قضايا وآراء

(مكة المحمدية) بين الاحتضار والولادة / ابوطالب البوحيّة

انطلق محمد العربي مؤتمن ساعة قلة الأمناء على أموال تجارة أهله وعشيرته ومنتظراً دون وعي وعلم لاختيار الرب الدقيق في ان يكون قائدا للكون ومسيراً بالفكر والنزاهة بلايين من خلقوا أيامه وما تلاها.

محمد العالم بجوع أبناء زمانه والعالم بجوع من سبقوه ومن سيلحقونه، محمد العالم بضرورة نزاهة أقرانه من البشر محمد العالم بوجوب عبادة رب واحد لا شريك له، مدبر الريح ومكمل المطر ومنشئ الزرع ومميت الأحياء ومولّد أشباه الموتى شكلا وطبيعة وأسماء، في مكة العظيمة منارة الباحث عن الحقيقة البسيطة من الصين وحتى مغرب الشمس على ساحل الأطلسي ولد وصار محمد ولان الله قد كتب في لوحه المحفوظ ان احمد خاتم رسلي فقد تجلى بأحمد – محمد كل ملكوت ربه العظيم ونزاهته وسعته، فانطلق المكي القرشي العربي حيث مكان المشورة والاختلاء ونقطة البحث والتفكر بالخصوصية الروحية التي تسكنه ليلتقيه هناك مبعوث الله الخاص المنتظر لهذا اللقاء منذ بدء الوجود، فيسلّم جبرائيل على محمد ليرتبك ويهاب، وينزل عليه وهو ألامي الذي لا يقرأ آيات لا يعرف من أي مدى انطلقت في السماء، ليرد محمد العربي ما انا بقارئ، ليفتح بعدها الرب العظيم سريرة محمد ويطبع في عقله منهج القراءة وخريطة التواصل الكتابي لتصبح أول جلسة للوحي أول معجزة لمحمد قبل القرآن.

من هنا وعند هذا الموضع يشكك الكاتب السوري الدكتور نبيل طعمة بمقاله (مكة المحمدية) المأخوذة من كتابة فلسفة الفكر والتكوين – مدن الروح والمادة بكثير من المفاهيم التي ولدت أثر التنزيل والوحي وما جاء على لسان نبي الرحمة محمد (عليه وعلى آله وصحبه اتم التسليم)، فمقالة (مكة المحمدية) عبارة عن بحث اجتهد فيه طعمة كثيرا حتى غار في اللاوحي اكثر، وغّرب باتجاه نفي رسالة محمد السماوية رغم إيمانه بوجوده المنطقي والعلمي كرجل في امة لن يتكرر ولن يأتي بعده ناسك وعالم وداعي للحق، وكأن د. طعمة يحاول جاهدا ان يمسك العصا من المنتصف، لكن أي منتصف بعصا لا تقوم على ثابت محدد.

في المقالة (مكة المحمدية) يطرح كاتبها سرداً تاريخياً لنشوء مدينة مكة ليمر بنا على كعبتها التي يقلل من شأنها الوظيفي والروحي في آن واحد ليدخل حقيقة تاريخية لا تلتقي مع مفهوم ما يود طرحه في ان الجزيرة العربية قد حوت خلال قرونها قبل الميلاد وبعده على العديد من (الكعبات) مثل كعبة نجران والكعبة اليمانية وكعبة سبأ وتمنة وبني غطفان وان لا نشأة سماوية روحية لكعبة مكة بيت الله الحرام.

لا اخفي ان ما جاء ببعض من المقالة قد أنار فكري في التاريخ وبلغّني بالكثير من العبادات وأسماء الآلهة التي انتشرت وترعرعت بفعل عبّادها في منطقة الجزيرة العربية، لكنني في الوقت ذاته أقف رافضاً لكثير مما اتى به د. طعمة فالإيمان عندي لا يحتاج الى المصادر وتكفي نزاهة روحي في معرفة خالقي ونبيي وديني الذي أؤتمن عليه وأأتمن فيه، تحدث الدكتور نبيل طعمة عن الجاهلية التي سبقت الإسلام حيث رصّنها وجعل منها ضمن مفهومه الخاص تجمعا اجتماعيا متطورا وان تسمية هذا المجتمع بالجاهلي ما هي الا انحراف عن الحقيقة التاريخية ومحاولة لإخفاء مواطن التقدم الأخلاقي الذي كان يسود هذا المجتمع وان في ذلك محاولة لاستيراد الدين الجديد وما تهجم د. طعمة على من قال ان القوم الذين سبقوا الإسلام جاهلية الا تهجم ناقص من نافذة لا تطل الا على حائط لا نفع فيه وكأن الدكتور طعمة لم يقرأ ما قاله الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (مدخل لفهم القرآن) في ان الجاهلية التي سبق الإسلام تحمل معنى واحدا لا يمكن التشكيك في حقيقته الا وهو ان مصطلح الجاهلية يعني القوم الذين لا دين لهم ولم يأتي على لسان محمد ما يهمش دور أهله وأجداده بل قال (ص) " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " التي وجدت عراها وتكاملت بوجود الإسلام.

 

فمقالة (مكة المحمدية) التي ابتدأت وانتهت بمكة ونبيها العربي خاتم المرسلين وأجاد من خلالها كاتبها بعرض قراءة تفصيلية ومنهجية علمية وتاريخية تختلف فيها المراجع والمصادر والرؤى عن تواجد مكة الحضاري والتجاري والإنساني والروحي في ما بعد غير ان محاولة إدخال الشك في الكثير من المفاهيم التي وردتنا بنصوص قرآنية او مقولات قدسية او أحاديث لصاحب الحجة الأخيرة ومحدث وموحد الأديان وواصل الشرق بالغرب محمد (ص) ومنها (أمية) محمد والتي نفاها جملة وتفصيلا والتي ادعى فيها ان الرسول (ص) كان يتحدث الآرامية إضافة إلى كتابة وقراءة العربية المعهودة في وقته، كما ان التشكيك (بالقِبلة الأولى) التي اعتبرها الدكتور طعمة في أنها قبلة مشخصة من الرسول لكفايته ومعرفته خلال زيارته للقدس ايام التجارة بمكانتها ومعنى تواجدها الروحي وهو بذلك قد ألغى أيضا حقيقة ان الله وحده من حدد (القدس) قبلة أولى للمسلمين، كما انه أجمل في الموضوع ذاته تحوّل المسلمين الى مكة قبلة لهم واتجاهاً لصلواتهم الخمس بأمر من الرسول وان هذا الأمر وما قَبلهُ من أمر في موضوع القبلة قد جاء من خلال المعرفة الكمية الكبيرة للرسول ولا دخل للخالق بذلك وإنما هي تصرف فردي شخصي اعتمده دون مشورة الله.

وضمن سياق المقال لا يخفي الدكتور نبيل طعمة طلبه في ان ما كتب طرح غريب وصريح ومريب في الوقت ذاته، وانه مؤمن بما كتب، وما على المخالف سوى أيراد الدليل، ومني فأنها دعوة لمن يهمهم الامر في التوجه الى الدكتور طعمة بردود علمية تدحض أقواله او تجعلها في محل النفي وان البحث ضمن سياق العلمية دون تهجم مسبق او رد فضفاض علامة صحية قد تقرب للدكتور طعمة فكرة ان " المدن الروحية " تمتلك في ثناياها من يستطيع التفكير بالمادية التي تخدم توجه الدين المنفتح وان لا قياس نهائي لمدن روحية وأخرى مادية وان تعب في بحثه كثيرا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1448 الاثنين 05/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم