قضايا وآراء

عندما يتحول التاريخ إلى دين / نذير الماجد

فالثقافة تجعل من التاريخ فنا أو أدبا أو دينا فتحتجب السياقات التاريخية المتماهية حد التطابق رغم إيقاعات اللغة والثقافة والمذهب.

وحده المنهج المقارن الذي يتيح كشف التواشجات والتماهيات بين السياقات الثقافية ليبدو التاريخ مجرد سلسلة من الاستنساخات في الزمان والمكان، أو وقائع وأنساق تنتج ذاتها في حركة دائبة، أو سنة أو قانون لا يدع مجالا في حركة التاريخ للخصوصية أو الذاتية التي تتكفل بها اللغة فتعطي الثقافة قيمة التفرد والتمايز.

الثقافة إذن توظف اللغة في بناء تاريخ فوق التاريخ، حيث ترسي تقابلا بين تاريخ موضوعي يتموضع ضمن المنظور الوضعي ويعيد اكتشاف التاريخ المتواري خلف الطبقات المتراكمة التي شكلتها الثقافة وتصوراتها الذهنية، وآخر ذاتي ينزع لبناء خصوصية أو يمعن في خلق رمزية تموه التاريخ، كلاهما تاريخ لكن الأول اكتشاف وحفر أركيولوجي أما الثاني فبناء وتشييد أيديولوجي.

في السياق السياسي تكشف اللغة عن طاقة تمويهية عالية تعزز أدبية التاريخ أو ذاتيته، وتزيد من وعورة الطريق الذي سيسلكه المنهج المقارن لتحديد البنى المتعالقة والسياقات المتماهية، فالسياق السياسي في الوسط القروسطي الاسلامي هو ذاته في الوسط القروسطي المسيحي، لكن مفردات كالمسجد أو الحوزة أو رجل الدين ليست هي ذاتها الكنيسة أو الأكليروس أو البابا، وبالمثل فإن الإمام ليس هو ذاته الخليفة والخليفة ليس هو ذاته الملك كما أن الإمام ليس هو ذاته البابا، وهكذا تموه اللغة بلعبة الكلمات التواشج العميق الذي يربط بين السياقات الاجتماعية، لتصبح العلمانية التي هي حل وضرورة اجتماعية في وسط معين بمثابة خروج عن الدين أو استعداء الذات في وسط آخر.

التطابق بين السياقات لا يتجلى بوضوح إلا بمنهجية مقارنة تكشف تواطؤ اللغة مع الأيديولوجيا الأمر الذي ألح عليه وجيه كوثراني لدى مناقشته رأي المستشرق برنارد لويس الذي قال باستحالة استنبات العلمانية في مناخ إسلامي، حيث تساءل كوثراني عن العامل الذي جعل الغرب دون سواه حاضنا ومرحبا بالعلمانية (الفقيه والسلطان- وجيه كوثراني).

إلحاح كوثراني يعكس امتعاضا شديدا من مواقف استشراقية عديدة تجاه التراث الاسلامي، حيث لا تخلو من قصور ابستمولوجي إن لم تخل من تحامل وتحيز أيديولوجي، على أن الاستشراق يتجه أكثر من اتجاه في التعاطي مع العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في الوسط الاسلامي، حيث تتراوح الدراسات الاستشراقية بين اتجاهات تنفي روحية الاسلام فتختزله في بعده السياسي، وبين اتجاهات تلح على بعده الروحي إلى جانب بعده السياسي والاقتصادي كالمستشرق اغناتس غولدتسهير في مقابل الاتجاه الذي يضم إلى جانب لويس المستشرق الفرنسي ألفريد بريمار الذي أكد على التداخل الوثيق بين الديني والدنيوي أو السياسي، حيث يقول في عبارة كاشفة: "الاسلام هو في الواقع (وفي الآن نفسه) خضوع لسلطة سياسية وخضوع لنظام ديني أسسه نبي هو أساس هذه السلطة، فمن يرفض السلطة السياسية يرفض بالضرورة النظام الديني الذي يبررها ويخلع عليها المشروعية، ولهذا السبب فإن الردة تقدم عموما من قبل المصنفين المسلمين على أساس أنها ردة دينية" ( تأسيس الاسلام، بين الكتابة والتاريخ، بريمار).

 ومع استدراك بريمار في هامش هذا النص الجزمي والوثوقي حيث يستعيد مفهوم الردة كمفهوم مغاير لمفهوم الارتداد في الفقه الاسلامي رغم الاشتراك في الجذر اللغوي يصبح من الضروري إدماج القراءة المغايرة سواء كانت شيعية أو خارجية للتاريخ بغية ارساء "كتابة تاريخية" أكثر دقة أبستمولوجيا وهو الهدف الذي كان يسعى إليه بجدية المستشرق بريمار وأزعم أنه كان وشيكا منه.

 

الإسلام تاريخي أكثر مما يجب!:

المستشرق بريمار أيضا ولكي يعزز البعد الدنيوي، الاقتصادي تحديدا، حاول أن يقترب من تشكيل صورة كاملة عن النظام الاقتصادي الذي كان في بداية تشكله لحظة التأسيس، فالنظام الضرائبي في الاسلام التأسيسي يتوزع في أشكال عديدة أسقط على بعضها لاحقا مضمون ديني كالزكاة والتي هي ضريبة تفرض على القبائل البدوية وتستخرج عينية، والجزية ذات الأصل اللغوي الفارسي مما يكشف عن مصدرها والتي هي ضريبة رأس تفرض على السكان الحضر قبل أن يتم تخصيصها –حسب بريمار- على الآخر الديني: المسيحي واليهودي والصابئي تحديدا، أما الضريبة الثالثة والتي تتمم هذا الثالوث الضرائبي فهي ضريبة عقارية بقيت كما هي ضريبة دنيوية تفرضها الدولة بصفتها الزمنية وليس لها أي شأن ديني. هذا يعني أن بريمار يعتبر في نهاية التحليل أن الاسلام لا يعدو أن يكون اصلاحا ضريبيا من الناحية الاقتصادية وتوسعا امبراليا من الناحية السياسية.

هذا التحليل ينتهي إلى قراءة جوهرانية للوسط الاسلامي تمنع أي تطابق في السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية مع الأوساط الدينية الأخرى وتحديدا الوسط المسيحي الغربي الذي يملك تراثا هجينا يضم إلى جانب الدين الذي يشكل عاملا مشتركا مع الشرق عقلانية تمثل خصوصية ثقافية. هذه الثنائية في التراث الغربي انعكست على شكل تداخل علائقي ووظيفي بين الزمني والروحي، فالغرب الذي يرتكز في ذاته التراثية على دعامة الدين القادم من الشرق أراد اكتشاف ذاته الخاصة به وهي ذات عقلانية كما تتبدى له، ولكن الذات لم تكتشف إلا بعد سيرورة تاريخية مضنية.

 

الحق بين الله والإنسان:

 لقد خاض الغرب المسيحي صراعا داخليا طويلا قبل أن يكتشف ذاته ويحسم العلاقة الملتبسة بين الروحي والزمني أو بين الديني والدنيوي، كان الأركون في أثينا كاهنا للدولة وكان الإمبراطور الروماني إلها قبل أن يصبح حبرا أعظما أي بابا، وقبل أن يتلفع الأمير الاقطاعي برداء الملك المرصع بإكليل الحق الإلهي.

 في خضم هذا الصراع انقسم المجتمع المسيحي على امتداد العصور الوسطى وحتى بداية النهضة إلى فريق مناصر للبابا وسلطته الزمنية وفريق آخر يناصر الإمبراطور المتوج من البابا نفسه، المثقفون كذلك كان لهم دور في الدفع بوتيرة النقاش السياسي المرتكز في أغلبه على مشروعية الملك بوصفه يتمتع بالحق الإلهي فقد انحاز المثقفون إلى صف الامبراطور لا بوصفه حاكما زمنيا بقدر ما يمثل عاملا وحيدا لجمع الشتات ووقف النزف الدموي في المجتمعات الاوروربية.

 دانتي الشاعر الايطالي أدرك في وقت مبكر "نهاية العصور الوسطى" حجم الكارثة التي يخلفها تسييس الدين، فكتب رسالة تعبر عن انحيازه إلى صالح الدولة ممثلة بالإمبراطور قبل أن يأتي مكيافيللي ويطالب بتجريد السياسة كليا من الأخلاق والكنيسة، ثم جهر بولائه الكامل للسلطة المطلقة للملك. ومع دانتي ومكيافيللي وغيرهما تتخذ ارهاصات العلمنة في أوروبا بعدا تنظيريا يتراوح بين سلطة الكنيسة وسلطة الملوك لكنه لم يفطن بحسب المؤرخين حتى لحظة مكيافيللي إلى مقولات سياسية رسختها كممارسة سياسية الثورة الفرنسية عام 1789م كسيادة الشعب وحاكميته وتوزيع السلطات ومرجعية الدستور وحقوق المواطنة وغيرها، فهذه المفاهيم كانت غريبة على الممارسة والنظرية السياسية في العصور الوسطى.

 إن التفكير السياسي آنذاك يتلخص في أن المشروعية السياسية يجب أن تكون متعالية، أي أن مصدر الشرعية هو مصدر إلهي سواء كانت الممارسة السياسية تبرر ذاتها بنظرية الحق الإلهي للملوك كما حاول أن يفعل دانتي، أو تتمسك تارة بحق البابا والأكليروس في السلطة الزمنية استنادا إلى السلطة الروحية التي يتمتع بها، وتارة أخرى بهبة قسطنطين وهي التي ثبت زيفها. ومع حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى انتصر الحاكم الزمني المكرس بالحق الإلهي على الكنيسة في أوروبا، مما يعني أن الملك كما البابا يؤسس سلطته على شرعية سماوية مستمدة من حق إلهي، وهو ما جعل المسار السياسي أشبه بحلقة مفرغة تعيد انتاج ما قوضته، كما هو واضح في المتوالية التالية:

الحق الإلهي للباباوات ? الاصلاح الديني  ? الملكية المطلقة  ? الحق الإلهي للملوك

                                                    ?     القومية —     

 

يقول الفيلسوف الأميركي ديورانت: "نمت نظرية حق الملوك الإلهي جنبا إلى جنب مع تطور القومية والانتقاص من سلطة البابوات" (قصة الحضارة- ول ديورانت) مما يعني أن السلطة المطلقة ذات الصبغة الدينية بعد أن انتقلت إلى البابا من الامبراطور عادت إليه مرة أخرى ولكن بعد توليفها بفكرة الحق الإلهي للأمير المسيحي، وهو الأمر الذي كان قد دعا إليه صراحة مارتن لوثر زعيم حركة الاصلاح الديني في ألمانيا.

بين الغرب والشرق:

كانت حركة الإصلاح الديني في أبعادها الخفية ونتائجها البعيدة تعبيرا عن شعور قومي بدأ بالتنامي مع نهاية العصور الوسطى، وما كان يمكن ترسيخ المشاريع القومية والدول الوطنية آنذاك لو لا فكرة الحق الإلهي التي توفر التبرير الشرعي لبناء انتماء قومي كان يمثل وفقا للعقلانية السائدة آنذاك انشقاقا أو نزوعا انفصاليا.

إن البروستانتية في أغلب اتجاهاتها وفروعها لم تكن محض حركة دينية تستهدف إصلاح التجاوزات والانتهاكات التي كانت تلطخ المؤسسة الدينية الحاكمة في الفاتيكان، بما أنها ساهمت في إضفاء شرعية على تحول تاريخي كبير أدى إلى انتقال الحق الإلهي من البابا إلى الحاكم الزمني في مسار سوف يصل مع لحظة الحداثة إلى شطب الحق الإلهي واستبداله بالسيادة الشعبية. فالحاجة إلى استبدال البابا بملك بدت ملحة، يقول لوثر مدافعا عن الحق الإلهي للملوك: إن اليد التي تدير السيف الدنيوي ليست يدا بشرية وإنما هي يد الرب، والرب لا الانسان هو الذي يشنق ويحطم الضلوع على دولاب التعذيب ويقطع الرؤوس بالمقصلة ويجلد بالسياط، والرب أيضا هو الذي يشهر الحرب".من هنا وبناء على كلام لوثر فإن الملك المدعوم بالحق الإلهي كان يتمتع بصلاحيات مطلقة لا يحدها دستور.

 استمرت هذه النظرية فاعلة حتى 1789م  العام الذي سقط فيه رأس الملك الفرنسي لويس السادس عشر إثر اندلاع الثورة الفرنسية، حينها فقط انتقلت المشروعية السياسية من السماء إلى الأرض، وترسخت اللائكية والعلمانية كنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي، وحلت الأنسنة وحقوق الإنسان محل الله والحق الإلهي ، والتعددية "البلورالية" السياسية والاجتماعية محل الأحادية والأرثوذكسيات، وأخيرا: السلطات المقيدة بالدستور بدل السلطة المطلقة والحكم التيوقراطي. هذا ما حصل في الغرب قبل أن تفرض العلمانية نفسها كخيار وحل ونتيجة طبيعية لمسار يتسم بتآكل المرجعيات الشمولية ذات الصبغة الدينية.

ولأن المنهجية المقارنة في التحليل التاريخي تسعى لاكتشاف التواشجات بين السياقات والوضعيات الاجتماعية والثقافية فإن المقاربة يجب أن تضيء المفاهيم والمؤسسات والبنى من خلال علاقاتها الوظيفية وفحص التأسيس الوظيفي للتفكير السياسي في الوسط الإسلامي تحديدا، فللكشف عن حجم التوافق بين السياقين لابد من مقاربة الأشكال الوظيفية للمفاهيم والعلاقات الاجتماعية السياسية بمعزل عن مسمياتها واصطلاحاتها التي تموه الواقع كما رأينا وتعزل النظرية السياسية عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية لتكرس وعيا زائفا يحول دون الفهم والمعرفة.

إن العلاقة بين الديني والسياسي تتخذ عدة أشكال تجعل منها علاقة ملتبسة، حيث ثمة تداخل وثيق بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية، بين السلطان الذي هو ظل الله في الأرض وبين الأمناء على مرجعية الوحي، هذا التداخل ينزع تارة لإخضاع الديني للسياسي وتارة العكس، خاصة وأن الخلاف المذهبي هو في العمق خلاف سياسي رغم احتجابه خلف عناوين دينية، إن المذاهب الإسلامية هي في الأساس حركات سياسية جرى لاحقا تأصيلها دينيا وفكريا، المنظور السياسي هو القاعدة والمحور الذي تتحرك من خلاله كل الأدبيات المذهبية، هذا لا يعني رجما للذات وانحيازا للموقف الاستشراقي الذي لا يخلو من تحامل. فالمنطلقات المعرفية التي تؤطر هذه القراءة تتجاوز المنظور الاستشراقي والأيديولوجيا الدينية في آن معا نحو مطمح جدي يتمثل في "تأسيس كتابة" للتاريخ كما يعبر بريمار.

 ولكي نموضع معرفيا المنظور الاستشراقي والمنظور الأيديولوجي الديني في منظومة فكرية مختزلة سأقترح التمييز التالي بين مستويات الدين والأيديولوجيا الوضعية والأيديولوجيا الدينية:

 

الدين

الأيديولوجيا

الأيديولوجيا الدينية

 

الوحي - الله

 

العقل - الإنسان

 

الوحي -الإنسان

 

سلبي –فوقي

 

ايجابي – تحتي

 

سلبي – تحتي

 

تفسير – أسطورة

 

تغيير – تكنولوجيا (تقنية)

 

تغيير - أسطورة

 

مستوى البعد الروحي للإسلام يأتي موازيا للمستويات التي تشكل في مجموعها التراث الإسلامي، هذا فضلا عن أن القراءة البشرية ستفرغ حصيلة كبيرة مما تشكل تحت يافطة "الدين الإسلامي" من شحنتها المقدسة والمتعالية والثابتة، ليس المقصود الجوهر وهو روح الإسلام بما هو تجربة دينية تهدف إلى اندماج وانصهار كامل في المطلق والمعنويات، وإنما ما هو تاريخي في الإسلام الذي يتمظهر على شكل مذاهب تحول التاريخ والجغرافيا إلى دين.

تديين التاريخ:

كل الطوائف والمذاهب الاسلامية قد نشأت في سياق سياسي ولذلك فإنك لن تجد مذهبا دينيا نقيا دون أي صدى لأحداث أو اتجاهات سياسية تبلورت في عصور النشأة وعليه فإن "فن تحويل التاريخ والجغرافيا إلى دين" هو داء تعاني منه كل المذاهب، وما التضخم والتشعب الممتد في مفاصل علم الكلام والفقه والتفسير وسائر العلوم الدينية التي تشكل رافعة للواقع السياسي ونتيجة له في الآن نفسه إلا نتيجة مباشرة للصراعات السياسية التي غالبا ما تتصاعد إلى حروب دموية عنيفة.

نستطيع أن نشكل تمفصل واضح في الفكر الديني الإسلامي حول السلطة، فإذا كان التشيع أيديولوجية المعارضة فإن المذهب السني يمثل أيديولوجية السلطة، بعبارة أخرى: الفكر الديني السني هو محاكاة لتاريخ السلطة فيما يمثل التشيع محاكاة لتاريخ المعارضة. هكذا بشكل أولي ولكن في التفاصيل فإن كلا المذهبين يتضمنان شيئا من التفاوت والتداخل لسبب بسيط هو أن التاريخ بشري صرف، فالوسط السني كما الوسط الشيعي هو عنوان واسع يشمل عدة توجهات كلامية وفقهية وسياسية، وعلى امتداد التاريخ شهد كلا المذهبين عدة تحولات ومحطات تاريخية حاسمة ساهمت في تحديد صورتهما النهائية كما هي سائدة اليوم.

هذا التمفصل رغم ما تكتنفه من ثغرات تفضي في حالة عدم ردمها إلى التسطيح يقود إلى تمفصل آخر، يشبه حد التطابق ثنائية البابا والملك المقدس صاحب الحق الإلهي، وإذا كانت النظرية السياسية السائدة في المذهب الشيعي تجنح لتصور مثالي لأنظمة الحكم والمجتمع  بلحاظ الواقع المدان باستمرار، فإن المذهب السني في غالبه لا يعدو أن يكون تفكيرا سياسيا مهمته تبرير هذا الواقع نفسه.

 التشيع يبشر بإمام لم يأت بعد، هذا الإمام يجمع كما البابا كلا السلطتين الروحية والزمنية بل إن سلطته على الأرض ليست سوى انعكاس لمكانته في السماء، في مقابل المذهب السني الذي يمنح السلطة الزمنية هيبة الدين ووراثة الله على الأرض "نظرية الحق الإلهي". نلاحظ في كلتا الحالتين مرجعية متعالية تمثل قاسما مشتركا يجمع بينهما في منظور متداخل يتمحور حول التعالق الديني السياسي الذي يتراوح بين التبعية المطلقة والقطيعة الكاملة فيما يتخذ أحيانا شكل علاقة متكافئة، وذلك على النحو التالي:

المهادنة والقبول بالأمر الواقع:

وهو موقف يسعى لبناء علاقة متكافئة تتسم بالتواطؤ. الجهد المعرفي الأساسي في هذه المدرسة هو جهد تبريري الهدف من وراءه إضفاء الشرعية على أجهزة الحكم والدولة وفق تنظير سياسي يتماهى كليا مع الوضعية السياسية فالواقع هو المرجعية مما يعني افتقاده إلى التفكير السياسي الذي يلتزم العقلانية كمرجعية وليس الواقع / السلطة.

يبرز في مقدمة منظري هذا التيار في الوسط السني المارودي الذي عمل على تأصيل "ثنائية السلطة بين الخليفة والسلطان" بغية إضفاء الشرعية، قبل أن يأتي الغزالي الذي ساهم في بلورة تفكير سياسي ديني على مقاس الواقع/ السلطة.

أما في الجانب الشيعي فإن هذا التيار يمثل امتدادا للمؤسسين الأوائل للفكر الشيعي في استسلامهم وتعايشهم مع الواقع الذي هو مدان وسيبقى كذلك على امتداد عصر الغيبة، فالغيبة التي هي فكرة ميتافيزقية تقود إلى غيبوبة على المستوى السياسي والاجتماعي، هنا يتواشج الغياب الكامل عن واقع عصي على التغيير مع المقولة الشهيرة التي وردت في الإنجيل: "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". حاز هذا الموقف التسووي نجاحا ورواجا كاسحا" يقول الباحث الغربي كولن ترينر: "كان الرفض المطلق نادرا، ولم يشكل نية جدية بأي شكل لتحدي السلطنة الصفوية والسلطة الدنيوية، إذ كان اعتزال الحكام في معظم الأحوال فضيلة، بيد أنه يتعين عدم تأويله كتعبير عن المعارضة" 

المفارقة أن الفكر الديني الشيعي هو الأقرب إلى خيار المعارضة باعتبار الطبيعة السياسية المتجذرة في المذهب الشيعي والتي تتحرك حول محور العدالة بصفته أصلا أساسيا للمذهب، ولكن هذا التيار يقوض هذا النزوع السياسي، يضيف ترينر: " في هذه الملابسات تنزع عن الإمامة صبغتها السياسية وتغدو مفهوما محض أخروي هو الجوانية إمامية – المركز التي تركز على شخوص الأئمة سكانا شبه إلهيين لعالم الغيب السماوي..."  (التشيع والتحول في العصرالصفوي- كولن تيرنر).

ولئن كان الفقه السياسي عند الماوردي والغزالي وغيرهما هو فكر تبريري يجنح إلى تبرير الواقع المعاش عبر مفاهيم أدمجت في المنظومة المفاهيمية كقاعدة التغلب أو مفهوم الاستيلاء، فإن ممارسة التقية ستحل كعنوان ومفهوم مركزي وآلية للتعايش مع الواقع المعاش في الذهنية الشيعية. ستكون التقية هي الوسيلة لردم الهوة بين غياب وحضور، غياب الإمام الذي يمثل بؤرة النظام السياسي النموذجي وحضور الذات الشيعية التي تجابه الواقع وتحتويه بأداة التقية وتوابعها.

من أبرز ممثلي هذا التيار هو الشريف الرضي الذي كانت له علاقة حميمة بالخليفة العباسي إلى درجة نزعه العمامة الخضراء واستبدالها بالعمامة السوداء رمز العباسيين، وصولا إلى السيد محمد كاظم اليزدي الذي تصدى للحركة الدستورية وحارب أتباعها فيما كان يعرف بالمستبدة وانتهاءً بالفقهاء المعاصرين من أتباع نظرية حفظ النظام العائمة التي بإمكانها أن تنسجم مع أي سلطة، كالسيد الخوئي والسيد السيستاني. وهي نظرية تعكس في العمق جهدا توليفيا بين التقية كآلية للتعاطي مع الواقع المدان إذ يمنع وفق هذا التصور الخروج ضد السلطة وبين فعالية الانتظار، أي أن الشرعية هي حصرا لسلطة غائبة وواقع مثالي، مما يؤدي إلى انسداد سياسي وتعطيل كامل: لا يمكنك تغيير الواقع، كما لا يمكنك في الآن نفسه التعايش معه أو الاندماج الكامل فيه.

 

من الحياد إلى التبعية الكاملة:

تزامن التأسيس الأولي للفكر الشيعي مع صعود البويهيين إلى السلطة في بغداد في القرن الرابع الهجري، وهي الحقبة التي ازدهرت فيها اتجاهات فكرية مغايرة كان يمكن فيما لو أخذت مداها أن تشكل بداية فعلية لنهضة فكرية وأدبية تهجس بالإنسان والعالم أكثر من الغيب واللاهوت، فالبويهيون الزيديون قد أشاعوا بقصد أو بغير قصد مناخا مواتيا لحرية الفكر والمعتقد بشهادة أكثر من مؤرخ.

في هذا المناخ برز المؤسسون الأوائل للفكر الشيعي الذين عملوا على تحويل الثقافة الشيعية الشفهية إلى ثقافة مدونة يحتل فيها النص المرجعية الأساسية، فما كان للصدوق أو المفيد أو الشريف المرتضى أو الطوسي أو غيرهم أن يضعوا اللبنات الأساسية للفكر الشيعي لو لا توفر -إضافة إلى المناخ السياسي- عامل العلاقة مع السلطة البويهية التي أخذت شكلا مميزا يتسم بالتواطؤ والمهادنة، وهو الأمر الذي أتاح لنا أن نقيم تماثلا بين الوسطين السني والشيعي ضمن إطار موقف محدد هو موقف القبول بالأمر الواقع، وكل ذلك تماشيا مع الافتراض الذي يقضي بتماثل الأنساق الثقافية وظيفيا، فما يعنينا هو الجانب الوظيفي وليس المفهوم أو النظرية.

القبول بالأمر الواقع، بصفته موقفا يحدد العلاقة مع السلطة، يتسم بخاصية أساسية هي ما يمكنني أن أسميه "بالحياد الإيجابي" تجاه السلطة السياسية التي تغض الطرف عن التباين المذهبي مقابل تأجيل أو تعطيل ضمني للفكرة الثورية الكامنة في عقيدة الإمامة، أي أن هذا الموقف ليس إلا نتيجة صفقة مضمرة استمرت في تحديد خيارات الفقه السياسي الشيعي حتى القرن الخامس عشر الميلادي.

ولكن ثمة صياغة متفاوتة قليلا، بدأت مع مجيء السلطة الصفوية إلى الحكم في إيران في القرن الخامس عشر، تفضي إلى خضوع الديني للسياسي، وجعل الدين أداة في خدمة السياسة، ليس بمعنى أن السياسة هي توأم الدين كما يقول "عهد أردشير" وهو العهد الذي يمثل في اللاهوت السياسي الإسلامي عامةً نواة العلاقة السلطوية بين الأقنومين، وإنما السياسي هو الذي سيكيف الديني في علاقة خضوع كفيلة بخلق ظاهرة واسعة تكرس الاستبداد والتسلط هي ظاهرة وعاظ السلاطين.

ومثلما شهد التأسيس الأول في العصر البويهي نشاطا تدوينيا، كذلك شهد العصر الصفوي نشاطا مماثلا يُعنى في الدرجة الأساسية بموسوعات النصوص المرجعية المدعوة أحاديث أو سنة كموسوعة مجلس البحار للشيخ المجلسي، أو موسوعة وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي.

المجلسي كنموذج هو تجسيد كامل لرجل الدين حين يتمرغ على أعتاب السلطة، فهو مشهور بتملقه للشاهنشاه الصفوي، وما كتبه في مقدمة كتابه "زاد المعاد" –وهو بالمناسبة كتاب أدعية وصيغ شعائرية دينية- يكفي لكشف حجم التبعية والانضواء التام تحت لواء السلطة الصفوية، وهو نص طويل أكتفي منه بعبارات كاشفة: "  ... ونظرا لأن إتمام هذه الرسالة وإنجازها على عجالة تم في زمان دولة العدالة وأوان سلطنة السعادة صاحب الحضرة العليا سيد سلاطين الزمان ورئيس خواقين العصر شيرازة أوراق الملة والدين وصفوة أحفاد سيد المرسلين المصطفوي وسراج البيت المرتضوي السلطان الذي خدمه كثير جم والخاقان الذي الملائكة له حشم سليل الشجاعة ومن سيفه البتار نهر جارف لرؤوس الكفار نحو دار البوار..... يا من جبين غضبه يفك العقد التي لا تحل وراحة يده الكريمة سحاب مطر على مزارع الآيسين، مؤسس قواعد الملة والدين ... أعني السلطان الأعظم والخاقان الأعدل الأكرم ملجأ الأكاسرة وملاذ القياصرة محيي مراسم الشريعة الغراء .. السلطان بن السلطان.. الشاه سلطان حسين الموسوي الحسيني الصفوي.. أقدمها لحضرته الشريفة" (التشيع العلوي والتشيع الصفوي- علي شريعتي).

لهذه التبعية المطلقة، والتي كانت تمثل حتى القرن الخامس عشر نتوءا ناشزا في الجسد الشيعي، امتداد أوسع في الوسط السني "لاعتبارات عديدة منها حيازة السلطة والغلبة الديموغرافية". فالمدونات والنصوص التأسيسية السنية زاخرة بأدبيات وجوب الطاعة المطلقة للحاكم والذي هو ظل الله في الأرض.

موقف المجلسي يتكرر في صيغ متعددة بين الفقهاء والعلماء السنة، يكتب الشيخ طاشكبري زادة ديباجة مماثلة لما كتبه المجلسي، حيث تبرز معاني التعظيم والتفخيم للسلطان العثماني، يقول في إهدائه كتابه شقائق النعمان في علماء الدولة العثمانية: " وقد وقع هذا الجمع والتأليف في ظل دولة من خصه الله تعالى بالألطاف السبحانية من سلاطين الدولة القاهرة العثمانية الذي تضعضع بسطوته مباني الأكاسرة، وتطأطأ دون سرادقات عظمته سوامد القياصرة.. خلاصة أرباب الخلافة في العالمين شرف الإسلام ملاذ المسلمين أخص الخواقين العظام وقطب السلاطين الكرام، مطاع الملوك والسلاطين، مطيع أحكام الشريعة والدين، السلطان ابن السلطان والخاقان ابن الخاقان أبو الفتح والنصر السلطان سليمان خان ابن السلطان سليم خان..." (الفقيه والسلطان- وجيه كوثراني).

 

الاستقالة من الواقع أو تأثيم السياسة:

حتى لا نقع في فخ التعميمات المخلة لابد أن نستدرك محاولة الرصد والتصنيف بالإشارة إلى أن الموقف التبعي للمجلسي والطاشكبري زادة وغيرهما والذي قد يبدو قاعدة عامة منذ العهد الصفوي، هو موقف سائد ولكنه لم يحظ بإجماع، فهنا وهناك ثمة من لا يرى في السياسة إلا دنس وخطيئة، وهو التيار الذي يشكل موقفا ضديا من الموقف السابق أي التبعية المطلقة، فهذا التيار يجنح للرفض المطلق والذي ينطوي على تعطيل كامل للحياة السياسية، بل يميل إلى شطب الواقع والحياة بفعالية الزهد والانقطاع إلى الله واحتقار الدنيا، كبعض الخوارج الذين انكفئوا عن الحياة السياسية بذريعة أن الحكم لله، فجابههم الإمام علي ابن أبي طالب بضرورة الحكم البشري: "لا بد للناس من أمير بر أو فاجر".

في الوسط الشيعي توجد شواهد كثيرة على هذا التعطيل الكامل للحياة السياسية، نجد مثلا موقف الشيخ فضل الله النوري والشيخ إبراهيم القطيفي الذي رفض الانصياع لرغبات السلطان الصفوي من منطلق أن كل سلطة هي غير شرعية، حيث الممارسة السياسية تصبح هنا بمثابة خطيئة أو إثم.

 

تسييس الدين:

وبما أن التاريخ هو دين فإنه سيقول الشيء ونقيضه، فالمصالحة أو الموادعة أو التبعية المطلقة ستحظى بالشرعية ذاتها التي تحظى بها الاتجاهات المغايرة كالخروج وهو مفهوم تراثي يقترب من التمرد أو الثورة، وهكذا ستحتضن الشرعية الدينية التراثية كل الاتجاهات والمواقف المتباينة، فكما أن خروج الإمام الحسين بوصفه حدث تاريخي مروحن أو حدث/ أصل بإمكانه أن يتيح الشرعية لحركات التمرد فيضفي عليها لبوسا دينيا، فإن معاهدة الصلح التي وقعها الإمام الحسن مع معاوية والتي جرى انتزاعها من لحظيتها الزمنية والتاريخية هي كذلك مصدر شرعية لأي اتجاه ليس بوسعه أن يحتضن المواجهة السياسية.

ولما كان الفقهاء هم المرآة التي من خلالها تُستشف الشرعية في أوساط دينية لازلت تراوح ذاتها التراثية، فسأورد شاهدا متخما بالدلالات على هذا الصعيد، وهو عبارة عن حوار مثقل بهواجس الذات التي تبحث عن مكان لها في الواقع والتاريخ، ففي مدينة النجف العراقية العام 1965م دار الحديث التالي:

السيد الخميني "مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية": حبذا لو قمتم بزيارة استجمام إلى إيران واطلعتم خلال ذلك على الأوضاع عن كثب وشاهدتم بأعينكم ماذا يمر على هذا الشعب المسلم (...). السيد محسن الحكيم "مرجع ديني": ما دمتم قد وصلتم أنتم إلى هنا الآن فلا مناسبة للذهاب إلى إيران(...) وما هو الأثر الذي سيترتب على ذلك. السيد الخميني: لا شك أن زيارتكم سيترتب عليها أثر ما (..) كيف لا يكون لذلك أثر؟ لو كان العلماء متحدون لأثر ذلك قطعا. السيد الحكيم: إذا كان في ذلك احتمال عقلاني... فلا بأس. السيد الخميني: لا شك أن لذلك تأثيره وقد رأينا أثره نحن كما أننا نقصد العمل العقلاني فالعمل الغير عقلاني ليس مطروحا أساسا، مقصودنا هو عمل العلماء والعقلاء من أبناء الشعب. السيد الحكيم: إذا تحركنا بحدة فإن الناس لا تتبعنا، فهم غالبا لا يعرضون أرواحهم للخطر في سبيل الدين. السيد الخميني: لقد ذكرت لكم بأن الناس أثبتوا شجاعتهم وصدقهم في الخامس من حزيران. السيد الحكيم: لو ثرنا ونزف أحدهم دما، لحصلت ضجة كبرى ولشتمنا الناس وأثاروا الفوضى. السيد الخميني: حين ثرنا لم نر من أحد غير مزيد من الاحترام والسلام وتقبيل اليد(...). السيد الحكيم: ماذا يجب عمله؟ يجب أن نتوقع تحقق أثر لتحركنا فما هو الأثر المترتب على تقديم القتلى؟ السيد الخميني: (....) ينبغي علينا أن نضحي، دعوا "التاريخ" يكتب بأن عددا من علماء الشيعة ثاروا عندما تعرض الدين إلى خطر ما، وأن عددا منهم قتل. السيد الحكيم: ما هي فائدة التاريخ؟ ينبغي أن يكون لتحركنا أثر. السيد الخميني: كيف لا يفيد؟ ألم تقدم "ثورة الحسين بن علي" عليهما السلام خدمة مؤثرة إلى "التاريخ"؟ أولم نستفد من ثورة ذلك الإمام؟ السيد الحكيم: ما رأيك "بالإمام الحسن"؟ إنه لم يثر!. (الكوثر، الجزء الأول، ص 297).

نلاحظ هنا في هذا الشاهد التنافس على الشرعية المستمدة من تاريخ مقدس بين وجهتي نظر متباينتين. فإذا كان السيد محسن الحكيم امتدادا أمينا للخط الموادع أو المحايد الذي تأسس مع المفيد والشريف المرتضى والطوسي وغيرهم، فإن السيد الخميني بممارسته المباشرة للسياسة يمثل مفترقا -في الوسط الشيعي- بين الدور الوظيفي المألوف للفقهاء وبين دور جديد يقود إلى إخضاع السياسي للديني، فما عادت السياسة تكيَف الدين بل أصبح الدين هو نفسه سياسة.

 هذا التحول يشكل موقفا متمايزا سمته الأساسية تتمثل في الاصطدام مع السلطة الزمنية ولذلك سنجد له حضورا وإن كان باهتا في فترات مبكرة من التاريخ الإسلامي. أبو حنيفة النعمان مثلا هو نموذج بارز للفقيه الذي يرفض الانضواء تحت لواء السلطة السياسية، فقد رفض تسنم القضاء وأفتى سرا "بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللّص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة" (مقاتل الطالبيين- أبو الفرج الأصفهاني).

تندرج ضمن هذا الموقف حركات الإسلام السياسي المعاصرة، سواء من الوسط السني أو الشيعي، وهو لا يقتصر على الإدانة السلبية للسلطة، كما كان مع أبي حنيفة، وإنما يبادر على مستوى التأصيل النظري والممارسة العملية إلى قطف ثمارها، لتتحول في نهاية المطاف إلى سلطة دينية. لكن المرجعيات الفكرية لهذا التيار تتفاوت بين من يؤسس بشكل واضح إلى نظام ثيوقراطي كالمودودي وحسن البنا والسيد قطب الذي رفض استيراد القيم السياسية والاكتفاء بالإسلام كمرجعية ونظرية سياسية. أو السيد الخميني في نظرية ولاية الفقيه، والسيد الشيرازي في شورى الفقهاء وهي النظرية التي تدعو إلى آلية مختلفة لممارسة الفقيه لولايته إذ لا تبتعد جوهريا عن فكرة ولاية الفقيه اللهم إلا في آلية الممارسة.

وبين من يؤسس إلى منظومة سياسية أقرب إلى روح الديموقراطية والفكر السياسي المعاصر كنظرية ولاية الأمة للشيخ محمد مهدي شمس الدين، رغم أن مفهوم الأمة فقد مضمونه السياسي ولم يعد جزءا من مفاهيم السياسة المعاصرة. مع ذلك فإن ولاية الفقيه مع الكركي والنراقي وصولا للخميني وشورى الفقهاء للشيرازي وولاية الأمة لشمس الدين تمثل على مستوى الداخل الشيعي تطورا متصاعدا انتشل الفكر الشيعي السياسي تنظيرا وممارسة من عصر الغيبوبة والجمود. هذا دون أن نأخذ بالاعتبار التوجهات السياسية الجريئة التي دعت بوضوح إلى تفكير علماني يفصل بشكل نهائي بين السياسي والديني كعلي عبد الرزاق في الوسط السني وعبد الكريم سروش في الوسط الشيعي.

 

بين التراث والحداثة:

كل تلك المواقف والتيارات والنظريات -فيما خلا أصوات خجولة لعبد الرزاق وسروش وغيرهما- تندرج ضمن مقولة "الحق الإلهي" كما رأيناها في أوروبا الغربية في العصور الوسطى، فالفكر الإسلامي واجه ويواجه انسدادا في الأفق المعرفي يحول دون الخروج من المنظور القروسطي.

الغرب دخل عصر الحداثة السياسية من أوسع أبوابها فتمكن من تحقيق مكتسبات عديدة في التأصيل المعرفي للعلاقة بين مرجعية متعالية ثابتة ومرجعية دنيوية نسبية متحركة. إن أبرز المفاهيم التي تتشكل منها الحداثة السياسية يفتقدها الفكر الإسلامي مما يعني أن السياسة لديه ليست سياسة بقدر ما هي آلية سلطة، ومن هنا نجد الفقه السياسي حافلا بالأدبيات السلطانية التي تجعل من الحاكم أو الخليفة أو الإمام أو الفقيه حاكما مطلقا. يؤكد محمد مجتهد شبستري هذا القصور في الفقه السياسي بقوله: "أؤكد على هذه المسألة وأقول إنه لا يوجد فكر سياسي في الوعي العام للمسلمين أو بين علماء الدين كالفقهاء والمتكلمين، لأن الفكر السياسي يستلزم أن يكون موضوع السياسة هو الهدف والغاية وينبغي البحث والتفكير في السياسة بصورة عقلانية" ويضيف: "الفقهاء ينطلقون من موقع الإفتاء وتعيين تكليف الناس ويطلبون منهم التقليد والتبعية ولكن هذه الطريقة وهذا الأسلوب فقدا فاعليتهما في هذه الأيام" (قراءة بشرية للدين- محمد مجتهد شبستري).

ولكي نتمكن من وضع مسافة بين المنظور الحداثي والمنظور التقليدي التراثي لكون التماثل في الإشكاليات يحتم تماثلا في الحلول، يمكننا إجراء سلسلة من التقابلات تشمل السيادة والثقافة الحقوقية والتشريع والتصور الأنثربولوجي ولكن الأهم من كل ذلك هي قيمة المعرفة حيث ما عادت المعرفة تتخذ قيمة مطلقة مما يؤدي إلى نسبية تنعكس على شكل تعددية سياسية وفكرية وثقافية ومرجعية.

بيد أن الفكر الإسلامي بجميع أطيافه يبدو عاجزا عن استيعاب وهضم منجزات الحداثة بما فيها من مباني ومسبقات معرفية وتأصيل فلسفي، فمنظومة حقوق الانسان مثلا تبتني على مفهوم مغاير عن ذلك الذي يتأسس عليه المفهوم التراثي المتمركز على مفاهيم كالرعية والمؤمن والأمة.

 إن الحداثة السياسية تقلب كل المفاهيم والقيم السياسية، فإذا كان التراث يتمحور حول الواجب فالتكليف فالطاعة، حيث يتراجع الحق لصالح الواجب، فإن الحداثة السياسية تتمركز على دعامات التعددية وثقافة حقوق الانسان، الأصل في الحداثة هو الحق أما الواجب فهو مجرد إجراء يستهدف حماية الحق ذاته، والإنسان ليس شخصا مكلفا بل هو كائن مختار، يقول عبد الكريم سروش: "نحن دخلنا في هذا العصر في إطار معادلة جديدة حيث يعتبر فيها الإنسان نفسه محقا لا حيوانا مكلفا ومن هنا يتحرك الإنسان بالدرجة الأولى للبحث عن حقوقه ومن ثم يستخرج منها تكاليفه وواجباته" (التراث والعلمانية- عبد الكريم سروش).

 وإذا كان التراث يتعاطى مع الجماعة كرعية، والإنسان/ الفرد كمكلف وتابع ومطيع، فإن الحداثة تفتح مفهوما جديدا للشخص البشري هو مفهوم المواطن الذي لا يكتفي بالبيعة "التي لازالت فاعلة في بعض الدول الإسلامية" بل نجده يصر على حقه كمواطن في الانتخاب والمشاركة في رسم وتحديد القرارات السياسية.

وإذن فالدخول إلى عصر الحداثة يحتاج إلى زحزحة المفاهيم التراثية العالقة في التصور الإسلامي، فالإشكالية لا تقتصر على مصطلحات أو مسميات كأن نضيف مثلا في عملية تضليل لغوي مفردة الإسلامي لمفاهيم متولدة في سياق علماني كالسيادة "سيادة الشعب" والمجتمع المدني وحقوق الإنسان والديمقراطية وما أشبه، الإشكالية تمتد لتشمل الذهنية والفكر الديني برمته والأسئلة يجب أن تصاغ حول خلفيات المفاهيم السياسية الحديثة التي تتسم بمنطلقات فلسفية ذات جذور علمانية وليست مجرد إفرازات حداثية جاهزة، ولكن التاريخ وقد تحول إلى دين سيشكل ثقلا تنوء به الذات الإسلامية المسكونة بالتاريخ فلا تتحرك دونه ما دام التاريخ هو دين وليس سياسة كما يعبر الفقيه الشيعي السيد محمد الشيرازي.

 

 التشيع والشيرازي وفلسفة التاريخ :

تساهم القراءة المتأنية للتشيع في كشف المنعطفات الحاسمة التي كان لها التأثير الأبرز في تشكله وبلورته والتي تتمثل في ثلاث محطات أساسية: العصر البويهي، العصر الصفوي وأخير الثورة الإسلامية في إيران.

سنتمكن من خلال هذا الرصد من تفسير التفاوت في المنظومة السياسية بين اتجاهات محايدة وأخرى منعزلة وثالثة معارضة توجها السيد الخميني بممارسته المباشرة للسياسة بعدما كانت حكرا على المعصوم الغائب بداية ثم إعطاء الفقيه دور إضفاء الشرعية على الممارسة السلطانية المشروطة بإذنه لاحقا.

وفيما عدا المنعطف الأخير تتميز المحطتان البويهية والصفوية بكل الخصائص التي تميز المنعطفات التاريخية للفكر قبل أن يستقر ويصبح اعتقادا أرثوذكسيا، فالخصائص التأسيسية التي نلاحظها في أي تأسيس تتمثل في عدة إجراءات مثل تدوين النصوص المرجعية والتأصيل النظري وتحديد الاعتقادات التوقيفية والثابتة والتي تحدد شكل المذهب، ولكن ما حدث في بداية العصر الصفوي ليس تأسيسا بقدر ما هو استدراك على التأسيس الأول، سعى من خلاله "رجل الدين" إلى قلب العلاقة إلى صالح "رجل السلطة" المتوج بمسوح الزيت المقدس.

مع مجيء الخميني حدث تحول آخر في الوعي السياسي الشيعي كان من الأهمية بحيث قاد الدارسين للفكر الشيعي إلى اعتباره حدثا مفصليا في تاريخ الفكر السياسي الشيعي، فالخميني انتزع المبادرة من رجل السلطة وأحل ذاته محل الإمام الغائب انطلاقا من نظرية "ولاية الفقيه" لكنه أيضا ساهم في تدشين فهم جديد للتاريخ ورؤية شمولية للواقع الاجتماعي وإدراك بأهمية فعل المبادرة الناجمة عن إدراك مماثل بأهمية الذات التي ما عادت منكفئة بل ستتصدى هذه المرة لفعل المبادرة على شكل ممارسة سياسية مباشرة كما فعل الخميني أو ممارسة فكرية موسعة كما فعل الشيرازي، وهكذا كانت إيران مخاضا تولدت عنه تأثيرات دينية وسياسية عديدة.

ولكن هل من الصدفة أن تحتضن بلاد فارس المنعطفات الأساسية التي أثرت على مسار الفكر السياسي الشيعي بعدما كانت المنبع الرئيسي للقامات الفكرية المشغولة بترسيخ المخيال السياسي والذي جرى تأصيله إسلاميا نتيجة جهود معرفية بذلها أمثال ابن المقفع والماوردي وغيرهما؟

لا يبدو هذا السؤال مفاجئا إذا ما قبلنا بالافتراض السائد حول الأصل الفارسي التأسيسي للفكر واللاهوت السياسي في الإسلام. هذا الافتراض الذي حظي بتأييد واسع من العديد من الباحثين والمفكرين المشتغلين بدراسة الإسلام دراسة علمية متقصية يؤدي إلى نتيجة تكشف جانبا مفارقا من المسكوت عنه والذي ما انفك عن تغييبه الخطاب الديني التبجيلي، فإرجاع التفكير السياسي الإسلامي إلى أصول أجنبية يعني كشف الجوانب المعتمة من الذات ضمن عملية معرفية مترافقة مع فزع ناجم عن مواجهة مريرة مع الذات، فللمعرفة أثر الألم والمرارة خاصة إذا انبثقت من مسرح التاريخ كما حدث فعلا لا ذلك التاريخ المتسق مع الرغبة واستيهامات الذات.

التاريخ الواقعي ينبئنا بحقيقة مرة هي أن فكرنا وحياتنا السياسية ليست فعلا أصيلا ناجما عن جهد الذات. ليست الثقافة الإسلامية هي نتاج محض إسلامي، كما أن المنظومات المعرفية الأخرى المدعوة إسلامية لا تخلو من تأثيرات هلنستية وهندية وفارسية ورومانية، فالفقه بدقته وشموليته يكشف عن تأثير القانون الروماني، والتصوف يشي بحضور التصوف الهندي والفلسفة الافلاطونية المحدثة، كما أن الأخلاق ليست بالأصالة بحيث تحول دون اصطباغها بالتأثير الإغريقي شأنها شأن علم الكلام والفلسفة، كذلك التفكير السياسي الذي لم يكن نتاجا إسلاميا خالصا وإنما جاء نتيجة تبيئة لأدبيات عهد أردشير الموغلة في القدم. فالتاريخ الواقعي لا المتخيل يقول لنا بوضوح أن الأدبيات السياسية -ويا للمفارقة- كانت مستعارة.

لا تكمن المفارقة في الامتزاج والتمثل الثقافي وحسب، بل كذلك لأن الحدث السياسي ليس حدثا سياسيا بقدر ما هو حدث تأصيلي يزج بالحاضر دائما في متاهات الماضي، إذ يجعل من التاريخ دينا والدين تاريخا في مزج يمثل العمود الفقري لفلسفة التاريخ كما يراها السيد محمد الشيرازي "أحد الفقهاء المسلمين".

 ولأن فلسفة التاريخ بوصفها حقلا معرفيا تمثل موضوعا أثيرا ومؤرقا للفلسفة وتغري المتعطش لسبر أغوار التاريخ فإن أي محاولة في ذلك لا تخلو من مجازفة، فمحاولة كهذه قد تشوه المفهوم وتختزله في قراءة تبجيلية تسميها فلسفة. السيد محمد الشيرازي كعادته لم تنقصه الجرأة فحاول مجازفا أن يكتب فلسفة للتاريخ، هذه الفلسفة بإمكانها أن ترتكز على أي شيء إلا العقل، يقول في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه "فلسفة التاريخ": 

والفلسفة التي تعتمد على آراء عقلية مجردة لا يمكن استخدامها في معرفة التاريخ، فالتاريخ لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة، أو يقال عن مثل ذلك، لأنّ التاريخ شيء حقيقي لابدّ أن يكتشفه الحاضر بنفسه، أو لا يكتشفه الغائب غير المخبر إلاّ في بعض الحفريات التي لا تدلّ حتّى على عشر هذه الآراء، فلم يبق إلاّ أن يخبر الإنسان الصادق المتّصل بالله سبحانه وتعالى، ومثل هذا الإنسان هو في اعتقادنا نبي الإسلام وآله المعصومون (....) فإنّه كان للقرآن الكريم الأثر الأكبر في تصوّر المسلمين للتاريخ (...) السياسة لم تكن إلاّ وسيلة لغاية نبيلة، شريفة، هي نشر الدعوة، وإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور، وهكذا ارتبط التاريخ بالحديث موضوعاً، فالحديث هو أقوال الرسول، وأفعاله، وتقريراته. فالتاريخ ابتدأ من الكتاب والسنّة (...)" وتحت عنوان "التاريخ دين لا سياسة" يضيف الشيرازي: "لمّا جاء الإسلام، صار النور كنور الشمس، فصار التاريخ تاريخ الأنبياء، والأوصياء، والعلماء، والزهّاد، والعبّاد، ومن إليهم (...) وهكذا جعل المؤرخون موضوع التاريخ، تاريخ الأنبياء وسنتهم، والأوصياء وسيرتهم، والعلماء ومذاهبهم، والحكماء وآراءهم، والزّهاد ومواعظهم، لأنّهم علموا أنّ المسلمين يتحرّون رضى الله سبحانه وتعالى في معاملاتهم، ومعاشراتهم، وأخذهم، وعطائهم." (فلسفة التاريخ، الشيرازي).

كلمات السيد محمد الشيرازي هي من الوضوح بمكان بحيث تفتح منظورا مغايرا للتاريخ ومفهوما مختلفا لفلسفته، فليس التاريخ هو صراع أو مزج "اعتباطي" بين أحداث وحركات وتيارات ومذاهب وإمبراطوريات وإنما هو تاريخ أنبياء، فلسفة تاريخية ترتكز على مسبق إيماني لفكرة الإمامة المندرجة ضمن تأويل خاص لمبدأ الاصطفاء "النبوة"، وكما أن المصير الحتمي لحركة التاريخ لن يكون سوى الخضوع التام للإمام الذي يمثل امتدادا أمينا لخط الأنبياء فإن الحدث التاريخي هو كذلك فعالية كشفية تنبئية ترجع للإمام دون سواه، لأننا لا نستطيع كشف الماضي إلا من خلال الغيب المتجسد في شخص فوق تاريخي هو شخص الإمام/ النبي، فالتاريخ كما يقول الشيرازي لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة وإنما بالإنسان المتصل بالله/ الغيب، وهكذا يصبح التاريخ دين مهمته التبشير بيوتوبيا. 

الصياغة المثالثة للتاريخ ستسد الباب أمام أي محاولة لنزع القداسة عن أحداث ليس بالإمكان رصدها إلا بمعونة الغيب مما يقود إلى حذر في التعاطي مع التاريخ يشبه الحذر المعرفي الذي يؤرق الدارسين المعاصرين، إلا أن الفارق الجوهري بين صياغة مثالية وصياغة معرفية ليس ضئيلا بما يكفي لكي نقع في التباس، فالصياغة المثالية تلجأ إلى اللغة والأيديولوجيا وليس البنية الاجتماعية التي تلجأ إليها الصياغة المعرفية، الأولى تحذر من مقاربة التاريخ لأنه في علم الغيب في حين تحذر الثانية لامتزاج الأسطورة بالتاريخ، الأولى عملية دمج ولكن الثانية عملية فصل، والفصل ليس عملية سهلة ولذلك فإن المؤرخ المعاصر هو آخر من يقع في الجزمية والوثوق. ولكن الأهم من كل هذه الفوارق هي أن الصياغة المعرفية تؤكد على جعل الحدث التاريخي موضوعا للمعرفة التاريخية وليس شكلا لها، مما يؤدي إلى تأسيس تقابل ثنائي بين الحقيقة المتعالية والحدث الذي يخضع لاشتراطات تاريخية زمنية نسبية، فالدين ثابت والتاريخ متغير، الدين متجانس والتاريخ متشظي، الدين ينعم في جنة الحقائق المطلقة والتاريخ يسبح في نهر هرقليطس، الدين شأن روحي والتاريخ شأن سياسي، ولكن الفقهاء المسلمين سيدمجون بينهما دائما، وهي الفكرة المركزية في "فلسفة التاريخ" كما تتبدى للسيد محمد الشيرازي.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1449 الثلاثاء 06/07/2010)

 

في المثقف اليوم