قضايا وآراء

نقد تلفزيوني: الوعي بالحاضر والاهتمام بالتأريخ /محاولة لفهم مسلسل "الباشا" اجتماعيا.. / سلام كاظم فرج

رغم المخاض العسير والتضحيات التي سيتحتم على العراقيين تقديمها لتقبل الانتقال من مرحلة الرق والإقطاع الذي ساد عشرات العقود باسم الخلافة الإسلامية إلى مرحلة أكثر تطورا قريبة من الرأسمالية وما سيأتي معها من مفاهيم كالليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتحرر المرأة ..

بدا العراقيون المخاض الصعب ما بين مواجهة الغازي (الذي عرض نفسه كمحرر من النير العثماني) وبين التعايش معه والاستفادة مما توصل إليه من حضارة وتقدم علمي وتكنولوجي وثقافي.

يقول د.صالح جواد الكاظم في مقدمة ترجمته لكتاب ( الرواية التاريخية) لجورج لوكاش (مع ازدياد الوعي بالحاضر يزداد الاهتمام بالتاريخ بوصفه خلفية الحاضر ) ..

ساترك لغيري الكتابة عن الجوانب الفنية والجمالية في السيناريو والإخراج والتمثيل لمسلسل الباشا الذي عرض من قناة الشرقية خلال شهر رمضان وسأقتصر على محاولة فهم الدوافع التاريخية والسياسية والاجتماعية التي سار عليها المؤلف فلاح شاكر والمتابعة الرصينة للدكتور سيار الجميل ومدى الابتعاد أو الاقتراب من الحقيقة التاريخية بما كان عليه العراق خلال الفترة التي حكم فيها نوري السعيد أو كان مؤثرا في المسار السياسي للفترة التي تمتد ما بين 1918 ـــ 1958 ..

يبدأ المسلسل من حيث انتهت ثورة العشرين وقد كان المؤلف موفقا في عرض الخلفية الشعبية للحراك السياسي الذي مهد لمجيء فيصل الأول وابرز الدور الذي لعبه البريطانيون ببراعة ( كوكس، مس بيل، فلبي ) في التمهيد لتثبيت نظام سياسي بديلا للفوضى التي تركتها هزيمة العثمانيين 0

إن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ونحن نتابع مسلسل الباشا هل من الضروري أن نصحح مسارات التاريخ (المتعارف عليها ) وننقح التاريخ لنعيد تقييم شخصية بحجم نوري السعيد ومحاولة إنصافها على حساب الانتقاص من التضحيات النبيلة ليسار الحركة الوطنية ؟ نتفق مبدئيا مع المؤلف على إن السعيد هو من البناة المؤثرين لدولة العراق الحديثة ولا نختلف في ضرورة إنصاف الرجل وإعادة تقييمه بموضوعية 0

إلا إن الذي نختلف فيه مع المؤلف هو إن محاولته تجميل صورة الباشا جاءت على حساب تيار وطني عريق قدم من التضحيات والأضاءات ما يفوق ما قدمه الباشا وتياره اليميني0 لقد اجتهد السعيد إن الاعتماد على بريطانيا كفيل ببناء الأسس الهيكلية لدولة عصرية وان معاداتها لن تجلب سوى الفوضى .. لا شك إن نوري السعيد كان يتمتع بموهبة سياسية فذة وإذا اعتمدنا رؤية بليخانوف في دور الفرد في التاريخ التي تؤكد على انه لكي تتهيأ الفرصة للفرد الذي يتحلى بموهبة قيادية بحيث يؤثر بمسار الأحداث لا بد من توفر شرطين الأول أن تكون هذه الموهبة متوافقة مع الحاجات الاجتماعية التي تطرحها المرحلة والثاني أن لا يقف النظام الاجتماعي حجر عثرة في طريق الفرد الموهوب ..

إن العلاقة الجدلية بين مفهوم الإرادة والظروف الموضوعية تجعلنا ننظر إلى نوري السعيد كباني تقدمي متفاعل مع الحاجات الاجتماعية والسياسية تارة ومعرقل ومعيق لذلك التطور تارة أخرى لقد نجح المسلسل في إبراز السعيد بانيا للدولة إلا انه اخفق في تبيان الوجه الأخر له كمعرقل حيث تمسك السعيد بمواقف غارقة في الرجعية وتحول إلى طاغية يتستر في ديمقراطية زائفة كان على المسلسل أن يبرز ذلك التناقض البارز في شخصية نوري السعيد الحقيقية لقد اغفل المؤلف "لصالح نوري السعيد بل انتقص من دور يسار الحركة الوطنية الذي كان مؤثرا وبناءا ومصححا لمسارات الحكومات المتعاقبة لقد اظهر المؤلف أبا ألتمن وتياره الوطني متذبذبا ومترددا ومنتظرا مقابل بعد نظر نوري السعيد وسماحته وهدوءه (بالمناسبة لم يكن نوري السعيد يمتلك ذالك الهدوء الذي ظهر عليه الفنان المبدع عبد الخالق المختار) .. قد أهمل المؤلف دور جماعة الأهالي الجادرجي، محمد حديد، ودور عبد الفتاح إبراهيم وكتلته وتطرق بشكل عابر لدور الشيوعيين في حين إن السعيد بذل جهودا جبارة لتحجيم يسار الحركة الوطنية ووصل به الأمر إلى التأمر والتضييق عليه وكانت المعتقلات تعج بمئات الوطنيين . وتعطل البرلمان أكثر من مرة وزورت الانتخابات مرات .. إن العكس هو الصحيح إذ إن التيار الوطني اليساري وعلى رأسه الجادرجي هو الذي كان يتفهم ويدعو إلى التهدئة رغم الفساد السياسي والإداري .

اظهر المسلسل السعيد نصيرا للمرأة ومن دعاة السفور واظهر زوجه السيدة نعيمة السعيد من دعاة تحرر المرأة وهو أمر متفق عليه فقد كان الرجل علمانيا لبراليا إلا إن تيارا أخرا أكثر تقدمية في الحركة النسائية تقوده أمينة الرحال ربط تحرر المرأة بالتحرر الاجتماعي والاقتصادي للشعب ....

وقد تغافل المؤلف عن أكبر حدث شهدته مرحلة نوري السعيد وموقفه منه.. ذلك هو اعتراف الدول الكبرى  بالدولة العبرية والجدل الذي هيمن على الساحة السياسية تجاه ما يسمى بقرار التقسيم.. وموقف الباشا منه.. حيث سافر الى بريطانيا وصرخ بأصدقائه الانكليز ما ذا تفعلون بنا ستسحلنا الناس في الشوارع غدا نحن اصدقاء بريطانيا .. كيف نبرر لشعوبنا ما فعلتم؟؟ كان يمكن ان تترك هذه الثيمة اثرا تراجيديا في البناء الدرامي للمسلسل..

وتعيد الى

الاذهان اسباب الخراب الذي حل بالمشروع الديمقراطي الذي بدأ به العراقيون.. وبمساعدة الانكليز....

لقد استقطب اليسار العراقي ابرز الرموز العلمية والأدبية في العراق يأتي في مقدمتهم محمود احمد السيد (الروائي الرائد)، الجادرجي، عبد الفتاح إبراهيم، عزيز شريف، محمد حديد، عبد الجبار عبد الله (عالم الفيزياء الكبير)، طه باقر (عالم الآثار الكبير)، الرصافي، ألجواهري، عبد الله كوران (شاعر الكرد الكبير)، السياب، ألبياتي، لميعة عمارة، إبراهيم كبة (الاقتصادي المعروف )، بولند الحيدري، جواد سليم (النحات الكبير)، عبد الملك نوري، ذنون أيوب، نزيهة الدليمي، عبد الحق فاضل، وعشرات غيرهم إضافة إلى ألاف الطلبة والعمال والفلاحين وأساتذة الجامعات والمدرسين والمحامين والقضاة والعسكريين في حين اظهر المسلسل اليسار ضعيفا معرقلا .

قد نتفهم تعاطف المؤلف مع نوري السعيد استنادا إلى ما شهده العراق من حكومات فاشية كارثية أحرقت الأخضر واليابس بعد رحيل الرجل بسنوات معدودة ولا ريب إن المقارنة ستكون لصالحه إلا إن للإنصاف متطلباته نشد على يد العاملين في المسلسل فقد كانوا مبدعين أكثرهم .. والى إعمال تاريخية مقبلة تكون أكثر إنصافا لليسار العراقي الذي يراد له أن يكون مظلوما ابد الدهر .. لماذا .. ؟!!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1448 الاثنين 05/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم