع مع مبدأ الارادة والاختيار، اعني الحرية، كاساس للتكامل في الفرد وفي المجتمع، كذلك، فان الاعمال الباطلة وان كانت كثيرة الوقوع من البشرية الا ان الاسلام لا ينظر اليها بصفتها اشياء تعوق الوصول الى الاهداف النهائية في بلوغ المراحل العليا من التكامل، انطلاقا من النظرة الاسلامية الواقعية لضرورة ابتناء التكامل الاخلاقي على قاعدة الحرية، واستناداً الى رؤية الاسلام في ضرورة اخذ التدرج في تربية المجتمع في نظر الاعتبار، بما في ذلك الرؤية التي تتضمن ان نكسات الفرد او المجتمع في الطريق التكاملي نفسه مساهم في دفع عجلة التطور والتقدم باتجاه الغاية النهائية في الكمال.

يقول السيد محمد الصدر: "ومن ثمَّ قلنا، خلال مناقشتنا لقوى الإنتاج الماركسية : إنَّ اختيار الإنسان لا يعقل أن يحول دون الوصول إلى تلك الأهداف، بل إنَّ أيَّ فعلٍ أو أيَّ قولٍ من أيِّ إنسان، صالحاً كان أو باطلاً، ضحلاً كان أو عميقاً، مؤثراً كان أو عاطلاً، واقعٌ لا محالة ضمن الطريق الموصلة إلى تلك الأهداف. وهذا – كما أشرنا أيضاً – لا يقتضي الإلتزام بالجبر، أو قسر الناس على أفعالهم من قبل الخالق، لأنَّ الأهداف متوقفٌ إنجازها على الإختيار، فإذا ارتفع الإختيار وحصل القسر زال الطريق الأفضل إلى تلك الأهداف، وهو خلاف الحكمة ونقضٌ للغرض، وهو يستحيل من الحكيم"[9].

 

الشعور المركَّز بالواجب الأخلاقيِّ يحتاج إلى عرفان

العجب كلُّه من هذه الأطروحات الأخلاقية التي تطالب الإنسان بهذا المستوى السامي جداً من الرفعة في المقام الأخلاقيّ، بحيث أنها تفترض فيه التجرُّد من كلِّ العوامل الذاتية التي تغريه بالإبتعاد عن أقلِّ مقدارٍ من الإنحراف عن جادَّة الصواب، ولا تنتبه في الوقت نفسه، إلى أنَّ هذه الدرجة من السموِّ الأخلاقيِّ أو المعنويِّ تتطلب قاعدةً أو نقطة ارتكازٍ تنسجم مع البناء الذي ينهض عليها، لا أن تشيد هذا الصرح الأخلاقيَّ العملاق والجميل في الفضاءات الفارغة، والنقاط الخاوية الجوفاء، لأن تلك البناءات الأخلاقية لن تكون حقيقيةً من ناحية إمكان وجودها في الواقع الخارجيّ، وإن أمكن تصوُّر قيامها وارتفاعها نظرياً، أو في عالم المجرَّدات والخيال.

إنَّ القاعدة الإرتكازية القوية لهذا النوع من الأخلاق، لا يمكن أن تتمثل إلا في الدين، وليس أيّ دينٍ بالطبع، بل في الدين الذي يحقِّق أكبر نسبةٍ من الواقعية والإنسجام مع مبادئ الفطرة الإنسانية الحاكمة بوجود الله وصدق النبوات، وعلى هذا الأساس تحكم بأنَّ هناك أوامر ونواهي من قبل الله يجب الإلتزام بها، إن لم يكن انطلاقاً من الشعور المجرَّد بضرورتها، فمن خلال إمكانية الردع للنسبة الكبيرة من البشر، كي يكون الفضاء الإجتماعيُّ مهيأً ومناسباً لأن تأخذ تلك الأخلاق المنطلقة من الشعور الخالص بالضرورة مجالها وحيِّزها المعقول.

ثمَّ إنه حتى فيما يخصُّ هذه الأقلية التي تبلغ هذا المستوى من الأخلاق المبتنية على الشعور المجرَّد بالضرورة، فإنها لا يمكن لها قطعاً أن تستمرَّ في الإعتقاد بأنها يجب أن تتعمَّق، كما لا يمكن أن تكون مبعثاً للنشوة والسعادة للشخص، إلا حينما يكون إنساناً مفعماً بالإيمان الدينيّ، وبالشعور بامتلاء الكون والوجود بروح الذي أوجدهما وخلقهما، وإليه تنتهي مصائر كلِّ الوجودات غيره، بما في ذلك وجوده هو، فضلاً عن الوجودات الأخرى التي لا تكون مداراً للأهمية بالنسبة إليه بالدرجة الكافية كنفسه في الكثير من الأحوال.

إنَّ الدين، والشعور بالوجود الحقيقيّ – الله سبحانه – هو الذي يعطي الطاقة اللامتناهية لهؤلاء الكاملين في أن يكملوا، وأن يكون كمالهم مصدراً لكلِّ السعادات التي يغبطون أنفسهم عليها، ويندبون أحوال من يقصرون عن نيل قسطٍ منها، أو بلوغها بشكلٍ كامل.

فالصلة الكبيرة إلى درجة الإندكاك بين الفقه كتشريعاتٍ يُكلَّف الناس جميعاً بكلِّ طبقاتهم المعنوية بأدائها، وبين مستويات الكمال العليا، هو الخطُّ الصحيح الذي يسلكه الإسلام في صناعة هذا الإنسان الأخلاقيِّ الكامل من وجهة نظر (كانت)، وفي التكثير منه حتى يكون أمثاله هم الطبقة الغالبة في المجتمع.

 فلنقرأ ما يقرره السيد محمد الصدر في هذا المجال:

 "إننا إن فهمنا من الأخلاق التربية العليا والسلوك الأمثل في مقابل ما للعامة من تكاليف أمكننا القول: بأنَّ التكاليف العامة في الفقه هي الواجبات والمحرَّمات، والتكاليف المعمقة هي المستحبات والمكروهات. وهي التي تربي الفرد في خطوةٍ أعلى من مجرَّد الإلتزام بما هو إلزاميٌّ في الشريعة. فتكون المستحبات والمكروهات الفقهية، هي أحكامٌ أخلاقيةٌ بطبيعتها".[10].

وعن الفكرة الرئيسية في هذه الفقرة يمكن أن نقتبس من كلام السيد الشهيد محمد الصدر، الكلام الآتي:

 "عرَّفنا الفقه بأنه علم التشريع، وعرَّفنا الأخلاق بأنها علم السلوك. فهل يمكن أن يكون بين التشريع والسلوك تباينٌ وتغايرٌ؟. طبعاً لا، فإنَّ التشريع إنما وجد لأجل السلوك على طبقه. أو قل: إنَّ التشريع العادل أوجد لأجل إيجاد السلوك الصالح. كما إنَّ السلوك إنما ينشأ طبقاً لتشريعاتٍ مسبقةٍ يدركها السالك"[11].

وفي فقرةٍ أخرى يقول ?:

 "إنَّ قصدنا من السلوك، السلوك الأخلاقيِّ المعمَّق، فهو ناشئٌ طبعاً عن تعاليم، باعتبار أنَّ من الأفضل اتخاذ هذا السلوك دون ذلك، على اختلاف حاجات السالك وحالاته وأهدافه. وهذه التعاليم أيضاً من نوع التشريع والفقه".[12].

إذن، الإسلام أكثر واقعيةً من هذه الناحية أيضاً، وهي أنه مضافا إلى كونه يرضى بالتدرُّج في السلوك الأخلاقيِّ المتفاوت في درجات التعمُّق والكمال، فإنه يواشج بين حالتين من المطلوب توفرهما معاً في الحياة الإجتماعية للبشرية، وهما التشريعات التي تتراوح في درجات شدَّتها وفقاً للحالة التي يكون عليها المخاطب بالتكاليف الشرعية، وحالة السلوك نحو الدرجات العلى من الأخلاق الرفيعة المتناهية في خلوِّها من الشوائب النفسية قلَّت أو كثرت، ونقرأ للسيد محمد الصدر في سياق ذكره للمستويات الأخلاقية الممكن الإشارة إليها:

 "المستوى الأوَّل: المستوى الإلزاميُّ في الشريعة، أعني الواجبات والمحرَّمات.

المستوى الثاني: المستوى غير الإلزاميِّ من الشريعة، أعني المستحبات والمكروهات، وهي التي تعتبر عادةً أولى الخطوات نحو الكمال الأخلاقيِّ اللائق أو العالي.

المستوى الثالث: التعاليم المعمقة للسلوك الأخلاقيِّ العالي الذي يختصُّ بالقلة من الأفراد، ممن يتحملونه".[13].

فليس هنالك من شكٍّ أنَّ الطراز البشريَّ المندرج في المستوى الثالث هو الغاية المرجوَّة والمأمولة في أن تكون عامةً وشاملةً للمجتمع، إلا أنَّ النظرية الإسلامية الواقعية لا يمكن لها أن تلغي الإعتراف بالمستويات التكاملية الأقلَّ منها، كما انَّ تلك المستويات التي هي أقلُّ شأناً من المستوى الثالث تعتبر ضروريةً للمجتمع، وبها يتكوَّن النظام الإجتماعيُّ المثاليُّ المطلوب، كما انها تكون بمثابة نقاط انطلاقٍ من حيث أنَّ كلَّ مستوىً منه ينطلق الإنسان والمجتمع بعد بلوغه إلى المستوى الأرفع والأفضل.

 

 رئيس  تحرير مجلَّة المنهج

 

..............................

1- امانوئيل كانت. تاسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ترجمة: د. عبد الغفار مكاوي. منشورات الجمل. ص108-109.

2- المصدر نفسه. ص 15.

3- المصدر نفسه. ص109.

4- المصدر نفسه. ص109-110.

5- المصدر نفسه. ص110-111.

6- المصدر نفسه.ص111.

7- نظرات اسلامية. ص122.

8- المصدر نفسه. ص134.

9- السيد محمد الصدر. اليوم الموعود. ص397.

10- السيد محمد الصدر. فقه الاخلاق. ص12.

11- المصدر نفسه. ص13.

12-  المصدر نفسه. ص13.

13- المصدر نفسه. ص14-15.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1388 الاربعاء 28/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم