قضايا وآراء

الغيبُ عقلٌ أرقى/ رحلةُ الإنسان صوب الحقيقة

وشغلت العقل الإسلاميَّ كثيراً، إلا أنَّ مقاربتها في الزمن الحديث أخذت طابعاً إشكالياً مختلفاً، بحيث أنها صارت تصبُّ في عمق ما أصبح يطلق عليه اسم (فلسفة الدين)، ولم تعد الحجج والأدلة الموروثة القديمة بالتي تكفي لتوفير الإجابات المناسبة لكلِّ الأسئلة التي تطرق باب العقل الإنسانيِّ في العصور الحديثة، ونحن نعلم أنَّ فضاءً بسيطاً للكتابة في دوريةٍ فكريةٍ محترمةٍ مثلاً ليس يكفي إطلاقاً لأن تتَّخذ الدراسة هيأة البحث المنهجيِّ التامِّ من الناحية العلمية، لذلك فمن المعقول أن تتخذ طابع المقالة الطويلة، لنتحدَّث فيها حديثاً جاداً وإن كان مبتسراً عن العلاقة التي يمكن تخيُّلها بين الوحي والعقل من الناحية الموضوعية الإسلامية، معتمدين على ذلك الفضاء العامِّ الذي وفَّرته الثقافة الدينية في الطور الأعلى من التنظير، كما تجلَّت في كتابات الكثيرين من الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين، دون أن يكون لزاماً علينا أن نقتبس من نصوصهم بشكلٍ مباشرٍ، مع أننا ننوي أن نفعل ذلك خلال الأطوار التي تمرُّ بها المقالة بالطبع، لكننا لا نقدِّم وعداً بأن نلتزم بذلك، لأننا نعرف أنَّ أسلوب كتابة المقالة في الفترة الأخيرة قد تغيَّر كثيراً بفعل التأثيرات السلبية التي تركتها الدراسات الأكاديمية على الكتابة بشكلٍ عامّ، حتى صار القارئ يقلِّب صفحات كتابٍ كاملٍ أو مقالةٍ كاملةٍ فلا يجد فيهما أكثر من تلك الإقتباسات المرصوفة بشكلٍ مزعجٍ ينمُّ عن سطحية الكاتب واتكائه على أعمال غيره ممَّن هو مستلبٌ بتفكيرهم وبأسمائهم التي لمعت في سماء الشهرة، فإذا ما بحث عن كلام المؤلِّف فجمعه في صفحاتٍ مستقلةٍ كانت النتيجة مرعبةً حقاً، لأنَّ نسبة ما يُعزى إلى المؤلِّف بالقياس إلى الكتاب كلِّه ربَّما لا تزيد على نسبة العشر من الحجم الكليِّ للكتاب أو الدراسة أو المقالة، وهذا مبدأٌ خطيرٌ للغاية بات الكاتب مضطراً للخضوع له، ليتنازل كلياً عن آراءه وجهده الشخصيّ، ولا بدَّ من اعتراضٍ حقيقيٍّ على مثل هذا الأسلوب، وتمثِّل هذه المقالة واحداً من هذه الإعتراضات المتوقَّعة على هذا الإسلوب الأكاديميِّ العقيم في التأليف الذي صار يوصف بالعلمية مؤخَّراً في بعض الأوساط السطحية للثقافة العراقية مع الأسف.

سوف أخصِّص مقالةً أخرى للحديث عن هذا الموضوع الذي أعتبره أجنبياً في مقامنا هذا، وسأعود إلى موضوعنا الرئيسيِّ الذي نريد أن نكتب فيه حديثنا الخاصّ، وليكن بمنزلة لاشيءٍ في نظر السادة الأكادميين كما أتوقَّع، فالمهمُّ أن يكتب الإنسان نصَّه ووجهة نظره هو، ليحقِّق الإضافة النوعية إلى الحصيلة النهائية للمعرفة البشرية، وليس المهمّ أن يرضي هذ النهج الخاطئ القاتل لعبقرية الكتابة وإبداع الكاتب على وجه الإطلاق.

ولا أريد أن أبحث في هذه المقالة كذلك العلاقة بين العقل والنقل كما تجلَّت في الإختلافات التي وقعت بين المذاهب الإسلامية المختلفة لتحديد ماهية هذه العلاقة، فذلك ما مظانُّه الحقيقية هي المؤلَّفات المتخصِّصة في ذلك، ولكني أريد أن أبحث هذه المسألة من الزاوية التي تخصُّ الكيفية التي يجب أن يتعامل بها الإنسان المسلم الحديث مع مسألة الإيمان بالوحي الإلهيِّ والغيب، وهذا ما يُعدُّ مسألةً ملحَّةً في نظري بعد أن أصبحت الفلسفات الشائعة تشكِّك في الكثير من اتجاهاتها بالغيب ومدى معقولية الإيمان به، وربما اتخذ الكثيرون من الذين يحبون أن يوصفوا بأنهم معدودون على الإتجاهات الفلسفية في التفكير من كلِّ ما يتصل بعالم الغيب الذي يحتلُّ مساحةً مهمَّةً من الأديان عموماً، ومن بينها الدين الإسلاميُّ طبعاً، حتى أنَّ القرآن يمتدح في العديد من آيات القرآن الكريم المؤمنين بالغيب، وينحي باللائمة على من ينكرونه ويعتبرهم كفاراً، فتكون مناقشة هذه المسألة ومقاربتها من الزوايا العديدة واحدةً من أكثر المهامِّ إلحاحاً على تفكير الإنسان المسلم الحديث، ليحسم موقفه في الإنتماء إلى أفق الحضارة الإنسانية الحديثة في جوانبها الإيجابية طبعاً، والإنتماء في عين الوقت إلى الدين والإيمان بالغيب، دون أن يكون مضطراً بأيِّ معنىً من المعاني إلى التفكيك بينهما، فإما أن يكون إنساناً منتمياً إلى الحضارة، وإما أن يكون إنساناً متديِّناً لا يشكل إلا امتداداً للصوفيين والدراويش القدامى في نظر أصحاب النظرة الخاطئة  إلى الغيب والدين على وجه العموم.

لم يعد مجدياً التركيز على الآيات الدالَّة في القرآن الكريم على أنَّ الإسلام مبنيٌّ على أساس نظرة الإحترام الكلية إلى العقل وما يجب على الإنسان من اتباعه، ليس قبل الإيمان بالدين والنبوات فقط، حيث يكون نقطة البداية في الشروع بالتديُّن على أساس الإقتناع بنبوَّة الأنبياء عليهم السلام، بل حتى في المراحل اللاحقة، حيث يأخذ العقل دور النبيِّ ودور الإمام في الهداية والإرشاد، إما في حالة فقدانهما وعدم وصول تبليغهما إليه فيما يسمّى بمنطقة الفراغ التشريعيّ، وإما في حالة المقاربات الدلالية والعقلية لتلك النصوص المقدَّسة التي يوحي بها الله مباشرةً عن طريق جبرائيل عليه السلام، أو عن طريق ما ينطق به النبيُّ صلى الله عليه وآله، وآلُ بيته المعصومون عليهم السلام، مما يعتبر سنةً واجبة الإتباع في نظر الشريعة الإلهية، وهي مؤلَّفةٌ من أقوالهم وأفعالهم وتقريرهم كما هو معلومٌ، وهاتان المرحلتان هما ما وجد، من أجل أن يقوموا بدورهما كاملاً، واحدٌ من أهمِّ العلوم الدينية عبر العصور، وهو علم أصول الفقه.

مضافاً إلى أنَّ القرآن الكريم قد احتوى على أكثر من سبعمئة آيةٍ وردت فيها كلمة العلم بتصريفاتها المختلفة [مشفوعٌ معظمها بالدعوة إلى التأمُّل في آيات الله أو سننه على بصيرةٍ، ووفق المعايير العلمية المبرأة من الظنِّ والهوى. وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية الحكيمة أثرٌ هامٌّ في تشكيل العقلية الإسلامية التي استطاعت فيما بعد إرساء قواعد البحث العلميّ، وأصول المنهج التجريبيّ، لأنها أصبحت تنظر إلى الكون نظرةً جديدةً لا تكتفي بمجرَّد الدهشة والإنبهار، عند اكتشاف سرٍّ من أسرار الخلق، أو سُنَّةٍ من سنن الخلق، بل أصبحت تنظر إلى الوجود نظرةً علميةً إيجابيةً تستهدف فهم السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، ومن ثمَّ تسخير هذه السنن والإستفادة من معطياتها في تصريف شؤون الحياة وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر به ربُّ العزة سبحانه] أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق الدكتور أحمد محمد كنعان

بإمكاننا أن نصغي إلى المرتبة العالية التي يحظى بها العقل في كلمات واحدٍ من أهم علماء الإسلام وأرفعهم شأناً في العصر الحديث، وهو سماحة آية الله العظمى السيد الشهيد محمَّد الصدر قدس سرُّه، إذ يتناول ذكر الوجوه المحتملة لكلمة [إمام] في الفقرة التالية، إذ يقول: [  نفهمَ من الإمام العقل، باعتبار ما ورد فيه من أنه: نبيٌّ من الداخل، فهو الإمام الباطنيُّ الذي يجب أن يعتمد عليه الفرد في كلِّ تصرُّفاته وفي مراحل تكامله، لا أن يقدِّم طاعة نفسه وشهواته وحبَّ دنياه. وبهذا ينوب العقل عن الإمام الأصل عند تعذُّر الرجوع إليه] فقرة الرجوع إلى نائب الإمام فقه الأخلاق

ولنستمع أيضاً إلى حديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الوارد في كتاب [الكافي] ج1 كتاب العقل والجهل. الحديث 12 [يا هشام إنَّ لله على الناس حجَّتين: حُجَّةً ظاهرةً وحُجَّةً باطنةً، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.

وليس المسلمون بالذين لا يدركون أنَّ هناك منطقةً من الوجود والتفكير هي واسعةٌ جداً في الحقيقة يجب أن يأخذ العقل الإنسانيُّ دوره كاملاً فيها، لكنهم يعلمون أيضاً في الوقت ذاته أنَّ هناك في الوجود جوانب غامضةً هي ليست من اختصاص العلم التجريبيِّ مثلاً، وليست واقعةً في حيِّز القدرة بالنسبة إلى العقل البشريِّ ليعرفها تفصيلاً، وإن كان بإمكانه الإحاطة بها على وجه الإجمال، فما يمكن أن يُقال عن علاقة العقل بالوحي الذي هو من أخصِّ شؤون الغيب، هو ما عبَّر عنه السيد كمال الحيدريُّ في قوله:[ العقل كالمصباح الذي من خلاله يمكن الوصول إلى الهدف، أما الوحي فهو الطريق المستقيم الموصل إلى الهدف، فلكي تصل إلى الهدف فلا بدَّ من وجود شيئين، أحدهما وجود الطريق، والآخر المصباح الذي يدلُّك على الطريق، فدور الوحي هو بيان الطريق، ودور المصباح في الدلالة على الطريق، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: [رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجةٌ من بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً] النساء 65 إذ لو كان العقل الإنسانيُّ بما أوتي من العلم كافياً في الإهتداء إلى النظام المعقول المنزَّه عن الجور والفساد، لم يكن لهم على الله حجةٌ، ولما احتيج إلى الرسل المبشِّرين والمنذرين] فلسفة الدين. مدخل لدراسة منشأ الحاجة إلى الدين وتكامل الشرائع ص20.

المهمُّ هو أني أستغرب بالفعل من أن يوصم الإسلام من قبل بعض المستشرقين والمتغرِّبين على حدٍّ سواءٍ بما مفاده أنَّ الإسلام والعقل نقيضان لا يجتمعان، وهم على مقدارٍ معتدٍّ به من الإطلاع على الثقافة الإسلامية أحياناً، إذ يرون بأمِّ أعينهم هذه الأدراج المملوءة في المكتبات الإسلامية بالمؤلَّفات العقلية والفلسفية الضخمة، التي ربما احتاج بعض المستشرقين إلى أن يهاجروا من بلدانهم أعواماً كاملةً من أجل الإطلاع على جانبٍ بسيطٍ منها، كدراسة فلسفة ابن سينا، أو فلسفة الملا صدرا، كما فعل المستشرق الألمانيُّ الشهير كوربان.

لكنها المكابرة التي توصف بأنها معرفيةٌ أحياناً، لأنها تتعلَّق بالمعرفة وشؤونها ليس إلا، ولا مجال أن تقول لحاسدٍ أو لذي ضغينةٍ كن منصفاً وهو يطلق أحكامه الجزافية بشأن الإسلام والمسلمين، وإننا نشاهد يومياً أمام أعيننا، ونستمع إلى عشرات التحليلات والآراء التي تجعل المرء فاغراً فاه عجباً من فرط ما فيها من التجاوزات على مقتضيات التفكير المنطقيِّ والموضوعيِّ على شاشات التلفاز، وعلى صفحات المجلات والكتب التي تصدر من مختلف دور النشر في العالم.

حتى انَّ الفكر الحديث وصل في بعض مراتب المهزلة مع الأسف إلى مرحلة أنه لم يعد ينتظر أن يناقش أحداً حول أهمِّ الشؤون التي تخصُّ حياته العقلية والروحية، فصار يسمح لذوي المواهب المنحطَّة في الكثير من الأحيان أن ينفِّسوا عن مكامن حقدهم على الكتب المقدَّسة وعلى الأنبياء المعصومين برسم الصور الهازلة، وبتقديم العروض المسرحية التي تجانب قواعد الأدب والإحترام لأبسط معايير الذوق الفنيِّ فضلاً عن المستوى النزيه الذي يجب أن يتَّصف به الفكر على الدوام.

 

إنَّ المشكلة الرئيسية التي تجعل الموقف متَّجهاً نحو التقاطع التامِّ هو أنَّ العلمانيين ضمن اتجاهاتهم المتطرِّفة يصرُّون على أنَّ العقل البشريَّ كافٍ تماماً في التشريع، كما انَّ العقل وحده هو المرجعية القيمية والأخلاقية والتصوُّرية للإنسان، أما الإنزياح نحو الدين أو نحو الغيب على وجه التحديد فما هو إلا تعبيرٌ عن الإستقالة الكاملة من التفكير، ومن أن يتحمَّل العقل البشريُّ مسؤوليته التي تُناط به تحديداً لهداية الإنسان إلى أفضل المناهج والسبل والطرائق التي يحدِّد بها سلوكه وطريقة عيشه وسياسته وكلَّ ما له مدخليةٌ في شؤونه الأخرى، أما المفكرون الإسلاميون فهم يتخذون مسلكاً مضادّاً في التفكير، وهذا هو المتوقَّع منهم طبعاً، فيعتقدون بأنَّ الوحي الذي قلنا إنه من أخصِّ شؤون الغيب يشكِّل المرجعية الواقعية لكلِّ ذلك، حتى وإن كان للعقل الدور في كشف المراد الإلهيّ، وفي العمل في منطقة الفراغ التشريعيِّ طبقاً لروح الشريعة العامَّة ومتطلَّبات الواقع.

كما انَّ هنالك إشكاليةً أخرى بين الإسلاميين أنفسهم، إذ ينقسمون إلى إحيائيين وإصلاحيين بحسب الرؤية التي يعبِّر كلٌّ منهما عنها، فالإحيائيون ذوو نظرةٍ سلفيةٍ متشددةٍ سواءٌ كانوا من الشيعة أم كانوا من السنة، لأنهم يرفضون أن يجتهد الإنسان ليس في مواجهة النصِّ المقدَّس فحسب، بل حتى في مواجهة النصوص التفسيرية التراثية مثلاً، فكلُّ ما ينتمي إلى منطقة التأسيس الأولى من كتابات العلماء القدامى لا يجب خرقه، بل يتوجَّب الوقوف عنده، ولا قيمة ولا اعتبار لكلِّ ما استحدثته حضارة الإنسان ومدنيَّته في تكوين صورةٍ أخرى أو تشكيل معنىً آخر للنصِّ الدينيّ، وحتى العلوم الإنسانية في مجال علم اللسانيات أو فلسفة التأريخ أو علم اللغة أو الفلسفة الحديثة إلخ، لا قيمة لها ولا دور في استحداث المعاني الجديدة للنصِّ الدينيِّ المقدَّس.

أما الإصلاحيون، فهم عادةً من الذين يمثِّلون الإتجاه المضادّ، بمعنى أنهم يطالبون بأن يستثمر العلماء المسلمون، كلٌّ في مجال اهتمامه وتخصُّصه، العلوم الإنسانية الحديثة كلَّها، من أجل تحديث الذهنية الإسلامية، لتكون قادرةً بمنطق الواقع الجديد على الإستجابة الموضوعية لمختلف التحديات التي واجهتها بسبب الكون في ظلِّ الحضارة الراهنة.

 

إنَّ أصحاب الإشكالية من النمط الأوَّل، لا يمكن إطلاقاً أن توجد بينهم من المشتركات بقدر ما يمكن أن يوجد منها بين أصحاب الإشكالية الثانية، رغم أنَّ الصراع بين هؤلاء قويٌّ وشديدٌ للغاية، خاصةً في هذا العصر الذي استُحدثت فيه عشرات المشكلات الفكرية والفلسفية التي تستدعي أن يطول النقاش حول هذه القضية، لكننا مع ذلك نعتبره صراعاً محسوم النتيجة إلى جانب الإصلاحيين، مع تحفُّظنا على العديد من الأطروحات التي تبالغ في الدعوة إلى تطبيق العلوم الإنسانية الحديثة على تراث الإسلام، بالطريقة الحادَّة التي يتحمَّس لها المتأثرون بالمشاريع التأويلية الجديدة كما تتجلّى في دراسات نصر حامد أبو زيد، أو المتحمِّسون لمشروع محمد أرغون وغيره ممن يعتبرون أنَّ فتح الباب على مصراعيه أمام الألسنيات والعلوم والإنسانية الحديثة من شأنه أن ينقذ الإسلام من إشكاليات المواجهة والتصادم مع نمط التفكير الغربيِّ المعاصر، من دون فرز الطالح من الصالح في هذه العلوم والمنهجيات الحديثة.

والملاحظ على هؤلاء أنهم يقدِّمون مشاريعهم الفكرية، وتستبطن تصريحاتهم ذلك المعنى الذي يوحي بأنهم قادرون على تجاوز كلِّ الأزمات التي تعصف في طريق تطبيق منهجياتهم تلك على الفكر الإسلاميِّ بما في ذلك النصُّ المؤسِّس نفسه، وهو القرآن الكريم، لكن من يتتبَّع كتاباتهم جيِّداً يدرك هذه الحقيقة، وهي أنهم يتكلَّمون في فضاءاتٍ عامَّةٍ لا تقترب إلا نادراً من البنى العميقة لهذا النصّ، كما انها تتجنَّب المعالجات الشمولية الكلية له، مما يجعلها معالجاتٍ مبتسرةً في النهاية، لأنها تطرح المزاعم والمدَّعيات الكبيرة، ثمَّ لا تتبع إلا منهجاً انتقائياً غير موضوعيٍّ في اختيار الآيات التي تناسب المقام الذي هم  بصدد معالجته، ويطبِّقون عليها تلك المنهجيات ليخرجوا بنتائج لا يساعد عليها النصُّ في المنظار الكليِّ الشموليّ، وكمثالٍ على هذا ما قام به محمد آرغون في تطبيق منهجيته على بعض الآيات القليلة التي اقتبسها من سورة التوبة، بينما لا تتَّضح الرؤية الكلية، ولا تستبين معالم المنهجية التي يدعو إليها إلا إذا اختبرها وطبَّقها على القرآن كلِّه، بحيث يقوم بكتابة تفسيرٍ كاملٍ للقرآن الكريم، لنرى هل ستصادف الباحث معضلاتٌ أثناء السير في الخطِّ التفسيريّ، بحيث تبرهن على خطأ منهجيته كلِّها أم لا.

وكذلك الحال مع نصر حامد أبو زيد، فإنه مدعوٌّ إلى أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن بنفس الدافع، وإلا فإنها ستظلُّ على حالها مجرَّد أطروحاتٍ تقدَّم بها باحثون لم تتجمَّع لديهم قرائن تجعل منها أطروحاتٍ راجحةً على غيرها، ولا يكون لهم الحقُّ أن يدَّعوا أنهم قاموا فعلاً بتجديد الرؤية التفسيرية للقرآن الكريم بالقدر الذي يتخيَّلونه، لكننا مع ذلك نعترف بما لهذه الأطروحات الفكرية من القيمة الكبرى في مجال التأثير بالمفسِّرين المحترفين للقرآن الكريم، وفي مجال ضخِّ المعنى التنويريِّ في آفاق ورؤى وتصوُّرات القارئ المسلم الحديث الذي بات متلهِّفاً إلى تجاوز العقبات النظرية التي تعترضه أثناء وجود النيَّة لديه في أن يتوائم مع الغاية الدينية، ومع متطلَّبات التعامل الصحيح مع عصره بمنطقٍ لا يجانب العقلانية والرؤية المستندة إلى المعطى الموضوعيِّ والعلميِّ في شيء.

ليس المهمُّ أن تأتي بنظريةٍ  وتقعِّد لها القواعد، ثمَّ تتركها هكذا عائمةً في الفضاء، وإلا لكان بإمكان أيٍّ منا أن يفعل الشيء نفسه عشرات المرات في عمره فيكون من كبار المنظرين، ولكنَّ المهمَّ فعلاً أن تضع أصول النظرية المعيَّنة ثمَّ تبرهن على صدقها من خلال التطبيق العمليِّ على المادَّة التي تزعم أنَّ تلك النظرية أو تلك المنهجية تحلُّ الكثير من الإشكاليات العالقة بها، فإذا كان محمد آرغون يطالبنا بتطبيق تلك المنهجيات التي ولدت في فضاء الفلسفة الغربية بكلِّ تشعُّباتها وفروعها في علم اللغة وفلسفة التأريخ والسيميائيات وإلخ، فليكن هذا، وهو من حقِّه تماماً، لكن شريطة أن يتبنى مشروعاً ينجزه هو ومن هو مقتنعٌ بمقارباته، يكون من مهمَّته كتابة ذلك التفسير طبقاً للمنهجية الآرغونية، وليس صحيحاً اختزال مرحلة التطبيق في جملةٍ من الآيات المنتقاة من القرآن الكريم، لأنَّ هذه المنهجية التجزيئية التي تأخذ من القرآن ما يؤيِّد تلك الآراء ووجهات النظر الخاصَّة، وتطرح أو تتغافل عما عدا ذلك، منهجيةٌ قديمةٌ وليست حديثةً بالمرَّة، اتبعها بعض أهل الأغراض في زمن نزول النصِّ نفسه، وامتدَّ ذلك إلى العصور التي تبعت ذلك، وأنتجت من الكوارث ما تعاني منه الأمة الإسلامية الآن من الإختلاف والتصادم الذي نسأل الله سبحانه أن يساعدنا على أن لا نكون طرفاً في تأجيجه، وتقوية أسبابه في العالم الإسلاميّ، وقد أشارت الآية القرآنية الكريمة إلى هذا المعنى بالضبط: [قل أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا ] 

يجب أن نشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنَّ إشكالية التعارض بين النقل والعقل، أو بين الغيب والعقل، ما شئت فعبِّر، لم تكن نابعةً من فضاءات الثقافة الإسلامية نفسها، لكنَّ الفكر الإسلاميَّ تأثر اختياراً أو اضطراراً بالفكر الإغريقيِّ والفلسفات اليونانية والرومانية التي وفدت على العالم الإسلاميِّ في نهايات العصر الأمويِّ وطيلة الفترة التي امتدَّ بها سلطان الدولة العباسية، فهي إشكاليةٌ مستوردةٌ من خارج إطار العقل الإسلاميّ، وليست نابعةً منه بأيِّ معنىً من المعاني، لأننا نقرأ بوضوحٍ العديد من الآيات القرآنية التي ترفض بشكلٍ صريحٍ ومتشدِّدٍ موقفَ الكفار من القرآن الكريم وقبولِ منهج الدعوة الإسلامية،على أساس أنَّ الكفار لا يمكن أن يفارقوا منهج آبائهم الأوَّلين في العقيدة واختيار الدين، فترى القرآن يندِّد بهذه العقلية التي ترفض الحقَّ والعدل وما يقتضيه العقل على أساس سننٍ موروثةٍ أو مرجعياتٍ تأريخيةٍ لا تستند إلى الحكم العقليِّ والدليل البرهانيِّ بأيِّ حالٍ من الأحوال: ["وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ" (لقمان:21). "وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ" (الزخرف:23-24) "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ". (البقرة:170) .

إنَّ هذه الرؤية الإنغلاقية التي ترفض كلَّ ما هو حقٌّ قياساً إلى الموروث التأريخيِّ من الآباء والأجداد، مما حاربه القرآن كلَّما سنحت الفرصة لذلك، حتى أصبحت تشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من الروح العامَّة للقرآن التي لا تفترق عنه في المخيال العامِّ للإنسان المسلم، وأشهد أنها أكبر نظرةٍ تقدُّميةٍ طُرحت في القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً، ولم يتجاوزها الزمان إلى الآن، وستبقى فاعلةً ومؤثرةً إلى ما شاء الله لهذه الخليقة أن تستمرّ، ولو أنَّ البشرية فارقت فعلاً هذا الصنم الأكبر الذي يحول دون الإرتقاء إلى المستويات الأعلى من التجسُّد الحضاريِّ للبشرية قاطبةً لكانت في أعلى مستوىً من النقاء والصفاء في التفكير، ولوجدت العديد من محاور الخلاف التي تحول دون أن يعيش البشر بسلمٍ وئامٍ وسعادةٍ طريقها إلى الحلِّ والذوبان.

 

ثمَّ إنَّ القرآن الكريم كان صارماً في دعوة مشركي مكَّة، ومن خلالهم دعوة الناس أجمعين عبر الأجيال الإنسانية المتعاقبة إلى أن يعتمدوا في تكوين رؤاهم وتصوُّراتهم وما يعتقدون به على تلك القاعدة المعرفية الثابتة التي ترتكز على العقل، وتستند إلى محاكماته العلمية والموضوعية النابعة من النظر العقليِّ النقديّ، دون الإنجرار خلف إغراءات التفكير النابع من العاطفة والأهواء والخيال"وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء:36)

فليس الإنسان بعاجزٍ عن الإستدلال على الخالق بعقله بعد أن يسلك الطرائق العلمية في الإستدلال على وجود الخالق، ومن شأن النظر في مستوى التعقيد النابع من النظام العجيب الذي يكون عليه المخلوق أن يجعل الإنسان يلتفت بعقله وقلبه وبكلِّ جوارحه التي لها مدخليةٌ في عملية تكوين المعرفة إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، وهذا هو ما يصطلح عليه في الفلسفة بدليل النظام، الذي استعمله القرآن كثيراً كثيراً، لأنه منسجمٌ تماماً مع الفطرة البشرية، ولا يحتاج إلى الوسائل الإستدلالية المعقَّدة التي يتبعها الفلاسفة خاصةً، ولا يفهمها الناس الإعتياديون الذين لم ينفقوا أعمارهم في دراسة الفلسفة ومشكلاتها وطرائقها في الإستدلال والبرهنة، مما يُعدُّ فضولاً بالقياس إلى النظرة الفطرية التي ترتكز على البداهة العقلية في النظر إلى الآيات الكونية والأنفسية للإستدلال بها على وجود الخالق جلَّ وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (البقرة:164).

 

إنَّ العقل هو القاعدة الأساسية التي يستند إليها النقل في حُجِّيَّته، لأنه نقطة الإنطلاق الأولى التي تسبق عملية التسليم بما للنقل من قيمةٍ، وحتى القرآن الكريم لا يُستثنى من هذه القاعدة الأساسية، ولهذا فإنه لا يخالف هذه المنهجية في دعوة الناس إلى أن يتدبَّروا ويتفكَّروا ويتأمَّلوا في آيات القرآن ليعرفوا أنها خاليةٌ من كلِّ وجوه التنناقض التي تطبع الكلام البشريّ، لكي يعرفوا أنه ذو منشأٍ إلهيٍّ محضٍ، وأنه لا يمكن أن يكون من وضع بشر: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82).

ولا يكاد القرآن الكريم في كلِّ فضاءاته يترك الدعوة إلى تقديم البرهان على أنه ليس من عند الله، فإذا عجز الآخرون عن تقديم هذا البرهان، فلن يكون كفرهم بعد ذلك إلا مكابرةً يأباها العقل السليم بالطبع، ويكشف عن أنَّ هؤلاء لا يرفضون القرآن على أساس أنه ليس عقلياً أو أنه لا ينسجم مع ما تدعو إليه الفطرة الإنسانية القويمة، بل إنَّ وراء الرفض عوامل أخرى من الظلم والتكبُّر والإستطالة على الناس بغير وجه حقّ، وغصبٍ للحقوق العامَّة، وإفسادٍ في الأرض: "أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (النمل:64). "وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة:111

وعلى هذا الأساس فإنَّ العقل ليس إلا قوةً أو قدرةً فطر الله الناس عليها ليتمكنوا بها من تمييز الكذب من الصدق باستخدام أدوات المعرفة من التحليل والمقارنة، وتدعوهم إلى أن ينحازوا إلى الخير ضدَّ الشرّ، وإلى الحقِّ ضدَّ ما هو باطلٌ، وتدعوهم إلى أن يجلبوا لأنفسهم المنافع القريبة والبعيدة، ويدفعوا عنهم المضارَّ القريبة والبعيدة كذلك، ويوازنوا بينهما على أساس تعيين المصلحة ذات الملاك الأهمّ، وهذا هو المعنى الفطريُّ للعقل، إلا أنَّ اقتحام العقل اليونانيِّ الفلسفيِّ على يد العديد من الفلاسفة المسلمين في العصور الأولى للإسلام، جعل هذا المعنى الفطريَّ للعقل في الرؤية الإسلامية العامَّة غائمةً، فالتبست المفاهيم، وفقدت المصطلحات تحديداتها العلمية الواضحة مع شديد الأسف.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1395 الخميس 06/05/2010)

 

في المثقف اليوم