قضايا وآراء

سايكولوجيا التماهي والطقوس الدينية في الزيارات المليونية / قاسم حسين صالح

 .. ثم عشرة ملايين .. الى  اثني عشر مليونا "وفقا لتصريح وزير الأمن الوطني.. ثم اربعة عشر مليونا " ومائتا الف زائر وفقا" لما ذكره امام كربلائي في خطاب بث عبر قنوات فضائية مساء الجمعة، 5-2-10. وفي حدث لاحق، بلغ عدد الزائرين لمدينة سامراء في 22-23 شباط 2010 بمناسبة استشهاد الأمام الحسن العسكري مليونين وستمائة وخمسين بحسب تصريح مدير شرطة المدينة.

 ومع عدم الأتفاق على العدد الحقيقي لزائري مدينة كربلاء فان الحدث يشير الى حقيقتين:

الاولى: ان عدد الزائرين يعدّ بالملايين.

والثانية: ان عدد الزائرين بهذه المناسبة أكثر موازنة بسابقتها، وان هذه الزيادة تنمو سنويا " باضطراد.

 فما أسباب هذه الظاهرة الملفته للآنتباه، بالرغم من خطر الموت البشع، الذي راح ضحيته في هذه الزيارة فقط، أكثر من ثلثمائة شهيد في فاجعتي (بوب الشام ) و(طويريج) لدرجة احتراق وتطاير اشلاء اجساد بشريه لم يكن بالمستطاع تجميعها لمعرفة اصحابها !

 

التفسير

لست معنيا" هنا بالاسباب أو الدوافع الدينية، فتلك من اختصاص رجال الدين وهي محترمة ولا يحق لأحد المساس بها لكونها تتعلق بحرية الدين والمعتقد. انما الذي يعنينا هو الأسباب السايكولوجية لهذه الجموع الغفيرة من الناس في هذه المناسبة تحديدا".

 والتساؤل هنا: أن زيارة الأمام الحسين(ع) كانت في زمن النظام السابق مقيده، وكان عدد الزوار قليلا"، وكثير منهم يلاقي صعوبات ومضايقات من الأجهزة الأمنية. وكانوا حين يصلون الصحن الشريف يبثون شكواهم من الظلم الواقع عليهم ولكن بحذر وخوف أن يكون بينهم مندسون من الأجهزة الأمنية . ولأن الظالم قد زال هو ونظامه، وأن الشيعة الذين كانوا مظلومين ومضطهدين، تولوا الآن السلطة وصارت الأمور بايديهم، فلماذا تكاثر عدد الزوار ما داموا قد تخلصوا من الذي ظلمهم واضطهدهم وتجرّأ على ضرب قباب الحسين (ع).. والجواب هو في الآتي:

 

1.   اثبات الوجود

بالرغم من أن النظام السابق كان علمانيا " وأن معظم المنتمين له (طوعا" أو قسرا") هم من الشيعة، وأن معظم قياداته الأولى كانت من الشيعة، الا أن طائفة الشيعة عموما" كانت مضطهدة، وقد قسى النظام عليها بعد الأنتفاضة الشعبانية ودفن الآلاف من الشيعة في مقابر جماعية. وتأتي هذه الزيارة المليونية لتقول للاخرين اننا ههنا موجودون ولن يستطيع اي دكتاتور افناءنا.. واننا نتكاثر بالملايين .

 

2.   التوحد الشيعي العالمي.

للمرة الأولى في تاريخ كربلاء يتوافد الزوار بهذه المناسبة من دول عربية وأجنبية بهذا العدد الكبير الذي تجاوز مائتا الف زائر. ومع أن وسيلة النقل الجوي ساعدت في ذلك، الا أن السبب النفسي الأهم هو، أن الشيعة الوافدين من اقطار عربية ودول أجنبية – باستثناء ايران – يعانون من الاضطهاد في البلدان التي يعيشون فيها. فأنظمة تلك البلدان تنظر لهم كما لو كانوا مواطنين من الدرجة الثانية أو منبوذين أو خارجين عن الاسلام. وكما أن توافد الحجاج الى مكة  يقوّي الدين الاسلامي عالميا"، ويعزز العلاقات بين مسلمين بجنسيات متعددة وقوميات مختلفة ويظهرهم كقوة عالمية يجب ان تحظى بالمهابة والاحترام، فان الفعل السايكولوجي نفسه يحصل بين شيعة العراق وشيعة البلدان الأخرى بهذه المناسبة، فيشعرون بتضامنهم وقوتهم وأن أحدهم للآخر نصيرا" وأن تباعدت المسافات واختلفت الأوطان..وأنهم قوة عالمية يحب أن تحظى ايضا بالمهابة والاحترام.

 

3.   التماهي

  يعني التماهي (التوحّد)، بالمفهوم السايكولوجي العام، أخذ صفة أو أكثر من شخص يعدّ أنموذجا" وتمثلها نفسيا" وسلوكيا"، أو تمّني الانسان أن يكون بمثل الشخص المتماهى به.. مصحوبا" بتعظيم قيمه ومثله العليا.

ولأن الحسين يمثل أنموذجا" فريدا" للأخلاق السامية، وبطلا" ثوريا" ومنقذا" مخلّصا" للمظلومين والفقراء، ولأن بين الناس العاديين من يمارسون في حياتهم اليومية الكذب والزيف والنفاق والتزوير والفساد.. وانهم كانوا قد خشوا بطش الطاغية وتحملوا اهانته واذلاله لهم، ولو أنهم كانوا كالقابض على الجمر والصابر على المكاره، فان بهم حاجة الى أن يغتسلوا ويتطهروا من هذه الرذائل .. وهذه ما يحصل في عملية التماهي بالحسين .. اذ يتم من خلالها استدخال قيم راقية تطرد الرذائل وتحل محلها.. فيشعر المتماهي من هذا النوع كما له أنه دخل حماما" وازاح الأوساخ من جسمه، وهذا الذي يحصل لدى الزائرين المتماهين بالحسين.. انهم غسلوا انفسهم من الرذائل، وقد يعممونها على محو الذنوب أيضا".

 

5.   السلوك الطقسي وقوة المعتقد.

يعني الطقس الديني، في الزيارات التي تضم جموعا" بشريه، توحّدا" نفسيا" ومشاعر وانفعالات مشتركة. ويعني قوة المعتقدات اسباغ القوة المطلقة على الاشخاص الذين يقصدون زيارة أضرحتهم واشاعة الطمأنينة بالنفوس والتخلص من مشاعر الاحساس بالعجز والنقص .

وفي الطقوس الجمعية يجري تفريغ أو تنفيس للمكبوت في حالة تحرر من القهر والانكفاء على الذات، ومشاركة بعواطف ايجابية، وانتشاء روحي، وزهو يتسامى بالروح في احساس غامر  من الذوبان في جموع يوحّدهم حضور مهيب في مناسبة استثنائية.

ومع ان الانفعالات تتوحد في الطقوس الجمعية في حالة من مشاركة وجدانية، يشكّل الحشد تصعيدا" لها لتبلغ ذروتها في الاندماج النفسي بموضوع الطقس، الا أن بعض دوافع الانفعالات في جموع الزائرين تتباين بتباين حاجاتهم النفسية. فهي عند جماعة فرصة للتنفيس والتفريج عن الكربه، وهي عند جماعة أخرى التوسط لدى الحسين لتحقيق حاجة شخصية دنيوية صعب أو تعذّر أو طال زمن تحقيقها على صعيد الواقع (شفاء مريض، عودة غائب،زواج من تأخر زواجها،انجاب طفل،فتح باب رزق،اصلاح حال،عودة علاقة أسرية أو عاطفية..). وفيما تكون عند جماعة ثالثة تحقيق حاجة اخرويه بالدخول الى الجنة، فهي عند جماعة رابعة تلّويح بالتهديد بالانتقام ممن ينوي النيل منهم من جديد متمثلة بتلك التي ترفع رايات حمراء مكتوب عليها شعار( يا لثارات الحسين).. فيما هي عند الجماعة الخامسة حاجة للتخلص من شعور بالذنب وتأنيب النفس عن موقف خذلان ناجم عن تقصيرهم  بحق الحسين انهم ما زاروه في السابق خوفا" من سلطة خشوا جبروتها.. وها هم يأتون الآن بهذه الجموع الغفيره ليعذرهم ويرضى عنهم. ولأنهم يرون فيه المثل الاعلى في الاخلاق، ويعرف انهم محبوه، وانهم قصدوه مشيا" على الاقدام وتحدوا موتا" من اشرار قساة، فانهم يكونون مقتنعين بأن الحسين ليس فقط سيعذرهم.. بل سيعظم أجورهم ويكون لهم شفيعا" في الدنيا والآخرة.. فيعيشون امتع حالات الطمأنينة، وبها ينخفض لديهم أشد انواع القلق المتمثل بالسيطرة على المصير،وهذا ما يحققه لهم التماهي والطقوس الدينية، لا سيما اذا كان المشاركون فيها بحجم الجماهير المليونية.

 

مقترح:

كتب هذا الموضوع في شباط الماضي ولم ينشر في حينه. ويبدو أن الأحزاب والكتل السياسة ما تزال تغذي هذه الزيارات وتشجعها برغم ما ينجم عنها من ضحايا..مما يعني انها تتحمل جزءا من المسؤولية وان كانت حصة المجرمين الأرهابيين فيها هي الأكبر..الأمر الذي يستوجب طرح مشروع ديني تنويري يستهدف مسألتين:توعية الجماهير بالمعنى الانساني والديني لهذه المناسبات، ومنع توظيف هذه المناسبات لأغراض انتخابية أو سياسية تهدر فيها حياة جموع بشرية..وتلك مهمة السلطة الرابعة بما فيها المواقع الأكترونية..تتبنى انضاج فكرة هذا المشروع، وتسهم فيه  مراجع دينية وجهات سياسية ايضا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1453 السبت 10/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم