قضايا وآراء

العراق وإشكالية الزمن والتاريخ

أي المستقبل السائب، وغير المحكوم بمرجعيات كبرى بالنسبة لأغلب النخب السياسية. وهي الحالة التي تجعل الواقع العراقي يتراوح ضمن تقاليد وقيم الزمن الضائع، أي الزمن المتكرر الذي لم يستطع لحد الآن إرساء أسس الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والعلاقات المدنية والدخول والمساهمة الفعالة في تطوير العلم والتكنولوجيا والثقافة العالمية. وفيما لو حاولنا اختصار وتكثيف هذه الحالة بصورة اقرب إلى تصورات الحياة العادية، فإنها أشبه ما تكون بحالة المقامرة والمغامرة.

إن حالة العراق اليوم مازالت أسيرة زمن المقامرة والمغامرة، التي سادت وانتشرت وتغلغلت في كل مرافق وجوده الاجتماعي والسياسي الحديث والمعاصر. وهي الظاهرة التي شكلت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية نموذجها التام! ومن دون الخوض في مقدمات هذه الظاهرة وأسبابها، أصولها وجذورها المتشابكة في التاريخ العراقي الحديث، وبالأخص بعد انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958، فان نتائجها المباشرة كانت جلية في استفحال وهيمنة النفسية الراديكالية للحثالة الاجتماعية والأطراف. الأمر الذي جعل من فكرة الدولة لعبة أطفال أو في أفضل الأحوال جرى مطابقتها مع فكرة السلطة التقليدية. من هنا تراكم نفسية وذهنية التعامل الخشن والبليد مع مؤسساتها التي لم تعد في نهاية المرحلة الصدامية أكثر من "مؤسسة" عصابة عائلية جهوية فئوية طائفية مغلفة بغلاف أيديولوجي لا علاقة له بالواقع والمستقبل. وليس مصادفة أن تنتهي هذه الحالة بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية وانهيار البعث كحزب وأيديولوجية إلى صعود مختلف نماذج الانحطاط المادي والمعنوي، أي كل ذلك المخزون المتهرئ والمتآكل والمضغوط بغطاء القهر والإرهاب المنظم!

لقد أدى انهيار البعث والصدامية إلى بروز بقاياهما الخربة المختبئة في كل مسام الوجود الاجتماعي والسياسي بشكل خاص. فإذا كانت العلاقات الاجتماعية أكثر ثباتا واشد على الممانعة أمام السلطة الاستبدادية، بسبب ارتباط هذه العلاقات بتقاليد وأعراف قادرة على حفظ التماسك الفردي والأخلاقي والقيم، رغم  تعرضها إلى تفكيك نسبي وتخريب هائل، فان العلاقات السياسية لا يمكنها الثبات في ظل حكم استبدادي شرس ومتخلف من حيث مكوناته الاجتماعية، وتقليدي حتى المخ العظام من حيث مكوناته النفسية والذهنية. مما أدى إلى تدميرها بشكل عام من خلال جعل الاستبداد أسلوب التحكم الشامل بالفرد والجماعة والمجتمع ككل. أما الدولة، بوصفها الحاضنة الضرورية للعلاقات الاجتماعية والسياسية فإنها تحولت إلى مجرد حدود وهمية وارض جغرافية مملوكة لرغبات أفراد وعائلات. مما أدى بالنتيجة إلى صنع احد أتعس وأرذل نماذج "الزمن السياسي" الفارغ، أي الضائع بالنسبة لتاريخ العراق الحديث والمعاصر.

لقد أدى هذا الزمن السياسي الضائع إلى تضييع إمكانية التراكم الطبيعي بالنسبة لإنتاج النخب الاجتماعية بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون النخب السياسية العراقية، وبالأخص بعد الرابع عشر من تموز 1958 هي نخب حزبية وليست اجتماعية سياسية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وأن التحول العاصف الذي رافق سقوط الدكتاتورية الصدامية قد جرى بقوة خارجية (الغزو الأمريكي) من هنا تفاقم التناقض الداخلي العنيف بين القوى السياسية العراقية "الخارجية" و"الداخلية". ومع انه توصيف لا يتصف بالدقة، انطلاقا من حقيقة اغتراب الداخل والخارج العراقي أمام السلطة الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية، إلا انه كان بدوره احد المصادر "الطبيعية" لتعقيد مرحلة الانتقال صوب النظام الديمقراطي الفعلي والدولة الشرعية، أي كل ما سيجد طريقه إلى استفحال الطائفية السياسية والعرقية والجهوية والتقليدية للأحزاب و"توافقها" والاستماتة من اجل "حصتها" (المحاصصة) في السلطة وسلوكها العلني والمستتر تجاه القضايا العامة والخاصة. باختصار إننا نقف أمام ظاهرة معقدة وتتسم بالتشابك من تداخل الماضي الهش وقوة الاحتلال الأمريكي ونمط الذهنية الحزبية للنخب السياسية. مما أدى بمجموعه إلى نقل زمن الانحطاط والتفكك إلى هرم السلطة الجديدة. أما النتيجة فهي ضعف الدولة، وضعف السلطة أيضا. مع ما رافقه بالضرورة من تقوية النزوع الانفصالي (فكرة الأقاليم والفيدرالية) والكفاح من اجل الحصول على غنيمة (مادية في الأغلب) وتغليب الجزء على الكل بالمعنى السياسي والإداري والاجتماعي، مثل أن يسلك البرازاني سلوك رئيس دولة مع انه محافظ محافظة، وان يسلك الطالباني سلوك رئيس حزب قومي محلي (لمحافظة) مع انه "رئيس دولة"، أو تعمل قوى "سنية" للدخول في العملية السياسية من اجل تخريبها، أو أن تجعل قوى "شيعية" من شعار التفكيك والتجزئة (الإقليم) أسلوب الحل الأمثل لوحدة العراق! وهكذا دوليك! وقد يكون من الصعب اتهام الجميع بالسلوك المتعمد وراء هذه الممارسة، إلا أنها تعكس دون شك تعقيد العملية التاريخية لمرحلة الانتقال وقوة البقايا الخربة للزمن الدكتاتوري، ولعبة الاحتلال الأمريكي "الديمقراطية" و"القانونية"، أي كل ما وجد تعبيره في إرساء نموذج المحاصصة في "مجلس الحكم المؤقت" و"القانون المؤقت" و"الدستور الثابت".  

غير أن هذه العملية التاريخية المرة والمريرة تبقى في نهاية المطاف الصيرورة الضرورية لتراكم القوى الاجتماعية السياسية العراقية، أي صعود القوى العراقية الفعلية من رحم المعاناة القاسية للولادة الطبيعية. ومن الممكن أن نطلق على هذه الحالة عبارة الوقوف المرتقب، الأول والأكبر أمام النفس (وإن بصورة لا يمكن وصفها بالمستقلة التامة قبل إخراج القوات الأمريكية بصورة تامة وإنهاء كل صيغ وأشكال ومستويات تدخلها في الشئون الداخلية للعراق). انه وقوف الارتقاب أمام مفترق تكرار الزمن الضائع، أي زمن السلطة ومغامرات ومقامرات الأحزاب والنخب المؤقتة، أو الانتقال إلى تاريخ الدولة، أي دولة القانون والشرعية.

إن هذا الوقوف المترقب هو التعبير المرهف عما يمكن دعوته بدراما المستقبل، أي حالة الافتراق المعقدة والمثيرة بين إمكانية التطور الذاتي المستقل للعراق وبين إمكانية انغلاقه وانكفائه وتعميق "منظومة" التفكك الوطني والاجتماعي. بعبارة أخرى، إن المضمون السياسي العميق لهذه الحالة يكمن في وقوف المجتمع الضعيف والمفكك، والقوى السياسية المتحزبة والمتراصة والوثابة صوب السلطة، أمام مفترق تكرار الزمن الفارغ (إعادة إنتاج نفسية وذهنية السلطة)، أو السير قدما صوب بناء الدولة بشكل عام والشرعية بشكل خاص (دولة القانون). وهو بالقدر ذاته مفترق الانغلاق والانحطاط أو الانفتاح والتطور الذي وقف ويقف أمامه العراق في تجربته الديمقراطية والحقوقية الأولية، أي تعلم انتخاب واختيار القوى السياسية والأفراد من اجل إدارة شئونه بنفسه. وإذا كانت تجربة ست سنوات بمختلف مستوياتها الانتخابية قد كشفت عن نمو الوعي الاجتماعي السياسي، إلا انه ما زال يعاني من ثغرات كبرى بسبب المواجهة الخفية لاتجاه تقوية مركزية الدولة ومنظومة الحقوق وحكم القانون، من جانب قوى و"مؤسسات" وتقاليد "المحاصصة" في السلطة، و"التوافق" في "الديمقراطية". مع ما يترتب عليه من استمرار حالة التأرجح بين انغلاق السلطة وضمور فكرة الدولة من جهة، ومشروع البديل الديمقراطي والقانوني من جهة أخرى، أي كل ما يضع فكرة المصير الفعلي للدولة والأمة والإرادة السياسية أمام اختبار تاريخي جديد، قد يكون الأهم من نوعه في حياة الدولة العراقية الحديثة والمعاصرة. وذلك لأن التناقض السابق بين السلطة الدكتاتورية والمجتمع قد انتقل الآن إلى ميدان الاختيار الاجتماعي للقوى السياسية والانتخاب الواعي للمستقبل. من هنا انتقال دراما التطور أو التقهقر إلى ميدان الصراع العلني والمستتر بين القوى التقليدية من إقطاعية وعائلية حزبية متخلفة هي بحد ذاتها مرتع ومصدر المحسوبية والفساد المادي والمعنوي للدولة والمجتمع والحقوق، وبين قوى المشروع الوطني والمستقبل.

 

إن المعركة الحالية القائمة وراء وبموازاة وما بعد الانتخابات الاخيرة (2010) هي معركة الصراع الأولي الأكبر بين القوى التقليدية التي تستعيد تقاليد الزمن الضائع، وبين قوى المستقبل، أي قوى الدولة والقانون. بمعنى إننا نقف أمام المعركة التاريخية الكبرى الأولى لانتشال فكرة المصير الوطني العراقي وإرادته المستقلة في اختيار شكل الدولة والنظام السياسي والمستقبل. وهي معركة مرت بها جميع الأمم الراقية، كما أنها المعركة التي ينبغي المرور بها من قبل الأمم والدول جميعا لكي ترتقي إلى مصاف الدولة الشرعية الفعلية والمجتمع المدني والتطور الديناميكي. وذلك لأن فكرة المصير تبقى هي هي بحد ذاتها بالنسبة للأفراد والجماعات والأمم والدول، أي وثيقة الارتباط بنوعية الإرادة وغاياتها.

فعندما نبحث بصورة علمية دقيقة في واقع الانحطاط والاحتلال والفساد المادي والمعنوي للنخب في العراق الحديث، فإننا سوف نعثر على أسبابه النهائية في بنية الدولة العراقية الحديثة نفسها. أنها دولة مقلوبة منذ الأصل. ولا أصول اجتماعية راسخة فيها. مبنية على تقاليد عثمانية متهرئة، فئوية جهوية طائفية، سرعان ما وجدت تعبيرها النموذجي بعد انكسارها المريع بأثر أحداث الانقلاب الراديكالي في 14 تموز 1958. فقد كشف هذا الانقلاب عن خللها، لكنه استكمل هذا الخلل عبر دمجه بمنظومة القيم الراديكالية. حينذاك أصبح العراق سبيكة خربة من تاريخ هش وإرادة راديكالية. مما أدى بدوره إلى صنع راديكالية الإرادة الهشة ومن ثم تصنيع الزمن الفارغ للدولة والمجتمع والثقافة. الأمر الذي يضع بدوره السؤال الأكبر التالي عن علاقة المصير والإرادة: كيف يمكن إعادة بناء المصير العراقي، بحيث يصبح جزء من المستقبل العراقي، أي جزء من تاريخ الدولة وليس جزء من زمن السلطة الفارغ؟

 

إن الإجابة الفعلية والبديلة على هذا السؤال تقوم في نقل الصراع الحالي في العراق إلى مستوى الصراع من اجل المستقبل، أي تحويل فكرة المستقبل إلى جوهر الصراع الاجتماعي والسياسي. وبما انه لا يمكن صنع مستقبل فعلي في ظل غياب تاريخ فعلي، من هنا ضرورة البدء من البداية الحقيقية، أي من بداية بناء الدول الشرعية، أي دولة القانون. ففيها يكمن مصدر وأساس التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع والأمة والعلم والثقافة، وبالتالي مصدر إرساء الأسس الحقيقية لعراق المستقبل. الأمر الذي يعطي لتيار دولة القانون أبعاده السياسية الوطنية والدولتية الجديدة. فهو التيار الوحيد الذي جعل من فكرة الدولة والقانون شعاره الرئيسي. وهو تحول منظومي كبير في الرؤية السياسية العراقية، أي تحول كبير في الموقف من فكرة الدولة الحديثة. بمعنى انه يعي طبيعة الخلل المنظومي القائم وراء انعدام التاريخ الفعلي للعراق الحديث وهيمنة الزمن السياسي (الحزبي) الفارغ.

فالعراق منذ 1958 وحتى نهاية الدكتاتورية الصدامية هو مجرد زمن السلطات والنخب المؤقتة. الأمر الذي يمكن رؤيته الآن أيضا في انتشار وهيمنة سلطة الأحزاب الضيقة أو العائلات التقليدية أو الإقطاعيات المحلية أو التشكيلات الفئوية والجهوية والطائفية العلنية والمستترة. وجميعها لا علاقة له بالدولة والهموم الاجتماعية الكبرى. من هنا انعدام اللياقة المادية والمعنوية والاحتراف في الإدارة. والاحتراف الوحيد هو "سياسة حزبية" أي تقاليد المؤامرة والمغامرة والبحث عن غنيمة. من هنا انعدام الثبات فيها وعندها، أي التقلب الدائم والتغير في المواقف وانعدام المبادئ الكبرى الثابتة ومنظومة القيم الاجتماعية والوطنية.

إن رفع شعار دولة القانون هو الصيغة المثلى لتمثل حقائق التاريخ العراقي الحديث. وهي المهمة الأعقد بسبب انعدام تقاليد الدولة ومؤسساتها. من هنا شراسة المواجهة العلنية والمستترة من قبل البنية التقليدية للأحزاب بشكل خاص. وفي الوقت نفسه هي مهمة وطنية كبرى، لأنها تضع احد اخطر الشعارات الدقيقة أمام اختبار فعلي وتاريخي كبير، يرتبط نجاحه بنجاح بناء الدولة الحقيقية. وهذا أمر مستحيل دون الربط الفعال بين مركزية الدولة وإعادة بناءها على أسس الاحتراف المهني والعلم الحديث، وليس على أساس الانتماء الحزبي والعقائدي. فالأخير عاجز عن تمثل حقائق التاريخ والعلم. بينما دولة القانون هي تاريخ فعلي وعلم دقيق مفتوح على كل الاحتمالات العقلانية والإنسانية.

إن مركزية الدولة وشرعية سلوكها المحكوم بالقانون هو أساس ومصدر الإرادة الوطنية القادرة على الفوز في معركة المستقبل. وهو الرهان التاريخي الذي ينتظر العراق كدولة ونظام سياسي ومنظومة اجتماعية واقتصادية وعلمية وثقافية تلامس كل هموم الأفراد والجماعات والمجتمع.

***

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1391 السبت 01/05/2010)

 

في المثقف اليوم