قضايا وآراء

المثلث العربي الفارسي التركي وهندسة المستقبل

غير أن التاريخ الحديث بدأ يتجاوز ما فيها من قيمة عملية بسبب "تكنولوجيا السرعة" التي بدأت تقرّب المستقبل وتجعله "حاضرا". مع ما يترتب عليه من تقليص درامي أحيانا بين الحاضر والمستقبل. بحيث يجعل من المستقبل حاضرا ومن الحاضر مستقبلا. وهو تداخل كان وما يزال يحكم المسار التاريخي للأمم. انطلاقا من أن حاضر الأمم هو مستقبلها. بمعنى توقف احدهما على الآخر.

وإذا كانت هذه الحصيلة تبدو فيما مضى جزء من "الخيال العلمي"، فإن السرعة الخارقة التي رافقت وما تزال ترافق الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية قد اختزلت تفاوت الأزمان. فالمسار الفعلي لتاريخ الأمم لم يعد مجرد ترابط حلقات مترامية للماضي والحاضر والمستقبل، بل وحدتهم الحية في الأفعال المبدعة. مما أدى إلى بلورة إحدى الحقائق المنطقية المثيرة القائلة، بأن الإبداع هو معيار المستقبل. الأمر الذي يجعل من الضروري إعادة النظر بحقيقة فكرة العبرة في تاريخ الأمم، ومن ثم توظيفها بما يخدم المستقبل. وليس المقصود بذلك سوى تحويل وجهة النظر السياسية للدولة والنخب صوب المستقبل. فالاهتمام بالعبرة الماضية يعني أن الدولة والأمة لم يتخلصا بعد من ثقل الماضي، مع ما يترتب عليه من ضعف أو فقدان للرؤية الإستراتيجية. وذلك لأن الإستراتيجية تخطيط للمستقبل. مما يفترض بدوره النظر إلى إشكاليات الحاضر بمعايير المستقبل.

ولا يعني ذلك تجاهل الماضي، بقدر ما يعني توظيفه العقلاني، أي نفيه بمشاريع مستقبلية نابعة من إدراك نقدي وعملي لتجارب الماضي. ومن ثم بناء وتأسيس مرجعيات كبرى بهذا الصدد. ولعل تأسيس مرجعية ما أدعوه بهندسة التاريخ والمستقبل في المثلث العربي الفارسي التركي من بين أكثرها أهمية. فهو المثلث الذي يمكنه أن يكون مختبرا لتوظيف تجارب الماضي في خدمة المستقبل. والمقصود بالمثلث العربي الفارسي التركي هو وحدة التاريخ الثقافي، والجغرافيا السياسية، ومشروع المستقبل للعرب والشعوب الإيرانية والتركية.

وهو مثلث لا يتعارض مع فكرة القومية (العربية والفارسية والتركية)، إذ لكل منها تاريخها الخاص ومستقبله الذاتي. بمعنى أن للفكرة القومية العربية، على سبيل المثال إشكالاتها الخاصة في كيفية إعادة بناءها الذاتي المستقل عن مشروع المثلث العربي الفارسي التركي. لكنه لا تتعارض معه، بل على العكس يمكنه المساهمة في تكاملهما. وينطبق هذا بالقدر ذاته على احتمال التكامل القومي المستقبلي للإيرانيين والأتراك. فالمشروع القومي العربي، يبقى الأكثر واقعية واحتمالا مقارنة بالمشروع الإيراني والتركي. فمشروع الشعوب الإيرانية أكثر تعقيدا من المشروع العربي بسبب الاختلافات الكثيرة بين الشعوب الإيرانية، من هنا تركيزي على أولوية "الفارسية" بوصفها إحدى البؤر الجوهرية للفكرة الإيرانية. أما بالنسبة لمشروع الوحدة القومية التركية العامة، أي مشروع وحدة الشعوب التركية فانه الأكثر تعقيدا مقارنة بالمشروع الإيراني والعربي. وذلك بسبب تراكم التاريخ الخاص والمستقل للشعوب التركية في قوميات شبه مستقلة. في حين يختلف الأمر اختلافا جوهريا بالنسبة للعرب. وذلك لاستحالة ظهور قوميات أو أمم عربية. إن ظهور وتطور الدولة العربية الجزئية الحديثة يحتوي، رغم كل مفارقة ومأساة حياتها العامة والخاصة مقارنة بالدولة الموحدة، على حتمية تكاملها في "الكل العربي" مع كل تكامل ذاتي. بمعنى أن تكامل الدولة العربية الجزئية الحديثة يحتوي في أعماقه على نزوع ضروري صوب تكاملها العربي العام. إذ ليست الفرقة والافتراق الحالي بين الدول العربية سوى الوجه الظاهري للفرقة الداخلية فيها، أي لعدم تكامل الدولة والمجتمع بمعايير الحداثة والتقدم. بعبارة أخرى، كلما تتكامل الدولة العربية الحديثة بمعايير الحداثة في ميادين الحكم السياسي والمجتمع والاقتصاد والثقافة، كلما تخطو درجة أرقى صوب إعادة وحدة الكل العربي. وذلك لان سبب الخلل الكبير في تعثر صيرورة الأمة العربية الحديثة يكمن في كونها لم ترتق إلى مصاف القومية الفعلية في ميدان الدولة الجزئية. وهي عملية يمكن رسم معالمها العامة بالشكل التالي: أن تكامل الدولة الجزئية (القطرية) بمعايير الحداثة يجعل منها مكونا طبيعيا للكل العربي، أي للفكرة القومية. وكل ارتقاء وتكامل جزئي لها وفي مناطقها الثقافية التاريخية الكبرى (وهي أربع مناطق - الهلال الخصيب ويشمل الشام والعراق، والجزيرة العربية، ومصر والسودان، والمغرب العربي) هو تكامل في صيرورة الأمة العربية. وبالتالي، فان مشروع الهندسة المطروح هنا يتمثل أساسا ما يمكن دعوته بخطة المرحلة الإستراتيجية التاريخية الأولية للتكامل الذاتي (العربي العام، والإيراني العام، والتركي العام)، أي كل ما يمكنه أن يصنع على المدى البعيد اتحاد راقي للأمم العربية والإيرانية والتركية، يستعيد تاريخهم الذاتي الموحد ولكن على أسس جديدة يمكن أن نطلق عليه اسم الخلافة الثقافية، أي خلافة التاريخ الذاتي ولكن على أسس اقتصادية حقوقية ثقافية عصرية. وهي عملية تتسم بقدر من التعقيد، لكنها واقعية حالما يجري وضعها ضمن إطار رؤية إستراتيجية سياسية للتكامل الاقتصادي والحقوقي. لاسيما وأنها رؤية تتمتع بتاريخ ثقافي مشترك، أي الأكثر أصالة وديمومة وتجردا بالنسبة لتمثل حقيقة المصالح القومية والدفاع عنها.

 

التاريخ الثقافي والجغرافيا السياسية

فالتاريخ الثقافي المشترك هو الإرث الأممي العام، أي ما فوق القومي. وفي الوقت نفسه هو احد مصادر الوعي القومي. بمعنى انه يحتوي بقدر واحد على وحدة القومي والأممي. كما أن قيمته المتسامية بالنسبة للجميع تستمد مقوماتها من طبيعته الثقافية العامة. فقد كانت الثقافة الإسلامية نتاجا مشتركا حيا لمختلف شعوبها، وبالأخص العربية والفارسية والتركية. كما أنها كانت نتاجا مشتركا ومتراكما في مجرى صيرورة الخلافة وصراعاتها الداخلية. فقد كانت الخلافة الغلاف الروحي الذي وّحد التاريخ الذاتي للعرب والفرس والأتراك. أما الصراع السياسي وتبّدل الدول ومراكز الخلافة والحروب العنيفة أحيانا والدرامية فيما بينها، فقد كانت جزء من تاريخ الخلافة السياسي. ولم يقف هذا التاريخ في كل مجراه المتنوع في يوم ما بالضد من وحدة الهموم الثقافية الكبرى. على العكس، لقد كان يمدها ويسندها بحرارة البيان وصدق الوجدان وقوة البرهان بالبقاء ضمن مرجعياته المتسامية. والسبب يكمن في أن مرجعيات الثقافة الإسلامية الكبرى هي مرجعيات متسامية بسبب طبيعتها الثقافية العامة وهمومها الكونية. والاستثناءات القليلة صغيرة من حيث القيمة والمعنى والتأثير. بل أنها كانت تظهر وتذوب كما لو أنها ومضات عابرة للغلو الروحي والعقائدي على ضفاف المجرى العام للثقافة الإسلامية. وفي هذا يكمن سبب بقاء الكلّ الثقافي الإسلامي حيا في جميع مكونات الوعي التاريخي والذاتي للعرب والفرس والأتراك.

أما الجغرافيا السياسية، فإنها بقت كما كانت فيما مضى تدور حول المشرق العربي (الهلال الخصيب والجزيرة) وإيران وتركيا. وهي مكونات مترابطة لما قبل التاريخ الإسلامي بوصفها جغرافية مفككة لا يجمعها غير صيرورة الدول وانحلالها. لكنها كانت محكومة أيضا بالوحدة الإمبراطورية وبالأخص ما يتعلق منه بالعلاقة العربية (وادي الرافدين) والفارسية. وقد أعطت الخلافة العربية الإسلامية لهذه العلاقة بعدا روحيا ثقافيا يتسامى على أزمان الصراع والخلافات القديمة والمعاصرة أيضا. وفي مجرى هذا الصيرورة الثقافية الروحية جرى الاندماج العضوي للشعوب التركية في عالم الإسلام السياسي والثقافي. مما جعل من أراضي الأتراك (ما وراء النهر، ثم تركستان وأخيرا آسيا الوسطى) كواكب دائرة في أفلاك "دار الإسلام". وتوجت هذه العملية في صعود وانحلال السلطنة العثمانية. والنتيجة هي الرجوع إلى حالة تتسم بقدر هائل من التفكك الجيوسياسي للدول والقوميات. بمعنى إننا نقف أمام دول عديدة مختلفة ومتصارعة ومتناحرة أحيانا بين العرب (الدول العربية) والفرس (إيران وطاجكستان) والأتراك (دول آسيا الوسطى وتركيا). وتعكس هذه الحالة المسار المعقد لانحلال الإمبراطوريات الإسلامية، والصعود الأوربي، وظاهرة الاستعمار الغربي (الأوربي ثم الأمريكي)، والصعود القومي الحديث. لكنها أبقت على مكونات البؤرة الجيوسياسية للكلّ الإسلامي في تماس جغرافي سياسي حيوي. من هنا اتسامه أيضا بقدر كبير من الحساسية أحيانا والخلاف أحيانا أخرى، بحيث بلغت في حالات معينة درجة الحرب المدمرة (كما جرت على امتداد عقود بين إيران والعراق) والتوتر الحامي (كما كان لفترة طويلة بين تركيا وسوريا) والتوتر الدفين (بين إيران والعراق، وبينها وبين دول الخليج العربية بشكل عام والإمارات العربية المتحدة بشكل خاص). ولكل خلاف وحرب وتوتر أسبابه الخاصة. لكنها أسباب جزئية، حالما يجري النظر إليها بمعايير التاريخ الثقافي والجغرافيا السياسية. بمعنى حالما يجري النظر إليها بمعايير البدائل المنطلقة من أهمية وجوهرية التاريخ الثقافي والتماس الجغرافي بالنسبة لتعايش الأمم والمصالح. فهما المكونان الجوهريان الذي يجبران اشد القوى المتصارعة في نهاية المطاف للبحث عن صيغة تبرّد حرارة الاحتكاك التاريخي.

فالتجربة التاريخية للأمم تكشف عن أن اشد أنواع الصراع تكمن في مناطق التماس الجغرافي والسياسي والثقافي. وكلما تكون الأمم متباعدة فيما بينهما كلما تخف إمكانية الخلاف بسبب انعدام التاريخ المشترك بينها. والاستثناء الوحيد هو حالة العالم المعاصر بسبب القدرة الكامنة للتكنولوجيا في تذليل المسافة والزمن. بحيث يمكنها أن تجعل الخلاف والصراع المادي والمعنوي عنيفا في ظل التماس المباشر أو الفرضي. (كما جرى بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة).

وبما أن تاريخ الدولة هو تاريخ القوة والسيطرة، من هنا تراكم شحنات الخلاف الكبرى في مجرى التماس السياسي والقومي للدول. وبالتالي ليس الخلاف العميق أحيانا، والمتغلغل في أعمق أعماق النفس البشرية والوعي السياسي واللاوعي الاجتماعي بين العرب والفرس والأتراك، سوى الوجه الآخر لعمق التاريخ السياسي والثقافي المشترك.

فقد كان التاريخ العربي والفارسي والتركي على امتداد آلاف السنين يتمثل بصورة نموذجية ما أسميته بالاحتكاك التاريخي الثقافي والقومي للأمم والدول. وكلما يكون التاريخ المشترك بين الأمم أكثر عمقا وأطول زمنا واشد تداخلا كلما يكون الخلاف أوسع وأكثر تغلغلا. وفي الوقت نفسه ليس هذا "الأثر الطارئ" سوى النتاج السيئ الذي عادة ما يرافق ويلازم الفضائل الكبرى القائمة في وحدة التاريخ الثقافي والسياسي المشترك. وليس مصادفة أن تكون كمية ونوعية الخلافات بين العرب والفرس أوسع وأكثر تغلغلا. وهو "الأثر الطارئ" الذي رافق ويرافق عمق، وطول، وسعة التداخل التاريخي الثقافي بينهما. إذ يمكننا القول باستحالة فصم أو تفرقة التاريخ الثقافي والسياسي للعرب والفرس على امتداد ألوف السنين. كما يصعب فصم عرى المستقبل الكامن فيه. وفي هذا يكمن أحد المصادر الكبرى للخلافات الحادة أحيانا بين مكونات هذه المثلث.

لكن إذا كانت الخلافات السابقة جزء من صيرورة الإمبراطوريات وإعادة توطين "المركز السياسي"، فإنها الآن جزء من صيرورة البنية الخاصة للدولة القومية. من هنا يمكن رؤية سبب الخلافات الحدة بين العالم العربي والإيراني، بسبب التماس الجغرافي الأكبر، ومن ثم التماس الأوسع للمصالح المتنازعة والملازمة للدولة الحديثة والقومية ما لم يتكاملا بمعايير الحقوق والاقتصاد. وهي العملية التي لم تكتمل في كل من العالمين العربي والإيراني. كما تعاني من نواقص جدية في تركيا. من هنا الإثارة والحساسية الكامنة في كل منهم تجاه الآخر. وإذا كان التوتر في اغلبه بين إيران والدول العربية، فان السبب يقوم أولا وقبل كل شيء في أن إيران دولة موحدة لكنها متعددة القوميات والأجناس، بينما الدول العربية عادة ما تتصف بالقومية الواحدة كما هو الحال في (الجزيرة وسوريا) أو شبه قومية واحدة (العراق) لكنها مجزأة على مستوى الدولة والنظم السياسية. فهي تعاني من ضعف تكامل وتجانس الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة العصرية على مستوى "الدولة الجزئية (القطرية) وفيما بينها ككل، أي أنها لا تشعر ولا تعمل بوصفها كلا قوميا واحدا.

أن هذا التباين الفعلي والتاريخي القائم حاليا هو جزء من تجزئة التاريخ المشترك للعالم العربي الإيراني التركي. كما انه جزء من صراع الصيرورة الكونية الحديثة ومخلفات الاستعمار واحتمالات البدائل القائمة في الدولة القومية الحديثة. ولعل تجربة قرن من الزمن لهذه العوالم الثلاث كشفت عن أن كل خطوة تخطوها الأمم في تاريخها الذاتي والتاريخ العالمي ككل هو خطوة أيضا صوب المصادر الأولى. وهي حقيقة يمكنها أن تتحول مع مرور الزمن وتعمق الرؤية الإستراتيجية العقلانية والواقعية إلى بديهيات سياسية، يمكن تحسس معالمها الأولية حالما نتتبع طبيعة القوى الكامنة والفاعلة في تراكم عناصر ما أسميته بالرجوع إلى المصادر الأولى في التاريخ السياسي الحديث لإيران وتركيا والعالم العربي.

 

إيران والعالم العربي- فوضى المصالح وإستراتجية التنسيق الأمثل

"القضية الإيرانية" مشكلة عابرة أم معضلة مزمنة

إن تأمل مظاهر الوجود تكشف عن أن المشاكل هي أيضا أسلوب وجود الأفراد والجماعات والدول والأمم. غير أن المشاكل حالما تتعثر وتتعقد وتتراكم في دهاليز مغلقة، عندها تصبح معضلة. والفرق بينهما يقوم في أن المشكلة قابلة للحل عبر حلول واقعية وعقلانية، بينما المعضلة عادة ما تعيد إنتاج نفسها بسبب انغلاق مكوناتها.

فقد كانت "القضية العراقية" في طي الغيب عندما جرت الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات، وتحولت إلى مشكلة بعد انتهاء الحرب في التسعينيات، ثم أصبحت معضلة بعد غزو الكويت. وهي حلقات، كما تكشف الرؤية النقدية والمتفحصة للأحداث والوقائع والوثائق، عن أنها لم تكن معزولة عن انغلاق النظام السياسي العراقي وأزمته البنيوية الشاملة من جهة، وعن التخطيط الاستراتيجي للسياسة الأمريكية القائمة على مبدأ "التحكم بالأزمة" من جهة أخرى.

إذ تتمثل السياسة الأمريكية الحالية تجاه إيران من حيث الجوهر نفس عناصرها المكونة في التحضير لغزو العراق، بمعنى الاعتماد على أفكار ثلاثة متغيرة الأشكال. ففي الحالة العراقية كانت ثلاثية "النظام الدكتاتوري" و"دعم الإرهاب" (القاعدة) و"أسلحة الدمار الشامل"، وفي الحالة الإيرانية ثلاثية "محور الشر" و"دعم الإرهاب" (حزب الله) و"المشروع النووي". كما أنها تجري في نفس المنطقة (الخليج) وتحت غطاء واحد هو "الدفاع عن الخليج" من "الخطر العراقي" سابقا، و"الخطر الإيراني" الآن. وهي حلقات لا يمكنها الانتهاء، حتى في حال أسوء التوقعات القائمة في الحرب على إيران وخلخلة نظامها السياسي، بالوقوف عند هذا الحد. فكما أن العراق لم يكن سوى بداية تنفيذ الحلم الأمريكي القديم في السيطرة التامة على الخليج، فان إيران ليست نهايته! بعبارة أخرى، إن السياسة الأمريكية لا تنتهي عند حدود إيران. والقضية هنا ليست فقط في من هو "القادم"، بل وبطابعها المخرب بالنسبة لبنية التراكم الذاتي للمنطقة وقدرتها الذاتية على إدارة شئونها الذاتية بنفسها. وهي حالة تستعيد على مستوى تكنولوجي رفيع وثقافة تلازمها نفسية وذهنية القرن السابع عشر – العشرين الاستعمارية تجاه منطقة الخليج.

لكن إذا كان النجاح المبتور لهذه السياسة الأمريكية في العراق مرتبطا أيضا بصعود "النجم الأمريكي" و"القطب الواحد" و"الدعم المعنوي" الهائل الذي حصلت عليه الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، فان مساعي تحويل "القضية الإيرانية" إلى مشكلة ومنها إلى معضلة تجعل من الممكن حسمها بالطريقة الأفغانية والعراقية، لم تعد سهلة. وهي الحالة التي يمكن رؤية ملامحها في تشدد الدعاية الأمريكية وسياستها المعلنة تجاه إيران وضعف الأرضية الواقعية لتكرار السيناريو العراقي.

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام حالة حرجة لم تحسم فيها بعد تحويل "القضية الإيرانية" إلى معضلة لا مفر أمامها من "الحسم النهائي". والسبب يكمن أساسا في تفاعل أربعة عوامل كبرى وهي

1.   إن النظام السياسي الإيراني لا يعاني من أزمة بنيوية. كما انه يتمتع بقوة الترابط الفعال بين فكرة الدولة والقومية والوحدة الثقافية للشعوب الإيرانية.

2.   إن الدولة الإيرانية ونظامها السياسي الجديد (الحكومة الإسلامية) لم تقترف أخطاء إستراتيجية في المنطقة.

3.   مساعي إيران المتجانسة للدفاع عن مصالحها القومية عبر بناء تحالفات إقليمية ودولية في المنطقة خارج هيمنة الولايات المتحدة.

4.   تغير الحالة الدولية عما كان عليه الحال قبل غزو العراق. فقد كان غزو العراق مرتبطا ببداية "القطب الواحد" بينما تأجيج "القضية الإيرانية" يجري في مرحلة نهاية "القطب الواحد".

إن النظام السياسي الإيراني يتمتع بقدر كبير من القدرة الذاتية على تمثل الكل الإيراني المتناقض. بمعنى انه يمتلك من الكفاءة المرنة والمحكومة بتقاليد التراث القومي والإسلامي ما يعينه ويكفيه لحد ما على تذليل حدة الصراعات القومية والعرقية. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن القومية الفارسية هي اقل من نصف سكان إيران، وان البقية الباقية تتوزع ما بين أذريين وعرب وأكراد وبلوش ولوريين وغيرهم من مختلف الأعراق الصغيرة المتركزة في مناطق جغرافية لحالها، فمن الممكن توقع حالة "التوازن الهش" في هذه المعادلة. فقد كانت هذه المعادلة محكومة زمن النظام الشاهنشاهي بقوة القومية العرقية والعنف المنظم، بينما قدم النظام الإسلامي صيغة أكثر مرونة، رغم أنها لم تتخلص من بقايا القومية العرقية والعنف المنظم، في تنظيم وترتيب الكل الإيراني والداخل الوطني. من هنا قلة الفتن الداخلية وإمكانية تصديرها إلى الخارج.

بعبارة أخرى، إن النظام الإيراني الإسلامي الحالي يتمتع بقدرة نسبية جيدة على التحكم بالاختلافات الداخلية، ويحّيد إمكانية استعمالها الخارجي، على عكس ما كان عليه الأمر في العراق قبل الغزو الأمريكي. وهي إمكانية ليست معزولة عن طبيعة الأيديولوجية الإسلامية المتسامية (الأممية) والتوحد المذهبي. وكلاهما يمتلكان، إلى جانب تاريخ مديد من وحدة الدولة والقومية، على قدرة كبيرة في مواجهة "الأخطار الخارجية" و"الأعداء". وهي مظاهر يمكن رؤيتها في مجرى الحرب العراقية الإيرانية. فقد خان أكراد العراق المصالح الوطنية العليا من خلال إسنادهم إيران، بينما لم نر شيا مثيلا له من جانب أكراد إيران تجاه العراق. بل أن عرب الاحواز لم يقفوا إلى جانب العراق في تلك الحرب. طبعا أن ذلك لا ينفي وجود أو حدة الصراعات القومية والعرقية، بقدر ما يشير إلى ما أسميته بالكفاءة الذاتية للنظام الحالي في التحكم بالخلافات الداخلية وتوظيفها المناسب في خدمة المصالح العامة للدولة والقومية، أي التوظيف النفعي للدين والقومية. الأمر الذي نعثر عليه أيضا في تجنيب الدولة اقتراف أخطاء إستراتيجية كبرى على الصعيد الداخلي والخارجي. فإذا كان النظام الصدامي قد حول نتائج الحرب العراقية الإيرانية صوب الكويت وتأزم أوضاع منطقة الخليج والعالم العربي ككل وشق صفوفه بصورة لا مثيل لها، فان السياسة الإيرانية توجهت صوب توحيد الكل الإيراني وإعادة بناء الدولة وقوتها العسكرية والاقتصادية. وهو بناء يتسم بقدر من الرؤية المرنة للعقائدية المتزمتة والواقعية السياسية. من هنا تمسكها بقيمها ومبادئها الخاصة، والعمل على إيجاد منافذ لها من محاولات غلق الحدود عليها. وتحملت إيران في مجرى عقدين من الزمن (ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين) من هذه الحالة الصعبة. لكنها استطاعت في نهاية المطاف من البقاء خارج أهداف النزاع العسكري مع الولايات المتحدة، رغم اندراجها، على عكس العراق آنذاك، ضمن "محور الشر" العالمي. ولم يكن ذلك معزولا عن قوة إيران الذاتية وتماسكها الداخلي النسبي، وعن مرونتها الواقعية ودبلوماسيتها الطويلة النفس.

لقد استطاعت إيران تجاوز "العقد القاسي" لمرحلة "القطب الواحد". وعملت في مجراه على تنظيم سياستها الإقليمية بالشكل الذي يجعلها اقرب إلى روسيا والصين، بوصفها القوى المحتملة والقابلة والمستعدة لإيقاف المد الأمريكي على المدى البعيد. بينما كشفت الأحداث التي رافقت تدمير القوات الجورجية في مجرى الحرب الروسية - الجورجية الأخيرة عن تسارع وبروز الدعوة العلنية والسياسية الصارمة عما يسمى بضرورة إنهاء عالم "القطب الواحد" وظهور عالم "متعدد الأقطاب". وبهذا تكون إيران قد حصلت على منافذ جديدة وتأييد سياسي وعسكري محتمل وقوي في الدفاع عن مصالحها الوطنية والإقليمية.

 

"الخطر الإيراني" وعقدة الأمن الإيرانية

لقد خرجت إيران من نفق المرحلة القاسية للعقد الأخير من مرحلة "القطب الواحد"، أي مع بداية القرن الحادي والعشرين، دون أن يعني ذلك خروجها من حالة "القضية الإيرانية". بعبارة أخرى، إن "القضية الإيرانية" تفقد احتمال تحولها إلى معضلة، لكنها مازالت في حالة المشكلة الإقليمية الحرجة. وفي هذا يكمن احد الأسباب الكبرى لحقيقة "الخطر الإيراني". إذ "للخطر الإيراني" بعيدين، الأول يقوم بذاته، كما هو الحال بالنسبة لكل دولة ذات مصالح إقليمية لم تترتب بعد في منظومة معقولة ومقبولة لأطرافها جميعا، وبعد خارجي (إقليمي وعالمي).

فقد كان البعد الذاتي للعقدة الإيرانية وما يزال محكوما بهاجس الأمن والنزوع الإمبراطوري. فإذا كانت مساعي الشاه تبدو جلية بهذا الصدد، فان النظام الإسلامي قد استبدلها أول الأمر بمبدأ "تصدير الثورة"، ولاحقا بفكرة القوة الذاتية. وكلاهما تهذبا وتغيرا في مجرى الحرب الطاحنة مع العراق والتوتر العنيف في صراعها مع الولايات المتحدة. فقد دعمت الولايات المتحدة العراق في حربه مع إيران، لكنها افترست العراق "العلماني" وليس إيران "الإسلامية". ولم يكن ذلك بسبب "أسلحة الدمار الشامل" و"الإصلاح الديمقراطي" وما شابه ذلك، بقدر ما انه كان مصاب بضعف شامل ووهن قاتل. وهو الدرس الذي تعلمته إيران بصورة جيدة بعد الحرب مع العراق. فقد جعل العراق من كل محيطه عدوا، بينما تحولت إيران صوب نفسها. وبالتالي جعلت من قضية الأمن عقدتها وعقيدتها. وهي ظاهرة ليست معزولة أيضا عن طبيعة التوتر الداخلي بسبب كثرة المشاكل والصراعات الداخلية (عقائدية وسياسية وقومية وعرقية) ونتائج الحرب مع العراق، وردود الفعل المتنوعة تجاه فكرة "تصدير الثورة الإسلامية"، والحصار الخارجي، وأخيرا "المشروع النووي".

بعبارة أخرى، ليس "الخطر الإيراني" في الواقع سوى الصيغة المقلوبة للتوتر الإيراني الداخلي بسبب عدم تكامل الدولة والأمة والجغرافيا السياسية. بمعنى كثرة المشاكل الداخلية المتنوعة واحتمالاتها السيئة، إضافة إلى القلق الإقليمي. فهي شأن تركيا وإسرائيل بهذا الصدد تعاني من قلق إقليمي بسبب كثرة مشاكلها وصراعاتها بهذا الصدد. وهو السبب الذي جعل ويجعل منها قوة متوترة تحتمل الخطر دون أن تتطابق معه. من هنا عدم دقة الحديث عن "خطر إيراني". فالدول جميعا تحتمل الخطر في أعماقها. غير أن مداه وواقعيته تتحدد بطبيعة المرحلة وتوازن القوى الإقليمي والحالة الدولية. وهذه جميعها ليست لصالح إيران، مما يجعل منها في حالات عديدة في موقع المترقب والمتوجس. ومن ثم يطبع سلوكها بقدر من التشنج وانعدام الواقعية والعقلانية، كما هو الحال على سبيل المثال في الموقف من قضية الجزر الثلاث الإماراتية والتدخل السافر والمستتر في شئون العراق الداخلية بعد الغزو الأمريكي.

أما البعد الخارجي، فانه يحفز ويثير عقدة الخوف الإيرانية. فعلى النطاق الإقليمي هي عقدة مزدوجة إيرانية – عربية، وإيرانية - تركية، وإيرانية - أذربيجانية، وإيرانية - أفغانية. وهو مؤشر يكشف عن طبيعة الخلل العام في البنية الإقليمية للمنطقة أكثر مما يشير إلى "الخطر الإيراني".

وفيما يخص العالم العربي بشكل عام والخليج بشكل خاص، فان المسار الإيراني صوبهما هو جزء من رؤيتها الإستراتيجية. فالعالم العربي يبقى في نهاية المطاف، إضافة إلى العالم الإيراني، الامتداد الأوسع لتنفسها الاقتصادي والثقافي والروحي. وفي هذا تكمن المحددات العميقة لسياستها تجاه العالم العربي. من هنا تدخلها المتنوع، شأن جميع الدول، في الحياة السياسية للعراق وسوريا ولبنان والخليج واليمن. وفي تدخلها تجعل العالم العربي مكونا من مكونات حياتها السياسية الداخلية. وبالتالي لا معنى للحديث عما يسمى بخطر "الهلال الشيعي" الذي ترعاه إيران. فالسياسة الإقليمية لإيران محكومة برؤية إستراتيجية، لا تخلو من المذهبية، لكنه ليس عاملا حاسما. وذلك لان المذهبية في النظام السياسي الإيراني الحالي جزء من أيديولوجية الدولة القومية. ذلك يعني انه يؤدي وظيفة عملية خاضعة وليست محددة وأساسية. وهو أمر جلي حالما ننظر إلى طبيعة ومستوى علاقتها بالدول المجاورة مثل الصين وروسيا وتركيا. 

أما البعد الخارجي "للعقدة الإيرانية" على المستوى العالمي، فانه محكوم بالموقف الأمريكي والإسرائيلي، وإثارتهما الدائمة لفكرة "الخطر الإيراني". وهي إثارة محكومة، كما كان الحال بالنسبة للعراق ومنطقة الخليج عموما، بمبدأ الأزمة الخاضعة للرقابة! وهو مبدأ يتمثل إستراتيجية التحكم الدائم بالمنطقة من خلال إثارة عقدة الأمن فيها والخوف من "الإخطار الخارجية". بمعنى إثارة المشكلة والتحكم الدائم بها من اجل الاستحكام بالجميع والعمل حسب قاعدة "تنظيم" المشاكل وتفعيلها وقت الضرورة. وهي نفسية وذهنية إسرائيلية بحتة. وليس مصادفة أن تتطابق المواقف الأمريكية والإسرائيلية بنسبة 100% بهذا الصدد على الأقل قبل التغير المرتقب بعد صعود براك اوباما إلى السلطة وسقوط نموذج المحافظين الجدد.

وقد عملت ما يسمى بمراكز الدراسات الإستراتيجية – (الأمريكية – اليهودية) بصورة دائمة على إثارة قضية "الخطر الإيراني" من خلال الدراسات والأبحاث والمؤتمرات المخصصة لقضايا القدرات العسكرية الإيرانية، والقنبلة النووية الإيرانية، والحرس الثوري، وتصدير الثورة، والعمليات السرية، والهلال الشيعي، ومستلزمات الردع، أي المطالبة بحليف قوي (أمريكي) وما شابه ذلك. ليس ذلك فحسب، بل وبلغ الأمر مرة أن جرى النقاش الحامي "العلمي" والسياسي حول القصة – الخرافة التي أطلقها برنارد لويس وهو في عمر يناهز التسعين عاما عندما كتب يقول، بان إيران سوف تشن هجوما يوم 27 رجب عام 1427 كما لو أنها تستوحي ذلك من يوم الإسراء والمعراج في تحديها لغير المسلمين!

إن الإثارة الدعائية عن "الخطر الإيراني" بالصيغة التي تتناولها الدعاية الأمريكية والإعلام الغربي هو أولا وقبل كل شيء جزء من معترك مصالحها الدولية في منطقة الخليج والمشرق العربي. وهي مصالح تعتقد، بان القضاء على العراق وإيران أو تحييدهما سيجعل من المنطقة صحراء قاحلة من التحدي لمشاريعها الساعية للهيمنة على المنطقة. غير أن التجربة العراقية كشفت عن هشاشة هذه الفكرة. مع أن الأمور تجري في بدايتها. بينما "القضية الإيرانية" اشد تعقيد بما لا يقاس. وليست الدعوات المتكررة واستعراض مختلف سيناريوهات الحرب الأمريكية والإسرائيلية على إيران سوى جزء من مخطط الإثارة الدائمة للازمات والتحكم بها من اجل استغلالها وقت الضرورة. لكنها إثارة واقعية وتحتوي أيضا على كوامن فعلية قادرة على الاشتباك. إذ توجد في الخليج الآن حوالي 40 قطعة بحرية تابعة لحلف الأطلسي. كما تضرب القوات الأمريكية بين فترة وأخرى "طالبان" في باكستان بوصفها رسائل غير مباشرة لإيران. وبالمقابل تقوم إيران بسلسلة من الإجراءات العسكرية للبرهنة على نمو قدرتها الدفاعية واستعدادها لمواجهة أي "خطر خارجي" مهما كان مستواه ومصدره.

إن المواجهة الحادة والعنيفة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، يكشف عن طبيعة البعد الخارجي (الدولي) لعقدة الأمن الإيرانية. وهي عقدة لها مقدماتها وشواهدها العملية في العراق. ومن تكامل هذين البعدين لعقدة الأمن الإيرانية ينبغي النظر إلى ما يسمى بالخطر الإيراني. وقد يكون الموقف مما يسمى بالمشروع النووي الإيراني احد مظاهره الصارخة.

مما سبق نستطيع القول، بان إيران تقف أمام تهديد متنوع المستويات، داخلي وخارجي بحيث حدد لدرجة كبيرة رؤيتها للأمن. بل يمكننا القول، بان سلوك الدولة الإيرانية الحالية محكوم بفكرة الأمن. لكنه سلوك متنوع ويتسم بالمرونة أيضا. وقد يكون موقفها من المشروع النووي احد النماذج الحية. أنها استطاعت أن تتلافى المصير الذي تعرض له المشروع العراقي وقبله المصري. فقد بدأت مصر مع الهند تجربتها بهذا الصدد قبل خمسين عاما. وتمتلك الهند الآن 30 رأسا نوويا، وقدرة على إنتاج وتركيب محطة نووية بمفردها دون الاعتماد على مساعدات خارجية. أما مصر فلا شيء! كما أنه ليس مصادفة أن يكون "خطر المشروع النووي" الإيراني أكثر من يتحسس منه إسرائيل، التي تمتلك رؤؤسا نووية عديدة.

ومهما تكن النوايا والرؤية السياسية المختلفة بهذا الصدد، فان جوهر الحال يقوم في أن إيران استطاعت لحالها مواجهة الأخطار التي تواجهها الداخلية منها والخارجية، أو على الأقل أنها تتميز بنموذج يتسم بقدر كبير من الجدية والمواظبة في الدفاع عن مصالحها القومية. إضافة إلى قدرتها الخاصة بالدفاع الذاتي عن مصالحها. وهو الدرس الذي لم يتعلمه العالم العربي بعد، ولم يستطع لحد الآن الإجابة عليه بالشكل الذي يجعله قادرا أيضا على تذليل أوهام وواقعية "الخطر الإيراني".

 

السياسة الإيرانية الإقليمية ولعبة المصالح العالمية

إن السياسة الإقليمية الإيرانية لها محدداتها الداخلية والخارجية. بمعنى أن إيران تدرك ثقلها الإقليمي، وبالقدر ذاته تسعى لجعله أمرا مقرورا به دون الوقوع في حالة الخضوع للقوى الخارجية. وهو سلوك محكوم بطبيعة التحول الأيديولوجي للنظام السياسي بعد "الثورة الإسلامية"، وتغير معالم رؤيته للأمن بشكل عام والقومي بشكل خاص. وهو الشيء الذي يمكن رؤيته على سبيل المثال في آخر المواقف الإيرانية من دورها الإقليمي في مجرى ردها غير المباشر على المشروع التركي (المدعوم من جانب الولايات المتحدة زمن بوش) فيما يسمى بمشروع الحلف القوقازي من اجل السلام في المنطقة. وهو مشروع لم يذكر إيران بوصفها احد مكوناته. بينما قدمت إيران رؤيتها الخاصة بهذا الصدد من خلال مشروع ما يسمى 3+3 (بلدان جنوب القوقاز الثلاثة جورجيا – أرمينيا - أذربيجان + روسيا – تركيا - إيران). بمعنى دعوتها للأمن من خلال تفعيل العلاقات الإقليمية. وإذا كانت الولايات المتحدة آنذاك تقف بالضد من هذا المشروع، فان الموقف الروسي لم يجر حسمه بصورة نهائية بعد. ولكل منهما أسبابه الخاصة. وفيما يتعلق بالموقف والرؤية الإيرانية فإنها محكومة بالبحث عن نسبة في الأمن والمصالح الإقليمية تستجيب لمصالحها القومية. وهي مصالح أخذت ترسخ أكثر فأكثر في الفترة الأخيرة، وبالأخص بعد الحرب الروسية الجورجية الأخيرة، صوب المحور الروسي الصيني الآسيوي. وهو توجه تشجعه روسيا وتدعمه من الناحية السياسية والدبلوماسية والعسكرية أيضا. ومع انه لم يتحول إلى مشروع حلف مباشر، لكنه اخذ يمتلئ ببعض مكوناته. وهي مكونات قابلة للتوسع والتنظيم في حالة ازدياد الحصار الأطلسي لإيران. وبغض النظر عن وجود موقفين روسيين متناقضتين بهذا الصدد، الأول يقول بان الاتفاق مع إيران خراب لروسيا، والثاني يعتقد بان ذلك سيغير الخارطة الجيوسياسية في العالم (أو على الأقل في المنطقة).

غير أن القيمة الكبرى والأثر الفعلي لآلية وآفاق السياسية الإقليمية لإيران تبقى مرتبطة ومرهونة بالعالم العربي بشكل عام وبالعراق وسوريا ودول الخليج العربية بشكل خاص، أي بمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة. وهو ارتباط محكوم بالتاريخ والجغرافيا والثقافة. فإذا كان التاريخ القديم جزء من معترك الإمبراطوريات والوحدة الثقافية، وبالأخص في مرحلة الخلافة، فان التاريخ الحديث والمعاصر محكوم بصعود الفكرة القومية ومصالح الدولة. وهي مكونات غير متناقضة في حال وضعها ضمن سياقها السليم. لكن التجربة التاريخية للأمم الحديثة جميعا تبرهن على أن بلوغ الحد الضروري لأدراك القواسم المشتركة يفترض المرور بدروب الآلام القومية ومعترك تكاملها الذاتي. ومن ثم لا يمكن بلوغ الوفاق القومي التام بين الدول قبل أن يبلغ أيا منها وفاقها الفعلي مع النفس على مستوى الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. حينذاك فقط يمكن أن تتراكم وتنتظم قواعد الحالة المثلى للمصالح المتبادلة. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى كمية ونوعية الاختلافات والأزمات الإقليمية بين إيران والعراق ودول الخليج العربية. وهو السبب الذي يفسر تأزم العلاقة أو عدم بلوغها حالة الإدراك العملي للحد الضروري للمصالح المتبادلة، ومن ثم ترتيبها حسب منظومة ملزمة للجميع. من هنا بقاء المشاكل العالقة كما هي بغض النظر عن اختلاف النظم السياسية. فقد بقيت العلاقة تتسم بالتوتر والخلاف بين العراق وإيران بغض النظر عن اختلاف النظم السياسية الملكية والشاهنشاهية والجمهورية الدنيوية(العلمانية) والدينية (الإسلامية). والشيء نفسه يمكن قوله عن الخلاف مع دولة الإمارات المتحدة حول الجزر الثلاث (أبو موسى، وطنب الكبرى والصغرى). ذلك يعني أن قضايا الخلاف لا ترتبط بوجود صفات لا تتغير عند الطرفين أيا كان شكل الاتهام، بقدر ما انه يشير إلى ضعف تكامل الدولة والقومية بمعايير المعاصرة والحداثة. وهي حالة يمكن العثور عليها في اغلب تجارب الأمم الحديثة، أي أنها لا تخلو من لمحات ومراحل درامية وقاسية، كما كان الحال على سبيل المثال في مجرى الحرب العراقية - الإيرانية وصداها القائم لحد الآن في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والخطاب الشعوبي.

ذلك يعني أن طبيعة الصراع الإقليمي بين إيران والدول العربية مازال محكوما بعدم تكامل الدولة والقومية عند الجميع. مع ما يترتب عليه من إدراك الحدود الذاتية لكل منهما. وعموما يمكننا القول، بان العالم العربي وإيران لم يرتقيا بعد إلى مصاف البحث عن بدائل في التطور تتجاوز حدود وقيمة "جغرافيا الدولة" إلى عالم التنمية البشرية والعلم والتكنولوجيا. فالعراق هو تاريخ مبعثر ونظم سياسية متخلفة وانعدام مرجعيات. بينما دول الخليج العربية هو تاريخ متراكم ونظم سياسية ثابتة ومرجعيات جزئية (محلية). أما إيران فهي تاريخ متعثر وضعف استقرار سياسي لكنه متراكم بمعايير فكرة الدولة والقومية. ذلك يعني إننا نقف أمام اختلاف وتباين في المكونات الجوهرية للدولة والأمة في مثلث العراق – إيران – دول الخليج، الذي جعل من الممكن تحويل الخليج من بحيرة مغلقة إلى بحر هائج أمام التدخل الأجنبي. وبالتالي جعله قابلا لأن يكون مادة لتجريب مختلف نماذج "الفوضى الخلاقة" بوصفها الصيغة الأيديولوجية "لإدارة المشاكل الدائمة". وليس مصادفة على سبيل المثال أن تتكلم الولايات المتحدة (حتى زمن بوش) مع كوريا الشمالية وترفض الحديث مع إيران. طبعا أن لهذه الصدود مقدماتها وأسبابها الخاصة، إلا أنها تعكس أولا وقبل كل شيء استمرار وبقايا الرؤية الكولونيالية (البريطانية) في السياسة الأمريكية، بوصفها مرحلة مكملة لنفسية وذهنية الهيمنة على المنطقة ومقدراتها (النفط). من هنا فاعلية "الأزمة الدائمة" والتحكم بها، بحيث تصبح مكونات ومقدرات المنطقة أشبه ما تكون بكبش فداء يمكن تقديمه عند الضرورة!

أن التحرر من حالة "كبش الفداء" يفترض بلوغ وتجسيد البدائل العقلانية المتعلقة بادراك واقع وآفاق المصالح العامة والخاصة للدولة العربية في العراق وسوريا والخليج. وهي بدائل يصعب تجسيدها ما لم يجري تحرير المنطقة من منطق العداء والاختلاف اللاعقلاني، بوصفه الصانع المحنك لمختلف عقد الخوف والاتهام وما شابه ذلك من غريزة الجسد المنهك! وهي عقد عادة ما يجري توظيفها في صراع "القوى الكبرى" في منطقة الخليج لما لها من أهمية عالمية.

وفيما لو جرى إنزال هذه العبارة إلى الميدان السياسي، فان ذلك يفترض إعادة النظر النقدية المشتركة بالتجربة التاريخية للمنطقة ككل، وبالأخص في مجال الرؤية والممارسة السياسية. وذلك لأن تاريخ الخلاف والعداء الطويل نسبيا بين إيران والعالم العربي لا يمكن تذليله بسرعة. بل لا يمكن تذليله ما لم تتكامل الدولة والنظام السياسي والمجتمع بمعايير الثقافة العقلانية.

وقد يكون من السابق لأوانه الحديث عن إدراك نقدي يرتقي إلى هذا المستوى، كما نراه على سبيل المثال في التدخل الإيراني الفج المباشر وغير المباشر في الشأن العراقي، أو عدم التفاوض مع دولة الإمارات العربية حول الجزر الثلاث، إلا أننا نرى ملامح الانفراج النسبي من خلال تعمق وتوسع التبادل التجاري مع دول الخليج العربية والعراق، مثل ازدياد حجم التبادل التجاري إلى 20 مليار دولار مع دول الخليج، 15 مليار دولار منها مع دولة الإمارات المتحدة. وكذلك توسع وازدياد التبادل السياسي والزيارات الرسمية، مثل زيارة احمدي نجاد إلى العراق والإمارات والبحرين ومشاركته في القمة الثامنة والعشرين لدول مجلس التعاون الخليجي 2007، ودعوة الملك السعودي للرئيس الإيراني لأداء مناسك الحج. وكذلك زيارة المسئولين العرب إلى إيران.

بعبارة أخرى، إننا نلاحظ محاولات كسر الجمود والفتور والريبة المتبادلة عبر استعمال مختلف السبل والوسائل والطرق من جانب الطرفين. وهي خطوات ضرورية على خلفية الصراع الدامي في مجرى العقود الخمسة الأخيرة، وبالأخص بعد انتصار "الثورة الإسلامية" وما تبعها من تغير في طبيعة النظام السياسي الإيراني والأحداث المريرة مثل الحرب الدامية مع العراق، وغزو الكويت، ثم الحرب الأمريكية على العراق (عاصفة الصحراء) ثم الاحتلال الأمريكي للعراق، والأزمة المستمرة حول المشروع النووي الإيراني، والعلاقة بسوريا ولبنان وفلسطين، أي كل تلك القضايا المثيرة للاختلاف والوفاق أيضا. ومن مجموعها تتراكم، رغم طابعها الدرامي، نمو الهموم المشتركة، ومن ثم المصالح المشتركة.

وبقدر ما ينطبق ذلك على إيران ينطبق هذا أيضا على تركيا، التي ابتعدت نسبيا عن تاريخها الذاتي ومحيطها الجغرافي وتقاليدها الثقافية. غير أن تجربة قرن من "الغربة" والتكامل القومي قد كشفت عن أن أي ارتقاء بهذا الصدد يحتمل في أعماقه على عناصر العودة للأصول "للمصادر الأولى".

 

"تركيا  الجديدة" - رحلة الغربة الغريبة والرجوع إلى الشرق!

التاريخ التركي السياسي –  الماضي والمستقبل.

 

إن التاريخ ليس معادلة بسيطة تتكون من أطراف يمكن قسمتها بسهولة، لكننا نعثر فيه أيضا على مؤشر يقترب من الجبر البسيط. مع أن تاريخ الأمم الكبرى هو جبر معقد، بسبب كمية ونوعية الانكسارات الصغيرة والكبيرة المتكررة في مجرى محاولاته بلوغ "الحل الصحيح"، مع ما يرافقه من شعور طاغ بالسعادة والاطمئنان. وهي الحالة التي تشير إليها بصورة غير مباشرة هذه الكمية من الأسماء والصفات التي تلقفها الوعي السياسي التركي في أسماء أحزابه السياسية مثل حزب "السعادة" و"الفضيلة" و"الرفاه" وما شابه ذلك. ففيها نعثر على طبيعة التحول العميق في البنية الباطنية للفكر السياسي وتاريخ الوعي القومي بعد أن أنجزت الاتاتوركية بمبادئها الستة (الجمهورية، والشعبية، والقومية، والدنيوية (العلمانية)، والثورية، وتدخل الدولة) مشروعها القومي والاجتماعي والجيوسياسي التركي على أنقاض الخلافة العثمانية.

فقد كانت العثمانية بمعايير الزمن معادلة تتكون من طرفي الصعود الهائل والهبوط المريع، عمر كل منهما ثلاثة قرون. فقد ظهرت بصورتها العالمية الأولى بعد أن تحولت اسطنبول إلى عاصمة عام 1299، وانتهت بظهور أنقرة بديلا لها عام 1922. فقد كانت القرون الثلاثة الأولى مرحلة الصعود الكبير للإمبراطورية، بينما كانت القرون الثلاثة التالية مرحلة الأزمات والهزائم والأمراض التي انتهت بتحول الإمبراطورية إلى "رجل مريض".

وبعد حلّ الخلافة بصورة رسمية عام 1924، فان العثمانية تكون قد قطعت الشوط الطبيعي لصعود الإمبراطورية واضمحلالها. وهي العملية التي أرجعت الأتراك إلى حدود تمركزهم التاريخي الجديد، بوصفهم المكون العرقي (القومي) لتركيا بحدودها الحالية. وهي حدودها صنعتها بالقدر ذاته الإرادة القومية التي جسدها مصطفى كمال أتاتورك، بعد أن تعرضت الإمبراطورية العثمانية إلى مصير الهلاك والزوال. وليس مصادفة أن يتخذ أتاتورك وما يزال صورة "المخلص" و"المنقذ". لكنه تخلص كان محكوما بفكرة الدولة القومية الحديثة ونزوعها الدنيوي (العلماني)، بوصفه رد الفعل الواعي على هزيمة الجمود العثماني الذي أدى أيضا إلى تآكل الأتراك وإمكانية سقوطهم أمام العجلات القاسية للاحتلال الأوربي والعبودية الجديدة التي ساهموا أيضا في إرساء مقوماتها لقرون عديدة. وحالما أخذت تتبين كل مآسي هذه الحالة بعد استقطاع "أملاك الرجل المريض" ووقوفهم أمام حالة الخضوع المهينة لأولئك "الأعداء" الذي بقوا لقرون عديدة يرتجفون أمام صولة وجولة الإمبراطورية، فان الصدمة الخارجية لم تكن اقل عنفا من الرجفة الداخلية. ومن تلاقيهما ولدت الاتاتوركية بعد أن مرت بمخاض تيار "الاتحاد والترقي" الذي نشاء عام 1889. الأمر الذي جعل من الفكرة القومية الجديدة تمثلا ونفيا لتقاليدها الطورانية العادية.

إن نفي التقاليد الطورانية التقليدية لم يعن زوالها. فالوعي السياسي للنخب، وبالأخص زمن الأزمات الحادة والانعطافات المؤثرة على مصائر الأمم، عادة ما يختبئ وراء مظاهر الماضي، أو يجافيها بطريقة اقرب إلى الاستفزاز. وكلاهما في الواقع من أصل وجذر واحد. بمعنى أنهما يكملان احدهما الآخر بسبب قوة الصدمة وانعدام القدوة القادرة على توجيه بوصلة النفس بين تلاطم أمواج الماضي التليد والحاضر المقيت. من هنا احتواء الاتاتوركية على "طورانية" ناتئة، وقومية محلية، ودنيوية متشربة برؤيتها الخاصة لتقاليد الغرب الأوربي، أي صوب القوة التي كانت احد مصادر التهديد والتخريب الخارجية للدولة التركية (العثمانية). وهو تناقض حكم وما زال يحكم وعي الذات التركي. لكنه كان يسير آنذاك تحت ضغط الهزيمة التاريخية للعثمانية، بمعنى إدراكه لمخاطر الدفاع عنها أو استرجاعها.

لقد أدى ذلك إلى ما يمكن دعوته برجوع تركيا إلى حدودها القومية (العرقية)، ومن ثم إلى حدودها "الطبيعية" ولكن من خلال الإبقاء على صدى وملامح وقوس قزح الإمبراطورية العثمانية، وذلك من خلال تلافي تحجيم "تركيا المحتملة" ضمن حدود تركيا الداخلية الصغيرة. وأفلحت الاتاتوركية في بلورة سياسة عقلانية ومتجانسة بهذا الصدد من خلال العمل بمبدأ "سلام في الداخل، وسلام في الخارج". واستطاع الحزب الجمهوري (الاتاتوركي) أن يطبق هذا الشعار وسياسته في توحيد تركيا على أسس قومية ودنيوية بصورة متجانسة حتى خمسينيات القرن العشرين (1923-1950). وهي الفترة التي استطاعت ترسيخ أسس النظام السياسي والدولة القومية.

 

غرب وشرق - المعادلة القلقة للمصالح الجيوسياسية التركية

لقد كانت الاتاتوركية تحتوي على عناصر ومبادئ واضحة المعالم فيما يتعلق ببناء الدولة والقومية والموقف من الغرب. وفيما لو جرى إجمالها بصورة مكثفة، فإنها لا تتعدى وحدة الدولة القومية والدنيوية (العلمانية). وهي الوحدة التي وقفت بصورة واعية من تقاليد الماضي العثمانية الإسلامية وطرح تقاليد الإمبراطورية من اجل بناء منظومة جديدة قادرة على مواجهة التحديات المميتة التي تعرض لها الشعب التركي والدولة التركية. وبالتالي لا علاقة لها بمختلف الصيغ الأيديولوجية الحديثة عما يسمى بتوليف العثمانية للتقاليد الإسلامية والهيلينية.

إن الاتاتوركية لم تكن نتاجا لرؤية متراكمة من وعي الذات التاريخي الثقافي. الأمر الذي طبع وما زال يطبع "الذهنية الإستراتيجية" للنخب السياسية التركية بطابع القلق والتذبذب. بمعنى عدم ثبات العقيدة "الأبدية" لما أطلق عليه أتاتورك شعار "الدولة الأبدية"، أي تركيا الحديثة. من هنا اتسام تاريخ السياسة والدبلوماسية التركية منذ بداية نشوءها الحديث وحتى الآن بقدر كبير من النفعية. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن حالة القلق التي لازمت ولادتها الحديثة. وليس مصادفة أن يكون هاجس الأمن وما يزال الأكثر فاعلية في العقيدة العملية للرؤية الجيوسياسية التركية. الأمر الذي جعل من علاقتها بالغرب والشرق معادلة متأرجحة تعكس عدم استتباب رؤيتها الجيوسياسية البعيدة المدى. من هنا تحول حتى المواقع القوية للجغرافية التركية إلى نقاط ضعف محتملة.

فالموقع الاستراتيجي المهم ليس فضيلة بحد ذاته. أن فضيلته تتوقف على تأسيس الرؤية الجيوسياسية البعيدة المدى. فوجود مضايق الدردنيل والبوسفور المهمة هي بالقدر نفسه مصادر قلق زمن الأزمات. وهو الشيء الذي تبين بجلاء قبل وبعد الأحداث الأخيرة للحرب الروسية الجورجية. وليست هذه الحالة القلقة معزولة عن عضوية تركيا في حلف الأطلسي، ونزوعها صوب الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ومساعيها الإستراتيجية صوب إحياء دورها وقوتها في "العالم التركي"، وعبره في العالم الإسلامي الذي جرى الانقطاع عنه لعقود طويلة.

إن الانقطاع عن الشرق بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، والاندفاع صوب الغرب الأطلسي والأوربي هي العقدة المعقدة بالنسبة لتركيا وليس رابطة الوصل. ومن الممكن رؤية هذه العقدة في سلوكها "المتذبذب" بالأخص بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وظهور الدول "الإسلامية" "التركية" الجديدة، والغزو الأمريكي للعراق. فقد ظهرت في مجرى هذين العقدين ملامح التحول الكبير في بنية الوعي السياسي التركي واحتمالات البدائل الجديدة التي لم تتخل عن مرجعيات الاتاتوركية، لكنها تتخطاها من خلال بروز الظاهرة الإسلامية التركية الحديثة، بوصفها احتمال جيوسياسي وثقافي أيضا.

إن الظاهرة الإسلامية الجديدة تطرح في الواقع إمكانية البدائل النظرية والعملية فيما يتعلق بالعقيدة المحتملة للجيوسياسية التركية القادمة. فالخيارات العامة مازالت صوب الغرب. لكنها لم تعد غربية خالصة. والخيارات الإسلامية العامة تهدف إلى تأسيس مسارين متباينين لكنهما لا يتعارضان فيما بينهما لأنهما يستندان إلى إدراك أولوية المصالح القومية التركية. الأول وهو القائل بأولوية العالم الإسلامي والشرقي مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة بالغرب. بينما يدعو الثاني إلى تأسيس حالة الوسط التركي بين الشرق(الإسلامي) والغرب من خلال مختلف الصيغ الأيديولوجية السياسية (العثمانية المتنورة، والإسلام الدنيوي، وفكرة الحداثة). واحتمال النجاح الأكبر للتيار الثاني من خلال تأسيس توليف بين القسمين المتصارعين فيه.

 

العقيدة الجيوسياسية التركية المحتملة

إن كون الخيارات الجيوسياسية الإستراتيجية التركية لم تعد أحادية التوجه، كما كان الحال عليه في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين، لا يعني انتفاء أو اندثار الاحتمال الاتاتوركي بوصفه احد الخمائر الفاعلة في كافة التيارات السياسية التركية. الأمر الذي يشير إلى حالة الاحتمال والتنوع أكثر مما يشير إلى حالة الثبات في الرؤية الجيوسياسية التركية. وهذا بدوره ليس معزولا عن غياب عقيدة واضحة المعالم بهذا الصدد. كما انه مربوط بواقع التنافر والاختلاف والتعارض والتضاد المميز للمصالح الجيوسياسية للدول والمناطق المحيطة بالمصالح الإقليمية التركية، والمقصود بذلك كل من العالم الأوربي، و"إسرائيل"، ودول "العالم التركي" (آسيا الوسطى) وروسيا، والقوقاز، وإيران، والعالم العربي. وهي السلسلة التي تعكس في حلقاتها مسار الرؤية الجيوسياسية التركية على امتداد القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين.

إن تاريخ المساعي الحثيثة للاندماج في العالم الأوربي مازالت في طي الاحتمال، بينما تواجهها فرنسا وألمانيا والنمسا بالرفض. وقد لا يكون مشروع المتوسطية الفرنسي معزولا عن ذلك، لاسيما وانه حتى يتجاهل إدخال تركيا فيه. وبالمقابل نلمح ازدياد تمايز الرؤية التركية فيما يتعلق بادراك مصالحها القومية الخاصة. فهي لم تعد تقبل كل شيء. كما أن انتهاء "الحرب الباردة" قد أعطى لها دفعة دافئة صوب "العالم التركي" (آسيا الوسطى) والقوقاز ودخولها المنافس في ميدان العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية. إذ شعرت هنا للمرة الأولى على امتداد قرن من الزمن أهميتها العالمية والإقليمية. فقد أعطت الفرصة الجديدة لتركيا أهمية إقليمية بدأت تفوق أهميتها مقارنة بالتوجه صوب الغرب الأوربي. كما سعت تركيا لاستغلال هذه الفرصة بقوة واندفاع شديدين من خلال لعب ورقتها الجديدة في المنطقة عبر ملء الفراغ الروسي. من هنا توجهها العنيف صوب جنوب القوقاز (أذربيجان وجورجيا) ودول آسيا الوسطى الإسلامية، في محاولة لتمثل مصالح الغرب ومنافسة روسيا المنهكة وإيران الصاعدة والعملاق الصيني.

 فقد أصبح القوقاز محط الاهتمام الشامل لتركيا بما في ذلك من خلال كسبه عبر جعل الأراضي التركية ممرات لتصدير النفط والغاز. من هنا معارضتها الفعلية للسياسة الأوربية والأمريكية الساعية لحصار روسيا. وهي مواقف سياسية تعزز فكرة الاحتمال المتزايد للرؤية الجيوسياسية التركية في الاستقلال والسير صوب الشرق، أو على الأقل تذليل أسلوب العمل بمعايير ما أسميته بالمعادلة القلقة التي جرى الحديث حولها أعلاه.

وضمن هذا السياق يمكن أيضا فهم طبيعة آفاق التغير المتراكم في الرؤية الجيوسياسية التركية تجاه "إسرائيل". فمن الناحية التاريخية عارضت تركيا فكرة تقسيم فلسطين (عام 1947). لكنها اعترفت "بإسرائيل" بعد عشرة أشهر من إعلانها بتاريخ 28 آذار 1949. ثم أقامت معها علاقات دبلوماسية على مستوى المفوضيات عام 1950. كما عملت بالتنسيق مع "إسرائيل" على محاصرة المد القومي العربي (للناصرية)، واشتركت بصورة فعالة من اجل بناء "حلف بغداد". وفي كافة هذه المظاهر يمكن رؤية ملامح الاندماج بالغرب، والانفصام والاغتراب والابتعاد عن العالم العربي. وقد وظفت "إسرائيل" كل ذلك من خلال محاولاتها اجتذاب تركيا باعتبارها "أفضل الذخائر الإستراتيجية" لها في المنطقة. وتوجت هذه العملية في توقيع اتفاق التعاون العسكري مع "إسرائيل" عام 1996.

غير أن مسار الأحداث الذي رافق طبيعة وحجم التغيرات على الصعيد العالمي بعد انحلال الاتحاد السوفيتي قد اخذ يبلور رؤية جيواستراتيجية تركية جديدة تجاه مصالحها القومية الخاصة، ترافقت بدورها مع طبيعة التغيرات في قواها السياسية ونخبها الصاعدة ونظامها السياسي، أدت في مواقفها بهذا الصدد إلى أن تصبح "إسرائيل" حجر عثرة أمام المصالح الجيوسياسية الإقليمية، لكنها لم تصبح عبئا أمامها وعليها.

مما سبق يتضح، بان المسار التركي صوب رؤية مصالحها الإقليمية هي الصيغة الجديدة لأدراك مصالحها القومية. وهو تحول لم يكتمل في رؤية ترتقي إلى مصاف المنظومة، لكننا نستطيع تأمل بعض ملامحها الدقيقة، بما في ذلك في الفعل السياسي الكبير (تصويت البرلمان في آذار 2003) الذي عارض استعمال الأراضي التركية للهجوم على العراق. بعبارة أخرى، إن أولوية المصالح التركية بدأت تسير صوب التطابق مع مصالحها الإقليمية، أي صوب الشرق أيضا. وهو الباعث العميق الذي يمكن من خلاله فهم سر التوجه الكبير صوب العالم العربي.

 

العلاقة العربية التركية – الاحتمال الأكبر في الجيوسياسة التركية

إن الأمم تدرك مصالحها في مجرى صراعها الطويل، أي كلما كان التاريخ أكثر تعقيدا ودرامية، كلما أعطى إمكانية اكبر للاتفاق والوحدة. وذلك لأنه يعلّم الأطراف أولا وقبل كل شيء إدراك حدود المصالح الخاصة. وهي حقيقة قد يكون التاريخ التركي - العربي من بين أكثرها تمثيلا في المنطقة. كما انه واقع يمكن تحسس نبضاته في الاندفاع المتبادل بين تركيا والعالم العربي بعد قرن من الفتور والصراع والعداء. بمعنى رؤية الانفتاح المتزايد والمتنامي، الذي يشكل بحد ذاته مؤشرا على نمو الإدراك الواقعي والعقلاني للمصالح الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية بأبعادها المحلية والإقليمية والعالمية.

 فالعلاقة العربية التركية هي إلى جانب العلاقة العربية الإيرانية من بين أكثر العلاقات التاريخية والثقافية تنوعا وتشابكا واندماجا. إذ تتمتع بتاريخ سياسي مشترك، ودول مشتركة (خلافة وسلطنات وحكومات). فإذا كان الانفصال ضروريا آنذاك، فان التجربة التاريخية للقرن العشرين تكشف عن عدم ضرورة الانفصام والفطام. ومهما يكن من أمر هذه القضية، فان العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وطبيعة التحولات العاصفة فيه يكشف عن حجم المهمات الكبرى التي تقف أمام إعادة النظر النقدية بتجربة قرن من الزمن، والاهم من ذلك تأسيس الرؤية المستقبلية تجاه المصالح المشتركة. وهي نتيجة بدأ يتوسع إدراك قيمتها عند الطرفين، الذي قد تكون عبارة اردوغان القائلة بان تركيا تقابل كل خطوة عربية صوبها بعشر خطوات، احد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد. وهي عبارة تستوحي احد الأحاديث النبوية ولكن من خلال تطويعها في مجال "المحبة السياسية".

غير أن "المحبة السياسية" محكومة على الدوام بمصالح كبرى. وكلما كانت هذه المصالح أكثر واقعية وتشابكا وتوسعا، كلما كان بإمكانها فرز منظومة التنسيق والاتفاق والتوحد. وهي منظومة محكومة أولا وقبل كل شيء "بتنظيف" الأرضية السياسية، الذي يمكن رؤية بداياته منذ سبعينيات القرن الماضي (العشرين). حينذاك بدأت السياسة التركية تسير صوب العالم العربي مع جولة عبد الله غول للدول العربية عندما كان وزيرا للخارجية. ومع وصول حزب العدالة والتنمية أخذت العلاقة تسير صوب معالم أخرى. بحيث أحتل العالم العربي في مجرى عقدين من الزمن مكانته الخاصة في أولويات السياسة الخارجية (الإقليمية) التركية. وتتسم هذه العملية بقدر كبير من الثبات وبالأخص بعد زوال بعض المعوقات السياسية الكبرى وإمكانية حل جميع القضايا المختلف عليها بما يضمن للطرفين وحدة المصالح المتبادلة، كما نراه على سبيل المثال في نموذج العلاقة التركية - السورية، والتركية - العراقية (مشروع التعاون الاستراتيجي) وتوقيع وثيقة (التفاهم بين تركيا ومجلس التعاون الخليجي) بهدف تنسيق التعاون بين الطرفين في المجال السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي. كما توسعت العلاقات السياسية والزيارات المتبادلة على مستوى الدول والحكومات والمنظمات والجماعات والأفراد. وتسارعت هذه العملية بتوسع مدى التبادل التجاري والاقتصادي. فقد بلغت حجم الصادرات التركية إلى العالم العربي حوالي 60 مليار. كما تسعى تركيا إلى رفع مستوى التبادل التجاري الخارجي مع العالم العربي بنسبة 30%، مقارنة بنسبتها الحالية البالغة 16%.  وهو مشروع واقعي إذا أخذنا بنظر الاعتبار إمكانيات الاقتصاد التركي النامي. إذ يعتبر الاقتصاد التركي الأكثر ديناميكية وتطورا بمعايير جنوب شرق أوربا والشرق الأوسط، رغم معاناته من نواقص وتعقيدات ليست قليلة (مثل العجز المالي والديون الخارجية). لكننا نرى بالمقابل ازدياد الاستثمارات الأجنبية. إضافة لذلك يتميز الاقتصاد التركي بنمو سنوي بلغ الآن حوالي 7,3% (2003-2007). كما بلغت تركيا الدرجة 18 من بين الدول الأكثر نموا في العالم (بعد بلجيكا والسويد). والدرجة 17 (بعد هولندا وبلجيكا) من حيث الناتج الإجمالي عام 2007 (414 مليار دولار). كما أن اقتصادها يتسم بالتنوع. إذ تحتل الصناعة 22% (تحويلية بالأساس) والزراعة 13% والخدمات 65%.

إن كل هذه المؤهلات تجعل من التوجه الاقتصادي صوب العالم العربي احد البواعث القوية لترميم الرؤية الإقليمية التركية المغتربة في غضون عقود طويلة من الزمن. من هنا يمكن فهم المواقف التركية القائلة بصعوبة بناء علاقات سياسية متطورة دون علاقات اقتصادية متطورة. كما أن العلاقات الاقتصادية والسياسية المتطورة هي ضمانة وأسس السلام والاستقرار. وهي رؤية أخذت تشاطرها الكثير من الدول العربية، وبالأخص سوريا والعراق ودول الخليج العربية.

إن الإدراك المتبادل لقيمة وأهمية العلاقات الاقتصادية الموزونة بعلاقات سياسية تناسب المصالح الثنائية والجماعية، الإقليمية والعالمية، هي الحلقات التي يمكن رؤية ملامحها الأولية في توسع وتشابك العلاقات التركية العربية. إذ نقف أمام تدفق لرؤؤس الأموال العربية إلى تركيا، التي بلغت حتى الآن حوالي 36 مليار. كما نلاحظ توسع التنسيق المستمر والفعاليات العديدة الخاصة والثنائية والمشتركة، كما جري على سبيل المثال بين جامعة الدول العربية وتركيا (نموذج الملتقى الثالث للتعاون الاقتصادي العربي التركي) في اسطنبول، وكذلك موضوع الشراكة العربية التركية في مجالات استثمار النفط والغاز والعقارات والسياحة. إضافة إلى تأسيس مختلف الجمعيات والمنظمات العاملة من اجل تنمية التعاون بين تركيا وبلدان العالم العربي في مجالات العلوم والثقافة والفنون والمجتمع المدني.

 

المثلث العربي الفارسي التركي وفلسفة الرجوع إلى النفس

إذا كانت إيران وتركيا تمثلان من حيث الرغبة والإمكان "العالم الإيراني" ككلّ و"العالم التركي" ككلّ، فان الكلّ العربي دول متنافسة لم تتكامل فيه بعد وحدة الوطني والقومي بمعايير الرؤية الواقعية والإستراتيجية. بمعنى ضعف او عدم ارتقاء الانجذاب الذاتي العربي صوب النفس الى مستوى المنظومة الفاعلة والملزمة على مستوى النظام السياسي والقوانين والاقتصاد والتربية والتعليم والمواصلات وغيرها. الأمر الذي جعل وما يزال يجعل من الدولة العربية المعاصرة دولا "قومية" بلا قومية بالمعنى الدقيق للكلمة. فهي أما قومية أيديولوجية (كما كان الحال في العراق وما يزال في سوريا وليبيا وأمثالهما) أو قومية محلية (مصر وتونس والجزائر والمغرب) أو قومية طائفية غريبة (لبنان) أو قومية محلية تقليدية (دول الخليج العربية) أو تجميع هش بين المحلية والتقليدية (اليمن). وهي كلها مظاهر لنزوع قومي لم يكتمل، بسبب عدم تكامل النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي بمعايير الفكرة القومية الحديثة. أما إيران فإنها كانت دولة قومية عرقية (شاهنشاهية) أصبحت بعد "الثورة الإسلامية" دولة قومية مذهبية (إسلامية). بينما كانت تركيا وما تزال دولة قومية عرقية أرست الاتاتوركية عناصرها الداخلية ومعالمها الخارجية. بحيث استطاعت توحيد الدولة والأمة عبر "فك الارتباط" بإرثها الثقافي الخاص. لكنها تتجه الآن صوب معالمها وجذورها الثقافية الخاصة. وهي في عملية صراع ومن ثم احتمالات متنوعة ومختلفة.

وبغض النظر عن كل هذه الاختلافات الجدية بين مكونات العالم العربي والفارسي والتركي، فان ما يجمعهم بهذا الصدد هو أن الفكرة القومية ليست فكرة تلقائية. بعبارة أخرى، إن الفكرة القومية هي نتاج الأزمة التي استتبعت زمن انحطاط الحضارة (الإسلامية) وسقوط الدولة، والاحتلال الأجنبي (الأوربي)، والسيطرة الغربية (الأمريكية). وهي عملية معقدة كان يصعب عليها إنتاج فكرة إستراتيجية في بداية القرن العشرين (على خلفية الصراع السياسي والمذهبي والتخلف الاجتماعي) قادرة على تمثل مبادئ وقيم التنسيق الشامل بين الأطراف (العربية – الفارسية - التركية). على العكس لقد كان الخلاف والصراع وفك الارتباط التاريخي أسلوب التكامل الواقعي والعقلاني للفكرة القومية. وهي عملية لم يجر انجازها بصورة تامة بعد مرور قرن من الزمن. لكنها استطاعت أن ترسي أسسها العامة من خلال ظهور وتعايش الدولة العربية (الخليج والعراق وسوريا) والدولة الإيرانية والدولة التركية. وإذا كان القرن العشرين قد تجاوز في مجرى صراعاته الملازمة لصعود الدولة والقومية اغلب المراحل والعقد الدموية، فان القرن الحادي والعشرين يضع خيارات الماضي أمام اختبار مستقبلي كبير. بمعنى انه يضع مهمة إعادة النظر بتاريخ فك الارتباط التاريخي من خلال ما يمكن دعوته بادراك القيمة الإستراتيجية للرجوع إلى النفس بوصفه استمرارا نوعيا جديدا للتكامل الواقعي والعقلاني للدولة والقومية. بعبارة أخرى، أن العالم العربي والفارسي والتركي يقف كل منهم بطريقته الخاصة أمام مهمة الرجوع إلى النفس، بوصفه رجوعا إلى "المثلث التاريخي الثقافي" العربي الفارسي التركي.

 

 "المثلث التاريخي الثقافي" العربي الفارسي التركي ومشروع المستقبل

إن نجاح أي مشروع يفترض تحديد مقدماته وغاياته ووسائله. وهذه بدورها تتوقف على منظومة المرجعيات الكفيلة بتوجيه الطاقة الذاتية صوب تجسيدها الفعلي. فقد كشفت تجربة قرن من التاريخ الحديث للعالم العربي والتركي والفارسي عن أن الانفكاك المحكوم بمقدماته التاريخية قد أدى وظيفته الكبرى فيما يتعلق برسم حدود الدولة وطاقاتها الداخلية. ومع أن وظيفة هذا الانفكاك لم يستنفذ طاقاتها بصورة كاملة بعد لكي يتم "التخلي" الكامل عن فكرة الحدود القومية للدولة، إلا أن تأمل المستقبل ضمن شروط وتأثير العولمة المعاصرة، يكشف عما في إعادة النظر بمثلث المستقبل العربي الفارسي التركي من قيمة إضافية كبرى بالنسبة لدعم مشروع الدولة القومية واستتبابها ومن ثم تفعيل طاقاتها الكامنة. بمعنى التخلي عن نفسية وذهنية المنافسة والهيمنة التي ميزت سلوك الماضي. رغم أن هذه الظاهرة نفسها لم تكن معزولة عما يمكن دعوته بحب الزعامة والهيمنة الفاعلة. وهي عملية متضاربة تعكس من حيث مقوماتها وغاياتها السعي من اجل احتلال موقع اللاعب المركزي والفاعل الأكبر. لكنها كانت وما تزال محكومة بالتماس الجغرافي والثقافي. ومن الممكن العثور على صداها القوي بما في ذلك في الصراع والتنافس الحاد أحيانا بين الكتل العربية والفارسية والتركية للقيام بلعب دور إقليمي في العالم المعاصر بعد أن ضعف كل منها من إمكانية القيام بدور عالمي كما كان الحال في الماضي.

ولا تخلو هذه العملية المتناقضة من فضائل في حال توظيفها العقلاني على المدى البعيد، أي في حال توجيه التنافس صوب التنسيق والتكامل. ومن ثم توجيه الطاقة المهلكة للتنافس من اجل التمتع بلعب الدور الإقليمي صوب التكامل في قوة قادرة على المدى البعيد على لعب دور عالمي. وهي مهمة ممكنة التنفيذ من خلال تحول طاقة التنافس المهلكة صوب توحيد القوى والطاقات الكامنة في هذا المثلث. وهو تحول ومثلث يمتلكان مقوماتهما الفعلية في وحدة الإرث الروحي الذي صنعه التاريخ الثقافي الإسلامي، بوصفه احد المرجعيات الكبرى لهذه المشروع.

فقد أدى تداخل وتتابع الإمبراطوريات العربية والفارسية والتركية التي توجت في مرحلة الإسلام بوحدة الكلّ الثقافي، إلى صنع إحدى أهم المنظومات الثقافية الفاعلة لحد الآن في الوعي القومي بوصفها مرجعيات ثقافية روحية كبرى. الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الإقرار بوجود مثلث تاريخي ثقافي عربي – فارسي – تركي على امتداد قرون عديدة. وهو مثلث تاريخي ثقافي مقترن أيضا بتماس الجغرافيا السياسية. وبغض النظر عن أن هذا الاحتمال ليس حتميا، لكنه الأكثر واقعية بسبب ما فيه من وحدة التاريخ المشترك، ووحدة الجغرافيا، ووحدة المصالح حالما يجري ربطها برؤية مستقبلية. وليس المقصود بالرؤية المستقبلية سوى تلك التي تستند وتنطلق من إدراك قيمة التطور الحر والعقلاني والمستقل لكل من أطراف المثلث من جهة، ووحدته من جهة أخرى. وهي الحالة التي يمكن تأمل ماضيها الدموي وحالتها الاقتصادية والسياسية والحقوقية والثقافية في مشروع "الاتحاد الأوربي". فهو يشترك مع حالة المثلث العربي – الفارسي - التركي بتنوع القوميات، ووحدة التراث، والتماس الجغرافي. ومن ثم وحدة المصالح. فقد أوصلت التجارب القومية المتصارعة الدول الأوربية إلى حالة الانكفاء الذاتي ثم الانفتاح بوصفه مصدر القوة الإضافية للكلّ بأجزائه. وهي عملية معقدة ومتناقضة لكنها مستقبلية.

وبالتالي يمكن النظر إلى المشروع الأوربي عن "المتوسطية" بوصفه شكلا من إشكال استباق الوحدة الضرورية للمثلث العربي – الفارسي - التركي. بمعنى محاولته الاستفراد بتركيا من خلال وضعها في حال "الانتظار القلق" وإخراجها من مشروع المتوسطية، والعمل من اجل "ضم الدول العربية القائمة على حوض البحر المتوسط، ومن ثم عزل دول الخليج العربية والعراق عنه. إضافة إلى محاصرة إيران. بعبارة أخرى، إننا نقف أمام إستراتيجية، قد لا تكون محكومة بخبائث "الرؤية الشيطانية" لكنها تؤدي هذا الدور بفعل سلوكها العملي بمعايير السياسة النفعية وصراع المصالح. بعبارة إننا نقف أمام إحدى الصيغ الخطرة لتنافس الأمم والمصالح، بالشكل الذي يستعيد ماضي النزوع الكولونيالي للغرب من خلال توظيف التجزئة المستمرة للعالم العربي – التركي - الفارسي (الإيراني)، أو على الأقل استباق إمكانية توحيده من خلال جعل أطرافه أضلاعا سائبة وليس أضلاعا مكونة لمثلث المستقبل. 

 

هندسة المستقبل في مشروع المثلث العربي الفارسي التركي

إن الرؤية الإستراتيجية تفترض الانطلاق من تأمل العبرة التاريخية والعمل بمعايير المستقبل. وفي الحالة المعنية ليس المقصود بهندسة المستقبل في مشروع المثلث العربي – الفارسي - التركي سوى العمل من اجل رسم مرجعيات ومبادئ وقواعد التنسيق المشترك والتوحيد اللاحق. لاسيما وانه مشروع له تاريخه الذاتي في تاريخ الإمبراطوريات الإسلامية (الخلافة) وما فيها من صيغ متنوعة ترتقي إلى مصاف المنظومات الفكرية والأخلاقية والروحية والفقهية الرابطة لوحدة الأقوام والبشر. وهي منظومات ساهم في بلورتها التاريخي نشاط متنوع ومتداخل، لا يخلو من مراحل درامية وعقد عنيفة، المكون العربي والفارسي والتركي. وهي مكونات تراجعت إلى ثلاثة أضلاع مفككة من خلال انحسارها في الدولة التركية والدولة الإيرانية والدولة السورية والعراقية ودول الخليج العربية، بوصفها دول التماس الجغرافي السياسي. رغم أنها تحتوي على أبعاد عالمية (افريقية وآسيوية وما وراء البحار). وإذا كانت هذه الأبعاد تبدو أشبه بكويكب كوني (asteroid) قادر على إثارة زوبعة الموت، فان القوة القادرة على تحويله من "كتلة الفوضى" إلى قوة النظام المقبل تقوم فيما إذا كان بالإمكان توجيهه صوب هندسة المستقبل بمعايير الحداثة والتقدم الاجتماعي. وهي هندسة يستحيل تحقيقها دون التخطيط لترشيد القوى الذاتية صوب التكامل. فقد حلت الأمم الأوربية، على سبيل المثال فوضاها الداخلية في مجر عملية معقدة ودامية وتتصف أيضا بأقدار متنوعة وهائلة من المعاناة الإنسانية عبر إرساء منظومة التنمية الدائمة والشاملة وتصدير الفائض البشري (إلى الخارج). أما العالم الإسلامي، وفي الحالة المعنية مكونات المثلث العربي الفارسي التركي، فانه يعمل ضمن شروط قاسية. وقد يكون أقساها هو تمتعه بإمكانيات هائلة وضغوط خارجية قوية، تعمل من اجل ألا تتكامل هذه الأضلاع في مثلث متناسق. وهو مثلث قد لا يكون متساوي الأضلاع من حيث مقدماته الأولية والحالية، لكنه متساوي من حيث أهميته بالنسبة للمستقبل. وذلك لان أية محاولة للإبقاء على أضلاعه المفككة أو جعلها مختلفة الأبعاد لا تؤدي في أفضل الأحوال إلا إلى "مثلث" يصعب عليه الاندماج السليم في هندسة العالم المعاصر. ومن ثم يفقده، كما افقده في الماضي القريب إمكانية التحصن الذاتي.

إن مشروع المثلث العربي الفارسي التركي، أو هندسته الجيوسياسية والاقتصادية والثقافية يفترض انجاز بعض المهمات الأولية الجزئية والعامة. وفيما يخص العالم العربي (العراقي – السوري ودول الخليج) فانه يفترض القيام بما يلي:

 

على الجبهة الإيرانية

    إدراك الحقيقة القائلة، بأن المصالح القومية وحدودها الإقليمية والعالمية لإيران والعراق وسوريا ودول الخليج العربية لا تحلها القوة.

    إدراك أن المنطقة من حيث طاقتها الذاتية وإمكانياتها الخاصة ترتقي إلى مصاف "المصلحة العالمية".

    الانطلاق من أن الخليج (بالمعنى الواسع للكلمة الذي يدخل فيه الشام كامتداد طبيعي وقومي) ذا قيمة عالمية، مما يحتاج بدوره إلى رؤية "عالمية" عنه مبنية على أسس إستراتيجية.

    إن الأمن الإقليمي للخليج وحدة واحدة لا تتجزأ. وهي مهمة دول المنطقة أولا وقبل كل شيء.

    تنقية الأجواء الداخلية من خلال بناء منظومة الأمن الإقليمي الخليجي من خلال بناء النفس استنادا إلى إمكانياتها وقواها الخاصة.

    البحث عن حلول واقعية وعقلانية مبنية على أساس منظومة المصالح المتبادلة. وذلك عبر إخراج المنطقة بصورة كلية من تأثير "الفوضى الخلاقة" وتصنيع "الأزمات الدائمة".

    إن كل الخلافات المحتملة ينبغي أن توجه صوب إدارة شئون المنطقة والخليج تحديدا بقواها الذاتية بعد حل الخلافات حول الحدود مع العراق والجزر الإماراتية الثلاث.

    إن إضعاف أي طرف هو إضعاف للمنطقة كلها. والتجربة العراقية دليل حي على ذلك.

    تذليل المشاريع السياسية والأيديولوجية العدائية القديمة والاستعاضة عنها بمشاريع التعاون المشترك من خلال التركيز أولا على المشاريع الاقتصادية والثقافية. وبالتالي قلب معادلة التدخل الأجنبي من خلال جعل المصالح الأجنبية الضيقة "كبش فداء" أمام وحدة المصالح المشتركة للمنطقة.

 

على الجبهة التركية

إننا نقف على "الجبهة التركية" أمام تحول كمي قابل للانتقال بالعلاقة التركية - العربية إلى مصاف نوعية جديدة. بمعنى تذليل تجربة قرن من الزمن، خامل وبارد لا قيمة له. وبالمقابل يمكننا رؤية ملامح انبعاث جديد في العلاقة التركية - العربية تسير باتجاه ما يمكن دعوته برجوع كل منهما إلى حدوده الطبيعية. وهي حدود تؤدي رغم كل مفارقة الظاهرة إلى زوالها بين العالم التركي والعربي. وهذا بدوره يستلزم إدراكا يتجاوز تجارب الماضي والعمل بمعايير المستقبل، قد يكونه من بين أكثرها واقعية وأهمية الآن هو:

    الرجوع إلى النفس والتاريخ المشترك، والاهم من ذلك العمل من اجل المستقبل المشترك.

    إعادة النظر النقدية والعقلانية والعلمية بتجربة قرن كامل من الخلاف والاغتراب. 

    التأسيس لرؤية مستقبلية وإستراتيجية (أهم مفاصلها في الاقتصاد والاتصال والطرق والزراعة والعلم والثقافة وفتح الحدود).

    العمل من اجل صنع سوق مشتركة عربية تركية. وإنتاج مشترك.

    تقريب وتوحيد الرؤية تجاه القضايا الخلافية الكبرى مثل الإرهاب والأمن والاستقرار والحقوق المدنية والثقافية والقومية.

    العمل من اجل ترتيب المثلث العربي التركي (أولا من خلال مثلث تركيا – سوريا - العراق) ضمن المثلث الأوسع العربي – الفارسي – التركي.

 

على جبهة المثلث العربي – الفارسي – التركي

    الخروج من مأزق المصالح الضيقة.

    الانطلاق من أن المكون التاريخي الثقافي هو بؤرة الاحتمال العقلاني لهندسة المستقبل.

    إن هندسة المستقبل بحاجة إلى رؤية نقدية ايجابية قادرة على تفعيل الأبعاد الجيوسياسية للتاريخ والثقافة المشتركة.

    هندسة الذهنية السياسية للدولة، والذهنية الثقافية للنخبة.

    هندسة الرؤية الإستراتيجية من خلال بلورة منظومة مستقبلية متكاملة لها مبادئها الكبرى في السياسة والاقتصاد والثقافة.

*** 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم