قضايا وآراء

لغة القرآن مظهراً إعجازياً

فدار الشعر في فلك العبثية الفكرية كثيراً. وقد تكسر هيكل الشعر الجاهلي الجبار الذي غالى به الشعراء الفحول طويلا، فلم يصمد أمام كلمات قرآنية قليلة ذات عمق وإيحاء لم يجد الفحول نظيراً لها فيما قالوه وتبجحوا به، فلا توجد لفظة في قوة دلالتها ولانهائيتها كـ(الحاقة) التي تصدم السامع وتنقله إلى هول الآخرة عبر آلية موسيقية تقوم بالجمع بين حروف ثقيلة (الحاء) و(الألف) و(القاف) تخنق البلعوم وتقطع النفس، فتنتقل إلى عمق الذاكرة صورة وهمية مهولة، ولا توجد لفظة في قوة تخييلها وايحائيتها كـ(تنفس) في قوله تعالى (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (التكوير18)).

وهكذا ادخل القرآن اللغة العربية مخاضاً جديداً بما أضافه من صيغ وظلال للكلمات، فأصبحت متحركة، مكتنزة، محفورة، تستطيع أن تعبأ، وقد اقترح القرآن على الشعراء أن (ينتصروا) ولا يتركوا شعرهم أجوف يصلح لإزجاء القول والوقت فقط.

ولم تقتصر اللغة القرآنية على التصرف الجرسي والانفتاح المعنوي، بل اشتمل على نظام للترجمة لن يكون له مثيل أبداً على مستوى الانسانية،  فقد وظفت كل اللغات مصهورة بشكل معجب في قالب واحد فحوى (كل لسان)، وكأن الله (سبحانه) أراد أن يجعله مظهراً اعجازياً يضاف إلى مظاهر الإعجاز القرآنية الأخرى.

جمع القرآن (الهجات) العربية و(اللغات العالمية) ليؤكد عالميته، وإمكانية ضم كل اللغات الى بعضها فيكون النص الجامع اكثر إبداعاً وتعبيراً، إلا أن هذه الفكرة التي أراد الله (سبحانه) إيصالها إلى الإنسانية لم تصل كما ينبغي، فالغالبية على أن القرآن نزل بلغة قريش متجاهلين عرضاً وافراً من الكلمات والجمل العربية غير القرشية مثل: الأرائك:السرر (اليمن)، خاسئين:صاغرين (كنانة)، الرجز:العذاب (هذيل)، وبيل:شديد(حمير)، لواحة:حراقة (أزد شنؤة، الوصيد:الفناء (مذحج)، تسيمون:ترعون (خثعم)، رجيم: ملعون (قيس عيلان)، بُسّت الجبال: فتتت (كندة)، منسأته:عصاه (حضرموت)، إملاق:جوع (لخم)، جاسوا خلال الديار:تخللوا الأزقة (جزام)، نكص على عقبيه:رجع(سليم)، رغداً: خصبا (طيء)...الخ.

وكانت المصيبة أعظم في (اللغات العالمية) التي أسموها (الألفاظ الأعجمية في القرآن) منقسمين إلى ثلاثة فرق إزاء (165) لفظا أجنبياً: فريق أقر بأعجميتها كابن عباس والسيوطي، وفريق أنكر أعجميتها، لأنه رأى في العجمة تقاطعاً مع قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)، كالشافعي وأبي عبيدة والطبري، وجمع الفريق الثالث الرأيين معاً فقال بأعجمية أصولها لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها فصارت عربية، ومنهم القاسم بن سلام.

واستغل المستشرقون غير المنصفين تلك الظاهرة ليعززوا قولهم أنْ لا جديد في القرآن وانه منقول من التوراة والاناجيل غير المعتمدة كإنجيل (برنابا)، وهكذا زعموا ان لفظة (القرآن) مشتقة من (قرياءنا) السريانية، ومعناها: القراءة المقدسة، و(السورة) من (صورطا) أو (سورثا) السريانية، و(الآية) من (أوث) العبرية أو (آثا) السريانية، والمثاني، أصلها عبري هو (مشنا).

والذي يحسم القضية أن القرآن جاء عربيا في تركيب جمله كلها فهو عربي مبين، وليس يقدح في عربيته ورود كلمات أجنبية مفردة، مع أخذنا بمبدأ عدم وجود ترسيم حدود صارم وحاد بين اللغات، فقد تسافر مفردات من لغة إلى لغة فتصبح في قاموس اللغة الثانية، ولعل اللغات كانت لغة واحدة، كما جاء في التوراة، وعند بناء (بابل) تبلبلت الألسن واختلفت فثمة كلمات مشتركة بين لغات البشر كلها بذات المعنى والصوت كلفظة (كهف).

وقراءة هذه الألفاظ الأجنبية يبين بعضها احترام الله وتقديره للمنجز الإنساني، وبعضها نقل من محيطه، أو كان ترجمة أمينة لواقع حال. وحسبنا الوقوف عند أربع مفردات:

1- الذرة (Atom): اكتشفها الفيلسوف اليوناني (ديمقريطس) (القرن الخامس قبل الميلاد) ورأى ان كل جسم يتكون من عدد لا حصر له من الذرات المتناهية في الصغر، ولا يمكن تجزئة هذه الذرات أو تحطيمها إلى أجزاء اصغر منها، ومعنى اسم الذرة (Atom) في اليونانية: (الشيء الذي لا يتجزأ)، وبقي اكتشافه بلا دليل حتى أثبته (جون دالتون) (1766- 1844م). ولكن الله كرَّم منجز ديموقريطس باستعماله دليلا على عدله ودقة قضائه الذي يحسب حساب أدق شيء في الكون وهو (الذرة). وقد وردت كلمة ذرة في (6) آيات منها: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (الزلزلة: 7-8))، ولم تكن الذرة معروفة عند العرب، وما ورد في المعجم قريبا منها: (ذرو: اليسير من الشيء، ذرَة: نبات معروف، ذرَّة: مفرد ذرّ نملة صغيرة) لا يتفق في المعنى مع التصور الذي تعطيه الآيات في الصغر، ولما كان العلم قد حقق وجود ما هو أصغر من الذرة وهي (النواة)، فقد أشار إليها القرآن أيضاً في قوله تعالى (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(يونس61)).

2- سندس وإستبرق: الأولى الرقيق من الستر والديباج والثانية الغليظ منها، وقد استعار القرآن (السندس) من الهند و(الإستبرق) من فارس، لعدم وجود صناعة مشابهة لها في العرب، ولما كانت على درجة من الإتقان والجودة والدلالة على الترف أخذها القرآن وعرّبها كما في قوله تعالى: (وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ (الكهف31))

3-  أحمد: لم يعرف الرسول محمد (ص) باسم احمد، ولم يكن اسما له قبل الإسلام أو بعده، وإنما جاء (أحمد) ترجمة لاسم قاله المسيح (ع) لأتباعه حينما بشرهم بمجيء الرسول بعده في قوله: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ (الصف6))؛ فـ(أحمد) ترجمة للفظة المسيح ذاتها التي نطقها للتعريف بالرسول الكريم في العبرية وهي (البارقليط) وتعني الممدوح.

4- سَرِيّاً: وهي كلمة سريانية تعني (المحرَّر) وهو: النذر الخالص لله عز وجل وهي كلمة كانت معتادة في زمن وقوم مريم (ع)، وقد أطلقتها أم العذراء حين نذرت ما في بطنها لله. وشاء الله (سبحانه) أن يورد الكلمة كما نطقتها (شريّا) فعربها إلى (سريّا). ويأتي إعجاز القرآن ولطافة إبداعه في انه أورد كلمة الدعاء عربية فقال:(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي (مُحَرَّراً) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (آل عمران35)) وأورد كلمة الإجابة من جلالته عبرية معربة (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً (مريم24)).

وبعد، فان لغة القرآن تؤكد عالميته، وتزيل الحدود بين اللغات، وتقدم نصاً معجزاً كان هذا الانسجام بين المتباعدات أحد أسباب إعجازه.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1388 الاربعاء 28/04/2010)

 

 

في المثقف اليوم