قضايا وآراء

أثر العلم الحديث على المسار الفقهيّ/ السيد محمد الصدر أنموذجاً

 العلم الحديث في العديد من القضايا التي يهتمُّ بها الفقهاء كالكسوف والخسوف وغيرهما من الموضوعات التي تهمُّ الفقه والفقهاء، وكان الصدر فيها بارعاً في إيّراد  الإشكالات والنقوض على العلم التطبيقيِّ الحديث، مستخدماً براعته العقليَّة والذهنيَّة في صياغة هذه النقوض والإشكالات، مع أنه بالتأكيد لا يمتلك معرفةً تخصصيَّةً بهذه العلوم، إلا أنه كان يهتمُّ كثيراً بباب فلسفة العلم، خاصَّةً فلسفة الفيزياء والرياضيات وتأريخ العلم، ومن الطبيعيِّ أنَّ الإطلاع على فلسفة العلم إن كان اطلاعاً ممنهجاً وجادّاً يجعل ذهن الفقيه مشحوناً بهذه التصورات والمفاهيم العلميَّة الجديدة التي لم تخطر في ذهن فقيهٍ من قبل عاش في الأزمان السابقة، وسيكون لكلِّ هذا أثره البالغ في نوع المنجز الفقهيِّ الذي يتقدم به الفقيه، خصوصاً على صعيد المناقشات والمحاورات والإستدلالات الفقهيَّة التي تتضمنها المؤلفات النافعة لذوي الثقافة الفقهيَّة المعمَّقة من المثقفين والمفكرين الذين هم خارج إطار الدائرة الكلاسيكيَّة لطلاب العلم الحوزويّ.

يقول السيِّد الصدر: ?الرياضيات المعمَّقة أنا لا أعرفها، أنا أعرف من الرياضيات العمليات الأربعة في الأعداد الصحيحة والكسور الإعتياديَّة أكثر من هذا لا أعرف، أما الأمور في الإصطلاحات العلميَّة كالفيزياء والكيمياء ونحو ذلك من الأمور أيضاً لم أدرسها ولم أعرفها، نعم هناك ما يسمى بفلسفة الفلك وفلسفة الفيزياء هذا أنا فكرت فيه كثيراً، وجملة من الأمور أيضاً أستطيع أن أقولَها لأنَّه أنا أعتبر الفيزياء والفلك وكذلك الكيمياء نتائج لقواعد عامَّةٍ نستطيع أن نقولها، أو قوانين كليَّةً سنها الله سبحانه وتعالى في خلقه، فمن هذه الناحية هذه النتائج تدلُّ على قوانينها العامَّة، فما هي تلك القوانين، طبعاً هؤلاء الماديون باصطلاح علماء الفيزياء والكيمياء والفلك هم مشغولون بهذه الأمور، بالنتائج التي سميتها النتائج ويدرسونها في الأكاديميات، ولكنهم ينسون تدبير الله وفعل الله وحقيقة الله، ولكنه نحن كمؤمنين لا ينبغي أن ننسى هذه الأمور، وفي الحقيقة كلُّ شيءٍ من هذه الأمور ناتجٌ من فلسفةٍ معينة، مثلاً من جملة الأمور التي انتَشرت عندهم هي ?الباراسيكولجيّ? ومن قبيل الكون السالب، ومن قبيل الثقب الأسود الذي هو بابٌ يخرج منه الشيء الماديُّ إلى الكون اللاماديّ، أشياء من هذا القبيل، وكذلك الأمارات التي يقولونها أنَّ العقل أقصى ما تصدر منه لعله 1% وأمّا الـ 99% الأخرى ما زالت مخفيَّةً لا نعلم مقدار طاقاتها، فإذن الله قد أرشدهم إلى طريق الحقِّ وهم لم يهتدوا إلى طريق الحق، وإن شاء الله لا يهتدون لأنهم لا يستحقون الهداية، لا يهتدي إلا من هداه الله واستحقَّ بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وأمّا الظالمون والمعتدون فيزيدهم إثماً حتى لو كانوا شاعرين، هذا إنَّما يكون حجةً عليهم يوم القيامة ــ محلُّ الشاهد ــ ففلسفة الفيزياء من هذه الناحية، الإطلاع عليها ضروريٌّ، وفي حدود فهمي القاصر ــ ففلسفة الفيزياء من هذه الناحية شيءٌ لا يمكن البرهنة عليه ــ متعمقاً في الرياضيات بظاهرها أو بنتائجها في الحقيقة ولم يأخذوا بواقعها الحقيقيِّ، فكلُّ شيءٍ له واقع?[ ].

ويقول في مقدمته لكتاب ?ما وراء الفقه? ما نصه: ?الكتب الإستدلاليَّة في الفقه كثيرةٌ، ليس كتابنا هذا منها، وإن صادف أن مارسنا الإستدلال فيه في فصولٍ عديدة، إمعاناً في إيضاح الفكرة، إلا أنَّ الهدف الأساسيَّ منه ليس هو ذلك، وإنَّما الهدف الأساسيُّ منه هو التعرض إلى ما سميناه ما وراء الفقه، وهي العلوم والمعلومات التي تدخل في عددٍ من مسائله مما هي ليست فقهيَّةً بطبيعتها، وإنَّما تندرج في علومٍ أو حقولٍ خارجةٍ عن الفقه، والتي قلنا قبل قليلٍ إنها – مجازاً – جانبيَّةٌ وثانويَّةٌ في الفقه، لأنها تتضمن التفاتاً من داخل الفقه أو صلب العلم إلى ما هو خارجٌ منه . والفقه له ارتباطٌ بهذا المعنى بمعلوماتٍ لا تعدُّ ولا تحصى. لا يستطيع هذا الكتاب – يقصد موسوعته الكبيرة ما وراء الفقه – ولا ما هو أوسع منه الإحاطة بها بل قد لا يمكن للطاقة الفرديَّة البشريَّة ذلك. وبالرغم من أنَّ فصول الكتاب واضحةٌ في هذا الإرتباط، بالفلسفة، واللغة، والنحو، وعلم الإجتماع، والرياضيات، وغيرها من العلوم، وكثير من المعلومات العامَّة التي لا حصر لها? ? ?.

لكنَّ التأثير الأكبر لهذه الثقافة إنَّما يبين ويتضح لكلِّ ذي نظرٍ فاحصٍ في البنية العميقة للفتوى المقدمة للمكلَّف ليعمل بها وتبرأ ذمته من عهدة التكاليف الشرعيَّة، ففي رأيي إنَّ هذا التأثير هو الأكثر تغلغلاً وتفاعلاً إلى درجة الإندكاك بين العناصر الفقهيَّة والإستدلاليَّة والثقافيَّة والفكريَّة والعلميَّة في ذهن الفقيه، لذلك فإننا نجد أنَّ الغالب إما في عناوين الكتب والرسائل الصغيرة المخصصة للفتوى، وإما في عناوين الأبواب والفصول داخل هذه الكتب هو سيادة العناوين الواضحة التي يتضح من خلالها مباشرةً مدى التأثير الكبير الذي مارسه العلم والثقافة المتشعبة العامَّة في صياغة الفتوى، بحيث يحسُّ المكلَّف فعلاً أنه ليس بعيداً لا قليلاً ولا كثيراً عن أجواء العصر، بل هو موجودٌ في خضمِّه وسابحٌ في عبابه، تماماً كما هي الحال في العنوان الفقهيِّ الجريء والمستقلِّ لكتاب فقه الفضاء، وكتاب فقه المجتمع، وعشرات العناوين التي تصدَّرت بعض الفصول الفتوائيَّة داخل الكتب الفقهيَّة، وفي مقدمتها بالطبع الكتاب الفتوائيُّ المهمُّ للغاية ?مسائل وردود? .

 

الثانية: أثر العلم الحديث على البحث الفلسفيِّ والعقائديّ

يبدو أنَّ هذا هو المجال الأرحب بالتأكيد من المجال الفقهيّ، من ناحية وضوح هذا الأثر، وإن كان مجال الفقه وصياغة الفتوى هو الذي له جانب الفاعليَّة الإجتماعيَّة لوضوح أنها تخصُّ الجوانب العمليَّة والإجتماعيَّة والسلوكيَّة العامَّة من حياة الأفراد والمجتمعات، ومن الطبيعيِّ أن يكون هذا هو الجانب الأهمَّ الذي يجد المجتمع الإسلاميُّ ثمراته الملموسة على صعيد توفير الإمكانيَّة الحقيقيَّة لانخراط المجتمعات الإسلاميَّة عموماً في الحياة العصريَّة الحديثة دون الإضطرار للوقوع تحت ضغط الشيزوفرينا الإجتماعيَّة أو الحضاريَّة نتيجة انفصال الفقه الإسلاميِّ عن أجواء الحضارة الإنسانيَّة المعاصرة.

لكنَّ من الضروري الإشارة إلى النتيجة البديهيَّة التالية، وهي أنَّ الفصل بين ما هو نظريٌّ وما هو عمليٌّ أو بين مقتضيات ونتائج العقل العمليِّ والأسس النظريَّة والإيديولوجيَّة التي يتألف منها العقل النظريُّ الإسلاميُّ المنخرط في الحياة الحديثة ليس صحيحاً إلا بصفته حالةً إجرائيَّةً لا واقعيَّة، وإلا فإنَّهما متحدان وغير منفكين بحسب الواقع، لذلك فإنَّ أيَّة منظومةٍ فقهيَّةٍ شرعيَّةٍ أو قانونيَّةٍ وضعيَّةٍ لا يمكن لها أن تتخذ مساراتها النهائيَّة بوضوحٍ إلا بعد أن يتمَّ الإنتهاء من تحديد معالم واتجاهات العقل النظريّ، لأنها هي ما يشكل الجهاز العصبيَّ أو الحيويَّ لكلِّ هذا الكيان الحيِّ الذي هو مجموعةٌ متشابكةٌ ومتماسكةٌ منطقياً من التشريعات والقوانين.

إنَّ كلَّ مشاريع التجديد للفقه الإسلاميِّ أخفقت تقريباً إلا المشروع الكبير للصدر والمشروع الكبير الآخر للصدر الثاني، وما هذا النجاح الهائل الذي كان من نصيب هذين المشروعين التجديديين الكبيرين إلا بسبب أنَّهما اهتما أوَّلاً بتمحيص الكثير من القواعد والأسس الفقهيَّة بناءً على استلهام فضاءات الفكر المعاصر وإشكاليات الإنسان الحديث، ولم تكن هذه بالمهمَّة السهلة طبعاً لأنها تستلزم أوَّلاً وقبل كلِّ شيءٍ إجراء المقارنات والمراجعات النقديَّة العديدة على مختلف الصعد والمستويات التي تتصل بالثقافة الموروثة داخل الفضاء الدينيِّ والإسلاميّ، بما توصل إليه الفكر الإنسانيُّ المعاصر عبر مختلف المخاضات حتى خرج بهذه النتائج التي فرضت نفسها على الأذهان البشريَّة في هذا العصر، واستبعاد كلِّ ما من شأنه أن يكون بعيداً عن الفطرة الإنسانيَّة السليمة بالكلام النقديِّ والعلميِّ المزود بالحجَّة القاطعة والدليل الفلسفيِّ الدامغ، وليست القضيَّة وقفاً على الإستبعاد والإستبقاء بالتأكيد، إذ ربما تطلب الأمر إجراء مزاوجاتٍ علميَّةٍ وجريئةٍ بين مختلف الأفكار للوصول إلى الحالة المطلوبة من انسجام الفكر الإنسانيِّ عموماً بمختلف اتجاهاته مع ما تقتضيه الفطرة الإنسانيَّة السليمة من الإتساق التامِّ بين الأبعاد الروحيَّة والماديَّة في حياة هذا الكائن المخلوق لله سبحانه، لذلك فإنَّ قارئ كتاب الفتاوى الواضحة مثلاً أو كتاب منهج الصالحين وسائر الكتب الفقهيَّة للصدرين الشهيدين، يتخيل إن كان من ذوي النظرة السطحيَّة الساذجة أنَّ هذه الكتب إنَّما هي مجرد رسائل عمليَّةٍ في الفقه الإسلاميّ، وأنها لا تختلف عن غيرها من الكتب والرسائل العمليَّة الفقهيَّة إلا في نوع الصياغة اللغويَّة مثلاً أو في بعض الإجتهادات التي ربما وجد مثلها الكثير في الإختلافات بين الفتاوى الفقهيَّة العائدة لسائر المجتهدين مما هو معهودٌ ومعروف.

لكنَّ ما تحكم به هذه النظرة السطحيَّة الساذجة ليس صحيحاً بالتأكيد، ولا يتضح هذا إلا بعد قراءة باطن الفتوى إن صحت الصياغة، أو معرفة ما في داخل مخِّها من المكونات والمضامين غير المرئيَّة، وإلا فإنَّ الفتوى هي في نهاية الأمر فتوى مستنبطةٌ بعملياتٍ اجتهاديَّةٍ معلومةٍ من القرآن الكريم والسنة، وكلُّ الفتاوى يتبع مجتهدوها هذه السبيل، لكنَّ الفتوى بما هي عمليَّةٌ استنباطيَّةٌ اجتهاديَّةٌ فإنها لا بدَّ أن تتأثر قليلاً أو كثيراً بما في ذهن المجتهد من الآفاق الفكريَّة والعمليات الذهنيَّة التي تجري المقارنات بين مختلف المسائل والموضوعات والمكونات الثقافيَّة في ذهن المجتهد، وهو أمرٌ مختلفٌ ومتغيرٌ بين كلِّ مجتهدٍ وآخر بالتأكيد، فماذا تقول إذن في حالة أنَّ الإطار الذهنيَّ كله بين نمطين من المجتهدين يكون هو الموضوع لهذا الإختلاف، فمن المؤكد آنذاك أن يوجد لدينا فقهٌ حركيٌّ يكون هو الأقدر على التفاعل مع إشكاليات الإنسان المعاصر وتقديم الحلول الفقهيَّة له، وفقهٌ آخر ساكنٌ وجموديٌّ وموروثٌ يتحدث مع الإنسان الحديث بصفته كائناً أثرياً منتصباً على هيأة التماثيل من العصور القديمة السالفة.

لم تمنح هذه المسألة الإهتمام الذي تستحقه في رأيي، ولم يلتفت إليها الإلتفات الجديرة به من قبل فقهاء الحوزة إلا أقل القليل منهم، وإلا من قبل جماعةٍ من المفكرين الإسلاميين الذين لا يعتبرون أنفسهم فقهاء متخصصين في نهاية الأمر، لذلك فإنَّ عجلة الفقه بقيت تدور على نفس المركز من الأساسات والقواعد الفقهيَّة دون أن يطرأ على البنية التحتيَّة للفتوى الفقهيَّة أيُّ تجديث.

كما إنَّ الفضاء الإيديولوجيَّ العامَّ بقي محصوراً ضمن الإشكاليات القديمة الموروثة بالطريقة التي تحدثنا عنها طويلاً في فصول كتابنا ?إشكاليَّة المثقف الدينيِّ بين سندان التقليد ومطرقة الحداثة? مضافاً إلى أنَّ أحداً من الفقهاء الكبار في النجف لا يفكر ولو للحظةٍ أن يؤلف كتاباً أو دراسةً بسيطةً يوضح فيها لمقلديه الرؤية الإسلاميَّة التي يتبناها في مواجهة الفكر الفلسفيِّ الحديث بمدارسه المتشعبة ليس بصيغة الفتوى طبعاً بل بالدراسات المنهجيَّة التحليليَّة والتفكيكيَّة، وإلا فما أسهل على الإنسان مهما كان مستواه المعرفيُّ والثقافيُّ والإيديولوجيُّ متدنياً أن يطلق كلمات الإدانة على أيِّ تيارٍ فكريٍّ أو فلسفيٍّ في العالم، ثمَّ يصوغ عبارته تلك بهيأة الفتوى، فليس المهمُّ طبعاً أن تقول إنَّ الشيوعيَّة كفرٌ وإلحاد، أو أنَّ الوجوديَّة السارتريَّة تؤدي بالمؤمن إلى جهنم، أو أنَّ الليبراليَّة الأمريكيَّة تصادر وعي الشعوب الإسلاميَّة بحقوقها وتجعلها تابعةً ذليلةً للشيطان، هذا كله ليس مهماً على الإطلاق، بل ربما تسببت كلمات الإدانة والإتهام بهذا الشكل في حصول الكثير من المضاعفات السيئة، لأنها تعبر عن الحالة السطحيَّة والعجز المرهق الذي تعاني منه أيَّة آيديولوجيا في مواجهة خصومها، وسيتجه المثقفون والطامحون إلى الأفكار النظريَّة المتينة أكثر باتجاه تلك الإديولوجيات والمذاهب والأفكار، بل المهمُّ فعلاً هو أن يقوم المراجع والمجتهدون بالتحليلات الموضوعيَّة والمنطقيَّة المعمَّقة والجادَّة، فيناقشون تلك الأفكارعلى مساحةٍ من المفاهيم والإصطلاحات المشتركة، فيثبتون عجزها وعدم صلاحيتها لتقديم الحلول إزاء إشكاليات الإنسان المعاصر. في تلك اللحظة فقط يكون المرجع مرجعاً حقاً والمجتهد مجتهداً فعلاً، والإ فإنه وإن حاز على هذه المرتبة بناءً على المعايير الموروثة والمعروفة حوزوياً إلا أنه ليس مجتهداً ولا مرجعاً في اللحظة التي تهجم فيها عليه لوابس زمانه وإشكاليته، فلا يكون بمستواها نقاشاً وتحليلاً وعمقاً في صياغة الآراء والأطروحات ووجهات النظر.

لم يكن من السهل على الصدرين قدِّس سراهما تكوين ثقافتهما الموسوعيَّة المعمقة إلى درجة القدرة المذهلة على مناقشة مختلف مدارس الفكر والفلسفة واتجاهاتهما في ظلِّ الأجواء المنغلقة التي تحكم الحوزة ?فقد استطاع الصدر أن يعيش العصر، ويصنع لنفسه حضوراً في قمة العلم والثقافة، وهو في بيئةٍ كثيراً ما يتوجه إليها النقد من العلماء المصلحين بانغلاقها وجمودها وتقليديتها وانقطاعها عن قضايا العالم والعصر والحياة. والذي يعرف طبيعة تلك البيئة ومكوناتها وشروطها يدرك كم يحتاج المرء إلى شجاعةٍ نفسيَّةٍ وجهودٍ فكريَّةٍ لكي يتغلب على عقباتٍ كثيرةٍ وتقاليد ضاغطةٍ ونظامٍ شديد التمسك بموروثاته الموغلة في القدم لكي يتواصل مع تلك العلوم والمعارف المعاصرة? ? ?

ويقال الشيء نفسه عن السيِّد محمد الصدر بالتأكيد، لأنه عاش الظروف والملابسات ذاتها تقريباً إلا ما شكَّل مائزاً للصدر الثاني عن سلفه الصالح الصدر الأوَّل في بعض النقاط التي أشرنا إلى بعضها، وربما سنشير إلى بعضها الآخر في ثنايا البحث.

إنَّ السيِّد محمد الصدر قارئٌ نهمٌ لكلِّ ما يقع تحت يديه من الكتب العلميَّة والفلسفيَّة والفكريَّة ليكون واقفاً على قمة الهرم الثقافيِّ والمعرفيِّ والفلسفيِّ في العالم الإسلاميّ، ويبدو هذا واضحاً من اقتنائه حتى للمجلات العلميَّة، ويعتمدها بصفتها مصدراً من مصادر علمه ومعرفته واطلاعه، في نفس الوقت الذي تنظر فيه الأوساط الحوزويَّة في النجف إلى قراء تلك المجلات ومتابعيها بصفتهم ?بطرانين? أو بصفتهم خارج نطاق الدائرة التي منها يترشح وجود المجتهدين والعلماء.

ويتضح هذا المطلب من خلال متابعة الفقرة التالية التي أجاب فيها السيِّد على سؤالٍ تقدَّمت به مجلَّة الهدى في حينها حول الصحون الطائرة ومدى حقيقتها وتفسيرها من الناحية الدينيَّة والفلسفيَّة فأجاب:

?أنا في حدود فهمي انَّ هناك كثرةً من الأخبار والنقول والقصص عن الصحون الطائرة، كما انَّ هناك صوراً للصحون الطائرة وهذه الصور موجودةٌ في مختلف المصادر، وأنا رأيت قسماً منها وأنا لم يصادف أنني رأيت صحناً طائراً، لكنني أقول إنَّ في عائلتي من يقول بأنَّهُ رأى أكثر من صحنٍ طائر - محل الشاهد ليس هذا - إذ الصحون الطائرة بهذا المعنى مطمئنة الصحَّة، فيها اطمئنانٌ فعليٌّ أنها صحيحةٌ، لكنَّ الإشكال في مصدرها. مجلَّة العلوم العراقيَّة، طبعاً أنا أتابعها وكان في يومٍ ما ملفٌّ - بالإصطلاح - مجموعة مقالاتٍ تسميه ملفاً، عن الصحون الطائرة، هؤلاء الكُتاب - يذهبون بها شمالاً ويأتون بها يميناً - يقولون إنَّ الصحون الطائرة ما أساسها؟ وكيف تقاد؟ ومن هم الذين يقودونها؟ وما تفسيرها؟ محصَّل كلِّ المقالات، أنه ليس لها تفسيرٌ حتى أنَّ اسم الجنِّ موجودٌ بها لعلها ناشئةٌ من الجنِّ، وهذا موجودٌ بها، إما أن يكون سلاحاً سوفيتياً أو يكون سلاحاً أمريكياً أو سلاحا سرياً لدولةٍ مجهولةٍ أو لحركةٍ مجهولةٍ، كلُّ هذا لم يثبت وليس عليه كلمة مستندٍ إطلاقاً، فمن هذه الناحية إلى الآن هذا المطلب منسدٌّ، بقيت فتحةٌ واحدةٌ التي هي عليها تركيزٌ من الذين يسمون أنفسهم بالعلماء الطبيعيين، وهي أنها واردةٌ من الكواكب الأخرى أو في الحقيقة من النجوم الأخرى السحيقة في البعد، لأنَّ هناك حضاراتٍ معتداً بها جدّاً لربما أرسلت شيئاً من هذا القبيل مثلاً، لفحص الأرض أو لإظهار وجودها إلى الناس الأرضيين ونحو ذلك من الأمور، ومن هنا صار ردُّ الفعل - هذا الذي هو في نفسه أنه استغرب منه - وهو إرسال رسائل مختلف اللغات بعشر لغاتٍ مع شرح الأوضاع لإنسان وكذا يبعثونه عسى أن يصل إلى ناس ٍمدركين، فيستطيعون قراءته، لاعتقاد أنه يصل إلى ناسٍ مدركين يستطيعون قراءته - محل الشاهد - جواب كلِّ ذلك ما هو؟ انه جاءوا من بعدٍ سحيق، واحد الآن بالضبط من لا أعرف من الإختصاصيين العراقيين قال: بأنَّهُ لا يخطر في ذهنك أنَّهم جاءوا من بعدٍ سحيق، لأنَّه لا يحتمل أن يوجد هناك محروقاتٌ كافيةٌ للإيصال من هذا البعد السحيق إلى الأرض، ورجوع بهذا البعد السحيق من دون تبديلٍ طبعاً لا بانزين ولا فحم حجري ولا أي شيء ولا حتى الذرة يمكن أن تقوم بذلك، ولا أشعة ليزر بهذه الملايين من السنين الذي هي السرعة، ونحن رأينا أنَّ سرعة الأطباق الطائرة ليست بسرعة الضوء أو أكثر ونحو ذلك لا، وهم يقولون باستحالة سرعة الضوء أو أكثر، فإنَّما هي سرعةٌ متدنيَّةٌ مهما كانت كثيرةً، فإذا كان المطلب كذلك إذن يحتاج إلى ملايين السنين، فهؤلاء كم عمرهم؟ ومتى يذهبون؟ ومتى يرجعون؟ ومتى يصلون؟ ومتى يوصلون النتائج والأخبار؟ كلُّ هذا مستبعدٌ إلى درجة، فإنَّما هو وهمٌ ضعيفٌ في الحقيقة، هذا أيضاً انغلق، ماذا بقي من المطالب؟ أنا الذي أعتقده أنَّ الشيء الذي هو موجودٌ في الصور ليس أكثر من بقعٍ بيضاء وبقعٍ سوداء تظهر في السماء، أما انه آلات أو هذه الأشياء الموصوفة ليست بصحيحة ليس فيها آلات، وإنَّما من قبيل القول بقع من النور تُرى في السماء ملونة مثلاً خضراء أو بيضاء أو سوداء أو زرقاء أو لربما ذات أشكالٍ مختلفةٍ أو ذات ألوانٍ مختلفةٍ توجد هنا وطبعاً تأخذها الكاميرات? ? ?.

إنَّ هذا الإحساس العميق لدى الصدر بتغير الكثير من الظروف الحضاريَّة والثقافيَّة في الأزمان الحديثة التي تتميز بأنها تحقق في كلِّ يومٍ  إنجازاتٍ مذهلةً على المستوى التكنلوجيِّ والتقنيِّ والألكترونيّ، وتحقق أيضاً قفزاتٍ متسارعةً في ميادين لم يكن العقل الإنسانيُّ يعرف عنها شيئاً ولا يتخيلها إلى ما قبل عقودٍ قليلةٍ من الزمان، خاصَّةً في ميدان غزو الفضاء وهندسة الوراثة، والكثير من التطورات العلميَّة والتقنيَّة التي استتبعت تغيراتٍ هائلةً على مستوى الإقتصاد والسياسة الدوليَّة وسياسة البنوك والمصارف والعقود التي يرتبط بها ذوو الكفاءات والمواهب مع مختلف الهيئات والمؤسسات الدوليَّة في المحيطين الإسلاميِّ والعالميّ، كلُّ هذا استدعى من الصدر أن يبذل قصارى الجهد في سبيل تحقيق تحصيلٍ ثقافيٍّ ومعرفيٍّ موازٍ لتحصيله الإجتهاديِّ في مجال الفقه والأصول، وهو يدرك أنَّ لهذا البعد الأهميَّة الهائلة القصوى حتى لم تنظر إليه الأوساط الحوزويَّة في النجف بصفته ذا مدخليَّةٍ أصلاً في تحصيل ملكة الإجتهاد لدى الفقيه فضلاً عن أن يكون له المدخليَّة القليلة أو الكثيرة في تحديد من هو الأعلم من بين المجتهدين الكبار.

إنَّ هذه العلاقة بين العلوم الحديثة والفقه لم تتحقق إلا على يد السيِّد محمد باقر الصدر ?فقد كشف الصدر للأوساط العلميَّة والأكاديميَّة قيمة الفقه الإسلامي وثروته العلميَّة، وعلاقته بالعلوم الإجتماعيَّة وبالإقتصاد بوجهٍ خاصّ، والذي هو من أكثر العلوم اهتماماً في الأنظمة الإجتماعيَّة السائدة عالمياً، وذلك حينما أصدر كتابه "اقتصادنا" الذي رجع فيه إلى الفقه بتراكماته العلميَّة واجتهاداته التشريعيَّة، وهي من أكبر وأوسع التراكمات المعرفيَّة في تأريخ الإسلام والحضارة الإسلاميَّة، كما تشهد على ذلك المؤلفات والموسوعات الضخمة في هذا الحقل. وعزز القناعة بهذا العلم المهجور في الدراسات الإقتصاديَّة الحديثة وفي التعليم الأكاديمي، فقد اعتبر الدكتور محمد مبارك أنَّ كتاب "اقتصادنا" هو أوَّل محاولةٍ علميَّةٍ فريدةٍ من نوعها لاستخراج نظريَّة الإسلام الإقتصاديَّة من أحكام الشريعة الإسلاميَّة بطريقةٍ جمع فيها بين الأصالة الفقهيَّة ومفاهيم علم الإقتصاد ومصطلحاته? ? ?.

ويقال الشيء نفسه عن تجربة السيِّد محمد الصدر، حيث سار على نهج أستاذه الصدر الأوَّل، فوعى الإشكاليات والتحدِّيات التي تواجه الفكر الإسلامي على منواله، حيث اعترف السيِّد الصدر الثاني نفسه أنه تلقى من الصدر الأول علم الفقه والأصول وتلك الجوانب المهمَّة التي تخصُّ الوعي الإسلامي، أما الجانب الثالث، وهو الجانب العرفاني، فقد أكَّد أنَّ أستاذه فيه إنسانٌ آخر غير السيِّد محمد باقر الصدر ?.

إنَّ أهمَّ كتابٍ فلسفيٍّ احترافيٍّ يناقش فيه الصدر شبهات الملحدين، ويثبت خطأها بمنطقٍ فلسفيٍّ معاصرٍ متبعاً نفس آليات التفكير وأدواته التي يستخدمها الخصوم الإيديولوجيون عادةً هو كتاب اليوم الوعود، وهو الكتاب الرابع من الموسوعة المهدويَّة الشهيرة، وقد قدم السيِّد هذا الإنجاز الفلسفي الرائع ليفتح الباب مشرعاً أمام مناقشة الفكر الماديِّ والإلحاديِّ على أساس ما يكون فيه الفكر الإسلامي هو المبادر الإيجابي لنقاش الآخرين، وليس هو المناقش السلبي المشغول فقط بتفنيد الإشكالات والتشكيك فيها، لأنَّ الفكر الإسلامي داخل هذا الكتاب مضافاً إلى أنه يفند على أساس المناقشات الموضوعيَّة والعلميَّة الأفكار المناهضة للمباني الدينيَّة والإسلاميَّة، فهو يقدم الأطروحة الفلسفيَّة الإسلاميَّة التي تصلح أن تكون البديل الأوحد لكلِّ الأطروحات الأخرى، يقول السيِّد الصدر: ?وبالنسبة إلى اليوم الموعود الذي هو الرابع، في الحقيقة أنا قلت لأكثر من واحد: إنَّ اليوم الموعود بمنزلة الكبرى، وتأريخ ما بعد الظهور بمنزلة الصغرى. أي إنَّ اليوم الموعود يعطي القاعدة العامَّة، وتأريخ ما بعد الظهور يعطي التطبيق لا أكثر ولا أقلّ، بالنسبة إلى اليوم الموعود طرحت أطروحةً، وهي طبعاً أطروحةٌ دينيَّةٌ، ربما يذهب إليها بعض الآخرين، أنَّ البشريَّة تصير إلى يومٍ سعيدٍ عادلٍ في المستقبل، وكان هناك مذهبان يريان هذا المعنى، يعني كشيءٍ رئيسيٍّ نحن طبعاً الإماميَّة والماركسيَّة التي تؤمن بأنَّ الطورالأعلى من الإشتراكيَّة إذا طبق في المجتمع يكون هو السعادة والعدل، فمن هذه الناحية صار فكري على مناقشة المقدِّمات الماركسيَّة من أوَّلها إلى آخرها، وفعلا حوالي 300 صفحة أو 400 صفحة من الكتاب على ضخامته مُكَرَّسٌ لمناقشة الماركسيَّة. وكتاب فلسفتنا كان صادراً فعلاً وكنت أعلم أنَّ الماركسيين ردُّوا على بعض مطالب السيِّد محمَّد باقر الصدر، ليس بالتسمية وإنَّما يذكرونها كمطالبٍ ويناقشونها، فأنا حرصت على أن آخذ أجوبتهم وأجيب عليها في اليوم الموعود، يعني أنَّ المناقشات الماركسيَّة في اليوم الموعود خطوةٌ متقدمةٌ بعد فلسفتنا، لا يمكن لفلسفتنا أن يتكفلها في الحقيقة وهي أكثر تفصيلاً، وأيضاً نصوص الماركسيين بألفاظهم ذكرتها، وليس بفهمي طبعاً، السيِّد في فلسفتنا يتكلم كأنَّما هو الذي يتكلم، فأنا قلت وسبحان الله حينما طبع ذُكر بهوامش ضيقة، بأنَّهُ هذه هي نصوص روايات عن المعصومين، وكذلك نصوص أخرى كلها مفروزةٌ في الحقيقة، وثمَّ استنتجت النتيجة التي أريدها، وهي أنَّ اليوم الموعود إنَّما هو من اختصاصنا – أي من اختصاص الله سبحانه وتعإلى – وليس من اختصاص من يؤمن بالماديَّة وينكر وجود الله سبحانه وتعالى? ? ?.

 إنَّ السيِّد الصدر واعٍ تماماً للمنجزات فائقة الأهميَّة التي حققها العلم الحديث في المجال التجريبي التطبيقي، وفي المجال الخاصِّ بالعلوم الإنسانيَّة والتربويَّة وغيرها مما لا يمكن وضعه تحت طائلة الإحصاء والحصر، كما انَّ المستقبل زاخرٌ بالتوقعات الممكنة جداً مما يمكن أن يتحقق من المنجزات العلميَّة التي تزيد من مستوى السعادة والرفاه للمجتمعات البشرية على المستوى المادي، إلا أنَّ هناك جوانب مهمَّة من حياة الإنسانيَّة الروحيَّة يتمُّ التضحية بها وهدرها بلا موجبٍ عقليٍّ أو منطقيّ، إلا ما يقال عن تفعيل الغرائز العدوانيَّة والطغيانيَّة المنحطة في كيان الإنسان ?فكلُّ هذه التطورات العلميَّة صادقة... ولعلَّ فيما أهملناه أهميَّةً مماثلةً أو أكبر مما ذكرناه... فإننا أعطينا نماذج من ذلك فقط... ولعمري إنَّ للعلم مساعدةً فعالةً في جلب الراحة إلى الإنسان والمجتمع.

لكنَّ ذلك لا يعني بحال، أنَّ العلم وحده من دون ملاحظة شيءٍ آخر، يمكنه أن يضمن السعادة والعدل بين الناس. ولا ينبغي لنا أن نبالغ في أهميَّة العلم مهما كان له في العالم من هيبةٍ وهيمنةٍ وأهميَّة.

فإنَّ العلم إنَّما يتضمن الجانب المدنيَّ والتكنيكيَّ من حياة الإنسان، ولا يتضمن العلم بمجرده أيَّ جانبٍ قانونيٍّ أو نظاميٍّ أو أخلاقيٍّ كما هو واضح، فإنَّ لهذه الأمور حقولاً أخرى في المعرفة الإنسانيَّة لا تمتُّ إلى العلم بصلةٍ على الإطلاق.

فإذا استطعنا أن نضمَّ النتائج الرائعة للعلم إلى نظامٍ عادلٍ وقانونٍ سليم... استطعنا أن نكفل الرفاه الحقيقيَّ والسعادة الكبرى، إذ تكون النتائج العلميَّة موزَّعةً يومئذٍ بين البشر بشكلٍ متساوٍ ومتكافئٍ بدون إجحافٍ أو ظلم.

وأما إذا نظرنا إلى العلم وحده، وتوقعنا منه أن يكون صانعاً لسعادة المستقبل مع إسقاط النظام عن نظر الإعتبار، فهذا يعني الوصول إلى نتائج وخيمةٍ مروعةٍ في غاية السوء والإجحاف? ? ?.

تلك هي الإشكاليَّة الكبرى التي تستحوذ على أذهان المصلحين الكبار من طراز الصدر، ولم تكن بدايتها مع بزوغ عصر المدنيَّة الحديثة كما يتخيل بعض الدارسين، فإنها إشكاليَّةٌ قديمةٌ جديدةٌ وجدت مع فجر الديانات الإلهيَّة، وتبلورت وتركزت مع تضخم المنجز الحضاريِّ والمدنيِّ والتكنلوجيِّ والتقنيِّ في الزمن الحاضر، فمن الواضح أنَّ الإعتراض لم يكن حاصلاً أصلاً في يومٍ من الأيام التي عاشتها العقيدة الإلهيَّة على منجزات الإنسان وتراكم خبراته في المجال التطوريِّ العامِّ الذي يخدم الإنسان ويتكفل بمضاعفة حجم السعادة والرفاه الإجتماعيّ، بل الإعتراض الأكبر كان باسم العقيدة الإلهيَّة على سوء إدارة المنجزات التي يوجدها هذا التطور في الخطِّ الإنسانيِّ العامِّ من جهة، وعلى فكرة التضحية بالجوانب المهمَّة من وجود الإنسان، تلك الجوانب التي تخصُّ مجاله الروحيَّ والعباديَّ بما له من الإنعكاسات السلبيَّة والإيجابيَّة في حالتي الإنحراف أو الإستقامة عن الخطِّ الصحيح في ترسيم المعالم الرئيسيَّة الهامَّة لهذا المجال الحيويِّ من حياة الإنسان، كونه يمثل أساس الرؤية أو قل إنه يمثل البنية التحتيَّة التي على أساسها تتحدد معالم البناءات الفكريَّة الفوقيَّة التي تكون هي المسؤولة بشكلٍ مباشرٍ عن انتشار العدل أو الظلم في حياة المجتمعات البشريَّة. فلا خصومة أصلاً بين العلم والدين الحقيقيِّ في هذا الإطار، إن لم نقل إنه مطلبٌ من الواجب على المجتمع الإسلاميِّ أن يعزز من مكانته فيه بلا انقطاع، بقدر ما تكون الخصومة الواقعيَّة بين الدين بما هو شرع الله العادل وبين هذه العوامل التي تسبب هذا الإضطراب في حياة الإنسان الكليَّة أو الشموليَّة ببعديها الروحيِّ والماديّ، حيث يكون من المنطقيِّ تماماً أن يرفع الدين كلمة الإعتراض عاليةً بلا مجاملةٍ ولا مواربةٍ ضدَّ كلِّ ما يسبب التعاسة لهذا الموجود الإنسانيّ، حتى لو كان ذلك على حساب القدسيَّة المتوهمة لمنجزات العلم، ولا يخجل الدين مطلقاً من أن يعلن رأيه هذا بمنتهى الجرأة والصراحة.

ومن الطبيعي أن تبرز هذه الإشكاليَّة في هذا العصر المزدحم بالمنجزات الهائلة والمذهلة التي حققها ويحققها العلم الحديث في كلِّ يوم، إذ لم يكن من المنطقيِّ أن توجد كلُّ هذه المنجزات العلميَّة ومع ذلك يعيش الإنسان المعاصر أتعس فترات وجوده على الإطلاق، فالمفروض أن يكون الإنسان بناءً على وفرة الكثير من مظاهر العلم المعاصر التي تفوق الحصر فعلاً أن يعيش أسعد أوقات وجوده على الأرض، وأن يشعر بالغبطة والسعادة القصوى كونه وجد في ظلِّ هذه الحضارة والمدنيَّة التي تغزو الفضاء والكواكب الأخرى بكلِّ سهولةٍ، وفارق عصر الإنتقال من بلدٍ إلى آخر يبعد عنه آلاف الأميال على ظهر ناقةٍ متهالكةٍ يقطع بها الفيافي والصحارى مع عدم ضمان الوصول والذهاب ضحيَّة الجوع والعطش وتهديد الوحوش والكواسر أثناء الرحلة الشاقة الطويلة.

لكنَّ الحاصل أنَّ الإنسان فاقدٌ لهذه السعادة فعلاً، ويشعر بأنه أتعس الأجيال حظاً، كونه موجوداً في الأزمان اللاحقة الحافلة بكلِّ ما هو مشاهدٌ وملموسٌ من منجزات العلم، فما هو السبب إن لم يكن هو ما تحدث عنه عشرات الفلاسفة والمصلحين من أنَّ إنسان العلم والتكنلوجيا قد حشر نفسه بلا موجبٍ في الزاوية الضيقة للإختيار بين أن يعيش بمنطق العصر فيترك كلَّ ما يمتُّ بصلةٍ إلى حياة الإيمان والتدين وعوالم الروح والإرتباط بالله سبحانه وبين أن يتمسك بتدينه وبحياته الروحيَّة على أن لا يعدَّ نفسه من أهل هذا العصر، ولا يقبل على حياة العلم والتكنولوجيا والتقنيَّة لأنها بحسب هذه النظرة الإفتراضيَّة التي لا تنهض على أساسٍ برهانيٍّ معقولٍ تتعارض مع مقتضيات الحياة الدينيَّة والروحيَّة والإيمان بالإله.

إنَّ نقطة القوَّة الجوهريَّة في الفكر الفلسفيِّ للسيِّد الشهيد تكمن في:

أولاً: إنَّ الفكر الفلسفيَّ عند السيِّد محمد الصدر، محسوبٌ ومنظمٌ خاصَّةًً في موسوعة الإمام المهدي ?، بحيث انه تجنب الكثير من الثغرات التي كانت ملازمةً لكتابات من سبقوه من الإسلاميين في حقل الفلسفة ونقاش الإيديولوجيا والأطروحات العلمانيَّة المتطرفة، وعلى وجه الخصوص الأطروحة الماركسيَّة، حيث كانت تلك الجهود رغم أهميتها والدور المهمِّ الذي قامت به في مجال خدمة الصراع الإيديولوجيِّ للإسلام مع تلك الأطروحات مبعثرةً ومفككةً وغير متسقةٍ على شكل مشروعٍ هادفٍ واضح المعالم ومعلوم الإتجاهات والغايات، خلافاً لما عليه حال المشروع الفلسفيِّ للسيِّد الشهيد، فقد جاء على شكل مشروعٍ فلسفيٍّ وعقائديٍّ ودينيٍّ كاملٍ في مواجهة كلِّ الأطروحات الفلسفيَّة التي تدَّعي لنفسها هذه الصفة، من حيث انه صاغ المشروع في إطار الهدف النهائيِّ للبشريَّة وللأديان، خصوصاً في إقامة الدولة الإلهيَّة العادلة التي تحقق السعادة والرفاه للبشريَّة على المستويين الروحيِّ والماديِّ معاً، فارتقت تلك الفكرة الموجودة في الكثير من الموروث الروائيِّ الإسلاميِّ في الجانبين الشيعيِّ والسنيّ، وهي العقيدة الخاصَّة بالإمام المهدي ? ودولته العادلة في آخر الزمان، ورغم أننا قلنا إنها موجودةٌ وجوداً هائلاً في الروايات والأحاديث، إلا أنها كانت غائبةً غياباً مطلقاً تقريباً عن أذهان المنظرين الإسلاميين بصفتها ذات صلاحيةٍ مطلقةٍ لأن تكون منها نقطة انطلاق المشروع، وإليها يكون انتهاؤه باعتبارها الغاية والهدف من بعثة الأنبياء والرسل ?، وما يمكن أن يفتحه التركيز على هذه العقيدة الحاضرة الغائبة من أذهان المفكرين الإسلاميين من آفاق التفكير والمناقشة وتقديم مختلف الأطروحات التي تكون مسؤولةً عن إيجاد شيءٍ حقيقيٍّ يصلح لانطباق اسم المشروع الفلسفيِّ عليه، لأنه بحسب الخطوات التي اتبعها المؤلف تسلسل فيه من معالجة الموضوعات والإشكالإت العالقة بولادة الإمام المهديِّ ونوابه ورسائله، والظروف التي استدعت غيابه والروايات التي تتحدث عن هذه الولادة وعن غيبته الأولى التي اصطلح عليها اسم الغيبة الصغرى، حيث كان الإمام يتصل بقواعده الإسلاميَّة الشعبيَّة عن طريق نوابه، ثمَّ انتقل إلى معالجة القضايا والشؤون والإشكالات العالقة بالمرحلة الثانية من الغيبة التي يعيش المجتمع الإسلاميُّ تفاصيلها منذ القرن الرابع للهجرة إلى الآن، وكانت انتقالته الثالثة إلى عصر ما بعد الظهور حيث عالج فيه السيِّد عصر ما بعد ظهور الإمام وكلَّ التفاصيل والروايات المتصلة بهذا الزمان المبارك من حياة البشريَّة، وختم كتابه الذي أعلن أنه لم يختم في الحقيقة بكتاب اليوم الموعود الذي ناقش فيه على وجه الخصوص الأطروحات الماديَّة، خاصَّةً الأطروحة الماركسيَّة، والكثير من الأفكار التي تتصل بالإمام المهدي في الديانات الإلهيَّة الأخرى، مبلوراً فكرة مشروعه المركزيَّة، وهي أنَّ الأطروحة الإسلاميَّة هي الأكمل والأشمل والمبتنية على أسسٍ عقلانيَّةٍ أكثر استجابةً لمتطلبات العقل والمنطق والبرهان، فكانت النتيجة النهائيَّة أن أصبح المشروع الإسلاميُّ مشروعاً كاملاً متماسكاً من الناحية المنطقيَّة والعقليَّة في مواجهة كلِّ المشاريع البديلة الأخرى، التي برهن بمنطق الحجة والدليل الفلسفيِّ الناصع بنفس الأدوات والإصطلاحات الفكريَّة والفلسفيَّة لأصحابها، على أنها تعاني الكثير من الخلل والشطط والإبتعاد عن نهج الإستقامة العقليَّة والفلسفيَّة.

وقد يقال إنَّ هناك مشاريعَ فكريَّةً وفلسفيَّةً لم تكن هينةً ولا بسيطة، قدمها مفكرون إسلاميون محترفون من أمثال المشروع الفلسفيِّ الضخم للسيد محمد باقر الصدر، والمشروع الفلسفي الآخر للشهيد الشيخ مطهري، ومشروع سيد قطب، ومشروع مالك بن نبي ومشاريع أخرى لا يمكن المرور عليها مرور الكرام، فما وجه الخصوصيَّة في مشروع السيِّد محمد الصدر لكي يتفضل على تلك المشاريع الفلسفيَّة فائقة الأهميَّة، ويقع الجواب عن مثل هذا التساؤل في نقطتين:

النقطة الأولى: لقد نوهنا في الكلام السابق إلى مسألةٍ هي في غاية الأهميَّة، وهي أنَّ تلك المشاريع وإن كانت خارقةً فيما تضمنته من الجهود والأفكار الفلسفيَّة التي تقع في طريق خدمة المشروع الفلسفيِّ الإسلامي، إلا أنها امتازت بأنها مبعثرةٌ ومفككةٌ ولا يجمعها جامعٌ واحد، ففي الغالب يتمُّ اختيار موضوعٍ محددٍ أو إشكاليَّةٍ محددةٍ تتمُّ مقاربتها فلسفياً من الزوايا المختلفة، بحيث تكون وجهة النظر الإسلاميَّة هي الراجحة أخيراً، وهذا ليس عملاً بلا فائدةٍ طبعاً، بل إنه الأساس لكلِّ مشروعٍ فلسفيٍّ إسلاميٍّ تكامليٍّ أتى فيما بعد، كما أفاد السيِّد محمد الصدر من كتاب سلفه الصالح محمد باقر الصدر ?فلسفتنا? وتقدم خطواتٍ بأطروحاته إلى الأمام باتجاه تركيز عرض الإشكاليات وتركيز الإجابات عليها، وفي إطار توظيف المادَّة الفلسفيَّة الجديدة ضمن مشروعٍ إسلاميٍّ كاملٍ محدد التخوم والمعالم.

النقطة الثانية: يغلب على تلك المشاريع رغم الأهميَّة الفائقة التي هي من استحقاقها بالتأكيد طابعٌ سلبيٌّ لا يمكن التنصل من الإشارة إليه، وهو أنها قلما تعتني بمناقشة الخصوم الإيديولوجيين من خلال عرض أفكارهم بشكلٍ مباشرٍ في الكتاب، ومناقشتها والإشكال عليها بعد ذلك، كما أشار السيِّد الشهيد إلى وجود اتباعه هذا الإسلوب في اليوم الموعود، كما انَّهم لم يعتنوا مطلقاً بتحقيق التراث المهدويِّ من الروايات والأحاديث في كتب الفريقين بهذه السعة وهذا الشمول إطلاقاً، كأنَّهم لا يجدون من اللائق بهم بصفتهم مفكرين يتوجهون بفكرهم إلى الدوائر النخبويَّة في الثقافة والأكاديميين وغيرهم في العالمين العربي والإسلامي أن يعتنوا بتحقيق هذا التراث ومقاربته فلسفياً وتأويلياً، مضافاً إلى غربلته وفرزه ومراجعته نقدياً، بحيث انَّهم يكادون جميعاً يكونون صامتين صمتاً مطبقاً إزاء هذا التراث. ولم ينتبهوا إلى أنَّ هذا تحقيق هذا التراث بالذات وتأويله وإعادة إنتاجه بالطرائق النقديَّة والفلسفيَّة هو المسار الصحيح في تحديد معالم المشروع الفلسفيِّ الإسلامي، وشرح تفاصيل أطروحته بحيث تكون قادرةً قدرةً تامةً على تقديم نفسها للعالم بصفتها البديل الأصلح لكلِّ الأطروحات الماديَّة والإلحاديَّة التي تضرب على وتر إحساس البشريَّة بالحاجة الملحة إلى العدالة الإجتماعيَّة.

ثانياً: إنَّ نقطة القوة الجوهريَّة الأخرى التي تهيمن على الإنتاج الفلسفي للسيد الشهيد كله هي أنَّ السيِّد لا يتنازل قيد شعرةٍ عن الأبعاد الباطنيَّة في الشريعة، خلافاً لما عليه واقع حال الآخرين من أولئك المفكرين الإسلاميين الذين يرون أنَّ هذا الجانب من فهم الشريعة مخلٌّ بوظيفتهم الدِّفاعيَّة عن النظريَّة الإسلاميَّة، فهم يحاولون أن يقتصروا على ناحيةٍ واحدةٍ وهي الناحية الخاصَّةً بتقديم نظريَّة الإسلام تقديماً أرضياً، أي إنَّهم يقومون بتفسير كلِّ الشؤون التي تخصُّ الشريعة ومضامينها تفسيراً يقترب بها من الأطروحات البشريَّة أو الوضعيَّة، بحيث تبدو كما لو أنك تقرأ نظريَّةً لا أثر للغيب فيها، بينما لا يجد السيِّد الشهيد نفسه مضطراً إلى هذا النزوع في فهم الشريعة حتى أثناء عرضه للأبعاد الإلهيَّة التي تترك مفاعيلها الإيجابيَّة الأرضيَّة على حياة الفرد والمجتمعات، ومن البديهي أن يكون طرحه هو الأقرب إلى روح الشريعة من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ طرحه للنظريَّة الإسلاميَّة موفٍ للغرض من الأطروحة الإلهيَّة التي هي البديل الصالح من زاويته لكلِّ الأطروحات والنظريات والفلسفات الأرضيَّة والبشريَّة والوضعيَّة، لأنها لا تضحي ولو بمقدار ذرةٍ بالبعد الروحيِّ الذي تكون البشريَّة فاقدةً له بناءً على تبنيها للمناهج والنظريات البعيدة عن الإسلام، وإلا فإنَّ الإسلام لو تمَّ تقديمه بهذه الصيغة الأرضيَّة المحضة كما هو رأي الغالبيَّة من المثقفين والمفكرين الإسلاميين فإنه لن يكون مغرياً إطلاقاً للآخرين في أن يجدوا فيه ما هو مختلفٌ كثيراً، ومتضمنٌ للأبعاد الجوهريَّة التي لا تكون متوفرةً في الإتجاهات والإيديولوجيات الأخرى التي هي تماماً من صنع البشر.

ثالثاً: لا تستهدف الكتابة الفلسفيَّة عند السيِّد الشهيد الصدر القارئ العلماني أو القارئ الملحد فقط، بل إنه يستهدف أيضاً تقوية الدعائم والركائز الدينيَّة التي يستند إليها إيمان المعتقدين بالإسلام والمتعبدين به، وجعله إيماناً مرتكزاً على الأسس العقليَّة والفلسفيَّة والمنطقيَّة لكي يتحصن هذا الإيمان بشكلٍ نهائيٍّ ضدَّ الشبهات التي من الممكن أن تستأصل هذا الإيمان أو تزعزعه مستقبلاً، فالهدف مزدوجٌ إن صحت العبارة، وليس سائراً باتجاهٍ واحدٍ كما هو السمة الغالبة على المشاريع الإسلاميَّة عند أولئك، فهم إما أن يخصصوا بعض الكتب لهذا الهدف الخاصِّ بالمجتمع المسلم، وإما أن يخصصوا كتباً أخرى لمناقشة الملحدين والعلمانيين المتطرفين حصراً دون أن يجمعوا بين الغايتين في مؤلفٍ واحدٍ إلا في القليل النادر من كتبهم ومؤلفاتهم.

باسم الماضي الحسناويّ

 

رئيس تحرير مجلة المنهج

رئيس تحرير مجلة الموسوعة

 

.........................

هوامش

 

[1] منهج الصدر.

[2]  ما وراء الفقه. الجزء الأول. ص8.

[3] زكي الميلاد من التراث إلى الإجتهاد في الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد ص159.

[4] منهج الصدر ص240 تقريبا.

[5]  زكي الميلاد، المصدر نفسه، ص160- ص161.

[6] أنظر منبر الصدر.

[7] السيد محمد الصدر، اليوم الموعود ص16. 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1405 الاحد 16/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم