قضايا وآراء

المتشابه والمختلف في قصائد يحيى السماوي

إنه ?حاول دائما أن لا ?لتزم بشكل محدد أو قاف?ة مع?نة، وهو في مجمل تجربته مع الشعر ?قدم لنا تول?فة من الأشكال المناسبة.

- التفع?لة: التي تضعه في مكانه الطب?عي من إطار الحداثة المبكرة، ومن نوا?اها الدمو?ة تجاه الأب أو القانون (بتعب?ر عالم النفس الفرنسي لاكان).

- ثم قص?دة النثر التي حملت أوزار الأمراض الفن?ة المترتبة على تفاعلات عالم غامض ووجدان غ?ر محدد ولا ?قبل شروط التعارف، وهموم لا تعلم متى تنتهي الحاجة للحر?ة وأ?ن تبدأ الضرورة لتطب?ق الم?ثاق. وهي تبدو أشبه بنزوة ضمن الإطار العام لتجربته الفنية، كما هو حال الفن عموما، نزوة عابرة وتجريد خاص لا يعترف بالسياق ولا بالنشاط الاجتماعي الواعي لمجمل الجنس البشري، ولا حتى بجوهر الصورة الفنية باعتبار أنها انحراف عن مبدأ المحاكاة والقياس الواقعي أو الأرسطي.

- وأخ?را القص?دة العمود?ة التي وضعته في مرتبة آخر الكلاس?ك??ن.

و لذلك كان نشاطه الشعري ?نحصر في الموازنة ب?ن ضبط المفردات وإطلاق العنان للرموز .

و لكن دائما يمكن ملاحظة مفارقة بين الأشياء وشروطها في قصائد الأستاذ السماوي.

- فهي لديه تنشطر إلى أجزاء غير متساوية : عنوان يعبر عن ذات في (حالة ضغط – أو حصار)، وتغلب عليه الرموز (أو النشاطات الكنائية، إن توخينا الدقة)، ثم نص وموضوع يتألف من عبارات شفافة وأسطوريات ذهنية صغيرة . وهذا يأتي بمثابة دليل دامغ على الطباق المعاكس الذي يوفر للقصيدة حساسيتها وشعريتها، بالإضافة إلى التشابك في المفردات والتشابك في الأزمنة، ثم التجاور بين الأساليب والأشكال .

- وهي تعتمد على استهلاك المعاني التي تقترض من شروطنا البشر?ة ومن القوان?ن الماد?ة المؤسفة المحكومة بمنطق الامتناع. ولكن هذا لم يتسبب في اضطراب بالمعاني. فقد كانت القصائد متشددة في وحدتها العضوية، وتعكس في سلسلة من المرا?ا المتعاكسة اتجاه?ن أساس??ن هما بالتحد?د : المراثي والنس?ب أو الغزل، بالإضافة إلى الجسر الذي يصل بينهما وهو المديح.

و يمكن القول إنها قصائد تعزو لمديح الموت نفس الوزن الذي تعزوه لمديح الحياة.

لقد كانت الص?غة الن?ائ?ة لشعر?ة ?ح?ى السماوي متطابقة مع قانون زمن الشعر. بمعنى أنه يعكس في نصوصه الحساس?ة الشعر?ة بشكل عام، مثلما ?و شأن جبران خل?ل جبران . طبعا ?ذا دون التضح?ة برؤيته الشخص?ة. لم ?فرط ?ح?ى السماوي في أ?ة مرحلة بصوته الخاص، ولا بالنغم الشجي، ولكنه أ?ضا لم ?فلت من ب?ن ?د?ه المفات?ح التي حملها أسلافه . لقد كان ?تعاطى مع نفس المفردات في نفس الس?اق الدلالي والتار?خي و?ي الغربة والموت ومرادفات?ا : مثل الرح?ل والغروب والأوبة، وغ?ر ذلك، ولكن عبر كائنات اشتقاق?ة تتبوأ معنى. ول?ذا السبب كانت الحرب أو الثورة تتحول لد?ه من خطاب مباشر إلى مجرد توصية بالرثاء للضحايا . وقد بلغ ?ذا الخط ذروته مع قص?دته شاهدة قبر من رخام الكلمات، ثم إ?ه ?ا ذا الحزن الجل?ل.  كما صنع قبله أبو الط?ب المتنبي ش?خ الشعراء وعمدت?م، والذي غدرت به الرسالة، فاضطر إلى تلاف??ا عن طر?ق تكن?ك التحو?ل الفرو?دي . وأقصد ?نا البحث عن اللحظات ال?اربة في الح?اة والبحث عن صور الموضوع المفقودة والتي تتعرض غالبا لشقاء مرضي، أو ازدواجية أوديبية، تضع النتائج في موقع الأداة.

و بهذا الخصوص كانت العلاقة بين الذات والموضوع تأخذ شكل خط مستقيم، وله نهايتان . الأولى تسجل الانطباعات الخاصة بالغائب، أو الراحل الذي أصبح جزءا من الذاكرة وبنيتها. والثانية تعيد إنتاج صفات وشيم الغائب من ناحية السلوك والأخلاق، وهي غالبا واقعية وليست خارقة ولا تنتمي إلى صف المبالغات العالم - ثالثية، وعلى وجه الخصوص ما له علاقة بالعاطفة (كما كان يفعل نيرودا) أو بالوجدان والخيال (كما فعل في النثر ماركيز أو إيزابيل ألليندي وغيرهما) . وهذا يشير ضمنا إلى توزيع منطقه واهتماماته على جانبين : عام (بشكل أطروحة - الشيء لذاته) وخاص (بشكل الأطروحة المضادة – الشيء بذاته بتعبير هيغل). أو كما نقول في النقد الفني : الإمكانيات والانجاز.

و الأمثلة على ذلك كثيرة وبالأخص ما ورد منها بأسلوب الندم والعتاب . كقوله في قصيدته الطويلة مسبحة من خرز الكلمات : أملك من الوطن، اسمه في جواز سفري المزور، من نداماي، وشاياتهم، من بحار الأحبة، الزبد، من لؤلؤ الحظ، الصدف، ومن اللذائذ، الندم (ص 146).

و قوله أيضا : أنا العبد الحر، والحر العبد، محكوم بانتظار غودو جديد (ص 147).

أو قوله في رائعته (على مشارف الستين) :

تلك الديار علام أعبدها ؟

لا ناقتي فيها .. ولا جملي !.. (ص 41 – مجموعة لماذا تأخرت دهرا).

و يمكن أن نلاحظ أيضا أنه متى اقتربت القصيدة من موضوع الحب (كرغبة فرو?د?ة مؤجلة بالح?اة والغبطة)، تعود دائما لتنضوي تحت لواء الحب) باعتبار أنه عاطفة أو تجربة عضو?ة مكبوتة ومحرومة وتسبب الشقاق مع الواقع والنظام). وربما لهذا السبب كان الغزل هو الوجه الآخر أو الصورة التي تعكسها صفحة المرآة عن الح?ف والألم وعن الحن?ن لما هو ممنوع .

و مثال ذلك قوله: ليس اتهاما، أنت ما أبقيت لامرأة في قلبي فسحة، ومسحت من مرآة عيني الوجوه (ص 30 – من نفس المجموعة السابقة).

- وكذلك تتوسع معظم القصائد في دلالات الأم ومعانيها، وتتساوى لديه بالمعنى الرموز المباشرة التي تدل على رح?لها أو موتها، مع الكنا?ات البع?دة التي تترك أثرا ?دل على المهد الدافئ والب?ت السع?د والمد?نة الط?بة، وبعبارة أوضح الوطن الممنوع والمنفى البارد.

- أضف لذلك أنها تنتقل من الإشارة لما هو مادي إلى الأثر المتبقي في الوجدان، أو من التعامل مع الواقع إلى التعامل مع الأحاسيس، وهذه هي نفس المزدوجة التي كانت تضرم النار بجم?ع أشعار رائد القص?دة الفلسط?ن?ة المغفور له (محمود درو?ش).

و من الأمثلة على ذلك قوله في مجموعته (لماذا تأخرت دهرا) : أنا سوطي وجلادي، أنا الن?ران، والحطب ( ص 111) . أو قوله عن حكمة هذا الزمان الغادر والض?ق : الصبح كهف موصد (ص 119). وقوله كذلك : طعنة أخرى، وتشفى، من عذاب الجسد) ص 130) .

إن هذا التقاطع الافتراضي ب?ن الرموز والصور (باللغة التقن?ة : الإشارات والأل?غوري) كان هو الأرض المتفق عل?ها ب?ن الشاعر وأسلوبه، للتعب?ر عن مصالحة غ?ر ممكنة مع العلامات الثابتة والقهر?ة والمتحولات الخارجة على القانون والحاملة لجم?ع أدوات ومضام?ن ثم مفاه?م الثورة.

باختصار، أعتقد أن ?ح?ى السماوي كان ?عكس في مجمل محاولاته الشعر?ة معنى الل?مبو، أو المط?ر، أو بالأحرى مف?وم الصالة التي نننتظر ف??ا علامات إثبات على وجود، علامات عقلان?ة لما ?صعب ف?مه واست?عابه، ولكل ما يرفض اللوغوس . وربما ل?ذا السبب لم تتوضح لد?ه الأسئلة الفعل?ة لما أزمع عل?ه، بمعنى أنه فرض على خطابه ملامح تنتمي إلى فن الشعر وضرورات الح?اة. ثم فرض على نفسه ومعان?ه أسلوب (المخ?لة) التي تصنع (الجو?ر) . و?ذا التعب?ر أصلا ل?نري م?لر في تفس?ره الغامض لشعر?ة رامبو.

 إن المفردات الواضحة التي ?ستعمل?ا ?ح?ى السماوي كان حر?ا ب?ا أن تفترق في أدائ?ا عن ال?ق?ن?ات الإ?د?ولوج?ة التي أسس ل?ا المعلم الأول: الب?اتي . وفي نفس اللحظة أن تندمج بخط م?د له السياب، وتابع ف?ه بعد نصف ج?ل كل من جبرا وسركون بولص: مفردات واضحة ل?ا دلالات محددة، ولكن احتفظت بمسافة عن الغر?زة الصناع?ة للماك?نة، للمرجع?ة، للخلف?ة في بعض المشا?د. وتركت على الدرب شتى النقاط الفارقة ابتداء من الظل الحز?ن والمضطرب لعصر ?شهد على رح?ل آخر الكلاس?ك??ن الكبار، وحتى بزوغ فجر القص?دة المضادة.

و لعل ?ذا ?و السر الصغ?ر وراء نجاح قصائده.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1434 الاثنين 21/06/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم