قضايا وآراء

ابراهيم عيسى شاعراً في التجلي الأخير

  

إنها الرواية الوحيدة التي عثرت عليها للكاتب رغم أن له روايات أخرى سأبحث عنها بعد أن استوقفتني هذه الرواية وطبعت عنوانها على غلاف ذاكرتي.

لقد أخذتني  صفحاتها إلى عالم الدهشة، وانطلقت بي إلى ينابيع السماوات!

إن لكاتبها مقدرة فذة في أن يعرض الجمل البسيطة بشاعرية لا حدود لجمالها:

 

"ألقيت عليه السلام في ندى الصبح الملفوف بنشرات الإذاعة"

"البنايات ترجم التاريخ بالثبات واللحظات تتسكر خلف الساعات"

"مركبة نصف نقل تعطي ظهرها لبائعة الصحف ذات الثوب الأسود الرديء"

 

ها نحن في مبنى المجلة بشارع قصر العيني، التي يعمل بها السارد أو الراوي، عندما يصل إليها في الصباح الباكر فيجد العامل منهمكا في عملية التنظيف... بعيون الشاعر الذي يرى ما لا يراه غيره، ويضفي الجمال على كل شيء، يأتي المبدع بالخوافي فيجعلها قوادم ويعرضها على شاشات الروح لكل من يريد السباحة في التأملات. اسمح لي أيها القارئ العزيز أن أدعوك لتأمل هذه القصيدة الحداثية الرائعة(لم يفكر صاحبها أن يكتب قصائد، لكن القصيدة كتبت نفسها متخفية. كل ما فعلته أني وضعتها في سطور على طريقة قصيدة النثر، وألغيت واو العطف الرابطة بين السطور):

 

 

"مقاعد غرفة الاستقبال مقلوبة على مؤخراتها

انحنى عامل يمسح الأرض التي خلع عنها سجادتها

مياه ثقيلة بالصابون، وروائح سوائل فاضحة

تشكيلات غريبة مرسومة على المياه

انبعاجات والتفاتات

سهم غليظ يشير إلى اقتطاف ثمرة مقشرة

كف دون أصبعه السبابة

تسع وعشرون نقطة فوق حرف واحد كأنه النون

طريق وعر تعبره كتل صابون

بحيرة ماء تردمها قدم العامل الحافية لتمحو عناوين الإثم المباح

طفل محشور في صدر أمه

المصعد ينفتح عن امرأة مستطيلة معلقة

سقف تتوسطه مروحة هواء معطوبة

جدران قصيرة ضيقة مطلية بالرصاصي

وجه عامل مصعد يخفي شاربه تحت شفتيه

ويلد إبطه مساند مقاعد"

 

ولا تكاد تمر صفحة إلا ونكاد نلمح ملامح قصيدة من هذا النوع!. إليكم قصيدة أخرى بعد صفحة أو صفحتين من السابقة:

 

"مرة أخرى أصنع لنفسي صوبة حزن

ها هي دموعي

أقفز نحو الممر الضيق إلى دورة المياه

ألحق دمعتي الأولى بظهر كفي

عند وصيد الباب أتحسس هويتها

هل هي الدمعة المعذبة التي تأبى النفس سقوطها فتقاومها

كأنها الطوفان

نحتجزها عند ناصية العين لكنها

تقتلع قلب الهويس

أنهرها وألعن أباها

لكنها تستمرئ عذابي

تدوس على الجروح المفتوحة

تشق طريقها حتى الجفن

ساعتها...

يكون عذابها في فضيحتها

أم هي الدمعة الساخنة التي...

أم ربما تلك الدمعة المتطهرة...

أم هي المراوغة، الكاوية، التي تعشم بالنسيان

تعطيك أمان الرحيل

تسترد رجولة عينيك ال...."

 

الراوي في هذه الرواية، أو السيرة الذاتية، يعيش تحت دولاب الانقهار داخل المجلة. نرى ذلك مثلا عندما يقدم الأوراق لمدير التحرير، "فيعبث قلمه في ملامحها ويكشط أشياء تمنحه أسطورة النفوذ الصغير"، وتمنح صاحبنا حنقا مستجدا عليه وعلى الكتابة وعلى اليوم الذي جيء به إلى هناك.

أما الذين يعملون في تلك المجلة فهذا أحدهم:

هو "ببساطة شوكة مغروسة في الحلق.. إن صرخت توجعك وإن سكت توجعك، والدم في الحالتين يسيل"

وتلك السيدة: "تحولت فريدة خليل إلى صحفية نشطة تكتب وتنشر هكذا فجأة حيث أصبح زوجها في منصب أرفع بمباحث..."

وأيضاً: "دخلت السيدة سلوى إلى رئيس التحرير، وقالت له إن فهمي شاكر يلعب من ورائك، وذهب الأسبوع الماضي إلى مبنى المخابرات كي يشكوك"

"وجه فهمي النحاس فيه شق اسمه فم، مهمته -المستحيلة- ضحكة ملوثة بصفار أسنانه من التبغ المعشش، وفضية إطار نظارته يمنحه قدرة على البلادة المشاعرية. بادرته بالتحية مقضومة الأحرف.."

أما السيدات فيا بئس ما يقال: "بعضهن دخل الصحافة بأثدائهن، وأخريات خرجن منها بأثدائهن أيضاً"

ويكاد ينفجر الصدر بما يدوي في الأذنين: "أصل هذه المهنة بلا أصل"

 

 لكنه يستعيد شيئا من ذكريات أيام الجامعة حيث يعود إلى بلدته يوميا بالقطار، "والصمت المغربي يبلع البلدة". ينزلق الفتى إلى حميمية الأسرة "يصعد أبي من الحديقة ممسكا بمصحفه ويلقاني بابتسامة(..)أمي تجهز طعام الغداء ساخنا. والتليفزيون يبث مسلسله اليومي ويحلق فوق رأسي عصفور الانقباض الصغير يتمنى أن يفرد جناحيه ليطير أو تدس بندقية صياد برصاصة في بطنه حتى يرتاح. يهبط العصفور آخر الليل عند وسادتي وأنتظر ...  صباح اليوم التالي يبدأ بكف أبي الحانية على كتفي"

ثم... بعد فقرتين اثنتين: "سقط العصفور في ماء مغلي"

 

وتطالعنا هذه "القصيدة"

"خربش صوتُ طفلته الهدوء

لكنه استعاد بطولته

تقدمت أصابعه إلى كوب الشاي الساخن

ارتشف جرعة

عاد بعدها إلى تلاوة قصيرة لمحذوف

حياته المعلنة"

 

ولنقرأ له عن شارع قصر العيني:

 

"إذن كم مرة عبرت هذا الشارع

كم خطوة من قدمي فوق هذا الرصيف

تلك المساحة، هذه المسافة، جنب هذا المطعم

كم مرة قرأنا إعلانا انتخابيا قديما منسيا على جدار

كم مرة يسير الإنسان في شارع قصر العيني وهو

لا يدرك كم مرة سار؟

هل يحفظ الرصيف أسماءنا؟

هل سجل الشارع ضحكتي المتفجرة وأحزاني المنفجرة؟"

 

ثم بعد ذلك بصفحات نقرأ عن هذا الموقف المحبط، وما أكثر المواقف المحبطة التي تعرض لها الراوي:

"أقواس النصر لا تصلح

للمهزومين من أمثالي.

لطائر الاكتئاب المحلق

والذي

لم يختر من الناس غيري كي

ينام

    ينقر

       يأكل

          يعشش

               ينوح

                  يبوح

                     ويلوح

لرفاق الطير المسافر

أن يأتوا للعش الجديد

                      (صدري).."

 

وهاهو في زيارة لمدينة أسوان عروس الصعيد. لا بد من تجلي الشاعرية المرهفة إذ تعانق كل هذا الجمال الموحي:

 

"النيل كما لم أعرفه من قبل، مساحة من الجنة السائلة المنسكبة من السماء السابعة"

"الزورق الخشبي المصنوع بأيدٍ نوبية

مغزولة بالعرق والجلَد

والعصب ووداعة الغضب إذا استكان

وحرارة السكينة إذا ما غضبت

ينقلنا إلى الضفة الأخرى هذا

النوبي الكامل

البشرة والبسمة والنظرة والقبضة والغنوة

آه يا ناري يا ناري

كان صوته نبيلا، قادماً

من انشقاق الصخور عن السيول

واهتزاز البيوت من القاتل الهادر"

 "الهواء ناعم دافئ

والغروب استئذان مهذب من الكون أن

يفرغ حر الهزائم المشتعل صهدا

في إناء الرحيل

السماء هكذا شيء معشوق

كما بشرة امرأة انفجر كيانك

إذا انكشف كيانها لك

أنت وحدك"

 

والنتيجة يلخصها في سطر مذهل:

 

"المشهد الصباحي أرسل فيّ اختلافاً"

 

لكنه وبكل الأسف الموجود في هذا العالم يعود بعد انقضاء الرحلة إلى عمله في المجلة.

"أعود

إلى المجلة الكئيبة تدوس أقدامها العسكرية في صدري.

ينهشون في لحمي..

وألوث قلبي بكرههم".

 

لكن المفاجأة غير المتوقعة أن يدهمه الحب هنا...(واسمحولي أن أختصر بعض الكلمات أو الحروف):

 

"صحبني طيفها أينما توجهت..

عانقني لحظها في كل خطوة تجاه ردهات المجلة المؤدية لانفجار كرات الحزن في دمي

عزف طيفها في كياني كله موسيقى الحضور..

 انبعث في الدم تسبيح مشرق يمتص رحيقا لزهر مجهول في حديقة غامضة..

في آخر ممرات الحديقة

عند أكثر النجوم التهابا بقدوم الريح

كانت تقف".

 

إنه الحب الذي يعود إليه بعد انقطاع، يؤوب إليه بعد هجر، يبعثه للحياة بعد موات . منذ أعوام جرفه هوى فتاة خجول، في زي الطالبات الأزرق كانت حين دق قلبه البكر تلك الدقة الغريبة التي بعدها يصير الكون أجمل. "ترفرف حمامة بيضاء تخرج من عشها لأول مرة داخل قفص صدري فتنكسر أضلعه وتطير حاملة فرحي بين جناحيها..حتى حبيبتي التي تخرج ببذلة المدرسة.. تحمل حقيبة سوداء على كتفها.. وجهها الأبيض الناصع.. عيونها الخضراء الزاهية.. شفتاها المرسومتان.. حليب كفيها.. قامتها الطويلة، عودها تقشرت أوراقه الخضراء وبدا زاهيا بالبراءة..تخطر متناسية وجودي. تداعب زميلاتها ترفع حقيبتها.. تتمم حديثها.. تيمم وجهها شطر البعد.. ترفع ذؤابة شعرها الصفراء عن عينيها.

 لا تقدر قدماي على السير بوجل الاضطراب الغامض

تقف عند بابها تراني

تضحك. تضغط على حقيبتها. تصعد سلمها".

"عذوبة الاعتراف الأول.. الولوج البكر إلى الأرض الأسطورية

الجمل المتقاطعة عند تقاطع الطرق."

 

يا للقلب الذي كان صاحبه في السادسة عشرة من عمره ما يزال. "وكانت طيبة حتى براءة عدم الفهم"

هل تزوجت؟ هل نسيت؟

لا يدري

لقد غطاها الجليد إلى حين

إلى أن اجتاحه الحب الجديد وهو يعمل في المجلة، شابا صار..

"ويحتوي الفضاء فوح روح سمائي..

ويسافر حمام بني يسكن أعشاشا في حديقة جدتي..حتى باب المكتب ويقبل ذيل فستانها.. ويعود.. ويصافحني الفرح.. مؤكدا أنه قد تشرف بلقائي"

"وعند ضاحية صغيرة تقذفها الخارطة بالنسيان وتجذب أطرافها القطارات كانت حديقة خضراء تحفها الأشجار وتحيطها الزروع وتحتضنها الورود.. وتعبث في هذا البرد المستقر العاتي أطياف أجنحة مسدلة على الهواء المرتعش.. وحبات ثلج غريبة تلمس حواف الشجر وعيون الزرع وأفخاذ الورد المضمومة.. وكان هناك عصفور نائم ناعم منكمش يحلم بالسماء مفتوحة والأرض منفسحة والأفق رحيبا والشمس حانية والدفء طيبا. يحلم بلجوء النور للضوء للمجئ.. يحلم بعناق الطيران للهواء. يحلم بنجوم الليل لعناق صفحة النهار. يحلم بلقاء الله على جبل موسى".

 

ثم ماذا بعد من كنوز الشاعرية؟!

"العصفور الذي لم يعرف العشق عشق".

"لكن الشجرة-فجأة- اهتزت وتمردت وغضبت وتفجرت"

"وترنح العصفور مجروحا"

وبعد أن كانت "الانتصار الأول للمهزوم" صارت الهزيمة الساحقة.

كان الحب يجدلهما في ضفيرة واحدة. "تعود برأسها للوراء وتبتسم في انفصال ورقة الزهرة لحظة قطفها(..) تزغرد التفاحات أنين الصبابة. تتشابك أصابعنا وتنفك. كانت في أمريكا وعادت ، وها هو زميل لها قد عاد من أمريكا فانحازت إليه. "نعم كنت أحبه.. واختلفت معه وتركته.. وأنا الآن أحبك أنت"

لكنه لم يصدقها، وجرفه الشك وجرجره إلى العميق.

"يسرقني الحزن منها. لماذا دائما تخطف الحدأة الفرح من صدري؟"

"مي.. يا جبالي..

ماذا تقولين لحبيبك يا مي؟

ألا ترضين إذن بحبيب سوى من يؤمن بالتجربة؟ بمن يدع وجهك الصبوح يتهلل بشرا بمقدم رجل غيره؟.. بمن يتركك تفعلين ما تشائين وتشائين ما تفعلين؟.. ألا تقبلين إذن إلا محبا على الطريقة الأمريكية؟ ألا يصلح الريفيون للحب يا أميرتي القاسية؟ من يواظب على صلاة العشاء، ويبكي ليلة القدر، ويلثم كف أبيه قبل خروجه في الصباح؟ أتذهبين إلى حضن رجل آخر يا حبيبتي. أتشتبك ذراعك في ذراعه؟ وتلثمين شفاهه؟ ...

من منحك كل هذه القسوة؟"

"واختفت مي"

"والحزن عندي-غيركم- حزني مديد رعديد مرعب طائش سكير يعصف بكل شيء ويجمع العمر كله تحت نصل حذائه ويخطو فوق الجسد المنهك المحلول المفكك".

يا للأحزانك وتبتلاتك أيها الرجل!

إنك تذكرني بألفريد دو موسيه الذي كان يعشق حبيبته جورج صاند حتى العبادة، وحدث وهما في رحلة خارج البلاد أن إصابتها وعكة فاستدعى لها طبيباً ليعالجها لكنها وقعت في غرام الطبيب، ووقع الطبيب في غرامها، ويا لحرقة الرجل المنكسر وهو يناجيها ويتضرع دون جدوى!. يا لتشابه الآلام والمعاناة والانجراف إلى الهوة القاسية!

 

وإذا بمن يدعوه للخروج من هذه الوهدة، وللقيام من هذه العثرة والكبوة، وقيل له إن مي لم تكن تنفعه أبداً، وقيل له إنها كانت ستكون له يوما ولغيره أياماً،  و.....

وأترككم تتشوقون إلى بقية الرواية!

 

 

 

 

في المثقف اليوم