قضايا وآراء

أدب البوح .. بوح الأدب

كلمات فيها بعض العزاء وبعض الأمل .. كلمات متوهّجة لم تنطفئ لقرب عهدها بالسرّ .. كلمــــات لا ينتظر منّي القارئ الكريم أن أكتبها لأنها تأبى أن تلبس الحبر وحسبه منّي أن أؤكد له وجودها وفعلها وقدرتها على دفعه إلى الاستمرار وإقناعه به بل وأكثر مــــن ذلك: إكسابه القدرة على نحت كيانه الخاصّ وتسجيل بصمته المتفرّدة وتأكيد نظرته المتميّزة .. هي كلمات منه وإليه .. هي كلمات لا يقدر أحد أن يقولها نيابة عنه وبي رغبة أكيدة أن أجدّد فيه إرادة البحث عنها وبذل كل غال ونفيس في سبيلها .. هذا غاية ما في الأمر!؟ لا أكتم القارئ الكريم أني دائم البحث في أدب السّير الذاتيّة والمذكرات التي تتميّز بدرجة عالية من البوح والمكاشفة لأنهما مصدر متعة نادرة وجرعة شفاء من العقد والأزمات وعمارة الجهل والمركّبات التي تغذيها الأوضاع المتردّية في كثير من المجتمعات ورصيد الخبرة هذا جعلني لا أفقد إيماني بقدرة الكلمة بل عزّزه في داخلي حتى وصل درجة اليقين وزاد في حماسي لعقد جلسات علاج عن طريق المحادثة الحرّة وتكريس مبدإ الصّراحة والمكاشفة أولا وثانيا وثالثا وأخيرا.

وإذا كان الفارّ من مواجهة نفسه والآخرين يهرب من طريق واحد فإن الحشد يُطارده من كلّ طريق وإذا كان الشّجاع يموت مرّة واحدة بعد أن يحيا حياة الكرامة فإنّ الخائف يموت ألف مرّة قبل أن يموت حتف أنفه فلا نامت أعين الجبناء ..

نقرأ في مذكّرات كازنتزاكي :"نادرا ما كنت أفتح فمي للحديث ..  إذ ما الذي يستطيع أن يقوله "مثقف" لغول !؟ كنت أصغي إليه وهو يُحدّثني عن قريته الواقعة إلى جانب جبل الأولمب، عن الثلج والذئاب والقدّيسة صوفيا والفحم والنساء والله والوطنية والموت وحين تضيق الكلمات عليه ويقترب من الاختناق، كان يقفز على قدميه ويبدأ الرقص على حصى الشاطئ ممشوقا بجسد طويل، قويّا منتصبا بعينين مدوّرتين كعيني الطائر، كان يرقص برأس منحن ثم يرتعش ويضرب قدمه الغليظة على الماء فيبلل وجهي بمياه البحر .. " كما نقرأ في السّيرة الذاتية لأحد الكتاب الأمريكيين البارزين أنه كان لمدّة طويلة يقتات على لحم الحمام الذي كان يمسكه من حديقة اللكسمبورغ بباريس ويخفيه بعد أن يخنقه أسفل العربة الصغيرة التي يحمل فيها طفله الرّضيع!؟ ..

كما نقرأ في كتابات الجاحظ ذلك الرّائع .. من الاعترافات والمكاشفات ما يُدهشنا ويمتعنا ويوقعنا في حبّ رجل في رأسه عقل وفي قلبه صدق وبيان .. وفي كتابات ابن حزم الأندلسي من الاعترافات والبوح ما يربكنا ويوقعنا في الحيرة وهو الذي عاش قبلنا بقرون عديدة ولم يُدرك عصر الثورة المعلوماتيّة الذي أدركناه ..  كم يكون جميلا أن نرتقي إلى مستوى البساطة ونستمتع بغنائيّة العفويّة ..  في رسالة جبران خليل جبران إلى مي زيادة يخاطبها قائلا : "كم يكون رائعا يا ماري أن نكون أساتذة بالجامعة ثم نعود إلى قريتنا الجبليّة فنخلع ملابس المدينة ونلبس ملابس الرّعاة ونضع في جيب كل واحد منّا كسرة خبز وحبّات من الزيتون ثم نصعد إلى الجبل نرعى أغنامنا .. ".

نقرأ أيضا للغزالي صاحب "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزّة والجلال" الذي ترجم إلى الفرنسيّة ودخل ضمن مجموعة الرّوائع الإنسانية تحت عنوان" ERREUR ET D?LIVRANCE" "COLLECTION D’ŒUVRES REPR?SENTATIVES"عبارة خطّها قلمه بكل صراحة الكبار وتواضعهم :"طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلاّ لله"

أدب البوح وبوح الأدب يُردّان النفس الضالة الحائرة إلى إنسانيّتها وينزعان عنها قناع الاصطناع والافتعال ويحرّرانها من ضيق العقد والمركبات ويطلقانها في فسحة الطبع وكون الصدق ..

بوح للقارئ الكريم: أي افتعال يقوى على الثبات أمام نظرة طفل صغير تتطلّع نحو الحياة يكمن فيها العنفوان الهادر!؟

وقد قال بعضهم: ما تزال الجنّة مع الطفل وما يزال فيها حتى إذا كبر قيل له: اهبط منها!؟.

محسن العوني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1401 الاربعاء 12/05/2010)

 

في المثقف اليوم