قضايا وآراء

دعوة لتكريم بـُناة صرحنا المعرفي ووجداننا الوطني (واستشهادا بما قاله الجواهري الكبير) / يحيى السماوي

 حدودية إلآ ويطالعك إسم صدام ونصبه وتماثيله وجدارياته  وكأنما العراق يخلو من رجالات أسهمت في تحقيق مُـنجَزنا الحضاري العريق وفي صنع وجداننا الوطني ...

الان وقد رحل الديكتاتور غير مأسوف عليه، لكن ظاهرة تكرار إسمٍ بذاته على منشآت ومؤسسات مختلفة، مابرحت آخذة في الإنتشار.. فالكثير من المشافي الكبرى صار اسمها مشفى الصدر... وأكثر من المشافي المدارس... ومثلهما الشوارع... والأمر نفسه بالنسبة لأسماء معدودة أخرى، جميعها لعلماء دين أفاضل ـ ولا اعتراض على ذلك، فهم جديرون بأكثر من التكريم.. لكن الإقتصار عليهم، فيه عدم إنصاف لأجلاء آخرين... لقد شاهدت في السماوة وبغداد والبصرة مستشفيات ومدارس تحمل ذات الإسم لشهيد ٍ جليل ٍ بعينه.. المستشفيات ليست حوزات ٍ دينية... يكفي أن يطلق الإسم على واحدة منها..

 

شخصيا، أنا ممن يُجـِلـّون الشهيدين الخالدين محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر (وقد رثيتهما معا مثلما رثيت الشهيد محمد باقر الحكيم ـ طيّب الله ثراهم جميعا و ثرى كل الشهداء)... لكن هؤلاء الشهداء الأجلاء ليسوا وحدهم الذين قدموا حياتهم قربانا من أجل الشعب العراقي... ثمة كثيرون غيرهم أرخصوا حياتهم من أجل الوطن والإنسان العراقيَـيـن... فلماذا لا يُعمل على تكريمهم بإطلاق أسمائهم على مؤسساتنا العلمية والثقافية والفنية وعلى ساحات العراق وميادينه؟

إن شهداء مثل سلام عادل وحسن سريع وجمال الحيدري وعبد الكريم قاسم ووصفي طاهر وجلال الأوقاتي  وحجة الإسلام الشيخ مهدي السماوي والشيخ الجليل البدري والشـُبّر وغيرهم الكثير، لم يستشهدوا دفاعا ً عن بيوتهم الطينية ولا طمعا ً بجاه ٍ ومنصب، إنما : دفاعا عن حق الشعب في الحرية ودولة القانون وذودا ً عن الفضيلة والمستضعفين ..

لا زلت أتذكر ذلك اليوم الصيفي حين هرعت مع والدي وخالي ـ وأنا بعد  صبيّ ـ حاملين الخبز واللبن و"الرَقـِّي والبطيخ" مع مَن هرع من أهالي مدينة السماوة إلى محطة القطار، حين وصل "قطار الموت" مدينتنا وهو مزدحم بالسجناء السياسيين الذين أحكمتْ عليهم  سلطة البعث إقفال أبواب عربات الشحن الحديدية كي يموتوا اختناقا في ذلك الصيف الصحراوي الملتهب ... عربات شحن تخلو من أية نوافذ ومن فتحات التهوية ... ولا زلت أتذكر ذلك السجين الذي صاح بنا  طالبا عدم تزويد السجناء بالماء قبل أن يضع فيه الملح... لنعرف بعد وقت أن ذلك الطبيب كان اسمه " رافد أديب" وأنه أنقذ حياة سجناء كثيرين في سجن "نقرة السلمان" بإجرائه عمليات جراحية إستخدم فيها موس الحلاقة.... ألا يستحق مثل هذا الطبيب العبقري المناضل تكريمه بإطلاق إسمه على أحدى كبريات مشافينا ؟

 

وماذا عن علمائنا ومفكرينا الأفذاذ أمثال "طه باقر" الذي فك رموز ملحمة "كلكامش".. و"فيصل السامر".. و"مصطفى جواد".. و"مهدي المخزومي".. و"علي جواد الطاهر" و"عبد الجبار عبد الله" ـ أحد أعظم علماء الفلك في القرن العشرين"؟ والشعراء الكبار أمثال "الجواهري" و"البياتي" و"بلند الحيدري" و"مصطفى جمال الدين" و"زاهد محمد زهدي" وهم جميعا ممن تنكـّر لهم النظام المقبور لمواقفهم الوطنية؟ أليس من حقهم على نظامنا الجديد أن يُعيد رفاتهم إلى العراق ليدفنوا في الوطن الذي استعذبوا من أجله أقسى عذابات الغربة والمنافي، وأن تطلق أسماؤهم على مؤسساتنا الفكرية والعلمية والثقافية؟

وماذا عن فنانتـَي الشعب الكبيرتين المناضلتين "زينب" و"ناهدة الرماح" والفنان الكبير "خليل شوقي"؟

 

أعرف أن متنبي العصر "الجواهري" قد أطلق إسمه على قاعة لا يزيد عدد كراسيها على عدد أبيات قصيدته الخالدة "يا دجلة الخير" أو "المقصورة"... فهل يليق هذا التكريم المتواضع بشاعر العرب الأكبر؟

 

أتذكر جواب الجواهري، حين أضاء بيتي في مدينة جدة  بصحبة نجله د. كفاح وكريمته د. خيال وصهره الفنان صباح المندلاوي، جوابه حين سألته: لماذا رفضت مقترح صدام حسين الذي حمله إليك مبعوثه، بأن يسـتحدث وساما رفيعا باسم "وسام دجلة" على أن تكون أنت أول من يتقلده؟ فأجابني الجواهري: لأنني لو وافقت فسيقلدني صدام الوسام وسـيتحتم عليّ مصافحته، وأنا لا أستطيع مصافحة قاتل شعبي..لكنني سأتشرف بالوسام لو كان النظام وطنيا حقا (أظن أن د. كفاح ود. خيال وصباح يتذكرون هذا الحديث الذي جرى في بيتي يوم 3 / 4 / 1995)... فهل سنسمع عن وسام الجواهري للإبداع الأدبي؟

 

في أستراليا، قام البرلمان بتقديم "وسام الشجاعة" إلى "كلب" أنقذ طفلة من أفعى... فهل كثير على أبطالنا الشجعان الذين أذابهم النظام الديكتاتوري في أحواض حامض الكبريتيك المركز، أو قام جلادو قصر النهاية بتقطيعهم إربا ً إربا، إستحداث وسام للشجاعة تكريما لهم واعترافا بشجاعتهم في مواجهة أعتى ديكتاتور ؟ وماذا عن الشبان الشجعان العراقيين الذين تصدوا للمقبور"عدي" فأمطروه بالرصاص ليظل معاقا سنوات ٍ فأنقذوا من شروره مئات الفتيات العراقيات؟ وماذا عن الشاب العراقي البطل "عثمان" الذي أنقذ سبعة مواطنين من الموت المحتم غرقا ً في مأساة انهيار جسر الكاظمية قبل أن يموت غرقا وهو يحاول إنقاذ المزيد؟ ألا يستحق البطل عثمان "دستة" من الأوسمة وأن يطلق إسمه على إحدى كبريات ساحات الكاظمية؟ قبل فترة نشرت صحيفة التلغراف الإسترالية خبرا عن قيام الحكومة البريطانية بتقليد "كلب بوليسي" أرفع وسام بريطاني لأنه عثر على مخبأ للأسلحة في البصرة... فهل تمّ  تقليد المواطن العراقي الذي اكتشف مخبأ كبيرا لأسلحة مجرمي القاعدة،  وساما ً نظير شجاعته التي أسهمت بتخليص مئات العراقيين من عشرات السيارات المفخخة التي كان يمكن أن تفخخها وحوش القاعدة؟

 

أظنني أطنبت كثيرا.. كان يمكنني الإختصار، فأقول مثلا: أتمنى أن يتم تكريم  جميع مفكرينا ومناضلينا الشجعان  وفنانينا الذين أسهموا في بناء صرحنا المعرفي وفي صنع وجداننا الوطني، بإطلاق أسمائهم على الشوارع والمؤسسات العلمية والفكرية والفنية بغض النظر عن إنتماءاتهم المذهبية والفكرية والأيديولوجية، فعذرا عن هذا الإطناب.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1444 الخميس 01/07/2010)

 

في المثقف اليوم