قضايا وآراء

إشراق الذاكرة في ملكوت الظلام ..!

الحاكمة آنذاك في العراق وأيضاً كي لا يخسر ذاته كشاعر وإنسان فاختار السكوت عن النطق شعراً واشتغل في الجانب الاكاديمي والترجمات وأبعد عنه نشر الشعر .. لكن هذا الكائن ظل عالقاً وقابعاً في أوردة البياتي ردحاً من الزمن يكتبه ولا يُريه النور.

لم تكن حياته سهلة أيضاً فقد تنقل كثيراً بين المدن منذ صغره وأثرى الحياة الادبية كمترجم عن اللغة الروسية وغير ذلك  ساهم في تأسيس جامعة البصرة وعمل فيها ورغم تنقله  إلا ان البصرة كان لها الاثر الكبير في حياته العلمية والعملية ... وبين صعود وهبوط انتقل للتدريس خارج العراق .. لتبدأ رحلة اخرى من العناء واللا استقرار . لكن ما لم يخطر على بال أن يحمل العناء شكلاً آخراً من الغربة بفقد البصر ..!

ورغم ما يعانيه إلا انه يأبى أن ينصاع للظلمة التي اطبقت على عالمه ..فراح يبحثُ عمّا جمّعه من شعر وراح يكتب ظلمته شعراً ويحيلها ضوءً يرى من خلاله عالماً لا يعرفه غيره. فجاء ديوانه -في ملكوت الظلام- بعد خمسين عاماً من  العزلة والصمت .

في ملكوت الظلام:  العنوان بحد ذاته  اصطيادٌ للقارئ كي يتصفح هذا الكتاب ليجد نفسه أنه أمام رحلة بصرية تنقله حيث مملكة الشاعر الذي يسكنها وحده فالعنوان بمثابة دعوة من البياتي( للقارئ / ولنا) بأن نرافقه حيث ملكوته .. للتعرف عليه  من خلال ما اراد اشراكنا به فعلنا  نقرأ .. نُحسّ ..وربما  نبصرهذه الظلمة معه .

لكن الظلمة والعتمة لم تسلب روحه المتفائلة والحيّه فجاء الديوان غنائياً رغم ما اكتناه من وجع وشكوى فالايقاع الشعري جاء اعلى من العتمة فراخ يخلق نواقيساً تُقرَعُ في هذا الملكوت..  وسأكتفي بهذه الاشارة حول التفاعيل المعتمدة  لأدخل في ثيمات أراها عاملاً أكثر أهميّة في بنيان الديوان كـــ :

الاعتماد على الحواس  ..الاعتماد على الصوت..اعتماد النسق الغنائي –كما ذكرت- ببعض القصائد من خلال التفعيلة والايقاع الشعري .. التركيز على الاشخاص والوجوه .. الحنين للوطن .. اعتماد القواعد  السردية في النسق الشعري كخلق شخصيات وادوار كما في قصيدة ابي حنظلة الغرابي لتكون القصيدة بمثابة قصة قصيرة او مستوحاة من قصة قصيرة .. وغيره كثير.

 

اولاً :الارتكاز على الحواس: 

من أهم الثيمات التي ارتكز عليها الديوان هو التعامل مع الحواس الخمسة وتحديداً حاستيْ البصر والسمع حيث يستعيض الشاعر عن بصره بسمعه ..ليبصر من خلال سمعه  فيقول في وصفه لحنينه المستبد للعراق :

انني ابصره سمعا وحسا في هديل الهادلات

وخرير الساقيات

وحفيف السعفات الحانيات

انني المسه عقلا وقلبا في دعاء الداعيات..

انني المحه رغم حجاب الظلمات

شفتي تلثم دجلاه

وقلبي فوق امواج الفرات

لنعرف أن كل الحواس اصبحت  سمعه .. وهنا يذكرني بقصيدة الساب العظيم .. المسيح بعد الصلب .. في المقطع الاول منها حين يقول:

بعدما أنزلوني ، سمعت الرياح

في نواح طويل تسف النخيل

و الخطى وهي تنأى .

 إذن فالجراح

و الصليب الذي سمروني عليه طوال الأصيل

لم تمتني .

 و أنصت : كان العويل

يعبر السهل بيني و بين المدينه

مثل حبل يشد السفينه

وهي تهوي إلى القاع .

في هذا المقطع نجد ان لا حاسة غير حاسة السمع فالوقت ليل اذن وهنا يعني ان اللون الاسود هو الذي يلف المكان .. ذاته اللون الذي يلف الشاعر البياتي .. ولأن كل الحواس تعطلت بفعل الموت او الشلل التام عن اداء وظيفتها مازال السمع يسمع الريح وهي تنوح ومازال يسمع الخطى تنأى .. وحين يشتد الالم ويحضر الغياب التام عن العالم .. يحاول جمع كل ما تبقى له من قدرة على ان يُنصت ليسمع العويل .. الذي اصبح رسولاً  بينه وبين المدينة .. هنا تماماً ما يجسده البياتي في هذا المقطع .. لم يعد لديه سوى حاسة السمع يستعيض بها عن كل شيء .. ليبصر العراق بسمعه .. لتصبح هذه الحاسة هي الرسول الاصدق  بينه وبين ما يجري في العراق ..  بينه وبين الاخر ..  بينه وبين العالم .. بل في كلا المثالين تأكيد على ان السمع هو البوابة الاولى لولوج العوالم المظلمة .. هناك مع السياب كان ولوجاً الى عالم يتأرجح بين الموت والحياة .. وهنا عالم حيّ وراقص لكنه مطبق على ظلمته .. ورغم كلا الظلمتين نجد الأمل المنبعث من قصيدة البياتي .. بانتقاله من السمع الى حاسة اللمس .. كأنها دعوة أن نجرب ولو لمرة واحدة كيف لنا ان نبصر سمعا وحساً .. ان نجرب كيف نلمس عقلا وقلباً .. هذا التراتب الحواسيّ من السمع الى اللمس ومن ثم العودة الى البصر فتحت امامه كوة من نور كي يلمح ما يريد .. انني المحه رغم حجاب الظلماتِ..!

ثانياً: الترابط الصوتي والشخوصي:

 واعني بالصوت هنا هو صوت الشاعر الذي ملأ الديوان بحلل مختلفة .. تختلف باختلاف الشخص .. فتارة يأتينا كــ مونولوج لا يحاكي احداً بل هي جلسة الذات مع الذات كما في قصيدته سبعة اعوام في ملكوت الظلام:

سبعةٌ مرت وما زلتَ تمني النفس ان النور آتِ

هنا حديث النفس للنفس .. ويتكرر هذا المعنى  ذاته بتغيير بسيط في قصيدته حالتان اخريان من كتاب العميان – التمني-

سبعةٌ من عمرك المظلمِ قد مرّت

وما زلتَ تمني النفس ان النور آتٍ

هذا (المونولوج)  ماهو الا  دليل تواصل الذات مع  ذاتها ..فبفقدان حاسة من الحواس يدخل الانسان مرحلة البحث عن الذات بشكل اعمق ويكون الحوار بينه وبينها شرطاً دائماً للبقاء.. فكيف لو كان لا شيء يحيطها غير الظلام  المطبق..؟

هذا الصوت ذاته يتحول في أماكن أخرى الى( دايلوج).. ليتخذ شكلاً درامياً معتمداً على الحدث .. كما في قصيدته التناسي:

قلتَ لي نحن التقينا قبل هذا؟

اي نعم نحن التقينا كان ذاك......!

الصوت هنا هو حالة من التواصل مع الاخر بخلقه على أرض الخيال إن لم يجده في الواقع .. بمعنى أنّ الاصوات ترابطت بشخوصها  بشكل درامي تصاعدي ..حتى يخيّل انّ صوت البياتي هو صوت الراوي في الديوان .. فراح يحاكي أبطاله كلاً حسب صوته وما ترابط معه من ذكريات..!

من هنا نعرف الدافع لخلق هذا التعدد بالوجوه والاشخاص في الديوان حتى يكاد كله مزدحماً بالوجوه الكثيرة  .. واصوات كثيرة بل كثيرة هي الاهداءات أيضاً.. فنقرأ سبع زهرات من جنائن شتى وهي رباعياتٌ طرّز بها ديوانه

يحيلنا الصوت فيها الى ذاكرة البياتي التي لا تشيخ باستحضار من يحبهم .. فنجده يخاطب فيروز  مستذكراً صوتها الذي كان بلسماً لحزنه .. ونجد لميعة عباس عمارة  وهو يعيد شريط ماضيه وكيف كانت تناديه - انت ابني- :

عندما اذكرها وهي تناغيني بزهو انت ابني

يرقص الماضي بصدري تنجلي غيمة حزني

ويزور النور ديجور جفوني

فأراها في ملاك يحتويني يحتويني..

لم يعد شيئا آخر غير ذاكرة تفتح شريط ذكرياتها  فتعيد في عينيه رؤية الوجوه التي عرفها وأحبها وعاش اجمل ذكرياته معها .. ولأنه تعوّد ان لا ينكسر راح يكسر هذه العتمة بذكريات الماضي .. راح يستعيضُ بالماضي عن حاضره الذي بدأ يتنكّر له .. حيث لا أحد يفهم ملكوته الذي هو فيه غيره ... ليخلق بوابة للحوار والنقاش والتواصل الذي يفتقده بكل تأكيد في حاضره.. فراح يكلم لميعة عباس عماره وكأنها تسمعه الان او كأنه سيعود الان لتلك اللحظات .. او كأنما هي  ستعود معه للماضي لتقول له انت ابني فيزهو بالنور الذي يتخلل ديجور جفونه.

وكذا الحال ينطبق على بقية الزهرات لكل واحدة ذاكرة ولكل واحدة خطاب يُشبهها .. وهنا استطيع القول ان الدكتور البياتي انفرد بخلق عالم خاص به من خلال هؤلاء رافضاً – ضمناً- عالم اليوم ووجوهه التي تنكرت  له .

فحين وجد نكران الحاضر له وتنكر البعض له وتغييبهم المتعمد له احياناً ... راح يستبدلهم بوجوه وجدها هي الأقربوالابقى.. لم يستذكرهم فقط بل راح يتغنى بهم  ويكتبهم ..!

أراه هنا اراد ان يوصل من خلال هذا الديوان وفاءه العميق  للماضي .. ليكون رغم ظلمته المطبقة لكنه الاقدر والاجدر بالوفاء لكل من ترك بصمة في حياته ..يراهم ويحسهم بسمعه وحواسه .. فما  تعدد الوجوه والاصوات الا رداً على حاضر يتنكر له ليقابله  بتجنبه بما فيه من وجوه واصوات  .. والعودة الى الماضي والابقاء على تلك الوجوه التي مازالت الذاكرة تختزن صورهم واصواتهم..!

 

ثالثاً: الحنين: ويأخذ معنيان مرتبطان ببعضهما الاخر .. الاول حنينه للعراق الذي يمثل حاسة البصر .. فالعراق بمثابة عينيه ... ومنه يأتي الحنين الى النور والى الابصار والخروج من الظلام الذي يلفه .

هذا الحنين يتجلى في قصيدته  -التماس-  المهداة لابي العلاء المعري  .. ابي العلاء المعري اطلق على نفسه "رهين المحبسين" حين حبس نفسه في دار اهله وحبسه العمى عن الابصار فسمى نفسه رهين المحبسين وهي ذاتها الحالة المنطبقة على الدكتور البياتي .. حنينه الى العراق الذي يشبّهه بعينيه ..لتكون الغربة اشد وجعاً على الشاعر حيث ظلمة العين وظلمة الغربة والعزلة .. وبهذا كأنه يفقد الوطن مرتين..  فهو يفقد العراق/ الوطن..  و يفقد العراق / البصر ..!

إنني تلميذك القابع

في أعمق من زنزانتين:

العمى

والعزلة السواء

 

 

ورود الموسوي

لندن 24-01-09

........................

قُدّمت هذه القراءة بتاريخ 29 -1-2009 في جامعة لندن للدراسات الشرقية والافريقية في الامسية التي عقدها قسم اللغات والدراسات الشرقية عن الدكتور حسن البياتي بعد صدور ديوانه في ملكوت الظلام

1- فيروز مغنّية لبنانية

2-  لميعة عباس عمارة شاعرة عراقية تخرجت من دار المعلمين سنة 1955

3-  ابو العلاء المعري شاعر اعمى فقد بصره في سن الرابعة ولد في المعرّة في سوريا سنة 363 هـ وتوفي سنة 449 363 -449هـ

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1437 الخميس 24/06/2010)

 

في المثقف اليوم