قضايا وآراء

تأويلية نصر حامد أبو زيد بصدد إشكالية الدلالة عند الشافعي

 الدلالية والهيرمنوطيقية في قراءة النصوص التراثية، وذلك لأبراز دور الشافعي في تأسيس الأيديولوجية الوسطية. وفي هذا العرض الموجز سنحاول تلخيص، قدر الإمكان، رأيه في نموذج الشافعي من خلال كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" الصادر عن مكتبة مدبولي، في القاهرة، وهي الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة، ومصدرة بمقدمة طويلة للرد على الذين انتقدوه .

  ينطلق صاحب هذا الكتاب من دعوى أساسية يمكن تلخيصها في مايلي:

يعتبر الشافعي من أكبر دعاة تأسيس علم أصول الفقه( النصوص)   تأسيسا شرعيا ولغويا. ومن الصعب لمن يريد الانفلات من عقال هذا التأسيس، أن يتجنب المسألة اللغوية والإشكالات المرتبطة بها؛ تلك التي استثمرها الشافعي للإفادة بأن العلم هو علم بالنص وفق قواعد اللسان العربي والحديث-السنة. 

فلماذا يشدد هذا الإمام على البيان العربي في الفهم والعلم بالأصول؟ والأكثر من ذلك، لماذا يعتبر اللغة العربية أكثر اتساعا مما يظن بها، مما يستوجب اعتبارها منبع طرق الدلالة في النصوص الدينية؟ وكيف ساعد هذا التصور أصحاب الحديث وبعض الأصوليين على رفض طرق أخرى للدلالة، كالدلالة العقلية والكلامية، مقتصرين على الدلالة النصية واللفظية؟

يبدأ فهم تأسيسية علم الأصول عند الشافعي، بالنسبة لحامد أبو زيد، بالكيفية التي  وازى بها هذا الأخير العلم بالقرآن والسنة بالعلم باللسان العربي. فمعرفة النص الديني لا تتأتى  إلا لمن تحققت له معرفة محيطة بالبيان، ذلك أن البيان هو مبنى هذا النص. ولهذا لا يبلغ المعنى الحقيقي للنصوص الدينية سوى من له القدرة على أن يجمع بين الدلالة النصية والشرعية.

وإذا كانت اللغة بهذا الاتساع الدلالي، فإنه يترتب عن ذلك، أنه لا يمكن للإنسان المجتهد أن يدرك المعنى الكامل للنصوص الدينية. وقد ترتب عن هذه القناعة عند الشافعي، أن لغة القرآن هي  أوسع الألسن على الإطلاق، وهذا ما يجعل القرآن، بما هو تجسيد للإعجاز البياني، صعب الدلالة معجز اللفظ، الشيء الذي حدا بالشافعي ليعتبر السنة دالة على القرآن ومبينة له، ولها مشروعية كبرى في فك رموزه الدلالية، فهي تجعل المستحيل بيانيا يمكن تأويله وتفسيره بالسنة.

وفق هذا الربط الدلالي القائم بين نص القرآن ونص الحديث، تكتسب السنة مشروعيتها ليس فقط في كشف دلالة القرآن، بل في تشكيل الدلالة الأصولية أيضا . وقد كان غرض "الرسالة" عند الشافعي، وضع منهج أصولي يمكن اعتباره أساس علم يختص بدراسة أصول الدلالة الشرعية، كما تصورها الشافعي، انطلاقا من نظريته في البيان، قصد اظهار معاني النصوص الدينية. فكيف يتصور الشافعي البيان؟

البيان عند الشافعي اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول، أو إجمالا في بعضه وتفصيلا في بعضه الأخر، وقد يكون بيان من القرآن للقرآن، أو بيان من السنة للقرآن. فهو يعتبر جميع معاني البيان مدركة ومتقاربة الاستقراء عند من يفهم لغة القرآن ويخاطب بها، أما إذا جهلها المرء، فإنه سيجهل أنواع البيان ومن ثم يجهل معاني النصوص.

 إذن، لابد لمن يريد إدراك دلالة النص القرآني أن يمر بطرق العرب في البيان، فهي الطرق عينها المستعملة في القرآن، وإن كان بيان القرآن في نظره أحيانا من إعجازه، وهو ما لا سبيل إلى إدراكه إلا للرسول (ص).

وتكتسب هذه الطرق البيانية قوتها ومشروعيتها، حسب الشافعي، من القول بالتلازم بين اللفظ والمعنى، ولهذا فالبيان العربي جزء جوهري في بنية النص الديني. ويقسمه هذا الأخير، حسب مقتضيات تصوره، إلى ما يلي:

1- ما أبانه الله لخلقه بصورة لا تقبل الاحتمال أو الظن، وهذا هو المسمى بالنص، كفرض الصلاة والزكاة وتحريم الزنا والخمر، ونحو ذلك من الفرائض والمحرمات.

2-ومنها ما قرر الله تعالى فرضه في القرآن، وترك بيان كيفيته للنبي (ص)، كتعدد الصلوات، ومقادير الزكاة ونحو ذلك.

3-ومنها ما فرضه رسول الله (ص) ابتداء وليس في القرآن له نظير، وذلك مثل فرض القرآن تماما، لأن الله تعالى فرض في كتابه طاعة نبيه (ص)، وذلك كتحريم أكل لحوم الحمير.

4-ومنها ما فرض الله تعالى على العباد معرفته بالاجتهاد والنظر وابتلاهم بذلك، كالاجتهاد في معرفة القبلة عند البعد عنها، لأن التوجه إليها في الصلاة فرض.

يظهر من هذا التقسيم، حرص الشافعي على إبراز أن للنص أوجها عدة في الإبلاغ؛ فهو يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشاكل والنوازل التي وقعت في الماضي أو يمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل. وقد نوقشت طرق البيان هذه تحت مسمى العموم والخصوص، وهو مبدأ أصولي لغوي طرح في سياق النقاش الدائر بين مدرسة الحديث والرأي، حول طرق الدلالة الشرعية. أما مدرسة الحديث، فهي تقول بأن الحلول الدنيوية والأخروية موجودة في النص ويكفي فقط اكتشافها بالبيان، بينما ترى المدرسة الثانية أن هناك ضرورة لاستعمال الرأي في بحث الدلالة (أبو حنيفة).

وفي هذا السياق، يدافع الشافعي عن مبدأ وجود الحلول لكل المشكلات في النص، مدافعا بذلك عن مدرسة الحديث. وهكذا انصرف للدفاع عن مدرسة النص، فكان أن أقر بكثير من الجهد العقلي، أن طرق الدلالة في النص متعددة، وأن معنى النص مرتبط بالكيفية التي تؤدي بها اللغة العربية الدلالة. فمعاني الكتاب (النص) إنما هي مكتسبة بطرق العرب في الدلالة، لهذا نجده يقرر أنواع الدلالة حسب هذا المنظور إلى:

-     العام من الألفاظ الذي يبقى في إطار دلالته على العام داخل التركيب أو السياق، مثل قوله تعالى: (الله خالق كل شيء)، وفيها خلاف من حيث دلالة الكل للعموم. إنها نموذج للعام الباقي على عمومه. 

-     العام الظاهر الذي يدخله تخصيص جزئي لا يلغي عمومه، مثل الآية120 من سورة التوبة: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه..).

-     العام الظاهر، لكن دلالته هي الخصوص على غير ظاهره، مثل الآية173 من سورة آل عمران: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). يلاحظ هنا أن الدلالة تراوح بين الوضوح والغموض، فالغموض والوضوح في دلالة العموم على الخصوص لا يرتبط بطبيعة التركيب أو السياق، بل هو مرتبط أساسا بطبيعة المتلقي حسب الشافعي.

-     الظاهر الذي يعرف من سياقه أنه يراد به غير ظاهره، وقد فهم هذا النوع بظاهرة الحذف أو مجاز الحذف كما درسه اللغويون كالفراء وغيره.

-     تكلم العرب بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرفه بالإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لإنفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها. ويتجلى هذا في الاستعارة والكناية، ويعتبر هذا النوع من الدلالة من أعلى الأنماط لأن العلم به مقصور على أهل العلم دون الجهلة.

-     ما يتعلق بدلالة الألفاظ المفردة بواسطة الترادف، فالشيء الواحد بالأسماء الكثيرة. ما يتعلق بدلالة الألفاظ المفردة بواسطة الاشتراك، لأن للاسم الواحد معاني كثيرة.

إن تأسيس دلالة العموم والخصوص بهذا الشكل، كظاهرة لغوية وأصولية، له فائدة كبيرة بالنسبة للشافعي في ربط تأويل معنى النص المؤسّس باللسان العربي وحاجته إلى النص الشارح (الحديث). إنه ربط تأسيسي بين القرآن والحديث واللسان.

لكن ما يعاب عليه حسب أبو زيد، هو اعتماده في هذا التصنيف لأشكال الدلالة على تصنيف المتلقين، وليس على رصد آليات إنتاج الدلالة في بنية النص في حد ذاته؛ إضافة إلى ذلك اكتفاءه بشروح اللغويين والنحات والبلاغيين. أما الحقيقة المتوارية وراء كل ذلك، فهي محاولة تأسيس عروبة النص بالمعنى الذي يفيد أنه لا يوجد مدخل غير اللسان العربي (البيان) لفهم حقيقة الدين الإسلامي. وهذا في حد ذاته يتنافى مع مقصد كونية الدين، وإمكانية أن يتلوّن بثقافات أخرى غير الذهنية العربية. ولعل ما يزكي هذا نفوره من الشعوبية وتعصبه للغة والثقافة العربية القريشية، كما يؤكد صاحب الكتاب في بحثه هذا.

وفي الأخير يخلص الكاتب إلى أن الشافعي قد عمل على تسييج النص الديني بسياج اللغة، ولم يكتفي بذلك فقط، بل تمسك بحرفية النقل في مجال دلالة الحديث على القرآن، نافيا أهلية العقل في تأسس الدلالة، مكرسا بذلك مبدأ تباعد العقل والنقل وتعارضهما في مجال التأويل الدلالي للنصوص، ضاربا بعرض الحائط مبدأ الدلالة العقلية التي أسس لها بعض المتكلمة والنظار.

 إن أكبر مفارقة تلفيقية وضعها هذا الإمام، هي أنه قد أسّس بواسطة اجتهاداته وعقلانيته الأصولية لنفي العقل، ومن ثم تأسيس سلطة النصوص وتنافي العقلانية في مجال تأويل النص الديني مع إدراك المعاني الدينية إدراكا عقليا.

وحسب أبو زيد، لا مجال للتحرر من هذه السلطة (الثقافية) والهيمنة الدلالية النصية للنموذج الأصولي، إلا بالتحرر من الفهم الشافعيّي للنص الديني، وذلك بربطه بالسياقات التاريخية والثقافية التي أنتج فيها.

 فالثابت في العلوم الدينية، أنها كلها لا تخرج عن تلك السياقات التاريخية والثقافية التي انتجت فيها. إنها تاريخية، ولا تتعالى على الزمان والمكان والظروف والملابسات التي أنتجت فيها.

 

ذ. الحسين أخدوش.

باحث من المغرب

........................

 1 . اعتمدنا في هذا العرض على الطبعة الثانية لكتاب أبو زيد، نظرا لكونها تحتوي على مقدمة سجالية مع المعترضين لأطروحة الكاتب وخاصة منهم محمد بلتجي عميد كلية دار العلوم، وأستاذ الفقه وأصوله. أنظر الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجي الوسطية، مكتبة الدبولي-القاهرة، ط 2. 1996

 2 . يعتبر نصر حامد أبو زيد مفهوم النص أو النصوص من المفاهيم الأساسية التي ترتكز عليها منهجيته التأويلية للتراث الديني. ولعل هذا الفهم هو الذي دفعه إلى إعادة قراءة هذا التراث من زاوية تحليل الخطاب الديني وكشف العلاقة القائمة بين فهم النص وتملك السلطة والحقيقة، باعتبار هذا التملك إرادة معرفة وهيمنة. أنظر بهذا الخصوص كتابه: "النص والسلطة والحقيقة" الصادر عن المركز الثقافي العربي. الطبعة 5. 2006

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)

 

في المثقف اليوم