قضايا وآراء

الانتخابات وديمقراطية المستقبل

الأخيرة ونتائجها القلقة وطبيعة الصراع الدائر حولها لحد الآن، فإننا نقف أمام تداخل وتعايش للأحداث الكبرى والصغرى بحيث يصعب أحيانا وضعها ضمن منظومة معقولة لفهم ترتيب العام والخاص، والكلي والجزئي، والأولي والثانوي.

فالإدراك التاريخي العميق والمستقبلي لفكرة الدولة والأمة والمصالح العليا يفترض على الدوام الوقوف، وبالأخص زمن الانعطافات الحادة والحالات المأساوية والشدائد، عند حدود العام والكلي والأولي. بمعنى النظر إلى كل ما يمكنه إثارة الخلاف والاختلاف بمعايير المستقبل الحقيقي والعام. وبما أن العراق ما بعد انهيار التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية يمثل الصيغة "النموذجية" لحالة الانحطاط والتخلف والخراب المادي والمعنوي، فان مهمة النخبة السياسية ترتقي من حيث الجوهر إلى مصاف "المنقذ" الفعلي من السقوط في الهاوية. والسبب يكمن في كون المجتمع (العراقي) مازال يتسم بقدر كبير من التحلل العائم في مستنقع البنية التقليدية. فالعراق الحالي متناثر ما بين بنية تقليدية وانحطاط مادي ومعنوي شامل. من هنا تمركزه حول الخاص والجزئي والثانوي كما هو جلي في استمرار فاعلية الطائفية السياسية والعرقية والجهوية والفئوية ومختلف مستوياتها الظاهرة والمستترة.

وعلى الرغم من المسار المعقد والدامي لصيرورة الديمقراطية السياسية والدولة الشرعية والتحسن النسبي في البنية الاجتماعية إلا أن العراق لم يضع لحد الآن المقدمات الضرورية للتطور النوعي. انه ما زال يعيش ويعمل ويفكر بمعايير الماضي، أي بمعايير الخاص والجزئي والثانوي. من هنا ضعف أو تلاشي بل شبه انعدام لفكرة الدولة الحديثة والحداثة. فالعراق ما يزال يزحف في مرحلة ما قبل الحداثة، بينما العالم المتطور يعمل ويعيش ويفكر ويخطط بمعايير ما بعد الحداثة! بعبارة أخرى، إن العراق يعيش بمعايير الماضي بينما يفترض التطور الحديث العيش بمعايير المستقبل.

إن هذه الحالة ليست معزولة عن "منظومة" الخراب والانحطاط الشامل للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. غير أن المستقبل يفترض العمل بمعاييره. وضعف أو انعدام القدرة على الخروج من مأزق المرحلة السابقة يعني أن النخب السياسية الحالية هي جزء عضوي من تركة الماضي. ومن ثم لا مستقبل فيها ولها ضمن سياق العالم المعاصر ومتطلباته. أما من الناحية الواقعية والفعلية، فإنها تتحول إلى العقبة الكبرى أمام تطور العراق وخروجه من مأزق الانحطاط، كما أنها تتحول إلى مصدر الانحطاط المستمر. بحيث يجعل العراق يجسد حالة غريبة من الانحطاط المستديم عوضا عن التطور المستديم! وليس سلوك اغلب النخب السياسية قبل الانتخابات وفي مجرى، وبالأخص ما بعد الإعلان "الأولي" عن نتائجها (التي لا تخلو من زيف وتزييف) سوى احد المؤشرات الدقيقة بهذا الصدد. فالنخب السياسية التي كانت للامس القريب تتشدق بنموذجها المستقبلي بالنسبة للمنطقة، ابحث أسيرة التنافس المحموم للحصول على "تزكية" و"تأييد" أنظمة اقل ما يقال فيها أنها ليست رشيدة ولا ديمقراطية مع ضعف شديد أو شبه انعدام للشرعية الحقيقية! ذلك يعني أن سلوكها هو ليس تهديما للفكرة الوطنية العراقية فحسب، بل وللديمقراطية نفسها ومضمون الشرعية والبدائل المستقبلية. أما ما يسمى بضرورة الحصول على "الدعم العربي"، فانه مجرد وهم سواء بمعايير السياسة الفعلية أو تجربة الماضي أو متطلبات المستقبل. فالدعم الحقيقي الوحيد والضروري ينبغي الحصول عليه من المجتمع وتكامله الذاتي. بينما لم يعمل سلوك النخب (باستثناء تيار المالكي) إلا على السير ضد متطلبات التكامل الاجتماعي والوطني العراقي.

لقد كشف مسار التجربة السياسية للعراق في مجال الانتخابات عن احد الأسباب الجوهرية لاستمرار واستدامة الخلل الجوهري في بنية الدولة والنظام السياسي والبدائل المستقبلية. والمقصود بذلك خلل النخبة السياسية وقواعد فعلها الخاصة والعامة (الدستور والقوانين). وفيما لو أجملنا تجربة سبع سنوات ما بعد الدكتاتورية بهذا الصدد، فإننا نلحظ تعايش وتناقض تيارين متوازيين من حيث القوة والفاعلية، أديا ويؤديان إلى إنتاج رعود بلا مطر! ففي الانتخابات الأولى كان الحماس والغلبة للجمهور. أما في الثانية (الأخيرة) فقد كان الحماس والغلبة للأحزاب والأشخاص. ذلك يعني إننا نقف أمام تحول بنيوي مهم في الفكرة والممارسة السياسية، أي استبدال مواقع وليس بناء منظومة أو نسبة معتدلة بين النخبة والمجتمع. من هنا فداحة وفضيحة الأخطاء والألاعيب والغباء والرعونة والحماقة والخطيئة، مع أنها مكونات لابد منها في بلد خرج للتو من قبو الظلام الدكتاتوري وملئ بالأسقام في كافة مكونات وجوده.

فمن الناحية التاريخية والسياسية تمكن العراق للمرة الأولى في تاريخه الحديث من تنشيط كافة خليات المجتمع في مسابقة محمومة بمعايير الرؤية السياسية، رغم طابعها الناقص وامتلائها بمختلف الصيغ والمستويات المباشرة وغير المباشرة للجهوية والطائفية والعرقية. بمعنى أنها كانت وما تزال تحتوي على إمكانية تذليل هذه الصيغ والمستويات عبر الإقرار بفكرة الشرعية وتداول السلطة والاحتكام المباشر إلى الناخب. فالناخب هو مواطن المستقبل، والقوة الاجتماعية القادرة على المدى القريب والبعيد للتعامل في بنية اجتماعية مدنية. وفي هذا يكمن سر الفوز اللاحق لكل قوة سياسية. مع ما فيه من احتمال لتحول القوة السياسية إلى قوة اجتماعية محكومة بشعار الدولة والشرعية وحقوق المواطنة والبدائل العقلانية. بعبارة أخرى، إن تاريخ ونتائج الانتخابات تكشفت عن تحول بنيوي في الموقف من الديمقراطية وقوة الناخب والمجتمع. ومن ثم ترهن رجل السياسة بفكرة خضوعه لصوت المواطن. مع ما يترتب عليه من دمج الفكرة الديمقراطية السياسية بالفكرة الاجتماعية، أي كل ما يؤدي بالضرورة إلى حدوث تحول بنيوي في النظام السياسي والسلطة والدولة.

غير أن إشكالية العراق الواقعية تقوم في صعوبة تصور تكامله الذاتي وتطوره المستديم ورقيه العقلاني والإنساني بمعايير الرؤية المجردة. وذلك لما في خلله التاريخي بعد الرابع من تموز عام 1958 وحتى الآن من اثر مدمر بفعل سيادة وهيمنة الراديكالية السياسية والدكتاتورية والتوتاليتارية في كافة نواحي ومستويات ومسام الأفراد والجماعات والتفكير والسلوك والقيم.

رعود بلا مطر! هي الصورة المعبرة عن ضجيج السياسة وعقم نخبها الحالية. وهي القوة التي توازي قوة التراكم الفعلي في التجربة الديمقراطية. فعندما ننظر إلى التجربة الديمقراطية السياسية والتحولات التي جرت فيها ما بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، فان سبع سنوات تبدو قليلة بمعايير الزمن، لكنها كثيرة بمعايير التاريخ، أي المستقبل. وهو مؤشر على أن النخبة السياسية الحالية في العراق مازالت تقليدية وممثلة للانحطاط. إنها اقرب ما تكون إلى رعاع متأنقة! وإذا كان من الممكن "تبرير" هذه الحالة في السنوات الأولى، فان التجربة الحالية ما بعد الانتخابات الأخيرة تكشف عن وجود خلل منظومي في النخبة السياسية الحالية. إنها تكشف عن أن "المعارضة" السياسية للدكتاتورية والصدامية ليس معارضة من اجل المستقبل، بل معارضة من اجل السلطة. الأمر الذي جعل ويجعل من هذه النخبة عاجزة وعقيمة لحد ما. ومن ثم لا تعمل في الواقع إلا على ديمومة جعل العراق بلا عروق!

إن هذه الحالة الشاذة تجعل من الضروري الخروج على عادة المألوف من خلال وضع مهمة صنع النخبة بطريقة تتجاوز تقاليد الأحزاب العراقية، أي جعل مهمة صنع النخبة مهمة إرادية أكثر مما هي مهمة تاريخية، ولكن عبر ربطها بالقانون. وهي مهمة صعبة للغاية ومعقدة ومثيرة في بعض جوانبها للالتباس، إلا أنها واقعية ومستقبلية بقدر واحد. والطريق إليها يجري عبر

• صياغة دستور متوازن بمعايير فكرة مركزية الدولة الشرعية والمواطنة التامة

• بناء نظام سياسي رئاسي مرن ومتزن

• تنظيم أسس المجتمع المدني عبر إعادة بناء المحافظات وإلغاء الأقاليم والفيدرالية وما شابه ذلك.

• المسئولية التامة والمحاسبة الدقيقة للجميع.

والأسلوب الضروري لها يفترض وضع إستراتيجية لمدة عقدين من الزمن (أو بصورة أدق 21 سنة متتالية هي عمر مدرسة وجامعة وماجستير ودراسات عليا) مهمتها الكبرى تتمحور حول الأولية التامة والشاملة للتربية والتعليم والصحة والزراعة والمبنية على أسس علمية ومستقبلية حديثة. بحيث يجري توظيف الجزء الأكبر من مالية الدولة لهذا الثالوث الذي يمكن أن نرسي عليه هندسة المستقبل العراقي. انه الزمن الضروري لتخريج أول دفعة متكاملة بمنظومة تربوية وتعليمية وتخصص إلى أعلى درجة علمية، بوصفه الأسلوب التدريجي والمنظم والعلمي والمتين لصنع النخب العراقية بما في ذلك السياسية. انه أسلوب صنع التاريخ والمستقبل، وما عدا ذلك مجرد اجترار للزمن أو في أفضل الأحوال سباحة ضد التيار!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1413 الاثنين 24/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم