قضايا وآراء

بسام حجار .. سيرة الموت / الهام ملهبي

مر الآن على رحيل بسام حجار ما يقارب السنة ونصف، ومازلت لحد الآن لا أصدق أمر رحيله . ربما لأنني لم أكتشف الأمر إلا بعد أن مر أكثر من شهر على وفاته. حين قرأت الخبر كأن ذهولا باردا أصابني . لم يكن حزنا، كان خجلا. كيف لم أعرف بالأمر في حينه؟

عرفت أنه يستحق مني أن أعرف بوفاته وأمنحه ما يستحق من حزن في وقته، خجلت من روحه التي كانت محيطة بي دائما والتي تمنيتها باستمرار صديقة لروحي، عرفت أن هذه الروح تستحق مني وداعا أكثر أناقة من أن أقرأ خبر الوفاة بعد أن بردت جثة الشاعر في القبر وغادر دفئه هذا العالم . عرفت أن كائناته السديمية وأشياءه التي سكنت صدري منذ قرأت شعره لأول مرة منذ ما يقارب عشر سنوات، تستحق مني عزاء أكثر حميمية وتحتاج حنانا بعد رحيل صاحبها عنها، عرفت أن رحيله يستحق مني نحيبا بحجم شعره وزخمه اللذان يسكنان صدري. ولأن كل هذا لم يكن مازلت لحد الآن لا أستطيع التسليم برحيله عن هذا العالم.

اعتراني الخجل، ومازال يرافقني لحد الآن كلما شاهدت صورته  على صفحة ما، كأنني أخشى أن تلتقي عيناي بعينيه، أو أخشى أن أسمع صوت روحه بداخلي تعاتبني على خذلان ما.  لكن .. هل الشاعر نحزن عليه أم نحزن به ؟ هل يكفي الحزن وداعا لشاعر؟ هل يستحق شاعر أن تختصر جرحك به في مجرد حزن؟ الشعراء كائنات جبلت من طين حزين، لذلك يجب أن يكون وداعهم بأكثر مما فيهم، أو على الأقل بغير ما فيهم.

لم يحدث أن أخذ مني الموت شخصا قريبا، لكنه أخذ مني الكثيرين ممن أحببتهم : شعراء، كتابا، فنانين، وحتى شخصيات روائية. هذه المرة حين أخذ بسام حجار كان متسللا،  لم ألحظ عبوره . بخطوات خافتة تشبه أشعار حجار، وربما تشبه حتى حياته، تسلل وأخذه في صمت. هو كان يعرف أن الموت سيأخذه، كان يعرف أن ألبوم العائلة سيكون خاليا من صورته ذات يوم،لذلك لم يأخذه الموت في صخب.

"لا أجدني واقفا أو جالسا أو ساهيا

لا في أبيض الصورة ولا في أسودها

و يخيل إلي، ان شئت انتشال الوقت

من بئره، أنني ربما كنت خيال ذلك

الشخص المغادر"

لماذا نحب شعراء دون غيرهم؟ نجن بهم، نشاركهم حزننا، نحن لهم، نضحك معهم، نلاعب كلماتهم كما لوعرفناها منذ الصغر، لعبنا معها وشاكسنا معها هذا العالم وشاركناها الأسرار الثمينة للطفولة.

 

 لماذا هناك دائما ديوان شعر يسرق روحك من الغلاف، تمسكه بين يديك فتعتريك لهفة العاشق، يدق قلبك قبل أن تفتح دفة الكتاب الأولى . لا تتعامل معه مثلما تتعامل مع الكتب الأخرى حين تقلب الكتاب للجهة الثانية لترى ما كتب على غلافه من الخلف، نبذة عن الشاعر أو ملخص أو كلمات كتبها أحد ما عن الشاعر أو الديوان . لا تفعل هذا أبدا، لأنك  لست في حاجة لما يمهد لك رحلتك هذه . انخطاف غريب يجعلك تقف قليلا أمام الغلاف، تتردد قليلا قبل أن تقلب دفة الكتاب لتبدأ القراءة، كأنك تشك لو كنت تستحق فعلا هذه الدهشة التي سيمنحها لك ما يوجد بالداخل، ماذا لو لم تكن تستحق هذا الشرف، شرف أن يسكنك شاعر، شرف أن يطهرك شعر من الأحزان ولو للحظة ؟

هذا تماما ما حصل معي منذ سنوات، حين أخذت كتاب بسام حجار "سوف تحيا من بعدي"  بين يدي، كانت أول مرة أسمع فيها اسمه، وكانت قد مرت علي فترة طويلة دون أن يسرقني شعر من نفسي ومن العالم . فكان أن احتلني عالم هذا الشاعر الزاخر بالكثير من جمال تتعطش له هذه الحياة.

 

شعر هادئ ودافئ، كضوء مصباح خجول. لا صخب ولا ضوضاء يستقبلانك، فقط ظلام خفيف كأن شمعة صغيرة تضيء في زاوية ما من المكان. وصمت تجده يشبهك كثيرا كلما توغلت في القراءة، أجمل الصمت وأرقاه تجده هناك.

 

لقد كان حجار في شعره هادئا لدرجة الألم، وخافتا لدرجة الأسى، وصامتا لدرجة التعب . كان كطائر جريح  يدخل غرفتك بهدوء، تتألم لرؤيته، لكن لا تجرؤ على الاقتراب منه خشية أن تؤذيه. يبقى في أرجاء الغرفة دون ضجة، مع الوقت تحتل روحه المكان. قد يتوارى عن نظرك، لكنك لا تغفل عنه ولا تنسى وجوده.

 

كان يشبه تلك الظلال التي احتلت دائما مكانا وافرا في نصوصه . تلك الظلال الكثيرة التي تحاصرك وأنت تقرأ شعره، تأنس لها وترافقها وحتى تصاحبها، وربما تتعاطف معها وتحنو عليها. في الكثير من قصائده حضرت الظلال كأرواح شعرية وكانت مقنعة في حضورها، وله  مجموعة تحمل عنوانا رقيقا  "صحبة الظلال" .  غير أن نصه  "حكاية الرجل الذي صار ظلا"  وحده قادر على أن يفتح في روحك بوابة صغيرة لكل ظل في هذا العالم، هذا النص الذي يشبه حكاية أكثر من قصيدة، لكن في نفس الوقت لا تستطيع التسليم إلا بكونه قصيدة . في هذا النص يروي لنا حجار معاناة ظل فقد صاحبه، لكنها معاناة كل الظلال حتى بوجود أصحابها:

 

" أشبه صاحبي في كل شيء، ولكنني ما سلكت نعمة البكاء أو عرفتها من قبل"

 

في هذا النص أشياء كثيرة مألوفة وعادية، ولشدة بساطتها وألفتها تصبح غير مألوفة. لكثرة ما كان الظل مألوفا في حياتك تكتشف هنا أنك لم تعرفه يوما ولم تنتبه له كما يجب . كيف يكون مألوفا  وصف معاناة الظل وزوجة صاحبه تحمل أواني التنظيف لتنظفه عن أرضية المنزل، ووصف معاناته من الضجر ومن البقاء بلا عمر.

"ماذا افعل الآن اذ غادرني وانتظرت طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي ملاوة الدهر، فلا عمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يبقيني على قيد الحياة؟ أسفٌ، لا بد انكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضا. لا تزيلني أحماض ولا يحطمني ثقل ولا يطمرني تراب. رحماك أيها الضجر."

لكن كل هذا الحديث عن الظلال كان تمويها، فحجار لم يتكلم إلا عن نفسه وعن الموت . حتى في حديثه عن أكثر الأشياء جمادا،  كان يكتب سيرته التي هي سيرة الموت في نفس الآن . كان يعرف أن كل شيء في هذا العالم سوف يحيا من بعده، لذلك كان يطوف بين الأشياء يرش حولها بعضا منه، علها تحيا به من بعده . .

الحجر يأتي على ذكره كما لو كان جزءا من حياته، أو بالأحرى جزءا من موته :

 

"لا أدري ما شغف الحجر

الذي ألم بي

يوسدني حجر

و يغطيني حجر

و حجر أبيض

يروي سيرتي

من فم التراب"

 

في مجموعة "تفسير الرخام" استحضار للحجر في علاقته بالموت، الحجر حين يكون رخاما وليس حجرا . حين تحسه باردا وشفيفا متجسدا في قبر أكثر من أي شيء أخر.

 

"الحجر هو، بلا ريب، أقل أشكال الأبد فصاحةً، غير أنّه بالتّأكيد أكثرها قابلية للتعيين. فوقه تنتصب صروحنا، وتعصف عواصفنا، عندما يستحيل الحجر شفيفاً، أو بالأحرى، عندما تستحيل الشفافية حجراً، تغدو أحلام الأرض قاطبة قابلة للقراءة. "

 

 

 

 

و كما يتحدث عن نفسه وعن موته، هناك في نصوصه الكثير من الشوق لمن رحلوا، أولئك الذين أعطاهم بسام حجار مساحة كبيرة داخل شعره، وربما داخل حياته أيضا، خاصة أخته ووالده، اللذان وجدا مقامهما في شعره بعد رحيلهما عن الحياة.

 

كتب الكثير من النصوص عن الموت، وحتى النصوص التي لا يحضر فيها الموت بشكل حرفي، فهو دائما حاضر في شكل ظل أو حجر أو باب، أو في أشباح  الموتى اللذين كانوا يزورون حجار باستمرار، يتجولون في حياته بألفة، يكسرون بعض أثاثه  أو يسلونه في سهرة ثم يغادرون، وربما هم لم يغادروا أصلا وتلك الزيارات لم تكن سوى سهرات عادية بين من يعيشون في نفس المكان.

 

مع كل هذا لا يمكن التسليم بكون شعر حجار مأساويا، الألم في نصوصه رقيق وخافت. رقة تجعلك تصاحب ألمه و تأنس له. لم يكن يخاف الموت، كل ما فعله طيلة حياته هو أنه كان ينتظره. موته ليس رحيلا ولا حياته كانت ستطول أكثر، كان الموت عنده متوقعا، بل حتى رفيقا يشبه الظل. حياته كانت رحلة عبور من ضفة الى ضفة :

"ولا أدري ما الحكمة من اختصار عمري

برقمين وفاصلة

كأنني، في غفلة، عبرت

من ضفة الى ضفة

وبينهما مياه النسيان"

لقد عبر إذن إلى الضفة الأخرى  التي طالما ربطته بها خيوط كثيرة . وترك خلفه هذا العالم  يحيا من بعده،  كائناته وأشياءه وظلاله وأطيافه ما زالت تحيا في نصوصه تتغذى على كلماته.  كل شيء ما زال يحيا من بعده، ربما يكون فقط قد  ذهب ليرد الزيارة للموتى الذين زاروه مرارا، وسيعود.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1445 الجمعة 02/07/2010)

 

في المثقف اليوم