قضايا وآراء

خلود المطلبي .. شاعرة تصلي في سماوات الحسين (ع) / صالح الطائي

غرفة النوم ونشاطات السرير لا يوجد مثلها حتى عند الرجال المتحررين من كل أنواع الالتزام ولاسيما الديني منه، لكن الغريب والمدهش في هذه الظاهرة هي إقبال بعض الرجال على هذا النوع من الشعر الذي يتساوق مع مخيلتهم وحتى مع تصوراتهم التاريخية الموروثة التي تصور المرأة وكأنها ألعوبة متعة لا أكثر، ومع أني أرى في هذا النوع من الشعر إحياء لروح القيان اللواتي كن يتفنن لإرضاء السلاطين وجذب اهتمامهم ليفضلوهن على غيرهن من المحظيات والقيان، وأراه لا يتناسب مع شعارات تحرير المرأة التي يرفعها البعض لما يحمله من صور تمظهر المرأة وكأنها لم تخلق إلا لتكون تابعة للرجل في نمط حياة واحد دون أنماطها الأخرى، بيد أن الظاهر أن الانفتاح والتواصل واللقاءات والاحتكاك بين الجنسين والاختلاط بشكل ليس له سابق من قبل فضلا عن تحرر بعض الرجال من الالتزامات الأخلاقية الحدية والجدية قد مهد لوجود أرضية سماح وتقبل في الفكر الرجولي بات معها يستسيغ ويستمتع بمثل هذا النوع من الشعر والأدب تماما كما كان السلطان يتقبل من محظيته المفضلة إيروسيتها ويتلذذ بما يسمعه ويسعد به.

 

على الضفة الثانية من نهر الأدب العربي برزت قلة من الأديبات العربيات الواعيات  اللواتي كتبن القصائد الدينية وغير الدينية بأسلوب سلس مقبول بل ومحبب للنفوس مثل الشاعرة رسمية محيبس زاير والشاعرة والمترجمة خلود المطلبي والشاعرة، التشكيلية ايمان الوائلي والشاعرة الدكتورة ناهضة ستار واخريات من الشاعرات الملتزمات... وهن على العموم شاعرات  أبين إلا الالتزام بالخلق السامي الموروث وبدأن بالتوسع والانتشار كفعل مضاد لذاك الفعل سواء بين قريناتهن النساء وحتى بين الرجال، فأخذن يتغنين إضافة إلى قيم الوطنية والخلق القويم بالقيم التي ضحى من أجلها رموز الأمة من الرجال والنساء وكأنهن أردن القول لرجال الصنف الأول أن في حياتكم أكثر من محطة تستوجب الوقوف والتأمل لأن ما تفعلونه خطأ جسيم لا يتماشى مع فطرتكم ومواريثكم وسننكم  وعقائدكم  وأشياء كثيرة أخرى لا يمكن البوح بها علنا. وأردن أن يقلن لنساء الصنف الأول أن العشق الحقيقي أنقى من أن تلوثه الشهوات والغرائز الحيوانية التي تقف حائلا دون تحرير المرأة  بل وتسهم في تقييدها بقيود جديدة ليس لها فكاك.

2358-khaloudوكما ألتف  حول الأنموذج الأول ثلة من الرجال والنساء وشجعوه وطبلوا وزمروا له وعقدوا له حلقات الذكر والنقد والدراسة والتحليل، كذلك تحلق حول الأنموذج الرفيع عدد كبير من الجنسين وأخذوا ينهلون من هذا الشعر الملتزم عذوبة الثبات على الموقف ومتعة الوفاء للرموز الخالدة من خلال بث اللواعج الوجدانية المنافحة عن العلاقة الأسمى بين العاشق الولهان والمعشوق المقدس.

ومن هذا الصنف من النساء الملتزمات الأستاذة الأديبة والمترجمة والشاعرة العراقية المغتربة خلود المطلبي أنموذجا رائعا في مجموعتها الشعرية الموسومة (مزامير تحت سماء لندن) التي تغنت فيها بالرمز الحسيني الخالد والثورة الحسينية المتجددة، وبثت لواعج عشقها الحسيني ليخترق المسافت من سماء بلد الضباب إلى سماوات الحسين (ع) المترعة بالعفة والطهر الزكي.

 وقد  صدرت المجموعة الشعرية عن (Charleston USA ) بطبعتها الأولى في الأول من مايس 2010 باللغتين العربية والإنكليزية في كتاب واحد وتمت طباعتها في لندن بتقديم للباحث والكاتب في الشؤون الإسلامية صالح الطائي وبمقدمة للشاعر عبد الحسين المطلبي.

ومما جاء في التقديم قول الباحث الطائي: (لا جدال بأن الحسين في نهضته كان مشروعا حضاريا متعدد الجوانب ولذا لم يلم الأولون بحقيقته ولا الآخرون وهذا هو السر المتجدد الذي تتجدد معه رؤى الباحثين في فكر نهضة الحسين  فتظهر في كل عاشوراء فيوض من التأملات الحسينية الباهرة التي يقف المرء عندها باندهاش وتعجب وكأنه يراها ويسمعها لأول مرة مما يدل على أن ينابيع المعرفة في ثورة الحسين لن تجف ولن تنضب وستبقى نهرا مغدقا بالعطاء والخير ومنارا للإنسانية التي تتلهف لإلقاء نفسها في أتون حب الحسين ونار عشقه وهي بذلك لا تزداد إلا توهجا وضياء ولا تشعر إلا بالسعادة والنقاء والطهر.

ومن يرتبط بالحسين ويتفهم بعض عقيدته لا ينال العرفان وحده بل يتسامى ليصبح حسينيا شعاره دمعة تتفجر على خده كلما سمع اسم الحسين، أو كلمة تصطف نظما رائعا كلما ذكرت ثورة الحسين أو عملا رائعا إقتداء بتضحية الحسين.)

كما جاء في مقدمة الشاعر عبد الحسين المطلبي قوله: (ديوان شعر صغير في حجمه كبير في موسيقاه وصوره الشعرية الجميلة، إن الشاعرة ترسل نفسها على سجيتها وكأن الأبيات الرائعة هي التي تنظم نفسها دون تكليف وعناء، فها هي روح الشاعرة الهائمة بحب الحسين عليه السلام تغادرها  إلى أرض ألطف وها هي آهاتها تبحث تسبيح ملاك)

جدير ذكره أن الشاعرة المطلبي  أجادت الكتابة في أغلب أغراض الشعر الأخرى ولكنها أفردت هذه المجموعة للشعر الديني الوجداني فقط. حيث ضمت هذه المجموعة الشعرية الحسينية قصائد تترجم  حب الشاعرة للإمام الحسين (ع) وشوقها لرؤية قبابه الذهبية  فكانت أولاها بعنوان (حين تغادرني الروح إليك) تحدثت فيها عن هجرة روحها عبر الأثير إلى حيث الطف والتاريخ .. إلى حيث ترقد روح الإسلام مذبوحة بيد أبناء الطلقاء:

آهات الروح تغادر عجلى

تبحث عن تسبيح ملاك

عبر مسافات البعد

في أرجاء محيطات الأرض

 

ومن خلالها كانت تخاطب قلبها العاشق للحسين وتحثه على تحدي العقبات قائلة:

 

يا هذا القلب العاشق أرض الطف

تسلق أقمار خشوع الليل

حيث ضجيج الحرب الدائرة

قرب ضريح ابن الزهراء

ثم تصف  لنا كيف أن دموعها العاصفة بالحزن وروحها الولهانة  قد غادرتها إلى حيث جنائن الحسين الخضراء بعد أن تعذر عليها القدوم بجسدها لتلثم ثراها الطاهر:

 

فالدمع العاصف بالحزن

والممزوج بهجير التوق

قد غادرني إليك

..

..

..

تغادرني الروح

لجنائنك الخضراء

وبعدها تنساب قصائد العشق المتسامي واحدة في إثر أخرى لتتنقل مثل فراشة جميلة بين حب الرسول الأكرم (ص) وحب علي (ع) وحب الحسين وانتظار القائم (عج) وحب الإمام العباس، بعناوين تشبه الأهازيج المضمخة بالتقوى والعشق السرمدي الخالد لرموز لم يشهد الكون لها مثيلا، وتحمل هذه العناوين وقعا موسيقيا يتساوق مع مضمون القصائد بشكل كبير حتى لكأنك تفهم معنى القصيدة من خلال عنوانها فهي: (سر البوح .. على مذبح العشق ..ابتهالات هائمة ..تراتيل عاشقة.. توسلات بين يدي سيد الشهداء ..أنبي غير المختار .. حينما تجدل لك الروح مناديلها .. في انتظار المؤمل) ومجموعة أخرى من العناوين التي لا تقل روعة عن سابقاتها.

ثم تنتقل الشاعرة إلى القسم الثاني من مجموعتها الشعرية هذه حيث القصائد التي نظمت في نفس الغرض ولكن باللغة الإنكليزية، وكأن الشاعرة أرادت أن توصل رسالة حبها للحسين وأبي الحسين وجد الحسين وأخوة الحسين وأبناء الحسين لمن لا يجيد قراءة الأدب العربي باللغة العربية، وهي  مساهمة على قدر كبير من المسئولية تدل على ثقة عالية بالنفس وبالنتاج الفكري لأن القصائد تخاطب أناسا تختلف مشاربهم وعقائدهم  وأذواقهم وحتى معلوماتهم عمن قيلت بحقهم  مما يعني أن الشاعرة قد تتعرض للنقد من قبل هؤلاء، وهذا بحد ذاته يدلل على كبر الشجاعة الروحية والعقائدية والأدبية التي تتمتع بها الشاعرة خلود المطلبي.

إن المجموعة الشعرية التي بين يدي تحتاج إلى أكثر من قراءة لكي تتبلور الصور الحقيقية التي أرادت الشاعرة رسمها عن وقائع تاريخية تعرض بعضها للتزييف وحتى المبالغة من قبل المخالفين والمؤيدين. وهي إضافة جديدة للمكتبة العربية.

وآخر ما أتمناه هو أن تعيد الشاعرة طباعة هذه المجموعة في العراق على وجه التحديد لكي تصل إلى أكبر عدد ممكن من محبي هذا النوع من الشعر ومتابعي هذا النوع من الأدب، وان تشمر عن ساعدها لتجمع نتاجها المتنوع وتصدره بديوان جديد.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1443 الاربعاء 30/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم