قضايا وآراء

انتصاراً للعرفان على الفلسفة

أشاهد ربي ثمَّ أسمع وحيه

فتصغر في عيني السجالات والنظرْ

عشقتك يا ربِّي وقد كنت ملحداً

فكيف وقد آمنت بالله والقدرْ؟!

الآن أيها العارف، الآن فقط فهمت مغزى أن يكون القلب بيت الوجود.فبما أنَّ القلب موشور الحكمة كما هو رأيي بالضبط، فإنَّ عقل الإنسان لا يحمل إلا معنى الفرجال، بمعنى أنَّ العقل يضلُّ الطريق أحياناً حتى لتخاله شيطاناً، وإذاً، أليس من حقِّ المريد الذي أصبح فيما بعد عارفاً أن يلعن العقل في أكثر الأحيان، وأن يقول إنَّ القلب وحده هو من يستحقُّ أن يتوجَّه إليه الوعي الإنسانيُّ في الصلاة.

دعني من سقراط، فهو محتالٌ على معنى الإنسان ليس أكثر، لأنَّ سقراط شاء أن يقول إنَّ المكر ليس من طبيعة الإنسان، كمقدمةٍ منطقيةٍ للحكم على قيمة العقل فيما بعد، أي أنه شاء أن يوسِّع من دائرة الإنفراج في هذا العقل، بطريقةٍ خبيثةٍ طبعاً، فإذا فرضنا أنَّ العقل لا يحترف المكر إطلاقاً، فإنَّ النتيجة المنطقية لهذا الزعم أن يكون العقل في آخر المطاف إلهاً.

لك أن تقول إنَّ قلب الإنسان بما هو بيت الوجود، ينتهي إلى أن يضع نفسه مكان الإله، هذا إشكالٌ واردٌ، لكن ألا تتفق معي أنَّ القلب لا يتعشَّق معنى الألوهية إلا بسبب أنه ظرفٌ لها ليس إلا، أي أنَّ للألوهية مقاماً محفوظاً في عين أنها في قلب الإنسان، ولا عبرة بما يقال من أنَّ الألوهية لا تنسجم مع معنى التحيُّز في ظرفٍ ما، لأنَّ القلب الذي استطاع أن يكون بيت الوجود لا يعرف مقولة التحيُّز، أي أنه طليقٌ من مثل هذه المقولات، فتلك خاصية العقل وحده، أن يبدع مقولاته الضيقة هذه، ليوهمنا بأنَّ القلب فاقدٌ للقدرة على أن يستوعب اللامحدود، وإلا فإنَّ الله نفسه قال في أكثر من موطنٍ، أنه لا تسعه سماواته ولا أرضه، ولكن يسعه قلب عبده المؤمن. فإذا كان الله على قدِّ القلب تماماً، فهذا يعني أنَّ القلب لا ينافس الله في ألوهيته، حتى وإن كان -طبقاً لمقولات العقل- ظرفاً لهذه الألوهية ذاتها، لأنه يتمتَّع بمعنى الإطلاق، أي أنه أصبح خارج مجال العالم كلِّه، الأمر الذي يعني أنه بات صورةً طبق الأصل من سدرة المنتهى.

لقد أصبح القلبُ الإلهيُّ كوكباً

يدور هناك الآن في سرمدِ الحقِّ

لقد حلَّ فيه اللهُ، واللهُ وحده

وجودٌ وكلُّ الوهمِ في جانبِ الخلقِ

إذاً لم يعد قلب المتيَّم حادثاً

فصار قديماً كالإله بلا فرقِ

ولا شيء إلا الله ربٌّ وإنما

بدا القلبُ عرشاً سرمدياً من العشقِ

هذا عن القلب إذ يكون عاشقاً، أما لو أصبح القلب بالإضافة إلى العشق زاهداً، فهذا يعني أنَّ القلب لم يعد عرشاً فقط، بل صار شيئاً آخر، كأن يكون القلب شعاعاً منبثقاً من عين الله رأساً، فتكون الأشياء كلُّها قياساً إلى هذا القلب موضوعاً للنظر ليس إلا، أي أنها من الممكن أن لا توجد، ومع ذلك يبقى القلب محتفظاً بالضرورة، كونه منبثقاً من عين الله بالطبع، وهذا مقتضى كون الله لا تخفى عليه الأشياء كلُّها في الأرض أو في السماء.

أما لو كان القلب متصفاً بالزهد والسعادة معاً، فهو في هذه الحالة لا يفقد خاصِّيَّة الإنتشار في الفضاء قطعاً، ولا ينتشر إلا في ذات الله بالضبط، أي أنَّ فضاءه في هذه الحالة لا يوصف بالكلام، وها هنا يكون من الأحجى للمرء لو أنه اقتدى بالصمِّ والبكم، ولا بأس أن يكون أيضاً من الذين لا يعقلون. من هنا كانت بعض صفات الحمقى في القرآن محمودةً لدى المرء لو أنه واجه مسألة الكلام عن حقِّ الحقّ، أو عن قلب القلب، أو حتى عن عقل العقل، لأنَّ عقل العقل ليس عقلاً تماماً، بل هو شيءٌ ما منقلبٌ إلى ضدِّ العقل أحياناً، وأحياناً أخرى يكون في موازاته ليس أكثر، فيكون عقل العقل أقرب شيءٍ إلى معنى القلب، مع فارقٍ ليس كبيراً في كلِّ الأحوال، وهو أنَّ القلب الناتج من عقل العقل يحتاج إلى رباطة جأش العارف، فلا يفقد زمامه عندما يكون منهمكاً في معالجة الرماح والسيوف حين يشتدُّ وطيس المعركة.

متى أثمر الزهدُ الكبيرُ سعادةً

فبالله لا تسمعْ وكن أحدَ الصُمِّ

وبالله لا تنطقْ فنطقكَ كافرٌ

وأفضلُ شيءٍ أن تكون من البُكْمِِ

وأن تفقد العقلَ الذي هو راجحٌ

فلا فرق بين العقل والخادع الوهمِ

فللعقلِ عقلٌ ليس عقلاً وإنَّما

هو القلبُ لكن وهو منقشعُ الحزمِ

الفلاسفة ليسوا على ما يرام من شدَّة الإحساس بالعالم، فهم يتخذون من الأشياء مرآةً لرؤية ذواتهم، هذا ما ينبذه العارف في واحدةٍ من أهمِّ تجلِّيات العاشق- فالعالم في نظر العارف ذاتٌ تتجلى في ذاته- ولأنَّ للفلاسفة قلوباً غالباً ما تكون من الخشب، فإنَّ العالم غالباً ما يبدو في نظرهم إما كتلةً من الطين ليس غير، وإما أنه يبدو لهم في هيأة الطير أحياناً، لكن ليس طيراً يحلِّق، بل يبدو كما لو أنه طيرٌ منحوتٌ من كتلة الضوء، أو من كتلة الحجر بلا فرقٍ، فالعالم في نهاية أمره جنازةٌ لم يدفنوها حتى الآن، أما العرفاء فهم وإن حدَّثوا الناس عن صفة العالم، وأنه لا يتمتَّع بالحياة، فإنهم إنما يقصدون أنَّ العالم لا يتمتَّع بالحياة قياساً إلى الله، وإلا فإنَّ العالم في نظرهم مستغنٍ عن الجسد، أو قل إنَّ جسد العالم نفسه هو في قمَّة الروح، هذا هو مقصد العرفاء ببساطةٍ، بيد أنَّ الناس ساهون عن هذا بالتأكيد، وينظرون إلى الجسد كما لو أنه وعاءٌ للقمامات، وهم إذ يقولون إنَّ الجسد وعاء الروح، فهم على ثقةٍ إذاً من أنَّ الروح لها معنى القمامة ولا شيء أكثر.

جنَّة الله أيها المولى ليست محلاً لسكنى الأرواح من هذا القبيل، جنَّة الله هي كيان الله نفسه، أو هي قلب الله الكائن في مركز هذا الكيان، فمن يكون الأولى بسكنى هذا المكان، لا بدَّ أن يكون قد تخلَّص من معنى الجسد، ليس بأن يخلعه عن روحه كما يخلع الناس ثيابهم، فهذا محالٌ عادةً، لكنَّ السبيل الوحيد إلى أن يخلع المرء جسده هو أن يحرقه في أتون الروح طويلاً حتى يكون هو والروح شيئاً واحداً، وهذا هو ما عناه الملا صدرا بالحركة الجوهرية في الأشياء كلِّها والعالم كلِّه من ذرَّة الهواء إلى أضخم الكائنات الموجودة في خيال الإنسان.

الملا صدرا أذكى من ماركس بما لا يُقاس، لأنَّ ديالكتيك ماركس لا يستغني عن النقيض في سيره إلى الأمام، أما الملا صدرا فقد اقترح حلاً آخر، وهو أنَّ أيَّ شيءٍ في العالم، أيَّ شيءٍ ماديٍّ، بإمكانه أن يتعملق في مادِّيَّته ذاتها حتى إذا ما سار في هذا الإتجاه طويلاً فوجئ بفقدان الكثافة والظلمات، وتحوَّل إلى شيءٍ هو محض الروح قطعاً، ولهذا فإنَّ هذا العالم نفسه لا بدَّ أن يشفَّ عن مغزاه أخيراً، فيكون هو نفسه المكان الأنسب للقيامة.

لم يفهم الأرواح أهلُ الفلسفهْ

فالروحُ من حجرٍ على تلك الصفهْ

جسدُ الوجود يسير قدماً هكذا

فيكون روحاً مثل همسٍ في الشَّفهْ

الفيلسوفُ يُقاسُ بالعرفاءِ ظلماً والذكيُّ يقدِّم المتصوِّفهْ

السهرورديَّ العظيم وحافظاً والشاعر الروميَّ كي يحظى بلبِّ المعرفهْ

 

باسم الماضي

رئيس تحرير مجلَّة المنهج

البصرة

[email protected]

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1392 الاثنين 03/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم