قضايا وآراء

"كوميديا الموت" لفتحي الجلاصي

إلا أنه الموت الذي يؤشر إلى التحول، والانبعاث من جديد في كل موسم بذر جديد، فبين موسم جني العنب الحزين وموسم الزرع السعيد، تقام طقوس احتفالية، تحاكى من خلالها الشبه بين الإلاه والعنب، ويكون العنب حاضرا في هذه الطقوس ... فكوميديا الموت تعبير عن نشوة الانبعاث من جديد بعد كل جمع للعنب، والعنب الذي يشير إلى الخمر يشير إلى الجانب الروحاني في الإنسان الذي يتسامى عن موت الجسد إلى تجليات الروح التي تبعث في صورة ميتة لتشرق عبر المعنى النوراني :

ويتمظهر ذلك في قصة كرنفال " الروح تمل من الجسد ومن الاكتواء والاصطلاء، فتخاتله بحذر وتخاتل العينين المغمضتين وتتسلل منه، متخفية عنه . وتنسل من القيد ومن خلال نافذة الغرفة التي ينفذ من خلالها شعاع القمر تطير وترتفع بلا أجنحة منسابة، سابحة كزهرة القطن، مخترقة كحد الشفرة كتلة الزجاج الثقيل " ص54-55 

 

وبما أن "كوميديا الموت" تقوم على ثنائية الموت والحياة والجسد والروح، فقد رصد الكاتب في هذه المجموعة أوجه الموت وأوجه الحياة،  ففي القصة الأولى تجلى الموت من خلال الذاكرة المثقوبة على الفراغ، فحين تذهب الذاكرة تنمحي فواصل الزمن ويندثر التاريخ ولا يبقى غير الفراغ، جسد بلا ذاكرة هو جسد قذر، له رائحة عطنة، فالذاكرة هي التي تخصب وتزهر، وغياب الذاكرة يصبح برائحة المرض ينخر الجسد المتعفن، غياب الذاكرة يميت الإحساس أيضا لأن الإحساس نابع من الإدراك، ويحنط الرؤية، فالرؤية تتوجه حسب محطات الذاكرة : " عيناه رغم أفول بريقهما تحدقان في سقف الغرفة بدون حركة أو رعشة تنظران إلى اللاشيء ببهتة وسكون " ص 15 ...

 

هكذا أراد فتحي الجلاصي أن يحدد ملامح جمود الحركة الذهنية، فهي استشعار لرائحة القذارة وتعفن الجسد، لأن الجسد كالشجرة . الشجرة إن اجتثت جذورها ذهبت خصوبتها، وكذك كل الكائنات الحية ... وبما فيها الإنسان، وتركيز الكاتب على رائحة المرض، وحركة العينين والالتصاق بالفراش كل ذلك يدلل على الالتصاق بصور الموت، وبذلك تحول الإنسان إلى صورة جامدة لكنها تترك عفونتها وكأنها تخثرت قبل أن توارى التراب . فعن أي إنسان يتحدث الكاتب ؟ عن الإنسان العربي الذي تسلب منه ذاكرته ويقع تسطيحه وإفراغه من شحنة الحياة ؟ عن الإنسان الحديث الذي صار يعيش ببعد واحد ؟ . وقد اعتمد الكاتب على الوصف  لوصف الحركات الجسدية لانسان يحتضر، وعلى استثارة حاسة الشم بنشر رائحة العطونة على صفحات القصة ...

 

 

 وبما أن " الكوميديا " قد ترادف كلمة العبث أيضا، فقصة "صابة الرماد" تنزع نحو هذا العبثي المفتقد للنضج . هي قصة يحركها طرفان : طفل صغير ينحو نحو اللعب والاكتشاف، وشيخ جليل يتأمل محصول القمح مستبشرا بالمحصول بعد سنوات عجاف . ويرسم الكاتب الحقل من فوق ربوة كحيز فيزيائي، ويمدنا بصورة فنية وهندسية لشكل الحقل: " يقف الشيخ فوق ربوة صغيرة تكشف مساحة حقله .. شجرة الزبوس العتيقة تظلله وتمنع تسرب أشعة الشمس الملتهبة إلى رأسه الأشيب ... يتأمل محصول ما زرع منذ أشهر خلت ... سنابل اكتمل شكلها، واصفر لونها، واكتنز الحب وجف داخلها، تهب عليها نسمات طفيفة فترقص منتشية متمايلة في شموخ ودلال إلى اليمين وإلى الشمال شجيرات الصفصاف الصغيرة تحيط بها من الأربع  تحميها من الريح إذا هب وعن له ايذائها .. يرى الشيخ كل ذلك فيطرب وينتشي كما لو أن سنابل حقله تنقل إليه نشوتها ..." ص17

 

في غياب وجود الاصدقاء في القيلولة، وفي غياب اللعب مع الأطفال يعثر الطفل على شمعة من المعدن، هي ولاعة قربها من ورقة الصفصاف الخضراء، فارتفع اللهب الممتد من الأوراق إلى الساق الى السنابل، ليلقي الولاعة ويهرب نحو المنزل ... هكذا أشار عنوان القصة الى وجود ضدين متناقضين، الولد والشيخ، الصابة والحريق، العمل والعبث، الصبر والاكتشاف الطفولي ... لتنتهي القصة بمشهد السنة اللهب وجزع الشيخ .. وغياب الحلم ..

 

ونتساءل بدورنا عن هذه الكوميديا التي يخترعها الذهن المتسم بعدم النضج .. والتصرف في غياب تقدير العواقب، كذلك الحروب يصنعها ذوي الفكر العاجز .. وكذلك الانسان طوع التكنولوجيا للتدمير و إشعال فتيل الحروب ... وفي غياب الحكمة والصبر، وفي غياب صناعة الحياة، فثمة اندفاعات عابثة تصنع المآسي،  ومن ثمة تقدم القصة وجهي الحياة في نضجها واكتمالها وفي فنائها، في صبر الشيخ وعطاء الأرض، وفي اكتشاف ساذج  للطفل وعبثه الطفولي . وتشير الى موسمي الحزن والسعادة، وتعود بنا إلى الرؤية الاغريقية للكوميديا في اقتران موسم الحصاد بالحزن .

 

 وفي موسم الزرع الذي تتسم فيه الطقوس برفع النساء لعصا تتماثل مع ذكورة الإلاه القادر على الانبعاث والإنجاب، فإن الكاتب يحاكي في قصة "الهارب" تلك الفحولة التي تعيد الحياة إلى الصورة الميتة : " في العادة حين يدخل مكتبه، ينجذب بصره بلا وعي إلى أعلى حيث اللوحة معلقة تحت فانوس ضعيف الإنارة خافت الضوء يزيد الجسم النائم إثارة ويضفي عليه مسحة من الأنوثة تجعل من صاحبته مبعثا للشبق فتنبعث في أحشائه حمى الفحولة وتثور فيه انفعالات الرجولة ويختمر جسده ويتخمر ويتمنى حالتين : إما أن ينحشر داخل اللوحة وتحتويه الأنثى انفعالاته وإما أن ينهض الجسد النائم وينبثق من اللوحة وينسلخ عنها ويبرز إليه كما هو بالقلب النابض والدم الدافئ والروح الحية فيلتحمان ويتعانقان ويتوحدان وتشتعل فيهما النار وتستعر ويعلو لهيبها ثم تخبو تنطفئ وتكون عليهما بردا وسلاما وعافية ..." ص44

 

وبما أن أوجه الموت الحديث تماثل ما يعيشه الإنسان الحديث من هواجس وخيالات وخوف في عالم بوليسي ـ حربي، فإن الكوميديا تتحول إلى تراجيديا، بخلق حالة من الخوف والحذر، وتوقع المجهول بوجهه المفزع، وقد تجلى ذلك خاصة في قصة "تراجيديا التأويل"، والتي تبدو شديدة الالتصاق بالتصدير لهذه المجموعة، إذ بدأ الكاتب تصديره للمجموعة القصصية بأغنية للأطفال لفونتر قراس : " من الذي يضحك هنا، من الذي ضحك ؟ لقد انتهى الضحك هنا / إن من يضحك هنا، يثير الشك / في أن لديه أسبابا للضحك / من الذي يبكي هنا، من الذي بكى ؟ لم يعد لأحد أن يبكي هنا / إن من يبكي هنا، يعني كذلك / أن لديه أسبابا للبكاء / من الذي يتكلم هنا، من الذي يتكلم ويصمت ؟ / إن من يتكلم هنا، قد أخفى بصمته مكامن أسبابه / من الذي يلعب هنا، من الذي يلعب في الرمل ؟ إن من يلعب هنا يقتادونه غلى الجدار . / فقد أفسد باللعب يده، كل الإفساد وأحرقها /  ص13

 

إن التصدير بهذه القصيدة تدليل عن البحث عن الأسباب النفسية الباطنية التي تحرك العواطف الإنسانية وتثيرها، وفي ذلك بحث عن المخفي داخل النفس الإنسانية من وراء مختلف الأفعال التعبيرية والحركية، فالتصدير يشير إلى رؤية قصصية تقوم على تفحص الشخصية القصصية لراو مسكون بهوس الخوف والتوجس ...

 

وتبدأ قصة " تراجيديا التأويل " وتنتهي في نفس المكان وعلى نفس الهيئة ، فهي قصة دائرية، تفضي المقدمة إلى الخاتمة، وكأن كلاهما يمهد للآخر، فهو يفتتح القصة بهذه المقدمة : " على المقعد أجلس... لا أسند عليه ظهري، بل أستند بمرفقي على الطاولة وعلى راحتي يدي أسند وجهي كأني أحمله ... القهوة أمامي في فنجان من الخزف الأبيض المذهب ... الفنجان على صحن صغير . على الصحن ملعقة وثلاث قطع سكر ... مازال الوقت أمامي لأضع السكر في القهوة " ص 25

 

وتنتهي القصة بطريقة دائرية : " عدت إلى قهوتي .. سأضع فيها قطع السكر الثلاث، وأحركها بالملعقة ... سأرتشفها وأتلذذ حلاوتها ونكهة البن التي فيها برغم انطفاء رغوتها وتلاشي زبدها ... أنا الآن لا فرق بيني وبين الخلق ... كل الخلق، سوى خيالي الخصيب " ص31 .

 

 

 العودة إلى القهوة مقترن بتوفر حالة من الهدوء إثر مرور حدث موتر يتمثل في تفحص صاحب النظارات السوداء للراوي الذي ظنه الراوي عون أمن، وتناهت إليه تخمينات غريبة غير مبررة قصصيا، فلا يتوقع الأذى عادة إلا من اقترف فعلة، ولكن الراوي أراد تضخيم هذه التخمينات، ليخبرنا في النهاية أن التأويل الخاطئ يعبر عن تراجيديا ... ولكنه يعطينا صورة عن إنسان هذا العصر المسكون بالتوجس وتوقع الأذى ... ويعكس هذه المشاعر المظطربة في أكثر من قصة وخاصة في قصة : " ويحمل الصمت معناه " : " أسير خلفي على مهل، قامتي منحنية بلا ظل، أتبعني لا دافع يدفعني . أسمع وقع خطواتي تسحبني . أتعقبني ... مندفعة رأسي أمامي، مكتضة تضج بأفكار معتمة، غائمة، تتدافع بفوضى وتتزاحم فيما بينها بلا انتظام، صور بلا ملامح، مشتتة، مبهمة، تمر منزلقة، لا تستقر بالذهن، لا تطفو ولا تثبت ... أسعى بعزم إلى لملمة هذا الشتات وترتيب تلك الفوضى، أو إلى التقاط صورة أنفخ فيها فتلمع معالمها وتوضح ملامحها، يقل عزمي ولا أدرك مسعاي ... أرنو ببصري إلى الجبل وأتمنى لو يسعى إلي وتدنو ناصيته مني ..." ص60

 

والرؤية من خلال الخيالات والأوهام والتعبير عن هواجس النفس وكبتها وشعورها بعدم الأمن، تعد " مجاز الرؤية " التي ستفضي إلى رؤية مغايرة عبر لعبة المرايا، رؤية، تتجاوز الخيالات والتخمينات نحو استعادة ظلال أسطورة عبرالإلاه الفحل في لحظة العودة إلى لحظة التعري من الوهم، واستعادة بهجة الجسد عبر طقوس الفرح  وانتشاء الجسد في رقصة الروح المتجددة ...

 

واعتمد الكاتب على لعبة المرايا في قصة " هستيريا المرآة العاكسة"، ففي لحظة مواجهة الذات ومواجهة الجسد الذي يراه الراوي مثيرا للاشمئزاز، وفي حالة التحرر من وهم الصورة والتعري من قناع الوهم في تعريه أمام المرآة باحثا عن لحظة عذرية في غياب القناع، ليشكل الخيال ويرسم المشاهد بطريقته، يسترجع حالات الفرح والحركة، وكأنه يشكل عالم الحياة من جديد في كون مشحون بارهاصات الخلق والإبداع، لتنتهي القصة بالصراع بين الحقيقة والوهم، وتنتهي بكسر المرآة وتهشم الزمن ومحاصرة الفراغ له حين يغيب الفضاء الذي لعب عليه الراوي أدوار التقنع والعراء، ولعب على ازدواجية الواقع والوهم، فالخيال والايهام، ولكن الأوهام التي وقع التعري منها كانت تدحرج الراوي نحو عالم تغزوه الأحلام باستعادة بهجة الجسد المعرض للموت ... ولعبة المرآة هي لعبة مخادعة لا تمسك بحقيقة الجسد، بقدر ما تكرر صورة الجسد التي قد تتكرر في اكثر من مرآة .. المرآة التي تتحول الى قناع يتشارك فيه أكثر من شخص تفضي إلى وهم يحاصر صورة الجسد وعلى حقيقة تفضي إلى الفراغ ....

 

ونستخلص من خلال هذه النماذج القصصية من " كوميديا الموت " أن المتخيل متلبس بالتخمينات والخيالات، والحقيقة متلبسة بالوهم، والواقع متلبس بالأسطورة، وتلبس المخاوف بالمواجهة ... فالثنائيات في هذه النصوص تتزاوج وتتقاطع، وصور الموت والحياة تتقاطع في فضاء نفسي لا يمكن أن يطمس الموضوعي فيه الذاتي ... النفس ذات وموضوع والتداخل بين الجانبين تداخل بين عناصر الحياة والموت  ... كما أن الظاهر قد يبعثر الباطن ويحدث فيه حالات إرباك وتشويش، للتعبير عن التوجس وامتزاج الخيال بالصور الظاهرة ... وكأن الإنسان طي هذه المجموعة القصصية يسير على حافة العدم، ويطبق عليه الفراغ، مما يكشف على تصدع النفس بتجاويفها ونتوءاتها ، وما التخمينات غير هواجس تسوق الى الهاوية والموت المثقوب بالفراغ، وتكوم الجسد والروح في كوميديا العبث :

 

" هؤلاء الذين يندفعون أمامي بمرح تسبقهم ضحكاتهم الصاخبة ويطوون شموخ الجبل طيا فينحني إجلالا تحت أقدامهم وينخفض خطوة تحت خطوة . أحاول اللحاق بهم لا هثا، فلا ألحقهم فأكتفي بمتابعتهم بجسد متكوم " ص67

 

واعتماد الكاتب على راو متكلم بلغة الأنا في أغلب قصص المجموعة، يعكس تخمينات الذات وهواجسها وتوجسها في الفضاءات الفيزيائية والطبيعية التي قد تتسع لأحداث درامية كما هو شأن " صابة الرماد "، وفي الاعتماد على التقابل بين ثنائيتي الزرع والحصاد استعادة الى طقوس الكوميديا بوجهيها المنير والمظلم ... فالكوميديا تنقذ موت الجسد المسطح وتحمله بسيكولوجيا الراوي الذاتي ... الراوي الذي ينطق ويفصح المخفي المنعكس عبر الحركة ويمنح الحركة شحنة تعبيرية وسيكولوجية . ويمزج الكاتب الحركة الفيزيائية بالاستبطان والمونولوج ... وغالبا ما يحاول الاقتراب من صورة الموت عبر  لحظات الخيال لينفذ منها الفراغ والخواء ...

 

وإن كانت الكوميديا تقوم على "الحركة المتداخلة لتأكيد الحركة "، فايقاع الكوميديا يتداخل مع هلوسات التراجيديا، لينفذا إلى بعضهما البعض ويتقاطعا، ويعبرا عن عواطف متباينة تستكين في النفس وقد تؤدي حالة منهما إلى التعبير بعاطفة الأخرى ... تعبير عن فرح بالبكاء وتعبير عن الألم بالسخرية السوداء ... وفي  الحالتين فإن الكتابة التي تنطلق من السيكولوجيا الذاتية هدفها مخاطبة العواطف وايقاظ الحيرة وارباك القارئ ..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1431 الجمعة 18/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم