قضايا وآراء

أوهام الخيال العربي المريض

 أشد نفاقا من إحساساته البدوية، طعمها كطعم الفلفل. إنه شاعر مسيج ومليخ، ومن يقول العكس فلمجرد إنبهاره بتخيلاته، أما من يدعي عمقه فربما لأنه لا يقدر على ملامسة سطحيته.

 

لنتأمل قول المتنبي :

"وإنما الناس بالملوك ولا           يفلح عرب ملوكهم عجم"

يالها من وقاحة قل نظيرها، حقا كان خيال المتنبي ذا صورة عربية خالصة، فجاءت نظرته للأمور كلها عربية. إنه وفيّ للخيال العربي الذي تمثل العالم القديم عربيا وصاغه نموذجا شعريا في غاية البداوة والرعونة، وقع هذا بفعل يبوسة هذا الخيال المالح.

لقد ورث المتنبي مزايا العروبة وشمولية خصائصها الإقصائية، فحشد صوره الشعرية لهذا الغرض، فجاءت تخيلاته في هذا البيت خير معبر عما نقوله. فهو يرى الهوية العربية أيقونة لا يجب التفريط فيها، خاصية خصائصها في تفوقها العنصري، و أحقيتها في القيادة الأبدية للعجم، هؤلاء الذين يحتاجون دوما إلى قيادة العرب لهم.

نموذج مستقى من ثقافة لا يزال مفعولها يغطي القشرة الخارجية للخيال العربي، هذا الخيال الذي شرب من منابع: الصحراء، والمدام، والحسام.. وغيرها من الفضاءات المشكلة له، ويرتكز على سرمدية الكينونة العربية.

لقد كان المتنبي عربيا متطرفا في رفض كل ما ليس عربي، إنه الصيغة العربية الحادة للخيال الواهم الذي شكلته البيئة الصحراوية القاسية، فجاءت اشعاره قاسية فضة غليظة، فلم يراعي شرط اللياقة وقيود الوقار والفطنة والمحاسبة للنفس. فلا تواضع يوجد عنده ولا عناء تفكير، مجرد كائن هدار بلا قيود .

لكن اذا كنت هكذا يا متنبي

فظ الخيال

نستحلفك عروبتك

أن تتوارى قليلا

فترى ظهيرتك

على مقلع أشعارك

تلتهم ما تبقى من أنفاسك

العربية جدّا..

توارى لترى نخوتك

الكاذبة

والعروبة في خيالك

العربي

راكبة على جياد

طفو لية

يا متنبي لما لم تقل لقومك

أن العروبة وهم

يهب على الصحراء

يحمل إليها الأكاذيب

وتهويماتك..

المريضة

 

هكذا أنت أيها الشاعر، عهدناك متملقا متزلفا للوهم الذي يسكن خيالك، فلم تشد يوما عن هذا، بل كلك حبور وابتهاج عند ملاقاتك له. فها أنت تقول:

"فهمت الكتاب أبر الكتاب             فسمعا لأمر أمير العرب"

"وطوعا له وابتهاجا بـه            وإن قصر الفعل عما وجب"

هكذا أنت تسمع وتطيع أمر سيدك العربي. تفرح تملقا وتقدم الطاعة نفاقا. لا مبدأ لك ولا تحكيم عقل. مبتهج وخاضع ومطيع، ولاتزال تقدم المزيد والمزيد:

  "وما قست كل ملوك البلاد           فدع ذكر بعض بمن في حلب"

"ولو كنت سميتهم باسمه             لكان الحديد وكانوا الخشب"

ليس لك شبيه يا متنبي! فأنت سيف من التملق، وليس لك من الشجاعة غير مديح الأسياد، فلماذا لا تحب المعانات الفكرية والعقلية؟ آه يا متنبي! تقلدت وسام الشعر، ونسيت قلاع الفكر. لكن إذا كنت هكذا، قرين الكذب والوهم، فواضح أن رمال الصحراء قد غطت عيون عقلك، وحجبت عنك الحقائق، وطبع الجبن على قلبك.

نستحلفك بوهمك

بخيالك

بشعرك.. ومدحك

توارى قليلا

لعلك ترى ظهيرة العروبة

على مقالع الشعر

معلقة

توارى فقد بدى

سيفك

يلتهم ما تبقى

من انفاسك

في الصحراء

و حين تهب الرياح على العروبة، وتحلق الغربان فوق صحاريها، فهل نحاورك أم ترانا نقارع خيالاتك الواهمة؟ لا تتهمنا باللحن أيها الشاعر الكبير، فلسنا نرغمك على تذوق أحلامنا، فنحن لا نهوى الشعر مثلك، لأن الشعر كله لك، كما لسنا نزعم الشجاعة، فهي لك.

آه يا أبا الطيب! تهب الرياح على بغداد، تقتلع أسوارها مثل الورق، لا يصدها شعرك، ولا شارعك، ولا حتى مجدك العربي. فهاهم الأعاجيم يستبيحونها معلنين الإنتصارات الكبيرة، فأينك وأنت القائل:

"وإذا أتتك مذمتي من ناقص         فهي الشهادة لي بأني كامل"

 

موت العربي

هذا غرورك الشعري

وسذاجة عقلك السامي،

ينشدان بناء الأبراج العالية،

تلك الأحلام التي نسجها المتنبي

في خيالك الصحراوي

ها هي اليوم تشيد،

لكن بالعجم تبنى

هذا ما يسمى في لغة العصر

موت العربي؟

 

الحسين أخدوش

 

........................

1. أنظر: شرح ديوان المتنبي، لعبد الرحمن البرقوقي. دار الكتاب العربي 2006.

2. أنظر كتاب: العرب ظاهرة صوتية، لعبد الله القصيمي. منشورات الجمل، ط 2، 2006. ص 496.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1405 الاحد 16/05/2010)

 

في المثقف اليوم