قضايا وآراء

الشتات والغيتو – روافد "الشخصية اليهودية" / ميثم الجنابي

وهي شخصية عرضة للتغير والتبدل، ولكنها تحتوي على بؤرة ثابتة وفاعلة تشكل في الإطار العام ما ندعوه بنموذجها التاريخي. وهو نموذج يجري التدليل عليه في الأقوال والأفعال (الأنا)، وكذلك في ما تولده من تصورات وانطباعات وأحكام وتقييمات في وعي الثقافات الأخرى (الآخر). وأخيرا في الأثر الذي تتركه على مسار التاريخ العالمي أو المحلي.

وليست هذه الحصيلة في الواقع سوى النتاج "الطبيعي" لاستعدادها الذاتي المتبلور في كيفية حلها لإشكاليات الوجود الكبرى وكيفية وضعها حلولها هذه في عقائدها الكبرى عن النفس والآخرين، وعن عوالم الملك (الطبيعة) والملكوت (ما وراء الطبيعة) والجبروت (الوجود الإنساني)، وما تخلفه فعليا في التاريخ الإنساني.

ولا يشذ تاريخ اليهود عن هذا الاتجاه العام. إن تصور اليهود عن أنفسهم هو  حصيلة متحجرة لبقائهم ضمن قيود ومعايير العرقية (العنصرية) الخالصة. وذلك لاستمرار اليهود واليهودية في مرحلة ما قبل التاريخ الثقافي. فالمعيار الحقيقي لتجاوز الأمم لكيانها العرقي يفترض تحررها الداخلي عبر ارتقاء نظراتها عن الملك (الوجود الطبيعي) والملكوت (الوجود الماوراطبيعي) إلى مستوى الرؤية الأخلاقية المتسامية، أي عبر ارتقاء تصوراتها وقيمها وأحكامها عن الوجود الطبيعي والماوراطبيعي إلى مصاف الفكرة الأخلاقية العامة (الإنسانية الجامعة). فهو ارتقاء يجعل من الممكن انتقال الشعوب والأقوام من مضيق العرقية البدائية إلى رحاب الإنسانية الثقافية، والذي يتحدد بكيفية حلهم لإشكالية الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة (الإنسانية)، وكذلك بكيفية وضع هذا الحل في "رؤية كونية".

إن بقاء الرؤية اليهودية ضمن معايير وقيود العرقية (العنصرية) جعل ويجعل "رؤيتها الكونية" أسيرة الافتقاد الدائم للبعد الإنساني – الأخلاقي. وإذا كانت صورة الأمم والثقافات عن ذاتها والآخرين هي التعميم المجرد عن تجاربها التاريخية، فان بقاء اليهودية ضمن معايير العرقية قيّد رؤيتها للطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة البشرية ضمن حدود ضيقة. لذا لم يكن (التكوين) اليهودي، الذي جعلت التوراة منه منطلق رؤيتها عن الآخرين أيضا، سوى كتلة عنصرية متراكمة من عناصر عقدة النفس بحيث جعلت من صفاتها صفات للإله نفسه. فالإله اليهودي هو جزء من الآلهة الوثنية لا قدسية فيه، وعادة ما يبرز من بين أظلاف التيوس والماعز وصوف الكباش وقرون الثيران وشحم الخراف، كما هو جلي في (سفر اللاويين). وفيه نرى ملامح الذبح والسلخ الدائمين ونشم منه رائحة الشي والحرق، باعتبارها الإثارة المغرية للروح اليهودي في التعامل مع كل ما هو حي. وهي إثارة يحددها الادعاء الكبير للإله القومي، الذي ما هو في افضل الأحوال سوى شيطان أمرد. وهو اله لا يربي في الإنسان بعدا إنسانيا، بسبب خضوعه لنزوات عبدته. لذا نراه في (سفر التكوين) يحزن ويتأسف ويرغي ويزبد في رغبته لمحو الإنسان عن وجه الأرض! بينما لا معنى "لتأسف" الإله على خلق مخلوقاته، لأن ذلك فعل يتناقض مع الحكمة العقلية والوجود الطبيعي والأخلاق الرفيعة للوجود نفسه. إذ ليس "تأسف" الإله اليهودي سوى هوى اليهود أنفسهم وسدنتهم. وليس مصادفة أن نسمع الآن من "علماء اليهود" المعاصرين صيغا شبيهة "بتأسف" الإله اليهودي، كما هو الحال بالنسبة لتصريح "الرئيس الروحي" لحزب شاس عن أن إلاههم يأسف لأنه خلق العرب! وهو تصريح سخيف بحد ذاته، لان الإله اليهودي لا يخلق إلا يهودا. وهو تصريح يشبه قول أحد حمقى العرب من انه لا يفهم حكمة الله في خلقه اليهود والذباب! مع أن لكل منهما "حكمة" دون شك! إلا أن استغراب "أحد العرب" هو "اجتهاده" الشخصي، بينما "اجتهاد" "الرئيس الروحي" هو "فتوى" معبرة عن إجماع التقاليد اليهودية على الزيف والضلال. والمسالة هنا لا تقوم في انه لا قيمة لحكم وتأسف ورغبات الإله اليهودي (القومي) تجاه الآخرين، بل ولمناقضة هذه الرغبة الهمجية المعطيات والحقائق الكبرى للتاريخ المادي والمعنوي الإنساني. إذ لم يتجرأ أي من الأدباء العظام والمفكرين الكبار والمؤرخين المشهورين والشعراء الفحول (من غير العرب واليهود) على صياغة فكرة سيئة بحق العرب، كما لم يصغ أي منهم فكرة حسنة عن اليهود.

هذه "الفتوى اليهودية" وأمثالها الكثيرة المعاصرة عن العرب لها تاريخ خاص في "المثال" اليهودي، كما هو جلي في موقفهم من الشعوب والأمم الكبرى. أننا نعثر في التوراة على رغبة الإله اليهودي في أن "يجعل من كنعان(أهل فلسطين الأصليين) ملعونا وعبدا"، بينما تصبح بابل المكان الذي تبلبلت فيه السن الشعوب والأمم، وتصبح مصر وأهلها، أي من أنقذ اليهود، حسب أساطير التوراة نفسها، من المجاعة والموت، تهمة وشتيمة. في حين يتحول (الخروج) وأحكامه كما وضعت على لسان موسى إلى "سفر" عن مشاركة "الملاك" إياه في طرد الكنعانيين والأموريين والحثيين والغرزيين والحوبيين واليبوسيين. بحيث طالب إلههم موسى في (العدد) بالانتقام لبني إسرائيل من المديانيين بقتل ذكورهم وسبي نسائهم وأطفالهم وسرقة مواشيهم وحرق مدنهم، كما لو أن قيمة (العدد) تتمثل في تعداد من ينبغي طرده وقتله. بينما تمثل "قوانين" و"تعاليم" (التثنية) في تعاملها مع "الأعداء" هراوة عنصرية دموية الظاهر والباطن. في حين لا نعثر في التوراة كلها على مديح أو ثناء لأي شعب من الشعوب التي أرست أسس الحضارة الإنسانية. على العكس أنها تكتظ بالشتائم القبيحة والأحكام المبتذلة والكراهية الوسخة، التي تكشف عن طبيعة النفس الغضبة اليهودية وإلهها. تلك النفس التي جعلت اليهودي وإلهه في مستوى واحد.

وفي تطابق الإله اليهودي مع اليهودية تكمن مصادر فكرة "الشعب المختار". فالإله اليهودي يهودي، واختياره منه إليه، أي انه اله اثني كشعبه. ومن ثم فهو خال من أي بعد إنساني شامل، ومن أي تجريد قادر على تحرير اليهود من يهوديتهم. وذلك هو سبب تحجر فكرة "الشعب المختار"، التي لا تعني ثقافيا سوى تميزهم عن الآخرين بالعجز عن تجاوز العرقية (العنصرية). في حين أدى تحجرها بفعل تداخل الإله الاثني مع العرقية العنصرية إلى بناء عقيدة تفتقد بالضرورة إلى عناصر الجمعية الإنسانية. ومن ذلك تكونت سلسلة إنتاج وإعادة إنتاج الانغلاق الذاتي لليهود وعدم قدرتهم على تذليل هوى الصورة الذاتية وتجاوزها إلى ميدان إبداع صورة المثال. لهذا لا تعرف اليهودية الفضيلة المجردة ولا القيم المجردة ولا الإله المجرد. أي أنها ليست قادرة على الارتقاء إلى مصاف السمو المطلق. مما اغلق عليها إمكانية التحرر الذاتي من إسار العرقية البدائية، وأبقى عليها ضمن حسيتها المباشرة في التعامل مع النفس والآخرين. بهذا المعنى يمكن القول، بان المغزى التاريخي "لاختيارهم" هو جعلهم عبرة لما لا ينبغي للأقوام والشعوب والأمم أن تكون عليه.

وجدت هذه النفسية انعكاسها في "العهد القديم"، الذي لم يكن هو الآخر سوى "صك الغفران" المزيف الذي ابتاعه اليهود لأنفسهم من اله لا يمثل الحق المتسامي. مما أدى إلى بلورة تقاليد اليهودية عن "الاصطفاء"، التي جسدها اليهود في كيانهم بهيئة أمة لا كالأمم، وتاريخ لا كالتواريخ. وهو تميز حددته تقاليد العقيدة المتحجرة في كيفية حلها لعلاقة الطبيعي بالماوراطبيعي في الإنسان والجماعة (البشرية). فالنموذج الأعلى لليهودية تجسد في اله لا حق فيه. لهذا عجزت اليهودية عن إبداع صورة للمثال الإنساني الشامل. مما افرغ تاريخها من وحدة القيم والفضائل المتسامية.

لقد جعلت فكرة "الشعب المختار" منه شعبا محتارا، ولكن لا بمعايير الحيرة المعرفية، بل بتقاليد التيه الدائم. حتى الأسطورة التوراتية لم يكن بإمكانها التخلص من ثقل الجسد في تعاملها مع "التيه اليهودي" في سيناء. إذ ليست سيناء في الواقع سوى الصحراء التي لا يمكن للنفس اليهودية أن تذللها ما لم تذلل مكونات اليهودية العنصرية (الإله القومي والاصطفاء المزيف والنفس الغضبية). بل حتى النموذج الموسوي، كما تصوره التوراة، ما هو إلا نموذج المكان اليهودي الذي لا زمان فيه. فالخلاص اليهودي ليس مبنيا على أساس تطهير النفس، باعتباره تجسيدا للتاريخ الحق والعدل المجرد، بل على أساس تطهير المكان من "الآخرين". وهو تقليد ميز اليهودية بروح الغضب. فحيثما يكون اليهودي يكون الغضب القوة المحركة للعلاقات. وهو السبب الذي يفسر تعرضهم المتكرر "للتطهير الخارجي" من سرجون (721 ق.م.) إلى تيتوس (70 م.) مرورا  بنبوخذنصر (587 ق. م.). وانتهاء بالانتقامات الشعبية والحكومية المتكررة في جميع البلدان التي عاشوا فيها(باستثناء العالم الإسلامي). وليس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سوى الصيغة السافرة لتقاليد النفس الغضبية في تعاملها مع النفس والآخرين (العرب الفلسطينيين). وليس مصادفة أيضا أن يرتكب الإسرائيليون مجزرة قانا في الجنوب اللبناني تحت عنوان "عناقيد الغضب". ومن الناحية التاريخية والروحية لم يكن وصف النصرانية بدين المحبة اعتباطا. فقد كانت المحبة المفرطة، بوصفها العقيدة المركزية للمسيح رد الفعل المباشر على الكراهية المفرطة المميزة للنفس الغضبية اليهودية. وهو "غلو" ميز الاثنين، ولكن شتان ما بين غلو المحبة وغلو الكراهية. وهي حقيقة سجلها القران في إحدى آياته القائلة، بان اشد الناس كراهية للإسلام وحقدا عليه هم اليهود والذين كفروا. بينما اعتبر النصارى ارأف قلوبا وأميل في محبتهم للمسلمين.

إن تميز اليهود بسيادة النفس الغضبية بينهم هو نتيجة لافتقادهم معنى الحق المتسامي والفضيلة المجردة. وذلك ما جعل منهم قوما "مغضوبا عليهم". وليس مصادفة أن تبدأ السورة في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) كإشارة إلى أن الإسلام هو دين الرحمة. وليس مصادفة أيضا أن تحتوي (فاتحة) القران على طلب الاهتداء بالصراط المستقيم (الحق) باعتباره نعمة مناقضة "للمغضوب عليهم". إذ ليس المغضوب عليه سوى ذاك الذي يفتقد لفكرة الحق ومثالها المتسامي باعتباره قبلة مطلبه ومساعيه. ويؤدي فقدان فكرة الحق المتسامي إلى سيادة النفس الغضبية التي لا تصنع عدلا ولا اعتدالا ولا تستفيد من حكمة. وهي نفس تؤدي بالضرورة إلى تشتيت الروح والجسد. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى تاريخ الشتات اليهودي باعتباره تاريخ النفس الغضبية. وليس تاريخ المغضوب عليهم سوى تاريخ اليهودية نفسها، أي أن الغيتو التاريخي لليهود هو النتاج الملازم لانغلاقهم العرقي الديني.

إن افتقاد اليهودية لتاريخ حقيقي جعل من انغلاقها وشتاتها وجهين للصورة الذاتية التي بلورها "العهد القديم" عن اليهودية واليهود. فافتقاد "العهد القديم" للفضيلة المجردة جعل موقفه من النفس والآخرين أمرا لا يبنى بالضرورة على أسس الحق والحقيقة. إذ ليست الحقيقة في "العهد القديم" سوى كذب اليهود عن أنفسهم، وما عدا ذلك فليس سوى سرقة لتراث الآخرين، ابتداء من أساطير الخلق والطوفان وانتهاء "بنشيد الأنشاد". وقد بلور ذلك في اليهودية شخصية الطفيلي الذي لا يتورع عن فعل كل شئ من اجل بلوغ غايته. مما وضع اليهودي واليهودية في صدام دائم مع الآخرين. فهو الشعب الوحيد الذي أثار عند كل من احتك به من الأقوام والشعوب والأمم شعور الاشمئزاز أو النقد اللاذع. وهي علاقة خلقت نفسية الغيتو اليهودية، باعتبارها استظهارا لروح الانغلاق اليهودي نفسه. فتقاليد الغيتو اليهودية لم تنبع من تقاليد الشتات، على العكس إن تقاليد الشتات كانت وليدة تقاليد الغيتو التي بلورها "العهد القديم" في شخصية اليهودي واليهودية. وهو ما يفسر بقاء اليهودية (كدين وعرق) منغلقة على ذاتها، أي غير مستعدة للانفتاح على الآخرين والاندماج الثقافي بهم.

وهو انغلاق صنع اليهودية – الصهيونية، مع أنها ولدت وترعرعت وتبلورت في عالم الانفتاح الأوربي. فمن الناحية المنطقية يفترض ذلك انفتاحها الإنساني والديمقراطي، على الأقل بمعايير القومية الأوربية. إلا أنها سارت من حيث الجوهر بتقاليد الجرمانية بشكل عام والعنصرية منها بشكل خاص. أي أن لها جذورها العريقة في تأثير التقاليد الألمانية على يهود أوربا في مرحلة خروجهم الظاهري من تقاليد الغيتو. من هنا اتخاذها شكلا ومضمونا دونيا لا إنسانيا حقيقيا. إذ يفترض التحرر الحقيقي والانفتاح الاندماج الثقافي. فعندما قال اليهودي جبرائيل ريّسر، أحد دعاة التحرر والانفتاح على الثقافة الأوربية، أن اليهودي الذي يحلم بدولة لا وجود لها (الدولة اليهودية) عوضا عن ألمانيا، ينبغي أن يراقب من قبل الشرطة، لا لان آراءه معارضة لألمانيا، بل لأنه مصاب بمرض نفسي، فانه لم يع تعقيد "المسالة اليهودية". وبغض النظر عن انه نفسه لم يكن بإمكانه التخلي عن يهوديته، فان إحساسه تجاه الثقافة الألمانية واثر لغتها القومية وإبداع شعرائها العظام، التي أشعلت نار الحرية في قلوب اليهود، كما يقول ريّسر، ظل فرديا. بما في ذلك عندما دعا إلى أن يتبع اليهود الشعب الألماني في كل ما يقوله ويفعله. ووضع ذلك في شعر يقول، بان أبانا في السماء واحد، وأمّنا في الأرض واحدة، وإذا كان الله هو أبو الجميع، فان ألمانيا أمّنا.  أما في الواقع، فان تمسك اليهودي باليهودية هو الذي يعيق تحرره من إسار الغيتو والشتات. فاتباع الثقافة الألمانية في كل شئ لا يخلق ثقافة ألمانية ولا ثقافة يهودية، بل يصنع إعلانات ودعايات براقة، غير قادرة على إنتاج معرفة حقيقية وإبداع أصيل. وفي افضل الأحوال هي مجرد نسخة موازية للأصل، وباهتة بمعايير الإبداع الحر.

يفترض الإبداع الأصيل التحرر أولا من تقاليد الشتات والغيتو، بوصفها تقاليد الابتعاد عن الحق والحقيقة. لأنه لا حق ولا حقيقة خارج المعاناة الصادقة في معترك المشاكل الإنسانية الكبرى وحلولها. وهو ابتعاد يؤدي بالضرورة إلى فقدان الاعتدال وشّحة الرؤية الثقافية عن الوجود في مختلف مستوياته. وذلك لان العزلة والعرقية الضيقة لا يصنعان اعتدالا ولا حقيقة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمات.

فقد رسخت تقاليد الشتات والغيتو في أعماق اليهودية نموذجا تاريخيا جرى تحويله لاحقا إلى تاريخ نموذجي. وهي قوقعة صنعت "الشخصية اليهودية" "التاريخية" عبر انتزاعها منذ البدء من عبرانيتها القديمة، ووضعتها في صراع مع أسلافها أولا، بحيث جعلها في غربة غريبة وتامة مع الآخرين.

فقد نظرت اليهودية إلى نفسها واتباعها باعتبارهم تجسيدا للمقدس. وشارك هذه النظرة "الفاسقون" منهم و"الورعون". فقد قال اللاويون، كما تحكي التوراة في (العدد، الإصحاح 16) لموسى في معارضتهم إياه "إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب، فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب" (أي أننا مقدسون والإله بيننا فما بالك تستعلي علينا). ووقع موسى في الفخ، حسب الصيغة التوراتية، عندما أجابهم قائلا، بان الإله سوف يقرر من هو المقدس بيننا! وهي مغالاة بلغت ذروتها عبر انتشارها واليقين بها في "العهد القديم" عن انه "شعب مقدس" و"كل ما يفعله مقدس" لأنه "شعب مختار".

وسارت آراء اليهود المدونة والشفوية عند مؤرخيهم وكتابهم وأدبائهم ضمن الإطار العام الذي سطروه هم عن أنفسهم ورفعوه إلى مستوى "المقدس" كما هو الحال في التوراة وكتبهم الأخرى، مع إضافة ما "يتجدد" في مجرى التاريخ وتجاربهم الجزئية فيه.

وفي الإطار العام يمكن صياغة تقييم اليهود عن أنفسهم، بأنهم "الشعب الأعلى شأنا روحيا والأفضل أخلاقا من باقي الأمم والشعوب"، و"انهم الأكثر علما وإبداعا، وفيهم منبت المعرفة والعلم والدين". فالباحث اليهودي (أ. ماير)، يقول، بان "اليهود بقوا على الدوام في عوالم الخيال"، و"لم يتميزوا في يوم ما بالقسوة والثار المميزين للآخرين". في حين استعرض فريدليندر في أبحاثه التاريخية المتعلقة "بالعداء للسامية" في العالم القديم حصيلة الانطباعات الإيجابية عن اليهود في تقييمه القائل، بان "اليهود وضعوا أمام أنفسهم هدفا واحدا فقط ألا وهو قيادة الإنسانية في حياتهم الأخلاقية". وان "ما يميز اليهود عن غيرهم هو احتقارهم للثروة والمادة"، و"أن فضيلتهم الكبرى تقوم في إيمانهم العميق وإقرارهم بالقانون وتعظيمهم للأعراف والتقاليد وتواضعهم في العيش وتميزهم بالجود والعطاء والتماسك الاجتماعي واحتقارهم للموت في المعارك وحبهم للأعمال المنتجة". و"أن سبب حسد الآخرين لهم شعوبا ودولا وأفرادا هو لكونهم شعب الأنبياء والمتألهين والمخلصين".

بينما سارت انطباعات وتقييمات وأحكام الأمم والجماعات والأفراد والدول من غير اليهود عنهم في اتجاه معاكس ومضاد تماما. واشترك في هذه الأحكام أنبياء وأمراء، ودعاة مخلصون للإنسانية ومجاهدون من اجلها، قياصرة وأباطرة، جمهوريون وملكيون، مستبدون وديمقراطيون، أمميون وقوميون، يساريون ويمينيون، فلاسفة ومؤرخون، أدباء وشعراء، موسيقيون وفنانون، قديما وحاضرا.

ففي مصر القديمة جرى النظر إليهم كما تنقل التوراة نفسها، باعتبارهم شعبا لا يؤتمن إليه ويتصف بأخلاق دنيئة ونفس عبودية. ونظرت لهم حضارات العراق القديمة من بابليين وآشوريين وغيرهم نظرتها إلى همج وغوغاء. وفي الحضارة اليونانية والرومانية كانت كلمة اليهودي رديفا للوساخة والقذارة. لهذا عادة ما كان يجري مطابقة مظهره الخارجي (القذر) مع أخلاقه الباطنة. وليس مصادفة أن يجري تصوير موسى نفسه في كتابات القدماء المنتقدة لليهود واليهودية، على انه "نموذج للأخلاق الخربة". وأدى ذلك إلى أن ينظروا إلى اليهودي كما لو انه تجسيدا للنتانة والجيفة والروائح المقززة. فعندما مر مارك انطوني بفلسطين وشاهد مظاهر اليهود وأوساخهم صرخ بأعلى صوته قائلا: يا أيها الماركونيون والقلاوليون والصرمانيون! وأخيرا عثرت على من هو اكثر تخلفا منكم! كما نقل بلوتارخ أخبارا عن أن ما يميز الرومان هو معاملتهم الحسنة الموقرة والمحترمة للملوك المهزومين من أعدائهم، والاستثناء الوحيد كان موقفهم من ملوك اليهود. بينما تجنب ابن الإمبراطور اوغسطين المرور بأورشليم لعلمه بوجود بعض اليهود فيها. وعندما عرف أبوه بسلوكه هذا أثنى عليه وقدّره.

واشتركت تقييمات اغلب مؤرخي العالم القديم في اعتبار اليهود مزيجا من الرذيلة والقسوة والخزعبلات. فقد اعتبرهم شيشيرون "شعبا ولد للعبودية". ووصفهم سينيكا "بالشعب المجرم". واحتقرهم سترابون وانتقد أسلوبهم في الحياة. ووجد روتيلي نامسيان في اليهودية "مصدر الأفكار البليدة"، واعتبرها "مجرد خزعبلات تطير لها عقول العبيد وتجنّ بها". في حين أعتبرهم تاسيت "من أحقر العبيد" معبرا بذلك عن تقاليد المدرسة الاسكندرانية التي احتقرت اليهود واليهودية إلى أقصى الحدود كما هو الحال عند كسيريمون وجوستين وليسيماكس وأبيون، الذي اعتقد بان "اليهود لم يبدعوا شيئا ذا قدر، وان قلوبهم باردة مثلها مثل دينهم". في حين قال عنهم صولون الابالوني، بأنهم "اكثر البرابرة غباء، ولم يظهر بينهم قط شخصا لامعا لا في العلم النظري ولا في العلم العملي". بينما وضع كلوميد كلمة اليهود واليهودية إلى جانب الجلافة والسطحية والدونية في نقده ونعته لابيقور.

كما نظرت النصرانية في مختلف اتجاهاتها وفرقها إلى اليهود واليهودية باعتبارهما "نموذجا للخيانة والرذيلة". وشارك هذه المواقف والأحكام أيضا رجال الإصلاح الديني مثل مارتن لوثر، الذي قال بأنه "ليس هناك شعب تحت الشمس اكثر دموية وتعطشا للقتل والثأر من اليهود".

وفي هذا الاتجاه صبت آراء ومواقف رجال العقلانية الدينية (النصرانية) وممثلي العلوم الطبيعية الأوربية. فقد اعتبر ايرازم الروتردامي "السرقة وسلخ جلود الآخرين الصفات المميزة لليهود، والتي لا يجاريهم فيها أي إنسان أو شعب". في حين اعتبرهم جوردانو برونو "وباءا وجذاما يستلزم القضاء عليه قبل نشوئه"، وذلك لان اليهود، حسب تعبيره، " شعب دنيء، عبد، متملق، حقود، لا أخلاق له ولا ضمير".

وبنفس الاتجاه سارت أحكام وتقييمات رجال التنوير الأوربي. فقد اعتبرهم فولتير "شعبا صغيرا يتميز بإخفاء الحقد الدائم على الآخرين". ومن هذا المنطلق اعتبرهم "شعبا جاهلا وهمجيا يجمع منذ القدم بين الأنانية الضيقة والخرافات المقززة مع حقد لا حد له تجاه من يعطفون عليهم بما في ذلك تجاه من يعاملهم بالمعروف والإحسان".

ووصفهم الأدباء والشعراء من مختلف المشارب والقوميات بابشع الألقاب، بحيث جعلوا من اليهودي نموذجا متطرفا للحقد والجشع والبطش عند المقدرة ودناءة السلوك الباطن كما هو الحال عند شكسبير في (تاجر البندقية). وهي صورة فنية عن القبح والقبيح وجدت تعبيرها وتقييمها المباشر وغير المباشر عند اغلب الكتاب والأدباء العظام في أوربا القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فقد قال لافونتين، بان "اليهودي لا يعرف الحدود"، وانه "ماكر ومنغلق وعنود ومنتقم لا حدود لقسوته". وهي "شخصية" جعلت غوته يعارض دخول اليهود في النصرانية، لأنه وجد في ذلك تخريبا لها من الداخل. بل أن اميل زولا، الذي اشتهر بدفاعه عن اليهود عبر دفاعه عن دريفوس في القضية المشهورة، ورد في كتابه الصادر عام 1898، بان اليهود "جنس ملعون، بلا وطن ولا وازع. يعيشون بين الأمم مثل الطفيليين، يداهنون، يعبدون السرقة وحب الدماء والكراهية. فهي آلهتهم الدائمة. انهم كالعنكبوت يلفون ضحيتهم بخيوط دقيقة ناعمة ويمتصونها قطرة فقطرة حتى النهاية". بل أن فاختفانغر نفسه يصف المرابي (اليهودي) بالعبارات التالية:"إن عيونه كبيرة وجاحظة، جشعة وذكية، حذرة ومتوحشة. وتحت مجهر عينيه هذه تتحول الأفكار المتسامية كلها إلى مسخرة ومضحكة".

كما اجمع أساطين الفلسفة الألمانية على إدانتهم العلنية والدائمة لليهود واليهودية. فقد وقف فيخته بالضد من منحهم حقوقا مدنية مساوية للألمان واعتبرهم "دولة داخل دولة". بل انه مرة قال، من الأفضل لو جرى قطع رؤوسهم واستبدالها برؤوس أخرى. في حين اعتبر هيغل الديانة اليهودية مجرد عويل تافه وتعيس ومشوه يفتقد للوحدة الداخلية والهرمونيا. وصورهم ماركس بمختلف الصور والألقاب التي تضعهم في نهاية المطاف خارج تاريخ الإنسان والطبيعة، معتبرا إياهم كيانا منافيا للطبيعة والجمال والحق. في حين اعتبر دوهرنغ الحقد مصدر تغذية اليهود "الروحية". وجعله ذلك يرى فيهم مصدر الخطر الأكبر على الإنسانية.

وتعمقت هذه الصورة وتوسعت ملامحها المتنوعة في مجرى صيرورتهم الجديدة في عوالم الرأسمالية. فحتى نابليون، الذي "يقدسه" اليهود على معاملته إياهم، قال في خطابه أمام مجلس الدولة في 30 نيسان 1806، بان تاريخ اليهود "منذ أيام موسى حتى الآن هو تاريخ الربا والابتزاز". و"أدى سلوكهم هذا إلى استحواذهم على فرنسا وتحولهم الفرنسيين إلى عبيد". فاليهود حسب نظرة نابليون ليسوا فرقة أو طائفة، بل شعب داخل شعب. وان الأذى الذي يلحقونه بفرنسا هو ليس فعل أفراد منهم، بل منهم جميعا. فهم "كالديدان والجراد يقضمون فرنسا ويلتهمونها حتى عظامها". وهي فكرة لم تستند إلى مزاج عنصري انطلاقا من انهم يهودا، بل استنادا إلى تنظيمهم. في حين توصل تشمبرلن في معرض تقييمه دور اليهود في الحروب الطاحنة التي أشعلتها أوربا في مجرى القرن التاسع عشر، إلى أن المال اليهودي وابتزازه الدائم كان وراء جميع هذه الحروب ابتداء من حروب نابليون (ناتان روتشيلد) ضد روسيا وانتهاء بحروب ألمانيا وفرنسا وكومونة باريس، التي لم تكن من ألفها إلى يائها سوى مضاربة يهودية. وهو السبب الذي جعل جملة من العلماء والباحثين الاقتصاديين يرون فيهم شعب المرابين، كما هو الحال بالنسبة للباحث للمؤرخ الاقتصادي زومباردت في بحثه الكبير عن (اليهود والحياة الاقتصادية). بينما اعتبرهم البعض "شعبا بخيلا محبا للدماء" (شتيغلين). ورسم هالفين شخصية اليهودي بعبارة تقول، "بان الشيء الوحيد الذي يثير الدهشة في سلوك اليهودي هي البرودة التي ينفذ بها انتقامه وقسوته. بحيث ترى أمامك آلة بلا روح. فهو كالجزار أمام جثة ميتة. وكل ما يقوم به يشير إلى أن اليهودي كيانا بلا قلب". كما اعتبر اليهودي "بطبعه جبان، وبالأخص عندما يكون وحيدا". وانه "لا شئ يفزع اليهودي ويثير خوفه وهلعه مقارنة بأي إنسان آخر مثلما يثيره ويفزعه المال". ورسم اوتو فينينغر شخصية اليهودي بألوان مكثفة أنجز منها لوحة تقول، بان "اليهودي لا يعرف الشجاعة ولا الخوف ولا يعرف الثبات". فهو "ليس لطيفا ولا خشنا. في الظاهر يبدوا لينا بينما في باطنه قاس". وانه "لا يعرف البشاشة ولا الإيمان الصادق. ولا تثيره إلا المادة ولا يسعى إلا إليها. من هنا ولعه بالمال وتميزه بالجشع، مع انه لا يتمتع بملكة النجاح ومبرراته. غير انه شديد المكر كثير التحمل". فهو "لا يؤمن بالمقدس، بل لا يحب المشروبات الروحية كما يعجز عن الارتقاء إلى مصاف السكر الروحي". وفي افضل الأحوال "لا يندهش إلا ظاهرا وبالمظاهر فقط. لهذا لا يستطيع محبة العالم حبا خالصا". كما انه "يعجز عن بلوغ حقيقة اللذة وذروة الأخلاق". و"ليس مصادفة أن ينتشر بين اليهود اكثر مما بين غيرهم الزواج بدون حب". واليهودي "بلا شخصية، لهذا يعمل ليل نهار من اجل ثلم شخصية الآخرين، ومن اجل إظهار نفسه أمام الآخرين". انه كيان "خال من الفضيلة واحترام الآخرين". أما ما يدعى بالثقافة والتثقف عنده فهو مجرد "تعلق بقشور الثقافة وأصدافها". انه "يبحث دوما عن اكثر من احتمال وإمكانية، إذ لا يوجد عنده ما يستحق أن يعطيه كامل حقه حتى النهاية". انه "لا يعرف الكلّ، وكل كلّ عليه غريب. وهو سبب غياب العبقرية عندهم".

إننا نكتشف في هذه الآراء المتنوعة والمختلفة والمتضادة أحيانا تجانسا وثباتا وإجماعا في الموقف السلبي من اليهود واليهودية. نجد صورة لملامح القبح الشامل لليهود واليهودية في انطباعات وتصورات ومواقف وأحكام وتقييمات المؤرخين والفلاسفة والكتاب والأدباء والشعراء والسياسيين ورجال الدولة من مختلف الحضارات والثقافات والبلدان والأديان والمراحل التاريخية والمشارب السياسية والعقائدية.

وهذا الإجماع قد يتصف في بعض جوانبه بالغلوّ، إلا انه يواجه في واقعيته التاريخية غلوّ الانطباعات والتصورات والأحكام اليهودية عن نفسها. وهي مواجهة نعثر عليها بما في ذلك في الموقف من "النصوص المقدسة" وتأويلها. فإذا كانت اليهودية واليهود قد ادخلوا "مأثرة" استير في كتابهم "المقدس"، وجعلوا من يوم الرابع عشر من آذار عيدا (يوم الفرح) وسموه يوم الفوريم (القرعة) اعتقادا منهم، بان فعل استير يمثل نموذجا للعدل والنصر، وانه فعل لا يتميز بالتعطش للقتل والثأر. لهذا لم يسرقوا ولم ينهبوا بعد قتلهم 75 ألفا من أهل فارس. وقد سلكوا هذا السلوك لأنهم للمرة الأولى بعد قرون من الاضطهاد نراهم يخرجون ويقتلون أعداءهم بقسوة ولكن دون سرقة أموالهم. لقد كانوا يحلمون بالدفاع عن النفس بصورة شرعية. بهذا المعنى لم يكن في سلوكهم أخذ بالثأر. في حين اعتبر بعضهم سلوك اليهود في (كتاب أستير) نموذجا للفعل الثوري. في حين أثار هذا السلوك منذ القدم تصورا مضادا تماما، بحيث تنسب لمارتن لوثر كلمات تقول بان التأوه الجبان لليهود ورغباتهم الدفينة تكشف عن مساعيهم لفعل ما فعلوه بالفرس زمن استير. لذا نراهم يحبون هذا الكتاب الذي يستجيب لحبهم سفك الدماء والأخذ بالثأر والقتل. وجعله ذلك يقول بان الشمس لم تظلل بشعاعها شعبا دمويا ومتعطشا للقتل والانتقام من المؤمنين الآخرين مثلما هو الحال بالنسبة لليهود. في حين وجد اغلب الكتاب المعاصرين، وبالأخص بين الروس الوطنيين، في (كتاب أستير) مصدرا لما يدعوه بالفاشية اليهودية. أما في الواقع فان (كتاب أستير) ليس نموذجا "للفعل الثوري"، وليس نموذجا "للفاشية اليهودية"، كما انه ليس نموذجا للحلم بالدفاع عن النفس بصورة شرعية، وليس تعبيرا عن غريزة يهودية بالانتقام، بقدر ما انه انعكاس لتاريخ الشتات والغيتو بعد انكسارهما في موشور اليهودية. فالشخصية الرئيسية (مردخاي) هو من بقايا السبي البابلي، واستير ابنة عمه اليتيمة، التي تبناها لاحقا، والتي دخلت قصر شوش كواحدة من وصيفاته المرشحات لتلبية رغبات الملك أحشويروش. وقد أثار سلوك اليهود حفيظة الوزير الأكبر هامان، بعد أن اكتشف حقيقة اسمها وجنسها، الذي أخفته بطلب من مردخاي نفسه. واستجابة إلى تقاليد القرعة، أشار الوزير هامان على الملك أحشويروش، بان هناك شعبا مشتتا ومتغربا في المملكة بين شعوبها، لا يتقيد بسنن الملك (الدولة). بمعنى خروجهم عن الدولة وتقاليد الأمة التي يسكنون بينها وانعزالهم عنها وانزواءهم الذاتي. واقترح هامان لذلك إبادتهم. واستطاعت استير استغلال محبة الملك لها كي تطلب منه طلبات لنفسها ولشعبها، لأنها لو تعرضت وشعبها للبيع كالعبيد لما اعترضت على ذلك. أما الإبادة فلا! وبما أن تقاليد الملوكية حينذاك كانت لا تسمح بإلغاء القرارات بعد صدورها، لهذا أعطى لها ولشعبها حق الدفاع عن أنفسهم بإهلاك وإبادة كل من يعارضهم بما في ذلك الأطفال والنساء وسلب غنائمهم لمدة يوم واحد هو يوم الثالث عشر من آذار. وحالما حان الوقت استغل اليهود الفرصة وبدءوا بالهجوم مباغتين "أعداءهم"، بحيث قتلوا من وصلت أيديهم إليه. وعندما انتهى اليوم الأول، سألها الملك إن كان لها طلب آخر فاختارت أن يعطي لها يوما آخر للانتقام! وكرروا ما فعلوه في اليوم السابق بحيث قتلوا كما يذكر (كتاب أستير) حوالي 75 ألف إنسان. واستراحوا في اليوم الرابع عشر من آذار الذي أعلنوه عيدا "مقدسا"، وجعلوه "يوم شراب وفرح". مما سبق يتضح افتقاد هذه الأفعال إلى معنى البطولة و"العمل الثوري". على العكس أننا نعثر فيها على فرح الانتقام السافر للنفس المكبوتة، التي لم تجد لذة أطيب من مطالبتها بالقتل لأجل القتل (بدون مصادرة الغنائم!). فعدم اخذ الغنائم لا يشير إلى "السمو" و"عدم السرقة" بقدر ما يكثف حزمة الضوء على نفسية الانتقام السادية. أما تحويل القتل الجماعي إلى عيد للاحتفال فهو تحويل السادية إلى فعل "مقدس".

ففي هذا القصة تنعكس نموذجية الشخصية اليهودية المتبلورة في تاريخ الشتات (بعد السبي البابلي) وسيادة الغيتو (الانغلاق) كما هو جلي في عدم تمسكهم بقوانين الدولة وتقاليد الأمة التي يسكنون بيتها. وفي وحدة الشتات والغيتو يكمن أحد أسباب تعرضهم "للإبادة". إذ لم يعن اقتراح الوزير هامان "إبادتهم" في الواقع سوى أحد النماذج العادية والمتكررة في تاريخ اليهود واليهودية لمطاردة انعزالهم وابتعادهم عن تقاليد الحقوق (الحق) السائدة في الدولة. وهي مطاردات عادة ما تسمى خطأ "بالمذابح اليهودية". ومع ذلك تكررت بصيغ وأشكال ومستويات متنوعة ومختلفة.

إن المذابح والقتل الجماعي والمطاردات ظاهرة "عادية" في تاريخ جميع الدول والشعوب والأمم والثقافات. وتاريخ اليهود واليهودية في فلسطين منذ القدم هو أيضا  تاريخ الإبادة والقتل الجماعي والمطاردة لمختلف أقوام وشعوب وقبائل فلسطين. وتاريخ الاحتلال اليهودي المعاصر لفلسطين وسياسة القتل الجماعي والمطاردة والإبادة لسكانه الأصليين هو نموذج كلاسيكي لما جرى في الماضي. إلا أن ما يميز مطاردة اليهود وتشريدهم وقتلهم أحيانا هو اشتراك السلطات والشعوب بالحق أحيانا وبالباطل أحيانا أخرى. ولكنها أفعال تصب في نهاية المطاف في مياه الطاحونة العمياء، التي تحركها حيوانات الشتات والغيتو وآثارها المتولدة في سلوك اليهود أنفسهم. وهو سلوك ارتبط غالبا بمزاولتهم التجارة والربا، الذي شكل على خلفية الشتات والانعزال الذاتي نموذجا للطفيلية التامة.

فقد كان وجود اليهود التاريخي في الشتات سلسلة من "المذابح"، التي كانت بمعنى – ما الصيغة المقلوبة للمذابح التي اقترفها اليهود بحق غيرهم ولنفسيتهم الغضبية المتربية بتقاليد التوراة والتلمود المتطفلة بآلية الربا. وهي آلية رسمت القصة التي أوردها إخوان الصفا في الرسالة التاسعة من القسم الرياضي، في "مطلب التربية" نموذجها التاريخي في عالم الإسلام. وهي صورة ليست اقل درامية مما وضعه شكسبير في "تاجر البندقية" عن شايلوك. وتحكي القصة كيف أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبا على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث. فهو يسير مرّفها، واليهودي كان ماشيا ليس معه زاد ولا نفقة. فبينا هما يتحدثان، قال المجوسي لليهودي:

- ما مذهبك واعتقادك، يا خوشاك؟

- اعتقادي أن في هذه السماء إلها هو اله بني إسرائيل وأنا اعبده، وأسأله واطلب إليه ومنه السعة والرزق، وطول العمر، وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصرة على الأعداء، أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أرى واعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته أو نصيحته أو معاونته أو الرحمة أو  الشفقة عليه". ثم التفت للمجوسي قائلا: "قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فاخبرني، يا مغا، أنت أيضا عن مذهبك واعتقادك". عندها قال المجوسي:

- أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم؛ ولا أريد لأحد من الخلق سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني  ويضادّني في مذهبي".

- وان ظلمك وتعدى عليك؟ – استفسر اليهودي.

- نعم، لأني اعلم أن في هذه السماء إلها خيرا فاضلا عادلا حكيما عليما لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على إساءتهم"، أجاب المجوسي.

- فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك". علق اليهودي على كلام المجوسي.

- وكيف ذلك؟ – استفسر المجوسي.

- لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني امشي متعوبا جائعا، وأنت راكب شبعان مترفه.

- صدقت، وماذا تريد؟ استفسر المجوسي من جديد

- أطعمني واحملني ساعة لاستريح فقد أعييت.

عندها نزل المجوسي عن بغلته، وفتح سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم اركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه:

- يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت!

- أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وأخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضا أن انصر مذهبي وأحقق اعتقادي".

وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول:

- ويحك يا خوشاك، قف لي قليلا واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وارحمني كما رحمتك".

في حين استمر اليهودي لا يفكر في نداء المجوسي، ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره. فلما يئس المجوسي منه واشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بان في السماء إلها خيرا فاضلا عالما عادلا لا يخفي عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال:"يا الهي، قد علمت أني قد اعتقدت مذهبا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت. فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت". فما مشى المجوسي إلا قليلا حتى رأى اليهودي قد رمت به الغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت. فناداه اليهودي:

- يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعا وعطشا، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك.

- قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك.

- وكيف ذلك؟ – استفسر اليهودي

- لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك أن في هذه السماء إلها خيرا فاضلا عالما عادلا لا تخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم.

- قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت. أجاب اليهودي.

- أذن ما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك؟!

- اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد الفته وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثانية، يصعب علي تركها والإقلاع عنها".

فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسورا. وعندما استغرب أهل البلدة ما قام به المجوسي، أجاب، بان سلوك اليهودي "صار جبلة وطبيعة ثانية، يصعب عليه تركها والإقلاع عنها، كما صار رأي ومذهبي عادة وجبلة يصعب الإقلاع عنها والترك لها".

وليست صورة اليهودي التي سجلها (أخوان الصفا) في (رسائلهم) قبل اكثر من ألف عام في محاولتهم للتدليل على وجود ما أسموه "بمن يكون اعتقاده تابعا لأخلاقه، ومن تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده"، سوى الصورة التي تشير إلى ما أسميته بتطابق اليهودي واليهودية، أو تطابق الصورة والمعنى بين اليهود واليهودية، باعتباره مصدر "قوتهم" المادية وهشاشتهم المعنوية، النابعة من عدم تجاوزهم مرحلة العرقية – الدينية (الأسطورية). وهو التطابق الذي صنع شخصية اليهودي وصفاته الجوهرية، بحيث "صار جبلة وطبيعة ثابتة" فيه، تتميز بنفس غضبية مثالها البطش (الجور) وسلوكها الاستحواذ والغلو. 

فالبقاء ضمن قواعد العرقية واليهودية – التلمودية، هو الذي أدى إلى صيرورة ما دعاه القرآن بقسوة قلوبهم. ومن ثم لم يكن تاريخ "مذابح اليهود" ومطارداتهم سوى تاريخ المذابح والمطاردات التي دبرها اليهود أنفسهم ضد الآخرين، والتي اشتدت تاريخيا بعد إخراج العرب المسلمين من الأندلس. منذ ذلك الحين لم يخل قرن من الزمن دون اشتعال فتن مطاردة اليهود وإهلاكهم بين الحين والآخر حتى تتوجت في ألمانيا القرن العشرين على اثر ممارستهم الشنيعة تجاه الألمان قبل صعود الهتلرية إلى السلطة. فقد اضطرت أسبانيا عام 1492 إلى طرد ما يقارب الأربعمائة ألف يهودي من أراضيها في وقت بلغت نسبة الربا 600%! وقبل ذلك بنحو مائتي سنة طردهم الملك إدوارد الأول من انجلترة. وبعدها بقرن طردهم الملك شارل السادس من فرنسا عام 1391، ثم طردهم فردناند ملك صقلية عام 1493. وهكذا فعل ايفان الرهيب معهم في روسيا عام 1580. ونفس الشيء قام به الملك فيليب الرابع عام 1639. واستمرت هذه المواقف من جانب السلطات على مجرى القرون حتى القرن العشرين. كما جرت مطاردتهم من جانب الشعوب على مجرى تاريخ الشتات، كما حدث في الإسكندرية عام 68 وفي روما عام 381 وفي كليرموند عام 516. واضمحلت هذه المطاردات في ظل الخلافة الإسلامية، ولكنها عاودت للظهور في أوربا ابتداء من القرن الثاني عشر. فقد جرت مطاردتهم في مدن ألمانيا عام 1146، وفي لندن عام 1169، وفرنسا (بلوا عام )1171. وتكررت في القرن الثالث عشر كما هو الحال في فرنسا (أنجو عام 1236) وإنجلترا (لندن 1262) وألمانيا (ميونخ 1285)، ثم في بريطانيا جميعها عام 1287 حيث جرى سجن جميع اليهود. وتكررت هذه المطاردات ثماني مرات كبرى في القرن الرابع عشر واكثر من عشر مرات في القرن الخامس عشر، ومرتان في القرن السادس عشر، وأربع مرات في القرن السابع عشر. ونفس الشيء يمكن قوله عن القرون اللاحقة. أما ذروتها فقد بلغت في ثلاثينيات القرن العشرين مع صعود الهتلرية إلى السلطة في ألمانيا.

 

............................

1-  وقد صاغ ذلك بالألمانية بالشكل التالي

 Einer Vater in den Hogen

einer Mutter haben wir

Gott ihn، allen Wesen Vater

Deutschland unsere Mutter hier.

2-  وبغض النظر عن "الجبلة والطبيعة الثانية" المتركبة في شخصية اليهودي والعربي المعاصر (إذ ليس مذهب وسلوك المجوسي في الواقع سوى الصيغة "المحايدة" لشخصية العربي المسلم)، فان المطلب "في التربية" يؤكد الاستنتاج القائل  بضرورة إعادة تربية اليهود لأنفسهم بضرورة الإقلاع عن "جبلة" النفس الغضبية والاستحواذ والغلو، من خلال التحلي بالمبدأ الذي وضعه المجوسي في كلماته القائلة "أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم؛ ولا أريد لأحد من الخلق سوءا، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني  ويضادّني في مذهبي". فهو المبدأ الذي لابد منه من اجل اجتثاث الروح العرقي الضيق والاندماج في الروح الثقافي الإنساني باعتباره أسلوبا لحل "العقدة اليهودية" وخلاص اليهود أنفسهم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1461 الاحد 18/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم