قضايا وآراء

"افتراق الأمة" بين التاريخ والسياسة / ميثم الجنابي

 مثل أبي هريرة (ت ـ 57) وعبد الله بن عمرو بن العاص (ت ـ 65) وأنس بن مالك (ت ـ 93) وأمثالهم، ومنها ما هو مغاير. وبغض النظر عن اقتراب ممثلي هذه الأسانيد من الناحية الزمنية – التاريخية، إلا أن هذا الحديث أثار ردود فعل متضاربة، من تقبله الكلي إلى رفضه مرورا بالشك فيه.

وشكل هذا الحديث، الذي بلوره الصراع الفكري والسياسي مقدمة "مقدسة" لمواقف القوى المختلفة. ومع ذلك لم يحصل على اعتراف شامل في العلوم الإسلامية، بما في ذلك علم الملل والنحل. ولم يعق هذا من استعماله بين الحين والآخر من جانب اغلب ممثليه. ذلك يعني انه ساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في توجيه الرؤية المنهجية تجاه تصنيف الفرق وتقييمها أيضا.

بل أننا نرى الذهنية "الزلقة" للباحثين والمصنفين المسلمين تعمل أحيانا بالطريقة التي تعطي لهم إمكانية التعامل الحر فيما يتعلق بإدراج وإخراج ما تراه ضروريا من الفرق في العدد الوارد في الحديث، أي الثلاثة والسبعين. بحيث استطاعت قيمته الكمية أن تؤسر الوعي الذاتي للمؤرخين، والتي أعطى لها الانتماء المذهبي والسياسي للمؤرخين وثقافة المرحلة، حجمها العقائدي ومضمونها الفكري ووظيفتها الاجتماعية.

 طبعا أن تتبع الأحداث التي أدت إلى ظهور الحديث المذكور أعلاه لا تغني البحث العلمي كثيرا. أنها تساعدنا فقط على تدقيق المعنى المباشر وراء الكمية وليس أثرها المباشر بالنسبة للرؤية المنهجية والتقييمية للباحثين والمؤرخين. لاسيما وان المنهجية والموقف التقييمي هما اللذان يشكلان مضمون الأثر التاريخي والثقافي للحديث بالنسبة للبحث عن "اليقين"، وبالتالي فعاليته بالنسبة لتأسيس قيمة الاعتدال العلمي والعملي.

فقد أدت القيمة الكمية دورا نوعيا بالنسبة للوعي الثقافي، وذلك لأنها جعلت من التعددية أسلوبا للبحث عن "الفرقة الناجية"، أي بحثت في الكثرة عن وحدة. وليست "الفرقة الناجية" سوى الفرقة الواحدة الممثلة للحقيقة الواحدة، إضافة لذلك أنها فرقة الجماعة. وهو تمثيل له معناه وقيمته الخاصة بالنسبة للذهنية الإسلامية، التي شكلت الكمية بالنسبة لها رمزا تفتقد حيثياته الواقعية لقيمتهما المستقلة مع مرور الزمن. حينذاك يتحول الرمز في منظومة الثقافة إلى منهجية "حرة" قادرة على الامتلاء دوما بمضامين جديدة، يحددها في الأغلب مستوى وطبيعة الصراع الفكري والسياسي وعمق المعرفة وتنوعها.

إلا أن ما يصعب تحديد زمنه بدقة، وما يصعب ربطه بحادثة تاريخية ملموسة، يشير في الوقت نفسه إلى واقع استبطانه في الوعي الثقافي. وحالما يبرز هذا الباطن إلى السطح، فإنه يطفح شأن كل ما كان غائرا بالأمس، كما لو انه الكيان الأكثر إثارة للحس والخيال. مما يعطي لكل حساس ومخيال قدرة التأويل الباهرة. ولم يشذ الحديث المذكور أعلاه عن المرور بهذه الحالة التي أعطت لمختلف الفرق إمكانية تمثله وتأويله المتنوع من خلال نفث أرواحها الخاصة فيه.

فإذا كان باستطاعتنا الآن استنادا إلى تاريخ الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي، أن نحدد بدقة أسماء الفرق واتجاهاتها وأسباب ظهورها وانقساماتها، فان ذلك لم يكن نتاجا لكونها أحداث تاريخية وفكرية منصرمة فحسب، بل ولأنها ارتبطت أيضا بقوى وحّدت في ذاتها الأبعاد السياسية للفكرة والأبعاد الفكرية للسياسة، الأبعاد التاريخية للرمز والأبعاد الرمزية للفعل التاريخي، كما هو الحال بالنسبة للخوارج والمعتزلة وغيرهم من فرق الإسلام الكبرى. غير أن إدراك أسباب ظهور الفرق وانقساماتها لا يندرج فقط في الأبعاد السياسية والفكرية والرمزية لهذه الفرق وأفعالها، بل ويندرج في الوحدة التاريخية لهذه الأبعاد.

فقد بلورت وحدة الأبعاد المشار إليها آنفا إمكانية تزايد وتعميق عناصر الوعي التجريدي الباحث عن الأسباب ونتائجها التاريخية. وفي هذه العملية تكشفت الصلات الخفية والدقيقة لثقافة العصر. وإذا كان الحديث المنسوب إلى النبي محمد عن انقسام الأمة إلى نيف وسبعين فرقة من بين أكثرها شهرة، فليس ذلك إلا لكونه عكس في صيغه المتنوعة ظاهرة الانقسام وترسخها. كما انه أعطى لها أبعادا قابلة للتأويل بمعايير الإشارة والإدانة العقائدية والأيديولوجية.

إلا انه يلزمنا الحذر من إغراء التعامل مع التاريخ وعصارته الذهنية وكأنه على الدوام بالغ الوضوح عند صانعيه. فهؤلاء بالقدر الذي يصنعون تاريخهم بوعي، يعجنهم هو بعفويته الخشنة. وينطبق هذا أيضا على واقعية الافتراق في الأمة الإسلامية الناشئة، التي لم تكن معزولة عن صنع قواها الاجتماعية والفكرية واجتهاداتهم الواعية وإراداتهم المختلفة، كما صنع التاريخ الهويات المستقلة لهذه القوى. وهو تفاعل وجد انعكاسه في حديث افتراق الأمة وإشارته التعبيرية إلى وحدة الوجود الاجتماعي في تاريخ الأمة وصراعاتها وإلى صراعها الفكري السياسي في وجودها التاريخي.

ولا تتعدى الأحاديث الأساسية المتعلقة بافتراق الأمة أربعة، وهي الحديث الذي يقول: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على أثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". والحديث الذي يقول: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على أثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة". والحديث الذي يقول: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل. تفرق بنو إسرائيل على اثنين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة.

- يا رسول الله وما الملة التي تتغلب؟

- "ما أنا عليه وأصحابي".

والحديث الذي يضيف المحبوس إلى الأديان الأخرى، بالصيغة التي يتسلسل فيها انقسام "الأمم" بالشكل التالي ـ المجوس على سبعين فرقة واليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، بينما ستفترق أمة الإسلام على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة والباقون هلكى.

- ومن الناجية؟

- أهل السنة والجماعة.

- وما السنة والجماعة؟

- ما أنا عليه اليوم وأصحابي".

من كل ما سبق يتضح تباين واختلاف تراكم الفرق والملل والأمم في صيغ الحديث. مما يشير أولا وقبل كل شيئ إلى الوحدة المتطورة للحديث في تعبيره عن تعمق وتوسع الاختلاف والفرقة. وبالتالي تعبيره عن العملية التاريخية لتطور الصراع الفكري، التي عكست في الإطار العام درجات متطورة من حكم الإشارة للانقسام إلى إدانتها العقائدية ومنها إلى الموقف العقائدي – اللاهوتي ومنه إلى الموقف اللاهوتي الأيديولوجي. وهي مستويات سوف تجد انعكاسها المباشر وغير المباشر في استعماله وتطبيقه "المنهجي" في علم التاريخ الإسلامي بشكل عام وفي علم الملل والنحل بشكل خاص بوصفه علم تاريخ الأفكار والمدارس الكلامية والدينية والفلسفية.

لم يكن التباين في صيغ الحديث نتاجا لتباين السلسلة الإسنادية، بقدر ما ارتبط أساسا بتباين المراحل التاريخية وتنوع الإبداع الملازم لها. فإذا كان الشكل الأول للحديث يعكس أساسا حكم الإشارة إلى واقع الافتراق، وبالتالي يتسم بطابع حيادي، فان الحديث الثاني يركز على الإدانة والعقائدية كما في عبارة "كلها في النار" و"الجماعة". وتتعمق هذه العقائدية في الحديث الثالث بعبارة تحدد هوية الجماعة بكلمات "ما أنا عليه وأصحابي". وترفع هذه الهوية إلى مصاف الجبر الأزلي، بحيث يصبح مسار التاريخ والانقسام قضاء وقدرا لابد منه. بمعنى أن الانقسام آت لا بد منه إلى الأمة المحمدية شأن "الأمم" السالفة. في حين أدرج الحديث الرابع في بوتقته العقائدية كل الأديان الفاعلة آنذاك، ولكنه رماها أمام أقدام اللاهوت المتحزب، الذي وجد تعبيره الأمثل في فكرة "الفرقة الناجية".

تعكس هذه اللوحة "المنطقية" تاريخ الظاهرة. فهي تعطي لنا إمكانية تتبع تاريخ الحديث من خلال بروز العناصر الإضافية المتراكمة فيه. وهي إضافات تحدد بجلاء نتوء القواسم المشتركة، التي تشير جميعها إلى ظاهرة وفكرة الانقسام والافتراق. وهي ظاهرة وثيقة الارتباط بواقع وتاريخ الافتراق الفعلي في الأمة الإسلامية الأولى. وبالتالي فان هذه الأحاديث هي تعبير عن هذه الفرقة والانقسام، التي جرى بلورتها في وقت متأخر نسبيا.

فمن المعلوم تاريخيا، أن القرآن شدد على ضرورة الوحدة والاعتصام بحبل الله. ورفض بالتالي التفرق، بل ووجد فيه تعبيرا عن الجاهلية. لهذا لم يكن بالإمكان ظهوره تلقائيا من وحي التجربة المحمدية. بعبارة أخرى، انه يناقض روح وغاية الرؤية الإسلامية. طبعا، أن من الممكن الاعتراض على هذا الاستنتاج من وجهة النظر الشكلية، باعتباره استنتاجا يفتقد إلى الضرورة اللازمة. لكنه اعتراض ينبع أساسا من ولع الخلاف لا من تلقائية الفكرة في منظومة الأحكام اليقينية للإسلام المحمدي. إضافة لذلك أن آيات القرآن جميعها وأفعال النبي وأقواله المحققة تخلو من أية تنبؤات وتقرير لسوء الخاتمة، باستثناء ما يترتب على فعل الخروج عن الحق. وهو حكم يقيني وأخلاقي بقدر واحد.

فالحديث الأول القائل بافتراق اليهود ثم النصارى ثم المسلمين، يشير إلى تفرقة لم يفصح عن ماهيتها. بل قد توحي صيغته العامة حتى بأفضلية التفرقة في عالم الإسلام انطلاقا من زيادة كميتها فيه. رغم أن الوعي الإسلامي آنذاك لم يجهل أن زيادة الفرقة تعني زيادة الصراع. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أعداد الفرق مختلفة باختلاف الأحاديث، فان الزيادة التي تطابقت مع كمية الأعداد الآنفة الذكر كانت مرتبطة بهول الصراعات والانقسامات الدرامية في كيان الأمة الإسلامية الناشئة. كما يشير ذلك في الوقت نفسه إلى عدم جوهرية عدد الفرق.

إذ لم تتح للوعي التاريخي واللاهوتي الإسلامي آنذاك فرصة كافية لتأمل إبداعه الخاص. فقد وجد نفسه مرميا في لجج المعارك الدموية التي استثارت قوة الاتهام والتقييم، دون أن تمهله فرصة التأمل البارد والمتزن في اعتداله. ومن العبث الآن، البحث في هذه الظاهرة عن نقيصة، مازال التاريخ المنصرم لا يخضع بحد ذاته لشيء غير إمكانية الفهم والتحليل. وبالتالي لا نقيصة في وحدته. لهذا لم تكن سرعة الاتهام والتقييم حينذاك سوى التعبير المناسب عن فعالية الصراع الاجتماعي. وهي سرعة صنعت في الوقت نفسه نماذج متنوعة لفهم وبواعث الفرقة وحقيقية تقييمها. فإذا كانت الأحاديث النبوية تحتوي على نماذج متنوعة منها ما هو معارض ومؤيد للانقسامات الفكرية والاجتماعية مثل "افتراق أمتي رحمة" و"لا تجتمع أمتي على ضلالة" و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" وغيرها، فإنها لم تكن في الواقع، سوى تجليات لأسلوب استيعاب ظاهرة الانقسام وإضفاء "روح القدس" عليها.

اننا نعثر في الأحاديث المذكورة اعلاه على قدر كبير من قوة التحليل والتقييم، التي تجعل منها نتاجا لتراكم المقدمات الفكرية العريضة والمتباينة والمتناقضة. وفي هذه المقدمات كانت تكمن إمكانية التوليف الفكري الدقيق للتقييم كما نراها في حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. ولم يشذ هذه الحديث عن هذه العملية. على العكس. إنه تبلور "كميا" و"نوعيا" في خضم الصراع الفكري ومن خلاله.

فمن الناحية التاريخية لم يكن عدد الفرق المتراوحة ما بين السبعين والثلاث والسبعين سوى الحصيلة المجردة لكمية الصراعات والفرق المنشقة في الأمة الإسلامية. وهو واقع أدركه علم الملل والنحل، على الأقل في محاولاته كشف الأسباب القائمة وراء الفرقة وبواعث الاختلافات والانقسام. ومن الممكن أن نتخذ من مقتل عثمان بن عفان (ت ـ 35) بداية أولية لتثوير نوعية الانقسام الفكري في تاريخ الخلافة. وذلك بفعل تأثيرها الاجتماعي ـ السياسي الخاص بهذا الصدد. فقد أعطى مقتله للانقسام السياسي شرعيته اللاحقة، التي حصلت على صيغتها الفعالة في فكرة "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ولم تعن هذه الفكرة من حيث مضمونها العلمي والعملي، سوى تبرير وتقديس الانشقاق الدائم باسم المبدأ المطلق، الذي كان يتطابق في بعض جوانبه مع فكرة الفرقة الناجية. وهو مبدأ عمم انقسامات الأمة، لكنه شأن كل مبدأ كبير أثار نقيضه القائل بضرورة "طاعة الإمام كان ما كان فاضلا أم فاجرا".

وأدى ذلك بمجمله إلى تحفيز فعالية البحث عن شمولية أوسع في ميادين البحث المختلفة. بحيث شق لنفسه الطريق في الفقه والكلام والحديث والتفسير والفلسفة والتصوف، أي في الميادين ذات الصلة بعوالم التجريد المتعمق في مجرى الممارسة الاجتماعية. وهو الأمر الذي تكشف عنه ظاهرة تباين واختلاف صيغ الحديث. ففي الوقت الذي شدد الحديث على ظاهرة الانقسام الفعلية في الأمة الإسلامية، فإنه تضمن أيضا رؤية مثيلها في الماضي. وليس اعتباطا أن تدخل اليهودية والنصرانية أولا والمجوسية لاحقا في أفق الرؤية التاريخية والتقييمية لانقسامات الأمة الإسلامية، أي أنه تضمن درجات المقارنة والإدانة الأولية. وفي مجرى هذه العملية أخذت تتبلور عناصر البديل الأيديولوجي ـ الفكري.

فقد مرت هذه العملية بمرحلة طويلة من الصراع السياسي استمرت ما يقارب المائة سنة، وتتوجت بسقوط الخلافة الأموية وظهور العباسية كاستمرار "شرعي" ونفي ضروري لها. فقد عمقت الخلافة الأموية الصراع الفكري على أسس سياسية، بينما عمقت الخلافة العباسية الصراع السياسي على أسس فكرية. ولم تكن هذه المعادلة مجرد انقلاب للموازين والمعايير في وعي وممارسة القوى الاجتماعية والفكرية من جانب السلطة والمعارضة، بقدر ما أنها عكست طبيعة الوحدة المتناقضة في التطور الحضاري نفسه. وذلك لان مقاييس الوعي السياسي هي منظوميته الفكرية. ولا تظهر هذه المنظومية في البداية إلا على شكل رد فعل مباشر، وذلك لعدم تكامل الدولة في قوة مغتربة فوق الجميع ومع الجميع، بالضد منهم ومعهم. لاسيما وان هذه الجوانب المتناقضة في صيرورة الدولة ومؤسساتها بوصفها عملية طبيعية هي التي تفرز في وعي القوى المتصارعة ضرورة البرهنة عليها. إذ لم تكن الدولة الأموية بهذا المعنى سوى المقدمة التاريخية في حركتها الأولى. وفي هذا يكمن خصوصية إفرازها لوعيها الذاتي. فهي لم تبدع أسلوب الدفاع عن نفسها في ميدان الشعر والأدب فحسب، بل وفي قوة القمع السياسي وتحريضية الفكرة الجبرية. لهذا كان من الصعب ظهور فكرة انقسام الأمة إلى نيف وسبعين فرقة. لأنه كان يستلزم على الأقل ظهور كمية كبيرة واضحة للعيان وجلية، بحيث يصبح الإقرار والاعتراف برقم محدد أمرا مقبولا لا يثير الشك والجدل.

مما لا شك فيه أن المرحلة الأموية أفرزت من حيث تشعب الفرق أكثر من هذا العدد، وأقل منه من حيث استتبابها التنظيمي والفكري. كما عمقت المرحلة الأموية الطابع العقائدي للصراع المذهبي دون أن توفر له إمكانية التكامل. ولم يكن ذلك مربوطا فقط بالصراع السياسي الداخلي فقط، بل وبسرعة الانتصارات العسكرية التي أسكرت العاطفة وأبعدت العقل عن تأمل ما يجري ووحدته. فقد كانت النظرة السائدة للتاريخ آنذاك تقوم في تأييد ما يجري فيه على انه برهان لا يمكن دحضه على قوة الإسلام ووحدته.

وحال هذا الواقع دون حصول فكرة انقسام الأمة على استقلالها الذاتي. لهذا السبب لم تطفو آنذاك إلى السطح مثالية السلف الاجتماعية ولا قوتهم المعرفية. أي لم يجر بعد "تقنين" موقعهم المتميز في الذاكرة التاريخية، وقيمتهم المعرفية بوصفهم حاملي اليقين الأخلاقي. فقد اشترك في غمار المعارك من كان بالأمس سلفا. لهذا اصبح ممكنا قتل الصحابة والتابعين كمناهضين معاصرين، أو خارجين مارقين أو فاسقين كفار، كما هو الحال في كل مراحل الصراع السياسي في التاريخ. كما كان من الصعب بالنسبة للسلطة الأموية أن ترفع شعار السنة والجماعة، لأنها لم تكن بحاجة إليهما. ولكنها ساهمت في تركيز الاحتجاج الفكري من خلال إفرازه سياسيا.

أما الدولة العباسية فقد عمقت الاحتجاج الفكري على أساس تهميشه السياسي. وذلك لأنها استطاعت أن تصنع وحدة سياسية ـ اقتصادية جديدة وقوية أعطت للفكر إمكانية التعبير عن الاختلاف والحوار والتضاد. مما أدى بدوره إلى ظهور فكرة الجماعة ضمن الافتراق والسنة المستقيمة ضمن الانحراف، كما نعثر على تعبيره الخاص في الحديث الثالث والرابع.

فمن بين المؤرخين المسلمين الأوائل للفرق وأفكارها، الذين أشاروا إلى الطابع الأيديولوجي لفكرة الجماعة والسنة هو الحسن بن موسى النوبختي (ت ـ حوالي 320). فبعد أن استعرض آراء فرق عديدة من غير الشيعة، أكد على أن كل هذه الصنوف "من أهل الأرجاء والخوارج وغيرهم مختلفون بينهم، ويؤثمون بعضهم  بعضا في الإمامة والأحكام والفتوى والتوحيد وجميع فنون الدين. ينكر بعضهم من بعض ويكفر بعضهم بعضا. أكثر ما عندهم أن سموا أنفسهم على اختلاف مذاهبهم الجماعة، يعنون بذلك أنهم مجتمعون على ولاية من وليهم من الولاة برا كان أو فاجرا. فتسموا بالجماعة على غير معنى الاجتماع على دين، بل صحيح معناهم معنى الافتراق" . ولو تأملنا كتابات القرنين الثاني ـ الثالث، التي أرخت بهذا القدر أو ذاك للاختلاف في الأمة، فإننا سنلاحظ غياب فكرة الانقسام وحتميته، دع عنك مسألة تحديد الفرق وعددها. فابن هشام (ت ـ 213) في خاتمة (السيرة النبوية) يفرد مقطعا صغيرا بعنوان (افتتان المسلين بعد موت النبي محمد)، لا نعثر فيه إلا على ترديد لكلمات عائشة القائلة، بأنه لما توفي النبي ارتد العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية . ذلك يعني إننا نعثر هنا على العناصر الأولية التي سوف يجري صياغتها ودمجها في فكرة الحديث الآنف الذكر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكلمات المنسوبة إلى عائشة، إنما تعكس ما جرى تاريخيا، حتى في حالة افتراض الدافع "السني" لتبرير خلافة أبي بكر. من هنا، فان حديث انقسام الفرق، لم يستند بالضرورة إلى العناصر الواردة في الكلمات المنسوبة لعائشة، بقدر ما أنهما كليهما يعكسان ويعبران عن عملية طويلة من إعادة النظر في التاريخ المنصرم في مجرى صراع القوى المتحاربة. فقد جرى في هذا الصراع إعادة النظر بالتاريخ السالف والبحث فيه عن عناصر التأييد "الروحية" للقوى المتحاربة. إذ عادة ما يستثير الصراع في المراحل التاريخية المتأزمة فكرة الرجوع للماضي. ومع أن الرجوع للماضي ليس نتاجا لعمق الذاكرة التاريخية، إلا انه يتمثل أسلوب العلاقة الخفية بين الثابت والمتحول، الحاضر والماضي، المطلق والنسبي في الوجود الاجتماعي والوعي. وتعطي مراحل الأزمات لهذا الرجوع أبعادا ومظاهرا إيديولوجية. إلا أن ذلك لا يعني تطابق العلم والأيديولوجية والسياسة في تعبيرهم عن المعارك في هذه المراحل. وذلك لاختلافاتها الفعلية. فإذا كان للسياسة والأيديولوجية مبرراتهما وأسلوبهما وأهدافهما الخاصة في الرجوع، لأنه مادة ووسيلة الصراع العملي، فان مادة ووسيلة العلم تضمحلان في استمرار الإبداع الفكري. غير أن ذلك لا يعني تضادهما التام، بقدر ما يشير إلى واقع الخلاف، وفي نفس الوقت إلى إمكانية التأثير المتبادل بينهما.

إن التباين الداخلي لهذه العملية المعقدة مرتبط بتباين القوى الاجتماعية وتقاليدها الفكرية والأهداف الآنية والبعيدة المدى لمقالاتها. وهو أمر لا يعيق إمكانية انطلاق الفرق المختلفة جميعها من مقدمة فكرية واحدة، ولتكن مختلقة وموضوعة، مازالت تتضمن على إمكانية التأويل المتحزب (الأيديولوجي). ولعل حديث انقسام الأمة والفرقة الناجية، هو من بين أكثرها نموذجية بهذا الصد.

فقد جعل دخوله ميدان الأيديولوجية قوة سياسية كامنة تحولت لاحقا إلى قوة سياسية فعالة بعد أن أخذت تتعمق فيه عناصر الكلام اللاهوتية، التي شكلت آنذاك عناصر واقعية في ثقافة المرحلة. بحيث نعثر عليه بما في ذلك في تصورات المعتزلة وموقفها من الحديث. إذ لم تمنع النزعة الجبرية في الحديث مؤرخيها ومتكلميها الكبار مثل القاضي عبد الجبار (ت ـ 415) وابن المرتضى (ت ـ 840) من الإقرار بالحديث واستعماله "المنهجي" أحيانا.

وهو واقع يكشف عن توسع عملية انتقال الدين إلى الوعي الإيديولوجي ومنه إلى الوعي السياسي، الذي يجعل منه بالضرورة قوة سياسية. وتحولت هذه القوة السياسية في مجرى تطورها إلى مقدمة نظرية وبديهية فكرية. ولم يكن ذلك معزولا عن كيفية توظيف هذا المؤرخ أو ذاك من أئمة علم الملل والنحل المسلمين لها في منظومته التصنيفية والتقييمية. كما كشفت هذه الظاهرة أيضا عن تمايز وتطور الحديث من جهة، واستعماله من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى، نتعامل مع ظاهرة فكرية ـ سياسية تتضمن عناصر التقييم الأولية، وفي الحالة الثانية نتعامل مع منظومة تقييمية تتضمن عناصر الفكر الاجتماعي ـ الفلسفي واللاهوتي والسياسي.

فقد أخذت الفعالية النظرية للحديث تبرز بعد أن استحوذ على قيمة فكرية مستقلة. وظهر ذلك للمرة الأولى في استعماله الدائم كلما جرى التعامل مع واقع الانقسامات الفعلية في المدارس والاتجاهات الإسلامية. وحوله هذا الاستعمال في ميدان الاتهام السياسي والفكري إلى بديهية سياسية ـ فكرية تحولت لاحقا إلى عقيدة طافية فوق جدل الفرق، بل وأصبحت حقيقة معترف بها، مع انه لا إجماع حولها. إلا أن ذلك لم يعق استعمال هذا الحديث، كما هو الحال عند ابن حزم (ت ـ 456 )، الذي لم يعترف بصحته. ذلك يعني أن فعاليته ظلت قائمة في تحديد وتصنيف الفرق على أساس ما أسماه بالقرب والبعد عن السنة.

طبعا لم يكن هذا الاستعمال معزولا عن التأثير الخفي لتقليدية الوعي وتقاليد السياسة. وهو تأثير ارتبط أيضا بما للقرآن والسنة من طابع مصدري في الوعي الاجتماعي لثقافة الخلافة وصراعاتها الفكرية السياسية. بعبارة أخرى، أن تفحص المادة في جوانبها ومستوياتها العديدة يوصلنا إلى إدراك طبيعة الصراعات الفكرية السياسية والمذهبية، التي بلغت ذروتها في وحدة العناصر اللاهوتية والمذهبية والسياسية. وفي هذه الوحدة كانت تكمن القوة الفكرية والسياسية والتاريخية للحديث وعناصر الثبات فيه. وتضمن ذلك بحد ذاته على تناقضات فعالة بالنسبة لتثوير الوعي الاجتماعي والسياسي، وتعميق عناصر التقييم في علم الملل والنحل، ولكنه كبح في الوقت نفسه من جماحه العقلي بسبب تقنينه للحدود الصارمة.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1452 الجمعة 09/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم