قضايا وآراء

لعنةُ الثقافة

إذ يقرِّر الإنسان أن يكون ملكاً، لا تطاوعه نفسه أن يواجه العالم، فيعيش هكذا منزوياً عن ذاته وعن العالم داخل قمقمٍ ضيِّقٍ يسمّى الرياء.

إذ يتخذ الإنسان قراراً آخر، فيشاء أن يكون شاعراً على سبيل المثال، فإنه ينسى كونه ميِّتاً يوماً، ينسى هذه الحقيقة فعلاً، فيتصرف كما لو أنه خالدٌ أبداً، حتى وإن كتب القصائد العبقرية عن الموت والفناء، فإنه من الناحية العملية لا يحسب لعزرائيل حساباً، ويكون على أهبة الإستعداد دائماً لأن يرتكب المجازر الأخلاقية بحقِّ نفسه، وبحقِّ العالم، وبحقِّ الأفكار من بابٍ أولى، ثمَّ يكتشف أخيراً أنه كان يعيش داخل قمقمٍ ضيِّقٍ أيضاً يسمى الكلام.

وإذ يرغب الإنسان أن يكون واقعياً، فيجنح نحو دراسة الفلسفة الوضعية المنطقية، ليكون أبعد شيءٍ عن الخيال وعن الخرافة، يكتشف في آخر المطاف تلك الحقيقة المؤلمة التي تقول إنَّ الإنسان لا يطيق الحياة من دون أن يتعمَّد يومياً بالميتافيزيقا، حتى إذا ما تخلّى عنها بدا كما لو أنه طريقٌ ممتدٌّ من العناء إلى العناء.

الإنسان كائنٌ شقيٌّ أيها السادة، كائنٌ شقيٌّ للغاية، وهو إن لم يندم على يوم ولادته نتيجة الغفلة أو نتيجة التسليم بالقضاء والقدر، فلا أقلّ من أنه ينظر إلى مسألة وجوده أحياناً، فيحسّ أنَّ الحياة لا تستحقُّ كلَّ تلك الجهود من السادة الفلاسفة، ولا حتى من الشعراء، ناهيك عن أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا ينظرون إلى الحياة بجدٍّ أكبر، لكنه ليس جداً حقيقياً، وهذا ما يجعلني أميل إلى الأنبياء في الحقيقة، فأعتبر كتبهم المقدَّسة وما يُؤثر عنهم باباً من أبواب العزاء.

الناس لا يفكرون جميعاً بهذه الطريقة، حتى الفلاسفة والشعراء لا يفكرون بهذه الطريقة إلا نادراً، ولهذا فهم حريصون للغاية على أن يروا كتبهم موجودةً في الأسواق، أما أنا، فلأني لست شاعراً محضاً، ولست فيلسوفاً محضاً، كما إني لا يمكن أن أعتقد في نفسي كوني نبياً، فإني أفكِّر بهذه الطريقة، وأكتب، أكتب كثيراً كثيراً، وأبصق على كلِّ ورقةٍ أكتبها في لحظة الإنتهاء منها، أما القارئ، فأنا أحترمه كثيراً كثيراً أيضاً، لكني أطالبه بأن يكون صعلوكاً مثلي، فيبصق على هذه الورقة بعد الإنتهاء من قراءتها، فإن أراد أن يرسل لي تعليقاً، فلا يقل شيئاً، وليضع فقط بعد مجموعةٍ من النقاط الممتدَّة أفقياً علامة الإستفهام.

 

2-

أتعس مهنةٍ في الحياة مهنة القراءة، تلك حقيقةٌ لا مراء فيها، وقد انتهى إليها العديد من أصحاب المؤلفات العظيمة، ولهذا فإنَّ الثقافة تمتاز بهذه الخاصية، وهي أنها تلعن نفسها بنفسها، وتجند الفيالق لقتالها من بين مريديها أنفسهم، وعلى هذا الأساس، فإنَّ الثقافة تستحقُّ منا أن نمنحها نظرات التقديس والإحترام.

أعوذ بكم من أن تحيطوا كلامي هذا بفهمٍ خاطئٍ، فأنا لا أقصد أن أحرِّض الشباب الصغار ضدَّ أو مع الثقافة، فلست في النهاية إلا رجلاً فاقداً لحرية الإختيار، لأني تماهيت مع هذه المهنة حتى النخاع، ولأني لا أرى من المناسب لي بعد كلِّ هذا الإدمان على الكتابة، أن أشيح بوجهي الآن عن صفحة الوورد مثلاً، فلا أكتب شيئاً إلا بعد أخذ الضمانات الكافية على أن لا اكون واقعاً تحت تأثير الإيديولوجيا، وهل بإمكان المدخِّن على سبيل المثال أن لا يدخِّن سيجاره إلا بعد أخذ الضمان منه على أن يكون بمنأىً عن داء السرطان في نهاية الحياة؟!.

أنا ألعن الثقافة

ألعنها بكلِّ قوَّتي

وأقول بجرأةٍ ليتني كنت جاهلاً

وليتني لم أطَّلع على كتابٍ في حياتي قطّ

أو ليتني كنت الآن شرطياً واقفاً على باب إحدى الوزارات

فأن يكون المرء مثقفاً إلى هذا الحدّ

لا يعني سوى أنه حمارٌ إلى هذا الحدّ

أي أنه نظر إلى بطنه بازدراءٍ

ثمَّ حشاها بالتراب بعد ذلك

وقال من الأفضل لي أن أبدو حتى نهاية الحياة محنَّطاً

أما النساء

فعليهنَّ اللعنة

فلولاهنَّ لوجدت مأساة الوجود سبيلها إلى الحلّ

لكنَّهنَّ يغرين الرجال دائماً

فتكون النتيجة كلّ ما تراه الآن بعينيك من مآسي الرجال.

 

3-

يقال عن الرجل المثقف إنه رجلٌ في غاية الوقار، وأنه جبلٌ في الحقيقة، هذا ما يقال عنه في معرض الحديث عنه عندما يكون الأمر متعلِّقاً بتقييم الثقافة على أنها تحمل قيمة السيف في المعركة، وكذلك يقال عنها الشيء نفسه عندما يكون الأمر متعلقاً بقضية الحديث عن تكريم آدم على كلِّ ما سواه، لكنَّ الثقافة في الحقيقة لا تستحقُّ هذا الوصف إلا في تلك اللحظات التي يكون فيها المرء متحداً مع الصخر في نفس الصفات، أي أنه فاقدٌ للقدرة على الشعور بالعالم، أما لو كان شاعراً بالعالم من حوله، ولو من باب أنَّ العالم يمثل بالنسبة إليه ظلَّ شجرةٍ مثلاً، فإنَّ الثقافة في تلك الحال ليست أكثر من سلَّة مهملات العالم، وأنَّ رأس المرء ليس أكثر من مقلبٍ واسع الفضاء لتلك القمامة.

المثقَّف كائنٌ فائضٌ عن الحاجة فعلاً، لكنه مخدوعٌ تماماً بأنَّ الأرض سوف تفقد حالة الإتزان حال اختفائه، وهذا وهمٌ كبيرٌ في الحقيقة، لأنَّ الناس لا ينتبهون إلى فقدان التوازن في حالة الأرض حتى مع حصوله بالفعل، لأنه يحصل في جمجمة الأرض وليس في أطرافها السفلى، والناس يقيمون في قاع الأرض وليس داخل جمجمتها كما يتخيَّل المثقف، ولهذا فإنَّ المثقف معرَّضٌ للصدمة النفسية على الدوام، حتى إذا ما استقرَّت نفسه على معرفة الحقيقة لم يجد ملجأً لشيخوخته إلا بلاط الأرصفة، حيث يكون مجرَّد النظر إلى حالته مدعاةً لأن يلعن الله سبحانه مشروع الإنسان.

 

4-

لم تكُ الكلمة أقدس ما خلق الله أيها الإنسان، فلقد خلق الله الرغيف أوَّلاً، أو قل من أجل التوفيق بين الرأيين، إنَّ الرغيف نفسه كان هو الكلمة الأولى التي اشتُقَّت منها فيما بعد كلُّ الأسماء، هذا ما أفهمه من قوله تعالى: ((وعلَّم آدم الأسماء كلَّها)) ثمَّ قال: ((ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين))، أي أنَّ آدم لم يكن من حقِّه مطلقاً أن يطلع على سرِّ الخلق المتمثِّل في شجرة الحنطة، الأمر الذي يعني أنها كانت هي الصادر الأوَّل من الله سبحانه وتعالى، وبتعبيرٍ آخر فإنها كانت هي الكلمة الأولى التي اشتُقَّت منها تلك الأسماء، حيث تمَّ إطلاع أبينا آدم عليها.

ولديَّ برهانٌ آخر: فماذا تسمّى تلك الأجزاء الصغيرة من الخبز في لغة المسنِّين على وجه الخصوص، إنهم يسمونها الحروف، فإذا جمعت تلك الحروف إلى بعضها، فمن الطبيعيِّ أن يكون الحاصل هو الرغيف، أي الكلمة، فلو فرضنا أنَّ الحرف لم يكن خبزاً، أو أنَّ الكلمة بمعنىً أوضح لم تكن رغيفاً طيِّباً وساخناً، فمن الطبيعيِّ أن تكون قياساً إلى وجهة النظر هذه شيئاً لا يطاق، لأنه وهمٌ، فلا تتحدَّث بشيءٍ أيها الرجل الحكيم بعد الآن إلا متى تأكَّدت من أنَّ كلامك ينقلب رأساً إلى تنور خبزٍ يطعم الجياع، فإذا برهنت فعلاً على أنَّ كلامك جديرٌ بالتحوُّل إلى معنى الخبز فحدِّثني آنذاك وقل في عتابي لماذا لم تحفظ كلامي كلَّه حتى وإن كان مزعجاً وطويلاً عن ظهر قلب؟!.

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1409 الخميس 20/05/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم