قضايا وآراء

التصوف كخطاب تنويري

 والشهود بصفته مجازا يرمز إلى شيء يغيب، لكنه الأكثر حضورا بصفته حقيقة في لغة النص، فالغيب هو أصل الشهود والعالم فرع لأصل لا متناهي عصي على الاستكناه والإحاطة.

هو غيب يتشكل ويتفاوت في التواجد ويتباعد عن مجازيته كلما تأتى له أن يكون غيبا محضا. لكنه مع ذلك يدخل في وحدة وجودية تنفي إزدواجية العالم بين الله والأشياء، وهي الإزدواجية أو الثنائية الأنطولوجية التي تشكل جوهر الرؤية الدينية المغايرة للتصوف.

العالم مجاز والعالم الآخر هو الحقيقة، هكذا في النص الصوفي، ولكن في هامشه حين يسجل التصوف تمردا بإلتفافه حول النص، نافيا تلك الثنائية الأنطولوجية حينا، ومقوضا هذه الوحدة التيوصوفية ومتمردا عليها حينا آخر، تنهار كل تراتبية وجودية ليصبح العالم فضاءً لا متناهيا لحقائق تتشاكل في صور وكثرة تتوحد في رمز واحد هو الله.

فالله بحسب إشارة إبن عربي عبارة، والعالم الذي هو في المفهوم الصوفي الوفي والأمين لمرجعية وأبوة النص ليس أكثر من مفهوم أو دال أو حتى مجاز، يصبح هو الحقيقة في التصور الصوفي الأوديبي الذي انتهك مرجعية النص وأبوته. فالسيمورغ هو الذي يبحث ويكتشف ذاته في الطيور الثلاثة عشر وليس كما يتبدى في منطق الطير لفريد الدين العطار.

مقاربة لا تخلو من مجازفة يبني عليها المفكر علي حرب افتراض تحول الغيب والماورائيات الصوفية إلى ناسوت يكون فيه الله محلا للتمرئي، فهو صورة تنعكس فيها الوجودات المرئية، فيتأنسن الله والعالم ويصبح حب الله وحب المرأة من طبيعة واحدة، كما يريد أن يقول علي حرب.

لكنك حين تقرأ علي حرب في كتابه "الحب والفناء- المرأة / السكينة / العداوة" تنتابك الدهشة، فاللغة والجهاز المفاهيمي وبنية النص كلها تراثية بإمتياز، بيد أنه يباغتك بالسر بعد شوط من القراءة، فتدرك أن النص يرتكز هو أيضا على لعبة من لعب الخطاب المبنية عليها مقاربته التأويلية للخطاب الصوفي الذي هو أيضا يعج بمواربات خطابية هي في التصوف شطحات.

لعبة الخطاب بحسب علي حرب ترتكز على الحب، فالحب هو الثيمة المركزية في البناء الثيوصوفي الذي يجعل من الله كما المرأة موضوعا له، في علاقة تتسم بالجدلية، ولأنها كذلك فإنها تتفاوت في أنماط صوفية تبتعد أو تقترب من روح النص ومرجعيته بين أنسنة الله والعالم وبين تأليه الإنسان والطبيعة. ولا أدل على ذلك من التجربة الصوفية لشهيدة العشق رابعة العدوية التي لاحظها على حرب وأقام على دلالاتها المتخمة رؤية تأويلية للتصوف، مثلما تكشفت له مناطق معتمة في خطاب إبن سينا بتسليط الضوء على ممارسته خارج النص، فإنشطار الحب عند رابعة العدوية بين الله والإنسان أو التناشز في تجربة إبن سينا بين الممارسة والخطاب، كل ذلك يفتح إمكانات هائلة في تأويل الخطاب الصوفي والإنزياح به إلى أنسنة تحل الشهود محل الغيب أو الحقيقة محل المجاز أو الإنسان محل الله.

وإذا كان الدين هو في جوهره إرتحال دائم نحو المقدس فإن العالم في نظر الصوفي وقد أصبح موضوعا للإبتهاج والحب يضفي على القداسة مفهوما تعدديا يجد صداه في تقريرات مفتاحية مجازة صوفيا، كهذا النص المركزي والمفتاحي: "الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق".

وتعددية العالم تقود إلى تعددية الأفهام والقراءات والتصورات الدينية، إمكانية مفتوحة للتأويل والقراءة، والتأويل ليس مجرد تقنية تفسيرية، بل هو الإمكانية الوحيدة للمعرفة حين تكون نشاطا للفهم أو حين يسبق الحدس المعرفة والوجود الهوية وكذلك حين يندمج الشيء والفكرة في وحدة سيكوفسيولوجية كما يعبر أسبينوزا في فلسفته التي فيها مكانا رحبا لعقيدة وحدة الوجود.

الخطاب الصوفي خطاب تنويري متفجر بالدلالات في التراث الإسلامي، ليس لأنه يمثل رؤية مبكرة في انزياح الدلالة وانزلاق المعنى، أو لأنه يفتح مجال المقدس على مصراعيه ليحتضن قراءات متضادة أو لأنه يوحي باختلاف الشي في ذاته عنه كمدرك ليدشن لإمكانات تأويلية مفتوحة وثرية، ليس لهذه الأسباب وحسب، بل لأنه وبالدرجة الأساسية سعى إلى أنسنة الدين والغيب، فكان وبإميتاز تجليا مشرقا لأنسنة مبكرة وفلسفة وجودية قبل وجودية سارتر وهايدغر ورؤية هرمونوطيقية قبل بول ريكور وفلسفة التأويل المعاصرة، يقول حرب: والحق أن النص الصوفي هو خطاب مدهش في غناه المفهومي والنظري. ولهذا، فإننا إذ نعيد قراءة هذا الخطاب لا ننظر إليه على نحو تبسيطي فنرى فيه خطابا مضادا للتنوير، بل نتأمله ونعيد فهمه ونرى إليه بوصفه خطابا وجوديا بالمعنى الهايدغري للكلمة، أي نرى إليه بوصفه دعوة إلى عدم نسيان الوجود وبوصفه تأكيدا على أن المعرفة هي في أصلها حدس وانكشاف، فالإنسان يوجد ثم يفهم... كما يقول بول ريكور شارحا هايدغر".

هكذا يثمن علي حرب تجربة الخطاب الصوفي في قراءة العالم والإنسان لكنه ليس وحده من أشاد بالتصوف واستشعر إلماعاته وانعكاساته في اتجاهات فكرية وفلسفية أنتجتها الحداثة، فلئن أشاد علي حرب بالتصوف بوصفه خطابا وممارسة في اللذة والحب في آن معا، فإن عبد الرحمن بدوي قد قارب التصوف كخطاب منتج وأقام تماثلا بينه وبين الوجودية، خاصة التصوف الغنوصي الذي يعطي الأولوية لتحقيق الخلاص إلى المعرفة على حساب الإرادة أو الحب أو السلوك.

عبد الرحمن بدوي سعى إلى معرفة الذات من خلال الآخر الذي عرف الحلاج أول ما عرفه كوجودي، أكثر من ذلك، فمن اللافت أن تترادف في لغة الآخر كلمة تصوف مع كلمة إلحاد أو عدم، ومعرفة الذات لا تتأتى إلا من خلال معرفة الآخر، والمقارنة هي السبيل الأنجع والأقصر للمعرفة، من هنا شبه عبد الرحمن بدوي تجربة الحلاج بتجربة كيركيغارد واعتبره وجوديا صرفا.

وإذا كان لكل دين أو ثقافة مكامن ابداعية تتوغل من خلالها إلى الثقافات الأخرى، فسنجد مع المستشرق أغناس غولدتسهير أن التصوف هو سر النبوغ والإبداع والتأثير الإسلامي على ثقافات كانت تشكل ثقلا ثقافيا غنيا ومتخما بالمؤثرات، كثقافة الهند الحاضنة لفلسفة الفيدا والمهابهارتا والبهجفاجيتا واليوبانشاد ونيرفانا المستنير بوذا. على أن غولدتسهر حين يؤكد التأثير الإسلامي فإنه من جهة أخرى يؤكد أسبقية التأثر على التأثير، في حين أن اتجاها استشراقيا مغايرا ينفي التأثر كليا بإعتبار التصوف الإسلامي نبوغا ونتاجا إسلاميا محضا، مثل نكلسون وآنا ماري شيمل التي تنفي عن البسطامي خاصة -وهو صاحب مدرسة فارس المختلفة عن مدرسة الجنيد في العراق- أن يكون قد تأثر بالفكر والفلسفة الهندوسية والفيدية تحديدا رغم جاذبية هذا الاحتمال، مبررة ذلك بوجود فوارق جوهرية بين تجربة البسطامي وخبرته الصوفية وبين التصوف الفيدانتي.

لكن تقصي الإمتدادات الصوفية في الفكر المعاصر يتجاوز التماثل المنهجي مثلما نجده في التأويل الهرمنوطيقي المعاصر أو التماهي في النتائج والمخرجات كالتماهي الوجودي مع الصوفية إلى ما هو أبعد وأشمل من ذلك بكثير.

إن تقصيا يلج في عمق الفكر الصوفي سيكشف عن تماهيات تمثل أبعادا أساسية في التصور الحداثي للإنسان والمجتمع والعالم، هنا يجب الاستدراك بأن ذلك لا يعني انبناء الإيمان أو أي فعالية أو نشاط وجداني داخلي على التفكير العلمي فالتصوف يرتكز أبستمولوجيا على الذوق المرادف للحدس، والحدس وعي مباشر بالكون لا ينتج تصورا علميا حقانيا، وهنا كانت محاولة أدونيس الذي أدرك التداخل الوثيق بين التصوف كحدس أو ذوق أو وعي مباشر بالعالم وبين السريالية كنظرية جمالية ونشاط أدبي وفعالية فنية منبجسة من تخييل العالم، حيث يصير السريالي الواقع حلما والحلم واقعا، وكل ذلك لأن الثيوصوفيا كفلسفة متشعبة الاتجاهات والمذاهب تكشف عن تمظهرات حداثية تستحق الإشادة والتثمين، غولدتسهير درس المسار التاريخي للتطور العقدي والتشريعي للإسلام وعرض لأهم تبدياته وتمظهراته مبديا جملة من التحفظات، ولكنه ما إن وقف على التصوف حتى أشاد بحساسيته الجمالية ورؤيته العشقية للعالم وانفتاحه على مفهوم أنسني للإنسان. التصوف كما يرى غولدسهير وآنا ماري شيمل، كان يمثل شعلة للتسامح وسط عالم يعج – بالنسبة لهما على الأقل- بالاستبداد والكراهية والأحادية. فما عاد الدين مع التصوف مجالا للاحتكار والخصومة، لأن مجاله القلب، والقلب يتقلب، والأديان ليست سوى صور، وفي هذا يقول ابن عربي: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي، إذا لم يكن ديني إلى دينه داني// وقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان وبيت لأوثان// ودين لرهبان وكعبة طائف، وألواح توراة ومصحف قرآن// أدين بدين الحب أنى توجهت، ركائبه أرسلت ديني وإيماني".

التسامح والأنسنة "بالمفهوم العام" والتعددية وانفتاح الدين على سائر الأديان والحقيقة على سائر التأويلات والثقافات والقراءات، وبعبارة أخرى: كسر ثقافة الإحتكار والأحادية والانحياز إلى تعددية جميلة تستوعب الإنسان والعالم بكثرته وتعدديته، لهي مقومات تتيح للمفتتن بالمعرفة وحدها أن يقارب التصوف بعيدا عن أي نزوع علموي لا يتوافق مع تداعي الأنساق وانكشاف لعب الخطاب، فالنص الصوفي يبدو بارعا في إلتفافه على النص المرجعي وتمرده الذي هو نفي محض يجد صداه في أشد الشطحات كثافة وأكثرها دلالة: الله عبارة عند من يفهم الإشارة.

السيمورغ وجد ذاته على الجبل، والكعبة تطوف حول رابعة، والبسطامي جال السماء والأرض فما وجد إلا البسطامي: لعب خطاب وحيل لغوية، تحرض الإنسان المعرفي والمسكون بشغف الكشف مثل صوفي، وتحفزه لاكتشاف الأبعاد الخفية للتصوف، مغامرا في قراءة مغايرة تكشف عن التواشج بينه وبين مفاهيم وأفكار أقرتها الحداثة كالتسامح والأنسنة والتأويل وقبل كل شيء:الحب.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1432 السبت 19/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم