قضايا وآراء

"افتراق الأمة" بين التاريخ والثقافة - البحث عن اليقين الروحي / ميثم الجنابي

نعثر عليها بجلاء في علوم التاريخ وعلم الملل والنحل (الموسوعات الفلسفية والدينية) وعلم الكلام، بل وحتى في كتب الأدب والطبقات المختلفة. وقد كانت هذه الرؤية عند المفكرين المسلمين القدماء نتاجا لتعمق الوعي السياسي والنظري التجريدي في ظل "افتراق" دائم في الأمة. ذلك يعني أن بدايته الأولية كانت تكمن في الأفعال الملازمة لصيرورة الدولة وصراعاتها الحتمية. أما الفكرة القرآنية القائلة بأن كل شيء عرضة للزوال، فإنها لم تكن صدى التأثير الخفي للرؤية "الجاهلية" في تصوراتها ومواقفها من الموت والمصير، بقدر ما كانت توكيدا على نفيها الشامل في خلود المطلق.

وقد سار الوعي الإسلامي، في محاولته الكشف عن معنى ومضمون الأمة وكيانها السياسي والروحي في هذه "الجدلية الساذجة" التي تشحن الذهن بقدرة البناء المجرد لمختلف النظريات، مع سلبه في الوقت نفسه قدرة تجاهلها. وهي "جدلية" لها مقدماتها في التطابق المستتر والانعكاس غير المباشر بين "نظريات" الوجود التاريخي وبين انعكاسها في الحركة المتناقضة للوجود الاجتماعي. فقد أدى انتصار الإسلام إلى وضع حدود لفوران الفكر ضمن شموليته العقائدية. وهي صيغة تاريخية وثقافية لعلاقة الشكل بالمضمون المميزة لكل إبداع أصيل. كما أنها علاقة جوهرية في الإسلام أثرت على مجمل التطور اللاحق للأفكار والقيم، وذلك بفعل تحول الشمولية العقائدية إلى خلفية روحية للوعي النظري. لهذا لم تضعف التجزئة التي لازمت التطور السياسي والفكري للأمة وحدة انتمائها الروحي ـ العقائدي، على العكس، إنها ساهمت في تمتين أواصر هذا الانتماء و"التنازع السلفي" من أجل إثبات حق تمثيلها "الشرعي".

لقد كان حديث افتراق الأمة في صيغته المجردة التعبير الموضوعي عن واقع الأمة المجزأة فكريا وسياسيا، والموحدة في انتمائها لعالم الخلافة والأمة والإسلام . وليس مصادفة أن تناقش كتب الملل والنحل الإسلامية إلى جانب الحديث النبوي، قضية الإسلام والإيمان. وباستثناء النوبختي، ولحد ما الملطي (ت ـ 377)، فإن هذه القضية تخللت كافة الكتابات الكبرى. ويمكن تفسير غياب هذه القضية عند النوبختي والملطي على أساس مساعي النوبختي لحصر فرق الشيعة وآرائها فقط، بينما يحتمل أن تكون في حالة الملطي، نتاجا لفقدان الأجزاء الأولى من كتابه (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع).

أما الأشعري (ت ـ 324) فقد اختصر أحكامه بصدد هذه القضية بوضوح بالغ في معرض انتقاده للممارسة الفكرية في شقيها الجدلي والمذهبي، عندما أشار إلى ضيق ولا أخلاقية التشويه والاتهام والتضليل المتبادل بين الفرق. وكتب بهذا الصدد يقول: "أن الناس اختلفت بعد موت نبيهم في أشياء كثيرة ضلل فيها بعضهم بعضا وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم" . ولم يكن موقف الأشعري هذا نتاجا لضعف الجدل الفكري واللاهوتي وعدم بلوغه آنذاك عوالم الروح وخلجاتها، بقدر ما يكشف إلى أي حد مذهل وصلت إليه ذهنية التفريقات والتفريعات الكلامية. بعبارة أخرى، لم يكن اختصار الأشعري لهذه القضية معزولا عن توجهه الاجتماعي والأخلاقي ونمط تفكيره. فهو لم يكن متكلما محترفا، بل وإماما للفكر العلمي والعملي جمع في ذاته وحدة العقيدة والأخلاق. وسعى في خضم الصراعات الحادة، للبحث عن سبيل وسط، شأن كل أئمة الفكر الكبار.

إننا نعرف جيدا، بان سبب الخلاف في الفكر لا يعود للمنطق كما هو، بل لاستحواذ استيعابه الشكلي على ذهنية المرء. وسبب الخطيئة في العمل لا يعود لمساعي الفوز، بل لترجيحه المطلق. أما في الفكر العملي، فان السعي "للوسط الذهبي" ليس تهاونا، بل الإطار الضروري والأسلوب الواقعي للوحدة السياسية والتجانس الروحي ـ الأخلاقي. وفي هذا يكمن سر ابتعاد الأشعري عن ولع التفريق بين الإسلام والإيمان والتفريع في الأحكام المتعلقة بذلك، لاسيما وهو الضليع بها. فقد ظل الأشعري بهذا الصدد معتزليا في طراوة استيعابه لحرية الفكر.

أما الكعبي (ت ـ 317) فقد أشار في مقالاته كما يذكر البغدادي، إلى أن مفهوم "أمة الإسلام" ينطبق على كل من أقر بنبوة محمد وأن كل ما جاء به حق، ولا يغير في انتمائه لأمة الإسلام أي قول يقوله فيهما بعد. وهي فكرة وجد فيها عبد القاهر البغدادي (ت ـ 429) تهافتا لا يمكن الإقرار به. لأنها فكرة تنتقض بالآراء التي تطرحها العيسوية من يهود أصبهان، التي تعترف بنبوة محمد وبأن ما جاء به حق، إلا أنه لا يلزم بني إسرائيل. وينطبق هذا أيضا على قوم من الموشكانية اليهود. إلا أننا مع ذلك لا نجعلهم من أمة الإسلام، كما يقول البغدادي . فأمة الإسلام، حسب نظره، تجمع أولئك الذين يقرون بأن "العالم مخلوق، ويوحدون الله، ويقرون بكونه قديما، إضافة إلى الإقرار بصفاته وعدله وحكمته ونفي التشبيه عنه، وبنبوة محمد ورسالته إلى كافة الخلق وبتأييد شريعته، وبأن كل ما جاء به حق، وبأن القرآن منبع أحكامه الشريعة وأن الكعبة هي القبلة التي يجب الصلاة إليها . وهي شروط تعبر عن تقاطع الذهنية الكلامية والفقهية في تحديدها لهوية الانتماء الإسلامي. بمعنى رفعها نفسية الكلام المذهبية إلى مصاف الأيديولوجيا "الرسمية". بينما لم تكن هوية الانتماء هذه سوى "عقائد" الفرق الكلامية، عبر تحويلها إلى عقيدة ملزمة للجميع .

وسار ابن حزم (ت ـ 456) في نفس تقاليد "الروح الصارمة" للبغدادي، إلا أنه افترق عنه في أسلوب البرهنة وحدّ الإيمان، الذي سبق وأن بلورته تقاليد الكلام بعبارة "الإيمان هو إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان". فقد استثار ابن حزم في جدله الشديد، ما اعتبره تهافتا في الفكرة المنتشرة بين أوساط المتكلمين كالأشعري والفقهاء كالطبري من أن المرء لا يكون مسلما إلا في حالة استدلاله المنطقي على حقيقة الإيمان . إن نقطة الضعف عندهم تقوم في كونهم بنوا فكرتهم على أساس الموقف من التقليد، كما يقول ابن حزم. انهم انطلقوا من المقدمة القائلة، بان كل ما لا يعرف بالاستدلال العقلي المستقل هو تقليد مذموم. إذ ليس هناك من إمكانية لمعرفة الحق من الباطل إلا بالدليل، وإن ما لم يكن يصح بدليل فهو مجرد دعوى. فمن لا برهان له فليس صادقا في قوله. من هنا ضرورة العلم الصحيح. فما لم يكن علما فهو شك وظن. بينما العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال. وبما أنه لا يمكن التوصل إلى صحة الصحيح وبطلان الباطل من الأديان بالحواس، فإن ذلك استلزم ضرورة الاستدلال. بينما حاول ابن حزم البرهنة على أن هذا الاستدلال بحد ذاته عن قضية الإسلام والإيمان، والمسلم والمؤمن، بعيدا كل البعد عن البحث الاستدلالي الصحيح. ووجد في فكرة التقليد المذكورة أعلاه مجرد صيغة عامة وغير دقيقة وبعيدة عن الحقيقة، بسبب افتقارها إلى ما أسماه بالتقسيم الصحيح للتقليد. فهناك تقليد مذموم في حالة أخذه من دون الرسول محمد، كما يقول ابن حزم، أما ما جاء به النبي محمد، فإنه يقع في إطار الضرورة والأمر لا التقليد. بالتالي فإن تقليد النبي محمد هو "ليس تقليدا بل هو إيمان وتصديق وإتباع للحق وطاعة الله" . وينطبق هذا أيضا على فكرة طلب البرهان. فابن حزم لا يقف بالضد من البرهان، ولكنه لا يرى فيه وسيلة ضرورية للإيمان. وليس ذلك لأنه لا يوصل بالضرورة إلى اليقين، بل ولان الغالبية من الناس يؤمنون دون دليل. فالعامة وهم الأغلبية من الناس عادة ما تسكن قلوبهم إلى الإيمان دون طلب دليل، كما نراه عند النساء والصناع والعباد وأصحاب الحديث وغيرهم. فهؤلاء جميعهم لا يحتاجون إلى برهان ولا إلى تكليف استدلال، كما يقول ابن حزم . وشكلت استنتاجاته اللاهوتية هذه وانتقاداته الكلامية للأفكار المعروضة، مقدمة للبرهان على الفكرة القائلة، بأن المسلم المؤمن هو كل من اعتقد بقلبه اعتقادا لا يشك فيه وقال بلسانه "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وبريء من كل دين سوى دين محمد". وبالتالي فإن كل من اعتقد الإسلام بقلبه ونطق به بلسانه فهو مؤمن سواء كان ذلك عن قبول أو نشأة أو استدلال .

لقد أراد ابن حزم البرهنة على أن مفهوم الإيمان والمؤمن المسلم يقوم أساسا في اتباع الإسلام المحمدي. وبالتالي لا تقليد في إيمان كهذا. على العكس، إن التقليد في إتباع الكفر. فمعرفة القياس والاستدلال توصل إلى أنه لا ضرورة بالاستدلال والقياس كمعيار للإيمان. ولو جعلنا هذا المعيار معيارا وحيدا ونهائيا لأدى بنا إلى أن نضع أغلب أهل الأرض في خانة الكفار، كما يقول ابن حزم . من هنا يتضح بأن آراء ابن حزم بهذا الصدد، هي أحد نماذج "الوسط" الصارم، الذي تطغي عليه العقائدية الدينية المخلوطة بالجدل الكلامي العقلي. وبهذا المعنى يمكن اعتبار منظومته مقدمة منفية من الناحية المجردة في آراء الشهرستاني (ت ـ 548)، الذي أرجع مفهوم المسلم المؤمن إلى نمط التفكير ونموذج الممارسة الأخلاقية والمعرفية.

فقد انطلق الشهرستاني هنا من استيعابه الكلامي للحديث المأثور عن النبي محمد حول الإسلام والإيمان والإحسان. وطبقه بالشكل الذي جعل من مفاهيمه درجات تتمثل كل من البداية والوسط والكمال. فالإسلام قد يرد بمعنى الاستسلام ظاهرا، كما يقول الشهرستاني. ذلك يعني انه مفهوم يشترك فيه المؤمن والمنافق، كما جاء في إحدى آيات سورة الحجرات "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا". وبالتالي، فإذا نظرنا إلى الإسلام بمعنى الانقياد والتسليم ظاهرا، فهو المبدأ (البداية)، وفي حالة ارتباطه بالإخلاص، أي بأن يصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقر عقدا بأن القدر خيره وشره من الله، كان مؤمنا حقا. وفي حالة جمعه بين الإسلام والتصديق، وقرن المجاهدة بالمشاهدة وصار غيبه شهادة فهو الكمال (الإحسان). كل ذلك جعله يستنتج بأن لفظ المسلمين يشمل الناجي والهالك. وعلى هذه الفكرة المصهورة في منهجيته العلمية بنى الشهرستاني تصنيفه للفرق الإسلامية. وجعله ذلك أكثر تساهلا في إدراج الفرق في حضيرة الإسلام، بما في ذلك الغالية منها، على عكس البغدادي وابن حزم. ومن الناحية التاريخية والنظرية، كان أسلوبه الأكثر عقلانية وتجريدا في التعامل مع مادة البحث، مما أضعف الطابع العقائدي ـ المذهبي في دراسته للفرق. 

 اعتبر الشهرستاني "المستفيد من غيره مسلما مطيعا"، لان الدين هو الطاعة. وأن المسلم المطيع هو المتدين . وبهذا يكون قد سار في نفس تقاليد الكلام الإسلامي، الذي بلور قضية المسلم ـ المؤمن. وعلى الرغم من جوهرية هذه القضية العقائدية في علم الكلام، فإنها لم تكن في منهجيته أكثر من مقدمة ضرورية لصياغة المبدأ الأكثر شمولية تجاه تصنيف الفرق. إلا أن الشهرستاني لا يضع المسلم بالضد ممن يدعوه بالمستبد برأيه (أهل الأهواء) لاعتبارات دينية. وحالما نتفحص آراءه بعمق فإننا نعثر فيها على تضامن خفي بين مفهومه عن المسلم المطيع والمستبد برأيه في حال اقترابهما من الحقيقة. إذ ليس كل مستفيد من غيره على حق، كما يقول الشهرستاني. فربما "يكون المستفيد من غيره مقلدا قد وجد مذهبا اتفاقا بأن كان أبواه أو معلمه على اعتقاد باطل فيتقلده منه دون أن يتفكر في حقه وباطله. فحينئذ لا يكون مستفيدا، لأنه ما حصل على فائدة وعلم ولا اتبع الأستاذ على بصيرة ويقين" . فالاستفادة أو الإسلام أو الطاعة مرتبطة في آراء الشهرستاني، من حيث الجوهر، بمفهوم البصيرة واليقين. أما المستبدين برأيهم (أهل الأهواء)، فربما يكون أحدهم،  "مستنبطا مما استفاده على شرط أن يعلم موضع الاستنباط وكيفيته، فحينئذ لا يكون مستبدا حقيقة، لأنه حصل العلم بقوة تلك الفائدة" .

من هنا يتضح بأن الشهرستاني لا يضع تعارضا بين الاتجاهين في حالة اقترابهما من الحقيقة كما هي، بل يضعهما إن أمكن القول في علاقة التضمن (المنطقي)، أو علاقة الأعم والأخص. ويظهر ذلك بجلاء في استنتاجه القائل بأن "من قال بالأحكام الشرعية فقد قال بالحدود العقلية، ولا ينعكس" . والشهرستاني مصيب في حكمه الدقيق. فهو لا يصوغ هنا مبدأ الأفضلية التقييمي، بل مبدأ فكريا لتقسيم الاتجاهات والمدارس. فإذا كانت قضية الإسلام والإيمان هي الصيغة اللاهوتية التي أثير حولها الجدل في علم الكلام، فإنها امتدت نظريا وعمليا إلى كافة ميادين الثقافة الإسلامية من الفقه حتى التصوف. ولم تترك للوعي والضمير الإسلاميين مشقة العوم في فضاء الانتماء الروحي فقط، بل وقلق الركون إلى ثوابت الحق، بفعل ما لهذا التحديد من وظيفة عملية خطيرة . فهو تحديد يمكنه أن يشكل نقمة الهلاك الفردي والجماعي، كما يمكنه أن يكون نعمة الغفران الأخلاقي والفكري. إلا أن هذا الاستنتاج الأخير هو نتاج تجزئة التوحيد الفلسفي وليس نتاجا لوقائع التاريخ الفعلية وانعكاسها في تقاليد علم الملل والنحل.

فقد تعامل علم الملل والنحل (علم الموسوعات الفلسفية والدينية) مع مادته على أنها معطيات واقعية. ولم يستطع التخلص كليا من ثقل الهيمنة الأيديولوجية والعقائدية - اللاهوتية لفكرة انقسام الأمة والفرقة الناجية. فإذا كانت التقاليد اللاهوتية لعلم الكلام قد أفلحت في تعميق الأسس العقائدية للأصول والفقه، ومن ثم إثقال كاهل علم الملل والنحل في تضييق "خيال" الرحمة الإلهية، فإنها استثارت أيضا إمكانية الخيال التصنيفي للفرق. ولم يكن ذلك في الواقع، نتاجا لتفنن "الذهنية الإسلامية"، وحذلقة المهاترات الكلامية ومكر النفس العاقلة، بقدر ما كان تعبيرا مناسبا عن الصراع الاجتماعي والعقائدي الذي لازم نشوء الخلافة وتطورها.

والقضية هنا ليست فقط في أن انقسام الأمة حول الإمامة وجد انعكاسه في حديث الافتراق، بل ولأن الإمامة عادة ما كانت تتطابق في وعي الفرق مع التمثيل الذاتي للفرقة الناجية. لهذا ليس مصادفة أن تتفق جميع كتب الملل والنحل الإسلامية على إدراج "اختلاف الإمامة" كأحد الأسباب الجوهرية القائمة وراء انقسام الأمة. ولا ضرورة هنا للبرهنة على تأثر مؤرخي الملل والنحل الإسلامية أحدهم بالآخر بصدد هذه القضية، رغم أننا نستطيع القول بتأثر البغدادي بالأشعري، والاشعري بالنوبختي وهلمجرا. لكنها إشارة لا تغني الحقيقة شيئا، لاسيما وأن هذا الاعتراف والإقرار بمركزية الإمامة في وعي وصراعات الفرق اتخذ صيغة البديهية ـ العقائدية. فقد احتلت قضية الإمامة منذ البداية حجر الزاوية في تبلور الوعي السياسي وغيره من أشكال الوعي الاجتماعي.

فقد أشار النوبختي في أولى سطور كتابه (فرق الشيعة) إلى "أن فرق الأمة كلها المتشيعة وغيرها اختلفت في الإمامة في كل عصر، ووقت كل إمام وبعد وفاته، وفي عصر حياته منذ قبض الله محمد" . وأكد الأشعري نفس الفكرة في معرض تتبعه تاريخ الخلاف، مشيرا إلى أن أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد موت النبي محمد هو اختلافهم في الإمامة . ووجدت هذه الاختلافات انعكاسها واستمرارها في أحكام وعقائد الفرق حتى أيامه. ونعثر على نفس الفكرة وصداها عند البغدادي، رغم أنه لم يعط لها أهمية مركزية. بعبارة أخرى انه حاول أن يجعلها حلقة في سلسلة الخلافات. لكنه كان مضطرا تحت ثقل فعاليتها المؤثرة حتى زمنه للقول بأن الاختلاف حول الإمامة "باق إلى اليوم، لأن ضرارا والخوارج قالوا بجواز الإمامة في غير قريش" . وإذا كان ابن حزم قد وجه جلّ اهتمامه صوب مناقشة قضية الإمامة ذاتها وآراء الفرق المتباينة حولها، من أجل البرهنة على خطأ المواقف "الغالية"، ومن اجل إثبات الصيغة "السنية" لها ، انطلاقا من منهجيته في التفريق بين الإسلامي وغير الإسلامي، وبالتالي استبعاد مناقشة تاريخية الأحداث كهويات مستقلة، فان الشهرستاني سار في اتجاه تعميق التقاليد الموضوعية لعلم الملل والنحل. وعلى الرغم من إدراجه خلاف الإمامة في الدرجة الخامسة ضمن التسلسل التاريخي للخلافات، فإن ذلك لم يعقه من التشديد على جوهريتها في كل الافتراق الإسلامي وافتراق الفرق. بل نراه يشدد على أن "اعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان" . وليست هذه القاعدة الدينية في الواقع سوى الصيغة النظرية المجردة، التي حاولت الفرق المختلفة إثبات شرعية تمثيلها في صراعات الأمة واختلافاتها، وبالتالي إدعاء تمثيلها لفكرة "ما أنا عليه وأصحابي".

وإذا كانت المؤلفات التاريخية والكتب المخصصة لتصوير ودراسة قضايا الإمامة والسياسة مثل كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة الدينوري (ت ـ 276) قد صورت دراما الإمامة والصراع الدائم بين السلطة والأخلاق، والحق والباطل، والمكر والفروسية، والخطأ والصواب، والاجتهاد المضاد، فإن مؤلفات الملل والنحل الإسلامية صاغت بطريقتها الخاصة نمط استيعابها للخلاف في إطار تصنيف الفرق الإسلامية. فعندما يضع النوبختي قضية الإمامة في صلب البواعث الأساسية القائمة وراء الخلاف في الأمة، فإنه يكون بذلك قد حدد أسلوب تعامله معها، أي إبراز الطابع السياسي لمفهوم "القاعدة الدينية". فنراه يتكلم حول هذا الجانب بعبارة تتناول حسبما يقول "ما روى له من العلل التي من أجلها تفرقوا واختلفوا" . وفي محاولته الكشف عن هذه العلل، يربط كل من الأسباب السياسية وانعكاساتها الفكرية في مقالات وبراهين الفرق. فالحشوية (أهل الحديث)، وبالأخص الأوائل منهم قالوا بأن النبي محمد مات ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه في جمع كلمة المسلمين ووحدتهم. ذلك يعني أن النبي يكون قد "جوز فعل هذا الفعل لكل إمام أقيم بعد الرسول" . بينما استندت الشيعة إلى فكرة النص. وليس مصادفة أن يقارن النوبختي بين من يدعوهم بأهل الإهمال (الحشوية وأهل الحديث) وأهل النص (الشيعة)، ويضعهم على طرفي نقيض. فإذا كان أهل الإهمال (للنص) قد جوز أغلبهم الإمامة في الفاضل والمفضول، بمعنى الإقرار بإمكانية تولية إمام حتى في حالة وجود من هو أفضل منه لأسباب سياسية أو شخصية، فإن أهل النص شددوا على أن الإمامة لا تكون إلا للفاضل المتقدم. وإذا كان أهل الإهمال قد قالوا بأن النبي لم يوص إلى أحد من الخلق، وإذا أوصى فعلى معنى أنه أوصى الخلق بتقوى الله، فإن أهل النص عارضوا ذلك بفكرة حقيقة النص . بينما صاغت المرجئة فكرتها العامة، التي ينسبها النوبختي للفضل الرقاشي وأبي شمر وغيلان الدمشقي والجهم بن صفوان، بعبارة "إن الإمامة يستحقها كل من قام بها إذا كان عالما بالكتاب والسنة، ولا تثبت الإمامة إلا بإجماع الأمة كلها" . بينما اعتبرت الخوارج، باستثناء النجدية، بأن الإمامة تصلح في جميع الناس من كان منهم قائما بالكتاب والسنة عالما بها . حيث مثلت النجدية في آرائها هذه نموذج "الفوضوية المحافظة". وإن تميزها وامتلاكها هذين النقيضين في ذاتها جعلها محط انتقاد الفرق جميعا. فهي لم ترفض الإمامة بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنها قالت بفكرة الإمامة المجردة، المتمثلة في فكرة إمامة الناس أنفسهم على أساس التمسك بالقرآن باعتباره إمام الأئمة الوجودية.

في حين سارت المعتزلة بخطى أوسع وشمولية أعمق في نظرتها للإمامة، تجاوزت في حالات عديدة نماذج العقائدية المذهبية لتجعل من قضية الإمامة جزءا من عالم السيادة والعقل . ومع أن آراء المعتزلة كانت متشعبة للغاية، إلا أن الحوافز المستترة لوعيها النظري كانت تقوم في فعالية تقاليد الصراع الإسلامي ذاته. ولم يبعد المعتزلة من الانحراف عن احتكامها الدائم أمام عرش العقل العقلاني. وبهذا تكون قد أسهمت في إعادة النظر بالأحكام السابقة للفرق ذاتها. وبقدر ما كانت الأحكام السياسية للمعتزلة نتاجا لتداخل تقييمات "الفتنة الكبرى"، فإنها ساهمت بالقدر ذاته في تذليل العقائدية الصارمة وفسحت المجال أمام العقائدية الضيقة لكسر براهينها البدائية. وقد لاحظ النوبختي هذا التغير الذي أخذ يطرأ على آراء الفرق الإسلامية الأولى، بما في ذلك المعتزلة، عندما أكد على أن الكثير من آرائهم تغيرت وأن جملة من هذه التغيرات "حديثة العهد". فالفرقة الأولية لأهل الحديث والحشوية القائلة، بأن النبي محمدا مات ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه، تعرضت إلى تغييرات جديدة مثل إضافة فكرة "أن يجتهد الناس آراءهم في نصب الإمام وجمع حوادث الدين والدنيا". بينما قال قسم منهم، بإبطال الرأي مؤكدين على فكرة "أن الله أمر الخلق أن يختاروا الإمام بعقولهم" . وينطبق هذا أيضا على المعتزلة، التي شذت طائفة عن أسلافهم، فزعمت "أن النبي نص على صفة الإمام ونعته ولم ينص على اسمه ونسبه"، كما يقول النوبختي .

لم تكن ظاهرة التغيير والإضافة معزولة عن ضغط الجدل الفكري. وقد لاحظ النوبختي على سبيل المثال، أن جدل الإمامية الشيعة مع الحشوية من أهل الحديث أجبرهم على اتخاذ نفس نمط براهينهم. فقد لجأت جماعة من أهل الحديث "حين عضها حجاج الإمامية إلى القول بأن النبي محمد نص على أبي بكر بأمره إياه بالصلاة، وتركت مذهب أسلافها في أن المسلمين بعد وفاة الرسول قالوا "رضينا لدنيانا بإمام رضيه رسول الله لديننا" كما ينقل النوبختي .

وباستثناء الملطي وابن حزم ونسبيا البغدادي، فإن ممثلي علم الملل والنحل الآخرين، لم يخوضوا جدل النقض وبراهين الأدلة. لقد اكتفى كل منهم باستعراض وتصنيف وجهات النظر. إلا أن هذا الخلاف الحاد في مظهره، لم يكن في الواقع، سوى نتاج منهجيات البحث ونمط التفكير المميز لهذا المؤلف أو ذاك والغاية التي يسعى إليها. فقد حاول الملطي التنبيه ثم الرد على أهل الأهواء والبدع، بينما سعى ابن حزم للفصل بينهم، في حين حاول البغدادي الكشف عن الفرق بين الفرق. بينما نعثر عند الأشعري على مقالات المسلمين واختلافاتهم، وعند الشهرستاني على آراء أهل الملل والنحل، وعند الفخر الرازي (ت ـ 606) على اعتقادات المسلمين والمشركين، وعند ابن المرتضى (ت ـ 840) على آراء أهل الملل والنحل. ولا يعني انتفاء الجدل، بقدر ما انه يعكس أحد صيغه المبطنة. إذ لا تخلو هذه  المؤلفات أيضا من ردود لاذعة أحيانا. غير أن قيمتها النقدية والجدلية تجاه الفرق الأخرى، تقوم في تصنيفها على أساس اكتشاف المعيار الجوهري، أي المقياس الذي تقاس به عدد الفرق ومستوى تمثيلها للجماعة والسنة والفرقة الناجية.

إن التعقيد الأشد بهذا الصدد يقوم في عدم وجود كل عناصر هذا التعميم مجتمعة عند أي من مؤرخي علم الملل والنحل الكبار. مما أدى إلى إقرار البعض بعدد الفرق، بينما رفضه القسم الآخر، في حين ركز البعض على فكرة السنّة والجماعة، بينما البعض على الفرقة الناجية. وهي خلافات منهجية ومذهبية في نفس الوقت. وقد كانت الوحدة بين الرؤية المنهجية والمذهبية أمرا طبيعيا في منظومات علم الملل والنحل. وذلك لأنهما كلاهما كانا نتاجا لنمط الوعي الثقافي الإسلامي. وإذا كان من العبث الآن سبر أغوار الدهاليز المذهبية ومتاهاتها العديدة، فإن مما لا شك فيه هو أنها شكلت الخلفية الواقعية التي بلورت مواقف مؤرخي الفكر وواقع الفرقة في الأمة وتقييم مدارسها وشيعها. ولم يكن ذلك نقصا كما يبدو للوهلة الأولى. فعلى الرغم من أن حصر الفرق في عدد معين أدى إلى تضييق إمكانية تتبع ظهورها وتطورها وازديادها، فانه افرز قواعد الحدود الضرورية بالنسبة لتحديد الجوهري من العرضي. وكما انه أدى إلى وضع أغلب الفرق في خانة الضلال والانحراف، فإنه أفرر أيضا واحدية الحقيقة. وكما انه أعطى للجميع إمكانية اتهام وانتقاد وتفسيق وتكفير الآخرين، فإنه صنع إمكانية تقييم الذات وتقديمها على أنها الفرقة الناجية. ذلك يعني أنه أعطى للجميع حق الفهم المختلف لشعار: فليتنافس المتنافسون!!

وباستثناء ابن حزم، فإن جميع ممثلي علم الملل والنحل الإسلامي اتخذ من حديث انقسام الأمة مقدمة "شرعية" لتناول موضوعاته. وهي مقدمة لم تؤد إلى توحيد النتائج في المواقف، بقدر ما أنها رسخت إمكانية التنافر والخلاف. وهو واقع ارتبط أساسا بالطابع العقائدي ـ المذهبي للحديث أكثر مما فيه من منهجية وتحليل. وقد لاحظ النوبختي منذ وقت مبكر، بان مفهوم الجماعة في آراء الفرق المتصارعة يعكس مضمون الفرقة (الافتراق) أكثر مما يعكس مضمون الجماعة (الوحدة). وبهذا يكون قد حدس الطابع الإيديولوجي للحديث. لهذا نراه يتغافل عن استعماله في تصنيفه للفرق. وفي نفس الوقت نرى إن عدم استعماله بل ورفضه كما هو الحال عند ابن حزم لم يضيق من فاعلية المواقف الإيديولوجية والعقائدية في تصنيفه للفرق وأحكامه عليها. إلا أن حصيلة التحليل المنهجي ـ العقائدي في علم الملل والنحل، أبدعت بما في ذلك من خلال "شرعية الحديث" قوانينه العامة في تصنيف الفرق، التي استندت في الإطار العام، إلى الرؤية الواقعية لتعدد الفرق واختلافها. وليس مصادفة أن يشترك أغلب مؤلفي كتب الملل والنحل المسلمين في تقسيماتهم العامة للفرق الكبرى. فالبلخي قسم فرق الأمة الكبرى إلى ست وهي الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة والعامة والحشوية. بينما تتشابه تقسيمات النوبختي والاشعري والبغدادي. فهم جميعا يقسمونها في الإطار العام إلى أربع فرق كبرى، هي الشيعة والمعتزلة والمرجئة والخوارج عند النوبختي، والشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة عند الأشعري، والروافض والخوارج والقدرية المعتزلة والمرجئة عند البغدادي. ولا تختلف آراء ابن حزم عن ذلك. فهو يضيف إلى الفرق الأربع العامة الآنفة الذكر، فرقة أهل السنة. ولا تختلف في الواقع، تقسيمات الشهرستاني عن سابقيه من حيث اتجاهها العام. فهو يضيف إلى جانب المعتزلة والخوارج والمرجئة والشيعة كل من الجبرية والصفاتية، أي أنه يزاوج بين آراء النوبختي والأشعري والبغدادي وابن حزم عن تصنيف الفرق. بعبارة أخرى، انه يمثل استمرار ونفي رفيع المستوى للتصنيف الذي سبق وأن وضعه الملطي في تصنيفه للفرق العامة وهي كل من الزنادقة والجهمية والقدرية والمرجئة والرافضة والحرورية، وما وضعه البغدادي، الذي أضاف إلى الفرق الأربع العامة فرق النجارية والجهمية والمشبهة.

وسوف يظل هذا التقسيم والتصنيف محافظا على "بؤرته" الأساسية تجاه الفرق الكبرى حتى في الكتابات المتأخرة نسبيا، كما هو واضح في تصانيف فخر الدين الرازي وابن المرتضى. أما الشيء الجديد الذي يدخله الرازي في تصنيفه العام فهو إضافته لفرق الصوفية إلى جانب المعتزلة والخوارج والروافض والمشبهة الكرامية والجبرية والمرجئة. حقيقة أنه ليس الأول والوحيد بهذا الصدد. فقد سبق للاسفرايني (ت ـ 471) وان ادخل المتصوفة في فرقة أهل السنة والجماعة، كما هو جلي في كتابه (التبصير في الدين). أما ابن المرتضى، فإنه تتبع تصنيفات المعتزلة والشهرستاني والرازي. وأضاف إلى الفرق الأربع الكبرى كلا من المجبرة والباطنية والحلولية والزيدية. وفيما لو توسعنا في تفصيل هذه الصياغات العامة، فإن ظاهرة التصنيف، تبدو أكثر تعقيدا وعرضة للتبدل والتنوع، بحيث يصعب أحيانا حصرها بمقياس معين، باستثناء مقياس الانتماء الفكري والمذهبي. إذ نراه واضحا في ترتيبهم الفرق وحشرهم إياها في الاتجاهات العامة. بل يمكن الجزم، بأنه ليس هناك مؤرخ من مؤرخي الفرق والمدارس الفكرية الإسلامية ممن تجرد كليا عن التأثير المباشر أو غبر المباشر لهذا الانتماء. وقد يكون الشهرستاني هو الوحيد الذي تسامى على احتراب الفرق وشعور الانتماء الضيق فيها، مع انه لم يتصف بالتجرد الكامل.

وهنا يجدر القول، بان ظاهرة النقاء التام أو التجرد الكامل في عالم اتسم بالصراع الفكري والمذهبي والعقائدي، ليس لها ما "يبررها" من وجهة النظر التاريخية. فهي ليست رديفا للموضوعية الناقصة. إنها تكمل الموضوعية من وجهة نظر التحليل العلمي. فلقد كان جميع ممثلي علم الملل والنحل إسلاميين من حيث المنشأ والتربية والعقيدة. وبالتالي، فإنهم نظروا إلى أعمالهم باعتبارها جزءا من مهماتهم الروحية أيضا. وإن هذا التناقض النسبي بين الانتماء الروحي ـ العقائدي والموضوعية الفكرية الصارمة، كان على الدوام المحرك القائم وراء بلورة وصياغة تقاليد علم الملل والنحل وتصنيفه للفرق.

فإذا كان الملطي على سبيل المثال قد أجهد نفسه في تقسيم الفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة متتبعا حرفية الحديث، كما فعل البغدادي والشهرستاني وابن المرتضى، فإن كل منهم قد أسهم في خطته الخاصة، بجمع وترتيب عددها. إذ نرى الملطي يقسمها على الشكل التالي: الزنادقة خمس فرق، والجهمية ثمان، والقدرية سبع، والمرجئة اثنتا عشرة، والرافضة خمس عشرة، والحرورية خمس وعشرون. وجعله ذلك يستنتج بأن مجموعها اثنتا وسبعين فرقة يضاف لها الفرقة الناجية وهي فرقة أهل السنة والجماعة . في حين وزعها البغدادي بالصيغة التالية: الروافض عشرون فرقة، والخوارج عشرون فرقة، والقدرية المعتزلة اثنتان وعشرون فرقة، والمرجئة خمس، والنجارية ثلاث، ثم كل من البكرية والضرارية والجهمية والكرامية على فرقة واحدة. أي أنه يطبق بصورة دقيقة، شأنه شأن الملطي عدد الفرق الضالة (اثنتان وسبعين)، أما الفرقة الأخيرة فهي فرقة أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث . في حين لا يقدم الشهرستاني أرقاما دقيقة شأن سابقيه، ولكنه يفلح في الاقتراب من تمام الرقم التقليدي للحديث. إلا أن تعداده للفرق يثير إشكاليات أكثر مما يحلها. إذ نستطيع جمعها عنده بطريقة توصلنا إلى انه كان يقر بالرقم ثلاث وسبعين في حالة جمعنا إياها بالشكل التالي: المعتزلة اثنا عشرة فرقة، الجبرية ثلاث، والصفاتية ثلاث، والخوارج ثمان عشرة، والمرجئة ست، والشيعة تسع وعشرون. كما أن من الممكن قراءتها بالشكل الذي يجعل منها رقما يصل إلى الواحد والسبعين، في حالة جعل الخوارج عنده ست عشرة فرقة. كما أن من الممكن جعلها سبع وستين فرقة في حالة جمع فرق الشيعة بخمس وعشرين فرقة. أو يمكنها أن تكون خمس وستين فرقة في حالة جعل الخوارج ست عشرة فرقة، والشيعة خمس وعشرين. وحتى في حالة الموافقة، وهو أمر ممكن في حالة التلاعب بالأعداد وتصنيفها، على ما أشار له الشهرستاني بعد استعراضه للفرق، من أنه أنجز القسم المتعلق "بالفرق الإسلامية" وما بقيت إلا فرقة الباطنية. ومع أن الشهرستاني يقول عنها بهذا الصدد "وقد أوردهم (الباطنية) أصحاب التصانيف في كتب المقالات إما خارجة عن الفرق وإما داخلة فيها. وبالجملة هم قوم يخالفون الاثنين والسبعين فرقة" . إلا أن الحصيلة النهائية للرقم تختلف عما سبق وإن قال به في مقدمة كتابه عما اسماه باستيفاء "أقسام الفرق الإسلامية ثلاثا وسبعين فرقة" . وهو أمر يشير إلى عدم جوهريته بالنسبة لتصنيفه. بينما ينزع ابن المرتضى في تدقيق أرقام الفرق الإسلامية نزوع الملطي والبغدادي. فنراه يبحث في عدد الفرق الثلاث والسبعين تصديقا للحديث النبوي عن انقسام الأمة والفرقة الناجية منها . لكن ذلك لم يمنعه من الإشارة إلى تعقيدات هذه القضية . فهو يقسمها بالشكل التالي: الروافض عشرون فرقة، والمعتزلة عشرون فرقة، والمرجئة ست فرق، والمجبرة أربع فرق، والباطنية فرقة، والحلولية فرقة والزيدية فرقة.

أما بالنسبة لمؤرخي الفرق الآخرين مثل النوبختي والأشعري وابن حزم والرازي، فإنهم لم يشغلوا أنفسهم بهذا الجانب كثيرا. فالنوبختي على سبيل المثال، لا يورد الحديث أصلا. إضافة لذلك، إن جل اهتمامه كان منصبا على فرق الشيعة. والطريف في الأمر هنا أن تصل فرق الشيعة في تعداده إياها إلى ثلاث وسبعين فرقة، على الأقل في حدود المرحلة، التي توقف عندها في تأليف كتابه المشهور. والشيء نفسه يمكن قوله عن الأشعري، بينما اعتبر ابن حزم الحديث لا يصح من طريق الإسناد . في حين وقف الرازي أمام واقع التعدد الكبير في الفرق. الأمر الذي جعله مترددا بين ضرورة حصرها ضمن الرقم الشائع وبين إيجاد تبرير لكثرتها الزائدة على العدد المشهور. لهذا نراه يورد عدد من الفرق يتجاوز الثلاث والسبعين، وفي نفس الوقت يبحث عن مخرج لذلك في فكرته التي صاغها بعبارة: "إنه يجوز أن يكون مراده (الحديث) من ذكر الفرق، الفرق الكبار. وما عددنا من الفرق ليست من الفرق العظيمة" . غير أن من الضروري ألا يكون الرقم أقل من ثلاث وسبعين، في حين لا يضر كثرتهم عن الرقم المذكور، حسب قول الرازي . إذ لو ذكرنا كافة الفرق لجاز أن يكون أضعاف ما ذكرنا، بل ربما وجد في فرقة واحدة من فرق الروافض ثلاث وسبعون فرقة، كما يقول الرازي .

من كل ما سبق يتضح، بأن تأثير الحديث على مؤرخي الفرق الإسلامية والأديان والمدارس الفلسفية، انصب في إطار ما يمكن دعوته بالمنهجية العقائدية. وهو أمر جلي على الأقل في مواقفهم من عدد الفرق. غير أن هذه المنهجية لم تكن نتاجا مفتعلا لتنافر القوى، بقدر ما كانت نتاجا ضروريا لضيق الوعي المذهبي ـ الفرقي. وفي هذا كانت تكمن أيضا طاقتها الفعالة بالنسبة لتثوير الصراع والتناقضات، أي أنها كانت نتاجا خاصا لواقع الخلافة ونزوعها الثقافي والروحي. فهي لا تختلف كثيرا عما هو مميز للثقافات الكبرى في حروبها الفكرية والعقائدية، إلا أن لها خصوصيتها المرتبطة بواحدية الثقافة الإسلامية، التي عادة ما تفعل وتبدع جديدها ضمن وحدة الأول والآخر.

***   ***   ***

 

...........................

هوامش

  ليس مصادفة أن يفقد هذا الحديث أهميته السياسية بعد انحلال الخلافة "رسميا" في الربع الأول من القرن العشرين. حينذاك أصبح من الصعب توظيفه السياسي، رغم بقاء الكثير من جوانبه الفعالة. ومن الصعب، فيما يبدو، توقع زوال هذه الفعالية في واقع التجزئة المعاصرة للعالم العربي والإسلامي.

  الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلافات المصلين، ص1 ـ 2.

  البغدادي: الفرق بين الفرق، ص10.

  المصدر السابق، ص11.

  إنها تشبه برامج الأحزاب السياسية العقائدية الصارمة ومتطلباتها الإيديولوجية من الإتباع. ولم يكن هذا التطابق بين عقائد الكلام الصارمة وبين أيديولوجيات الحركات السياسية المعاصرة وليد الصدفة. إنه ينبع من نفس التقاليد الفجة، التي تسعى إلى جعل تصوراتها وأحكامها قيمة مطلقة، وبالتالي مفروضة على الجميع وملزمة لهم.

  ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص36. و تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض آراء ابن حزم وأحكامه التي ينقلها عن الأشعري والطبري لا تعبر عن حقيقة آرائهم.

  المصدر السابق، ج4 ص36.

  المصدر السابق، ج4 ص38.

  المصدر السابق، ج4 ص44.

  المصدر السابق، ج4 ص43.

  الشهرستاني: الملل والنحل، ج1 ص37.

  المصدر السابق، ج، ص37. 

  المصدر السابق، ج1 ص37.

  المصدر السابق، ج1 ص38.

  وهي قضية لها صداها الخاص في الواقع المعاصر. وسوف تتخذ فيما يبدو منحى ومضمونا أقوى، على الأقل نظريا، في ضوء الصراعات الفكرية السياسية الحالية، التي تخوضها القوى الدينية (الإسلامية) والدنيوية (العلمانية). غير أن تعقيد المشكلة المعاصرة واستمرارها المثير يرتبط حاليا بواقع ضعف وتشتت وحدة الانتماء المعاصر للإسلام. فالتشنج الفكري المميز لصراع ومواجهات القوى الدينية والدنيوية هو في الأغلب نتاج لتجاهلهما الخيوط الخفية لانتمائهما التاريخي "لعالم الإسلام" وتقاليده العريقة. ففي الوقت الذي يشدد فيه الإسلاميون على أولوية الدين، يشدد الدنيويون على أولوية إخراج الإسلام. وهو صراع سيكشف المستقبل عن سخفه ضحالته في نفس الوقت من وجهة نظر الحقيقة والتاريخ والانتماء.

  النوبختي: فرق الشيعة، ص2.

  الأشعري: مقالات الإسلاميين، ص2.

  البغدادي: الفرق بين الفرق، ص12 ـ 13.

  ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، ص111.

  الشهرستاني: الملل والنحل، ج1، ص24.

  النوبختي: فرق الشيعة، ص2.

  المصدر السابق، ص7.

  المصدر السابق، ص8.

  المصدر السابق، ص9.

  المصدر السابق، ص10

  المصدر السابق، ص10 ـ 13.

  المصدر السابق، ص7 ـ 8.

  المصدر السابق، ص8.

  المصدر السابق، ص8.

  المصدر السابق، ص72.

  المصدر السابق، ص12 ـ 19.

  الشهرستاني: الملل والنحل، ج1 ص190.

  المصدر السابق، ج1 ص36.

  ابن المرتضى: كتاب القلائد في تصحيح العقائد، ص45.

  المصدر السابق، ص60. 

  المصدر السابق، ص60.

  ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3 ص248.

  الرازي: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص74 ـ 75.

  المصدر السابق، ص75.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1456 الثلاثاء 13/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم