قضايا وآراء

عود على بدء..نحن والآخر

حديثا عن العرب أو إشارة إليهم من قريب أو بعيد باعتباري مهتما بالشأن العربي متلبّسا بقضاياهم مسكونا بآلامهم وآمالهم أتتبّع صورتهم لدى الآخرين وصورتهم لدى أنفسهم ولدى بعضهم البعض وأستخلص من كل ذلك ومن غيره حقيقة وواقعا ومنطقا مّا..هي تساؤلات لم تفقد مسوّغ طرحها من مثل: هل تطوّر الوعي لدى العرب لدرجة أن يعوا مصالحهم وأساليبهم؟ هل تجاوزوا الخوف والتردّد والتخبّط ووصلوا إلى درجة الإيمان بالذات؟..

 

عندما كان حمادي الصيد رحمه الله سفيرا لجامعة الدول العربية بباريس ثم ممثلا لتونس لدى منظمة اليونسكو وكان من وقت لآخر يظهر على القنوات الفرنسيّة متحدثا عن الصراع العربي الإسرائيلي أو عن شؤون الهجرة ومشاكل المهاجرين وتحديات الاندماج أو محللا وموضّحا بعض القضايا التي تخص العرب والمسلمين في علاقاتهم بالمجتمع الغربي أو ببعضهم البعض أو مندّدا بالجرائم العنصرية التي ترتكب هنا أو هناك..كنت أقول : كم يحتاج العرب إلى آلاف من أمثال حمّادي الصيد ليقدموهم إلى أنفسهم في المقام الأول ثم إلى الغرب في المقام الثاني بذلك الخطاب الواضح وتلك اللغة الأنيقة وذلك الأسلوب الذي يوحي بالثقة وذلك المظهر الجذاب وتلك اللهجة الهادئة الواثقة..وكم أتذكر الآن ما قاله ألان جوبير عن حمادي الصيد " لعل العرب إلى الآن لم يدركوا بعد القيمة الحقيقية لحمّادي الصيد ولعلّ بلاده نفسها مازالت لم تنزله منزلته الراجعة إليه باعتباره أفضل سفير عربي عرفته العاصمة الفرنسية بخطابه العقلاني المنطقي وتلك الفصاحة المبهرة وذلك الحضور الذي يقتلع الإعجاب من المخالفين أنفسهم". لقد مثـّل حمادي الصيد بفضل ملكاته الخاصة نوعا جيدا من المحاورين العرب مع الغرب، محاور يصدر عن معرفة بالطرف المقابل ويحسن الاستفادة من تلك الفسحة الجيّدة للتعبير التي يتيحها الإعلام الغربي المستقل عن الجهات الصهيونية بعد أن امتلك الأدوات المعرفية وفي مقدمتها اللغة والوعي الحقيقي بالإشكالات المطروحة ومن هنا يتجلّى لنا التقصير من جانب العرب في تقديم صورتهم الحقيقية وهم في الغرب محتاجون إلى مؤسسات فاعلة تخاطب العالم بلغته وأسلوبه ومنطقه من أجل تجاوز الصورة النمطية للعربي وهي صورة مشوّهة حزينة/محزنة.

وهذه المؤسسات يجب أن تكون ذات فعل واستقلال واستشراف: مراكز أبحاث، معاهد، قنوات فضائية تقدم خطابا حديثا وتربط العرب بالعالم ربطا حقيقيا وتكون بقعة ضوء تشدّ إليها الأنظار وموردا ثرّا تنهل منه الأجيال المتعطشة لخطاب حديث مستنير بعد أن تحولت إلى إطار عمل يجمع الكفاءات والطاقات من كل حقل معرفيّ وثقافي من أجل العمل على تجاوز حقيقة جليّة مؤلمة وهي كوننا مقصّرين في حق أنفسنا ونتحمل قسطا من المسؤولية في التغييب الحضاري الذي يراد لنا.

أثمرت الحضارة الغربية قيما مهمّة جدا نتجت عن ثورات وتضحيات قدمتها أجيال لا حصر لها..وعلى العرب أن يبحثوا بين صفوفهم عمن يفهم الآخر ويعرف كيف يتواصل معه ويكون مؤهلا ومجهزا ليمثلهم أفضل تمثيل ويكون جسرا يرفد أحدهما بالآخر ويثري هذا بذاك..إن إقامة كثير من الكفاءات العربية في الغرب أصّلت فيهم الانتماء والاهتمام بالجوهر وتجاوز الجزئيات وأوجدت فيهم الجرأة اللازمة للقطع مع التردد والخوف والضبابية..

جرأة علّمتهم أن ينظروا جيّدا إلى الهدف ويصّوبوا نحوه سلاح الانجاز بيد ثابتة وعين لا ترفّ وقد قال أحد أبرز فلاسفة إيطاليا لباحث عربي جاءه ليجري معه حوارا: "أنتم العرب والمسلمين لديكم أفكار عظيمة لا تستغلونها".

إن الغيرية لا تتأسس بغير الأنا كما أن الأنا بذاتيتها وخصوصيتها وتميزها لا تتحقق بغير الآخر المختلف/المشارك وهو ما يقودنا إلى القول بأن الأنا أصل الآخر وشرطه اللازم..الأنا العارفة الواثقة كنخلة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..يقول عبد اللطيف اللعبي في قصيدة "يد واحدة لا تكفي للكتابة" :

في زمن كهذا

تلزمنا ثلاثة أيد وأكثر

لكي تتنازل الحياة

فتزور هذه الصحراء المخيفة

هذه الصحراء البيضاء!؟

إن التجدّد سمة الاستمرار ووحدهم الأغبياء لا يغيرون مواقفهم ولا يعدّلون أفكارهم كما يعدّلون ساعاتهم ولا يغيّرون ما بأنفسهم ..أما أغبى الأغبياء فهو الذي يخدع نفسه ويتجاهل الحقائق ويفوّت على نفسه فرصة المراجعة ويهدر الزمن الغالي والإنسان كائن يفعل فيه الزمن فعله وحقيقته كامنة في الآتي أفق الصيرورة والتحوّل وله من الماضي خبرته ومن لحظته الفعل والاصرار عليه..

نذكـّر بهذه المسلّمات حتى لا يتحول العربيّ إلى عبء على نفسه..فما أجمل أن يحيا المرء بكبرياء النهر الجاري..فهل رأيت نهرا متدفقا يلتفت إلى الوراء..؟!..

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1398 الاحد 09/05/2010)

 

في المثقف اليوم