قضايا وآراء

السنين إن حكت: الحصيّري .. الشاعر، اللغز!! / زيد الحلي

 تقرير الطب العدلي ذكر: ان سبب الوفاة (عجز في القلب وان المخبر عن الوفاة هو " مركز شرطة الكرخ بتاريخ 3/2 /1978)

وإذا كان السبب " عجز القلب " ام " الكبد " الذي مزّقه كثرة إحتساء الكحول، دون ان يصله غذاء مناسب او الهم المكبوت داخل الحصيري ولم يجد له منفذا سوى الموت، ففي النهاية غادر الحصيري الدنيا ضاحكاً... عليها !!

لا أريد الحديث عن إشكالية الموت كونه، حقيقة ثابتة، لا مناص منها ... لكن أود مناقشة ما آل آليه " الحصيري " وغيره من المبدعين، فهناك من يرى انه كان بالإمكان تجاوز ماحصل بالرعاية والاحتضان الرسمي ولا غضاضة، هنا، من الاعتراف بان ما سأذكره، لا يحظى بقبول " البعض " لأسباب أعرف دوافعها فالحصيري في تصوري حصل على رعاية كبيرة ماديا ومعنوياً لكنه لم يستوعبها، فتمرد عليها..

وللأمانة، أذكر إنني عندما تسلمت رئاسة تحرير مجلة " وعي العمال " العراقية وجدت ملفا شخصياً مؤشر عليه بخط عريض (إضبارة عبد الأمير الحصيري) وقد تضمن الملف ثلاث أوراق فقط ... الأولى وهي بلا تاريخ، فيها إقرار بخط الحصيري تتضمن تعهدا بالعمل والتواصل فيه .. والثانية، تاريخها 26/ 5 /1973 (الأحد) تقول: يعين السيد عبد الآميرعبود مهدي الحصيري محرراً في القسم الثقافي في مجلة وعي العمال براتب مقطوع قدره (40) ديناراً..

وفي الورقة الثالثة والأخيرة التي تحمل تاريخ 19 / 7/ 1973 (الخميس) نجد أمراً إدارياً نصه " لعدم الإلتزام بمسؤولية العمل وكثرة الغيابات، يعفى السيد عبد الأمير الحصيري عن العمل ..

وأمر التعيين والإلغاء كان بتوقيع رئيس التحرير الأستاذ " عزيز السيد جاسم " والأوراق المذكورة، أحتفظ بصور، عنها ، وهي برسم الباحثين ..

ولو عرفنا، ان راتب الـ 40 دينارا في العام 1973 يعني ان صاحبها يتمتع بحظوة جيدة، وهي تكفي لمعيشة عائلة كبيرة، فكيف والحصيري، لم يكن مسؤولاُ إلا عن نفسه وعن شقيقة واحدة كانت يعيش معها (في تلك الفترة) ببغداد .. وقبلها حظيّ بوظيفة " مصحح لغوي " في دائرة الإذاعة والتلفزيون وبراتب 60 ديناراً.. (انظر مقالتنا " رجل ضيّعه الزمن " وهو عن الحصيري / الزمان في 17/2 / 2009) إذاً، لم يكن الحصيري، شاعراً بلا رعاية، كما يدبج البعض من مقالات هشة ذات غايات، بعيدة عن الموضوعية، لكنه كان رافضاً لتلك الرعاية، حيث استهواه طريق " الصعلكة "... وهو طريق لا يستطيع أياً كان السيّر فيه، إلا إذا كان على إستعداد نفسي لذلك، وقد لحق ظله الشاعر " جان دمو " الذي توفي قبل فترة في استراليا، وقبلهما الشاعر " حسين مردان " لكن على مستوى اقل ... وغير الحصيري ودمو ومردان، ولج درابين شارع "الصعلكة " أدباء وشعراء، سآتي على ذكرهم في مقالات أخرى ..

 

 ــ 2 ــ

alhusayri أهال بضعة، أصدقاء، التراب على جسد الشاعر الملفوف بالكفن: عبد الأمير الحصيري في الثالث من شباط عام 1978 .. وفي أثناء ذلك، صدح صوت الشاعر "سعدي يوسف " في إلقاء قصيدة بوداع "الحصيري" في مقبر "وادي السلام " في النجف الأشرف، وسط وجوم،أستمر لدقائق، مقروناً بتبادل النظرات بين الحاضرين، وكنت أحدهم .... نظرات قلقة، تائهة، قطعها صوت قارئ القرآن الكريم، ثم علا صوت الشاعر"رشدي العامل " إيذاناً بألقاء قصيدة، لكنه توقف فجأة، ليصمت، معتذراً عن الألقاء، ربما لعمق تأثره اولسبب اخر.

قلنا لسعدي يوسف، عقب الإنتهاء من إلقاء قصيدته بما معناه ان قصيدته رائعة وان " الحصيري لو سمعها لضحك كثيرا " وأذكر ان سعدي قال بشكل، أمتزج فيه الجد لهيبة المكان، ببسمة مخنوقة (يستاهل اموري) .. ثم طلب قراءة سورة الفاتحة على أشهر " صعلوك " في الوسط الشعري في العراق .... اليس الحصيري هو القائل: أنا شيخ الصعاليك منذ أبتدأ الزمان !

وسار موكب الأصدقاء، الذي ضم سعدي يوسف وموسى كريدي ورزاق ابراهيم حسن وهادي الجزائري والعبد لله وبعض أقارب الحصيري وثلة قليلة ممن ضاعت اسماؤهم من ذاكرتي .. سار بأتجاه الشارع الفرعي للمقبرة، إيذاناً بالمغادرة وسط صمت، لم يعتده أصدقاء الحصيري، لكنه كان صمتاً قصيرأّ، حتى بدأنا بالحديث عن " الحصيري " ذاكرين نكاته ومشاكساته ومقالبه !!

وفي أثناء، ذلك همس في أذني (...) ذاكراً معلومة عن معزّة وتقدير سعدي يوسف لشاعرية الحصيري، قائلاّ ان سعدي حمل يوماّ حقيبة ضمت أدوات حلاقة كاملة من النوع الممتاز وقنينة عطر راقية ومشطاً ومنشفة وملابس داخلية وقمصاناّ راقية مع دعوة للحصيري بترك " الصعلكة " ومظاهرها غير الحضارية .. لكن الذي حدث، ان الحصيري باع هذه المحتويات الثمينة بسعر بخس، وتوجه الى صديقه " توما " في عبخانة بغداد واشترى بضعة قناني من العرق ..

وبالعودة، الى دفتر مذكراتي، وجدت إنني سمعت لأول مرة بأسم " الحصيري " حين، تناهى الى سمعي صوته، في منتصف ستينات القرن الماضي وهو يرعد ويزبد امام محاسب جريدة " العرب " ناصر جرجيس، وقد خرج من غرفة الاخير، متوتراً (لاعناً الساعة التي جاء بها لهذه الجريدة) ... وبخجل المحرر البسيط سألت المحاسب "جرجيس" المعروف في الوسط الصحفي بـ " ابو عليوي" عن صاحب الصوت الألثغ العالي أجابني بأنه (يقصد الحصيري) جاء مطالباً بمكافأة لنشرنا له قصيدة ..الخ.

رسم " الحصيري " في وجداني ومنذ ذلك الموقف، إعجاباّ كبيراً وثمّنت موقفه المتمثل بالمطالبة بحقوق النشر..

وبالإمكان العودة الى جريدة " العرب" في عددها الصادر يوم الاحد 31 3/1963 للاطلاع على قصيدة الحصيري التي لم يحصل أجر عليها وهي مكونة من 40 بيتاً وتحمل عنوان " يوم الرقود " .

 

 ــ 3 ــ

لمناسبة، مرور عام على وفاة الشاعر " بدر شاكر السياب " تشكلت لجنة ضمت بعض الأدباء والصحفيين، لإعداد إحتفالية تأبينية، تليق بمكانة الراحل الكبير ..

والى جانب هذه اللجنة، إنبثقت لجنة أخرى ضمت أيضاً أدباء وصحفيين بأعمار شبابية، لمساعدة اللجنة الأساسية للقيام بالإجراءات الروتينية، للاحتفالية التأبينية المذكورة ... وكنت أحد أعضاء اللجنة الشبابية...

كان ذلك في كانون الثاني او شباط من عام 1965، وإذا لم تخني الذاكرة، اشير الى ان المبادرة في تشكيل اللجنة الرئيسة وتوأمها اللجنة الشبابية، كانت محض مبادرة شعبية، تبلورت في مقاهي " حسن عجمي " والبرلمان والبلدية في منطقة الميدان ..

لقد، استقر الرأى ان يكون للشاعر " عبد الأمير الحصيري " مكاناً في حفل التأبين الكبير، وبإجماع ألأراء التي تمخض عنها الاجتماع الأخير في مقهى " البلدية " أختيرت قاعة " الشعب "ببغداد لتكون مكاناً للإحتفالية، وكذلك تم وضع برنامج القراءات في حفل التأبين الى جانب الفعاليات الأخرى .

وقد تم، تدبير مبلغ 30 دينارا، سلمت الى الزميل " فلاح العماري " عضو اللجنة لحجز القاعة، وقد اجري اللازم بيسر وسهولة لمعرفة " العماري " بعض المسلين عن القاعة ..

كان، حفلاً تأبينياً رائعاً، وحصدت قصيدة الشاعر " الحصيري " التصفيق والتأثير حيث أجاد بالإلقاء بلثغته المحببة وأجبرالحضور على الإصغاء الكامل، مثلما تألق بقية الأدباء والشعراء ...

ظهر " الحصيري " كالبدر، حليقاً، أنيقاً .... عطره سبق إلقاء شعره ... ولهذه الجزئية من الاحتفالية، حكاية، تروى للمرة ... الاولى.

 والحكاية، هي ان المحامي وصديق الأدباء " حكمت الدراجي"، تبرع بشراء بدلة بمقاس"الحصيري "وقميص علامة "الفا" مع ربطة عنق وحذاء من شركة "زبلوق" وبقية الإكسسوارات، وذهب بها الى الحصيري لتسليمها له، وهنا ساور المحامي الدراجي الشك، اذ ربما يقوم الحصيري ببيع (هديته)، وعندها نخسر حضوره للأحتفالية ... فتفتق ذهنه بأن يصطحب " الحصيري " الى حمام (الحيدرخانه) في شارع الرشيد ... وفعلاً نفذ الأمر، فخرج الحصيري نسخة شبابية، آخاذة، إرتدى ملابسه الجديدة ... وعندما جاء دوره لإلقاء قصيدته، بهت الحاضرون لحظة، ثم دوّت عاصفة من التصفيق رنينها لازال ماثلاً.. أمامي.

150 بيتاً كانت قصيدة " الحصيري" ... حلقت في سماء المبدع الكبير بدر شاكر السياب، لكننا لم نشهد، من يفي حق المبدع الكبير " الحصيري " في ندوة او مهرجان، وها هي " فيروز " أتمثلها أمامي وكلماتها تدك في أعماقي (أنا أبنة وطن، يموت فيه القمر، وتزدهر فيه تجارة ... الجثث)

رحمك الله ياصديقي الحصيري .... يا أبن 36 عاماً

 

 ــ 4 ــ

ليس، سراً القول،ان السيد " عبود مهدي " والد الشاعر " الحصيري " عاش ضنك العيش في النجف الأشرف، موطنه وموطن عائلته، فأختار الهجرة بحثاً عن العمل ... وكانت محطته محافظة " البصرة " وهناك صارع الحياة من أجل لقمة عيش بسيطة له ولعائلته حيث عمل الرجل في إحدى المدن الصغيرة بالمحافظة في خياطة "الّعبي" الرجالية وخصوصاً في تذهيب جوانبها بالخيوط الذهبية، لكن الرجل لم يوفق رغم حذاقته المهنية، وقد ترسخّت هذه الحالة في نفسية الفتى " عبد الأمير الحصيري " فعاش سنواته الأولى برفقة السيدة " علاهن " والدته، في قلق وشرود ومشاكسة وضيق وشقاوة وطيبة... لم يعرف عنه، إنه إستقر على رأى واحد ... مزاجيته كانت عالية وقد سببت له في قابل الأيام، الكثير من الأذى، لكنه كان، كما كنت أراه، سعيداً بهذا الأذى، وقد سألته مرة عن سعادته الداخلية رغم قساوة الحياة عليه، فأعاد ما كان يردده أمامي بأستمرار (ان دياجير الظلم مهما دجنت ..لا تستطيع أن تطفئ نور الحرية التي أصنعها لنفسي) كان فيلسوفاً، لبسته عباءة الشعر، يصنع الشعر بسهولة عجيبة، ويرمي به الى المجهول بقليل من نشوة زائلة، وربما بكلمة او وعد بالدفع بالآجل، أياً كان هذا الدفع، بضعة دنانير اوبضعة قاني من مشروبه الذي يحب .. . " عرق المستكي " !!

وربما ما سأقوله، بعد قليل، يشكل إحراجاً لـ " البعض " وهم كثر، ومبعث هذا الإحراج هو ما تعرض له الحصبري من إغراءات لشراء قصائده، بأبخس الاثمان، ويقال إنه باع مرة قصيدة عصماء لـ (.....) بقنينتي من العرق وبجرأة لا يحسد عليها، ألقى هذا "لشاري" المسخ القصيدة " المشتراة " في التلفزيون، حصل على هدية من المرحوم احمد حسن البكر، رئيس الجمهورية، عبارة عن شقة سكنية، لإبداعه الشعري، وهكذا دواليك !!

 وكثيرون، إشتروا من شعر الحصيري، لكنهم أبقوه عندهم وأطلقوا سراح ذلك الشعر المشترى، لاحقاً بأسمائهم، ولولا الحياء وإدراكي لما سيتعرض له "الشارون" وعوائلهم من حرج كبير، لذكرت الأسماء وما بحوزتي من وثائق حول الموضوع ..!

لنعد، الى صلب القضية، لتتعرفوا للمرة الاولى على حيثيات البيع والشراء لشعرالحصيري، دون الدخول في تفاصيل الأسماء كما نوهت ..

في خضم الأزدهار الثقافي والأدبي والصحفي الذي شهده العراق، اواسط ستينات وسبعينات القرن الماضي، أعلن في بغداد عن تأسيس مؤسسة ثقافية بإسم (مؤسسة أقاصي للطباعة والنشر والإعلان) وقد، فوجئت حين وجدت أحد أعضاءها كان الحصيري نفسه، فيما كان المسؤولون الأخرون كل من الاصدقاء: سامي الزبيدي والشاعر خالد يوسف (اين هما الأن ؟) والمرحوم طارق ياسين ... وقد شاع في وسطنا الصحافي حينها، ان " الحصيري " أخذ ببيع " شعره " على أشخاص، لم يعرف عنهم، إنهم " شعراء " او متذوقي الشعر، بل كانوا والشعر الحقيقي على طرفي نقيض، ثم ظهرت بعد حين في كتيبات ودواوين صغيرة بأسمائهم !!

ويقال، ان أحد أمراء الخليج، دخل على الخط، وإشترى ديوانا كاملاَ عن طريق وسيط، إستلم من " الامير " آلاف الدولارات واشترى من شعر الحصيري بحفنة دنانير..!!

 

 ـــ 5 ـــ

زار بغداد في شهر شباط 1974 الصحافي اللبناني المعروف " فاروق البقيلي " فاجرى لقاءات وتحقيقات صحفية عديدة، وعند إنتهاء تلك الزيارة دعاه الآستاذ "عزيز السيد جاسم " الى جلسة في مطعم " الزيتونة " في شارع ابي نؤاس ... كانت جلسة مختصرة جداً، ضمت الداعي والمدعو وثلاثة من المقربين لصاحب الدعوة .

 بدأت الجلسة، في المجاملات، ثم إنداح الحديث ليصب في جدال عميق حول تداعيات ومديات الواقع الثقافي في العراق والوطن العربي، كل أدلى برأيه وكل قال ما يعتقده صواباً، بشأن ذلك الواقع ..

ولمعرفة، السيد عزيز، بحب الضيف البقيلي، لـ" السمك المسكوف " طلب اليّ الذهاب الى (أيوب السماك) لتهيئة سمكتين كبيرتين ... وذهبت الى الحاج ايوب وأوصيت بأن يجلب " المسكوف " ومتطلباته المعروفة، الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .... كان الجو بارداً . بل شديد البرودة، لكن رواد المطعم، لم يشعروا بتلك البرودة، بفعل التدفئة المركزية، وبفعل الكؤوس الملآى بالكحول ! خرجت من المطعم، وكان على الطاولة أربعة أشخاص، وعندما عدت، لمحت إن العدد، أصبح خمسة ... تساءلت مع نفسي: من يكون هذا الشخص يا ترى ؟ كنت مطمئناً لحظتها إن مائدة " المسكوف " الموصى عليها تكفي لضعف عددنا..لذلك لم اشعر بالحرج، واقتربت اكثر من مائدتنا، فبانت ملامح الشخص الذي اختار كرسيّ الشاغر مكاناً لجلوسه ... إنه " عبد الامير الحصيري " بشحمه ولحمه ... بصراحة، ارتعدت فرائصي، فمعنى ذلك، ان الجلسة الودودة، الجميلة، سوف لن تمر بسلام ولابد ان حزمة المنغصات ستترى لا محال !!

جلبت كرسياً، اخر، بعد ان سلمت على الحصيري، وجلست مترقباً .. كان شاعرنا، يرتدي معطفاً رثاً، ويداه ممسكتان بحقيبته المعتادة، وقد اختار حجره ليضع عليه تلك الحقيبة... سألت بصوت خفيض جدا، اقرب الى الهمس: متى جاء الحصيري ؟ قال احد الحضور (...) بالهمس، ذاته: قبل ربع ساعة ..وهنا، جاء صوت الحصيري، عالياً بعض الشئ (وانت شعليك) .. فنهره السيد عزيز، بنبرة خافته (إسكت أموري) !

وأستمر الحوار ... ومع استمراره، كان قلبي يخفق بشدة، خوفاً من المجهول الأتي لا محال ... وقد زاد من توتري، ان الحصيري، ظل ساكتاً، بعد ان ملأ كأسه الثالثة من الويسكي الفاخر.. ورويدا، رويدا تململ الحصيري قاطعا الحوار الدافئ بصوت عال، ناشداً قصيدة عن بغداد، هي الأحلى مما سمعته حتى الان .. ومن أبياتها التي بقيت عالقة في ذهني:

 

 (يا شــــاطئاً ... بغـــــداد منبتـــــهُ

 ورفيف هذا القلب منبعـــــــــــهُ

 ياســـــــاهراً بعيون أزمنـــــــــــة

 لمعانها صحـــو ... يضّوعُـــــــه

 ياجنةّ لا يستظـــــل بهــــــــــا

 خلـــد .... اذا لم يزكُ مرضعُــــه

 يا صبوة الدنيـــــا ... وبهجتهـــا

 وعريشــها الذهبي مطلعُـــــــهُ

 ان ســـار قلبي عنك مرتحلاّ

 ورعى ســواك به تسرعُــــهُ)

 ×××××××××

 

ويبدو ان إعجاب ونشوة الحاضرين استهواه ... فزاد من الإنشاد وسط فرح وسعادة الضيف "البقيلي " مقابل، وجومنا المتحسس، من شئ سيحدث ... لكن هذا الشئ لم يحدث والحمد لله، رغم ان الحصيري، عبء في جوفه الكثير، إضافة لما فيه من أصناف الكحول التي احتساها، أثناء مروره اليومي على حانات شارع ابي نؤاس .. وجاء " المسكوف " برائحته البغدادية المعروفة، فطلبت من الحصيري مرافقتي لغسل أيدينا، فقام الرجل الى حيث أردت، وعاد ويداه نظيفتان، الى طاولة فارغة مجاورة لطاولة الشراب، حيث اصطفت السمكتان بأنتظار التهامهما، وقد لاحظت ان الحصيري، اطمأن الى وجود حفيبته في مكانها من خلال نظرة ثاقبة ... وهنا ينبغي الاشارة، الى ان الحصيري، عكس جميع الحضور، لم يتناول من السمك سوى القليل .. القليل، حتى نهض مسرعاً الى طاولة الشراب الاولى، فعبأ في جوفه كأساً جديدة !!

وقد بقيّ الحصيري، حاضناً بهدوء غير معتاد، حقيبته متمعناّ في الا شئ .. حتى انتهينا من طعامنا ... وعندما جيئ لنا بأقداح الشاي، إيذاناً بانتهاء الدعوة، نهض الحصيري، مترنحاً بعض الشئ، بعد ان دس في معطفه ما تبقى من قناني الويسكي ... كانت هذه الليلة، مفتاحاً لحوار طويل، شامل أجراه الكاتب " البقيلي " للشاعر عبد الامير الحصيري، عند زيارته الاخرى لبغداد في أذار عام 1974 ونشره متسلساً في مجلة " الديار" اللبنانية..

 

 ــ 6 ــ

من النادر ان تجد الحصيري، نظيفاً في هندامه،لكنك من المؤكد، لن تجد قلباً نظيفاً مثل الذي يحمله ... لسانه دائماً مع ضميره، وتلك لعمري، خاصية لم تجد من يحملها الا القلة، النادرة .. وكثيراً ما كان يحدثنا نحن اصدقاءه، انه على خصام مع الاغتسال وغسل ملابسه وكيّها ويقول بهذا الصدد، ان القميص الذي يرتديه وبقية ملابسه، لن تُغسل بتاتا، وتبقى على جسده حتى يرميها بعد أشهر ..

والغريب، المستغرب، مع كل هذا الوصف، لم أجد الحصيري الا برائحة اعتيادية ولم يؤثر سلوكه الشاذ هذا، في انبعاث روائح مقززة، كما ينبغي ان تظهر عند من هم على شاكلتة !!

لقد اعتاد، حياة الحانات وصوته المجلجل، العذب، كان سمته، فبعد ان يعبأ الخمر اياً كان نوعه، يقوم بأرتجال أحلى القصائد .. ولم يكن ثمن هذه الفعالية الشعرية سوى اقداح من العرق !!..

عاش الحصيري، حياته مشرداً بأرادته، راغبا بالنوم على الأرصفة، متوسدا حقيبته حاملة، أسراره، لكنه مات والنشوة تملأه لكونه لم يشارك في مهرجانات "المربد "التي عقدت في العراق، لإحساسه بأنه اكبر من كل الشعراء الذي أعتلوا منصات الإلقاء في " المربد" وقد سألت مرة الأديب " عبد الجبار داود البصري " سكرتيرالمهرجان وأحد المسؤولين عن توجيه الدعوات للمشاركة في المهرجان عن سبب عدم دعوة " الحصيري " للمربد فأجابني بالصمت ... والصمت وحده !

اخيراً...

للحصيري، عطاء شعري منشور مثل: بيارق الاتين عام 1966 (وهو ديوان مشترك) وسباب النار عام 1969 وانا الشريد 1970 ومذكرات عروة بن الورد 1973 وتشرين يقرع الاجراس 1974 وأشرعة الجحيم 1974 وتموزيبتكر الشمس 1976 ...

وهنا، اشير للتاريخ ان الحصيري كان يتحدث كثيراً عن ديوان أطلق عليه اسم (احلام بابل) لكنه اختفى بعد وفاته .. وربما صدر باسم غيره .. فليس للموتى سوى الرقاد ... والرقاد وحده !!

 مات الحصيري اثر إصابته بأسهال حاد في فندق بكرخ بغداد اسمه (الكوثر) كما ذكرنا، بعد ان زعل من صديق عمره الشاعر النبيل " كامل خميس " تاركا الفندق الذي يمتلكه هذا الصديق وتاركاً الغرفة المهداة اليه والتي ابقاها الشاعر خميس فارغة للشاعر " الزعلان "على أمل ان ... يعود لكنه لم يعد، وهنا لابد من الذكر ايضاً ان اثنين من النحاتين تبرعا بالدخول الى غرفة في الطب العدلي صباح يوم 3 شباط عام 1987 أي بعد وفاته بيوم واحد، حيث الجثمان المسجى ووضعا رأسه في الجبس، استعدادا لعمل تمثال بالحجم الطبيعي، لكن هذا التمثال لم ير النور .. كان مجرد همّة ضيعها ... الزمن .

رحم الله عبد الأمير الحصيري..

 

 

 

 

في المثقف اليوم