قضايا وآراء

شاعر يرتبط بجباله / محسن العوني

 الحادّ في قلب الزهرة يمتصّ رحيقها من الأعماق فتزداد ألوانه توهّجا وعيونه اتّساعا وألقا.. يعكس حالي مع كتاب "داغستان بلدي" لرسول حمزاتوف الذي ترجمه إلى العربيّة عبد المعين ملوحي ويوسف حلاّق وصدر عن دار الجماهير العربية والفارابي سنة 1979 والذي أهدتني إيّاه إنسانة استثنائيّة كانت طالبة بالجامعة وكانت تتردّد على المكتبة تجمع مادة بحثها وكان اسمها جوكشن من داغستان.. لا تقولوا اسم غريب وبلد غريب على اعتبار أنه "ما غريب إلا الشّيطان" كما يقولون.. جوكشن اسم مركّب يعني السّماء الصّافية.. وهل ثمّة أجمل وأرحب؟!..

داغستان من الجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للإتحاد السوفياتي سابقا.. من تلك التي تميّزت بتوابلها ومذاقاتها وألوانها وفنونها وتراثها الغنيّ بأبعاده الإنسانية وعوالمه السّحريّة التي تحملك إلى أجواء الشرق القديم حيث تتوّج الحكمة حاكمة والكلمة آمرة ناهية.. كنت وأنا أتنزّه في بساتين كتاب حمزاتوف قاطفا ثمارها الناضجة الشهيّة شعرا وقصّة وسيرة ذاتية وحكمة ونادرة وتراثا.. أطير وأنا في مكاني نحو جبال داغستان وسهولها وأنهارها وإنسانها وأرضها وتاريخها.. وكنت أقول في سرّي : لله درّه لقد نجح في تقديم بلاده وشعبه وتراثه وربط بين جميع ذلك وشخصه كما لم ينجح أحد من قبل، بل وجاء نجاحه حسنا جميلا ومقنعا إلى أبعد حدّ.. كما قدّم ترجمة عملية لدور الكاتب حيال مجتمعه وثقافته وتاريخه دون السقوط في متاهة العجائبية والغرائبية ليكرّس دونيّة الشعب الذي ينتمي إليه ويرسّخ تفوّقا وهميّا لدى جمهور مفترض يتوجه إليه.. وبذلك استحق أن يكون ضميرا لداغستان وناطقا باسمها واسترجع تراث أبيه الشاعر حمزاتوف تسادا بجدارة واقتدار وواصل نهجه من غير أن يكرّره أو ينسلخ عن عصره أو يتنكّر لنفسه.. لعلّ السرّ الذي ينطوي عليه كتاب رسول حمزاتوف هو كونه توجّه به صاحبه لشعبه قبل أن يتوجّه به للآخرين فجاء معزّزا روح الانتماء لدى مواطنيه بغير تعصّب أو انتقاص وهو أمر أساسي قلّ من ينتبه إليه.. إذ يفترض في الكاتب أن يحتفي بثقافته قبل أن يحتفي بثقافة الآخرين وأن يثمّن كنوزه الذاتية قبل أن يثمّن كنوز الآخرين وهذا هو الوضع الصحيح والسليم ومن يكون حريصا على أن يرى ثقافته في عيون الآخرين قبل أن يحدّد موقفه منها وطبيعة انتمائه إليها.. عليه أن يتوقع دائما الغبن ونقص الاعتبار لأنه في وضع مقلوب.. فكل ثقافة يهمها أولا أن ترى ذاتها في عيون أبنائها واعتبارها الأساسي يكمن هناك.. مثلها في ذلك مثل تلك الأم التي تحرص على أن ترى معاني الحب والاعتراف والاعتبار في عيون أبنائها قبل أن تراها في عيون غيرهم ولعلها لا تهتمّ بذلك ولا تضعه ضمن أولويّاتها..

نخلص من قراءة كتاب "داغستان بلدي" إلى البحث عن معاني ارتباط الإنسان بالأرض والأسباب التي تجعله يتعلّق بها وتدفعه إلى التضحية في سبيل حمايتها.

كنوز الثقافات والآداب لا تقدّر بثمن لان قيمتها فوق كل ثمن.. فهي عصارة تاريخ الأمم وتجربتها وأشواق الإنسان ودوافعه ومدار تحرّكه جسدا وروحا.. وهل ثمّة أعظم من الوقوف على ذلك بفنيّة وأصالة وشعريّة منقطعة النظير؟!..

الارتباط الوثيق بين رسول حمزاتوف وأرض داغستان ذكّرني بالارتباط بين نيكوس كازنتزاكيس وأرض جزيرة كريت اليونانية كما يتجلّى من خلال سيرته الذاتية الصادرة تحت عنوان "تقرير إلى غريكو".. دُرر كتاب حمزاتوف تغري المتذوّق بالاقتباس من أنوارها وحسنها المتّشح بالصدق والإخلاص والأصالة البعيد عن الزيف والبهرج والتصنّع والافتعال وهي جديرة بالاحتفاء في كل وقت وحين لأنها قريبة كل القرب من قارئها ومقدّر حسنها وصفائها وهذه حزمة منها تغري بالقراءة ولا تغني عنها وما لا يدرك كله لا يترك جلّه..

"إن الإنسان بحاجة إلى سنتين ليتعلّم الكلام، وإلى ستين سنة ليتعلّم الصمت، وأنا في منتصف الطريق".

"إن الكلمات التي لم أقلها أغلى عليّ، على قلبي، من كل الكلمات التي قلتها".

"لا تخرج الخنجر من غمده دون الحاجة إليه، وإذا انتضيته فاضرب به".

"نحن الشعراء مسؤولون عن العالم كلّه، لكن الذي لا يرتبط بجباله لا يمكن أن يمثّل العالم!".

"يقول أبو طالب : لقد اشترى فلان قبّعة كقبّعة تولستوي، لكن من أين له أن يشتري رأسا كرأسه؟".

" لا يولد الأطفال من تزويج الدمى"

"يقول أبو طالب: الأغنية التي لم تتعلمها في بيت أبيك لن تتعلّمها بعيدا عنه".

"لا تقل أعطني موضوعا، بل قل أعطني عينين، "نصيحة إلى كاتب شاب"".

"الشعر والحيلة أمران متناقضان".

"اللغة كالشجرة، الشجرة تبدّل أوراقها، لكنها تبقى، وتصبح مع كل عام جديد أزهى".

"لغات الشعوب كالنجوم في السماء، وأنا لا أريد أن تذوب النجوم كلّها في نجم واحد ضخم يغطّي نصف السماء"

لا شك – عزيزي القارئ – أن رسول حمزاتوف جدير بأكثر من القراءة.. إنه جدير بالحبّ لأنه صديق الإنسان والأرض وقد نعود إليه في جسر آخر إن شاء الله.

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1460 السبت 17/07/2010)

 

في المثقف اليوم