قضايا وآراء

نوفل أبو رغيف.. حداثوية الرثائي البطولي / محمد تقي جون

بدءاً لابدّ من التأكد من أن الشاعر نوفل أبو رغيف شاعر حداثي في تطلعه وفيما كتب من شعر، إلا انه يختلف عن الحداثيين فعلا ومدّعي الحداثة في انه يرتبط بالتراث بقوة قل نظيرها بين شعراء جيله؛ انه لا تشده خيوط شفافة بل حبال متينة (يكاد يخفيها). إلا أنها لمن ينظر بعين الخبرة والتجربة، متجسدة بوضوح، وهو كالصائغ الماهر يترك أمامك هيكله السامي ويعفِّي أي أثر لأصابعه في تشييده، فتبقى منبهراً بالمنجز ولا ترى آثار تعبه وكدِّه، لأنه لا يقول جزافاً كأغلب الشعراء الاعتباطيين الذين بنوا على السطح وحفروا في صخور اللفظ الصلدة ليفجروا منها العيون، فجعلوا وكدهم ما أسميناه (المعاني اللفظية)، وهو الاشتغال على اللفظ لاستخراج معنى منه، فأولدوا المفارقة اللغوية والمشاكسة اللفظية ليوهموا القارئ بأن وراء ذلك معنى مهما وأسطورة من الفن، وما دروا انه يهبط بهم وبشعرية نصوصهم، فسرعان ما يتكشف غبار القراءة الأولى عن ركام أو بناء مشوَّه.

ولابدَّ لقارئ شعره أن يسأل نفسه بعد أن يتمَّ قراءة كل ما أنجزه الشاعر: ما موضوع شعره، أو ما الموضوع الذي استحوذ على شعر الشاعر وربما استنفده؟ والإجابة على ذلك بحد ذاتها تعريف بالشاعر وبشعره، ويمكن من خلال قراءته قراءة كل تفاصيل تجربة وتاريخ الشاعر الفني والشخصي.

إن تجربة الشاعر نوفل أبو رغيف تنحصر أو تكاد تنحصر في موضوع واحد هو (لونه)، وإذا ابتعد عنه فانه يظل مشدوداً اليه، ويكون ما يكتبه (لويناً) متدرجاً إلى لونه ذاك، وكأنه لا يريد أن يغادره، مثله كمثل (إبراهيم ناجي) الذي اختصر طه حسين شعره بالقول: إن شعر إبراهيم ناجي ممكن ان يجمع في قصيدة واحدة. وقد أكد صدق ذلك أن أم كلثوم أخذت مقاطع من قصائد عدة وأضافتها إلى (الأطلال) دون أن يظهر أي قطع أو اختلال، وكذلك شعر نوفل في تبنيه موضوعاً رئيساً، وليس يعني هذا انه يكرر نفسه بل هو يضيف ويتجدد في هذا الموضوع الكبير.

عاش الشاعر مبكراً تحت وطأة مأساة أب شهيد (معدوم)، وأم صابرة، ووطن مؤجل. وهذه الأقانيم الثلاثة هي التي تقوم عليها أشعاره وتتماهى معها شاعريته وتتألق فيها شعرية نصه، فهي بمنزلة الأثافي للقدر.

وإذا طالعنا مطالع مجاميعه لوجدنا مصداق ذلك: (ضيوف في ذاكرة الجفاف) و(ملامح المدن المؤجلة) و(مطر أيقظته الحروب). فذاكرته أول ما سجلت (الجفاف) الذي تتخلله ضيوف هي الندية فيه، ورافد الماء والخضرة والامل والمستقبل أبوه وأمه والوطن، وحيث يلملم يتمه ليتابع طريق النهر والفجر والصبر.

تأخذ أمه حيزاً في ذاكرته، فهي الملجأ الذي احتمى فيه حتى نضجت رجولته وقوي جناحه على المتابعة، وهي الثبات الذي ورثه فلم ينحنِ ولا غيَّر اتجاهه:

 

كلما مرَّ الخريف انتفضت

               وأبت تلقاه إلا واقفه

هاجر الغيم..وصاحت أرضها

               وهي طلعٌ وفصولٌ نازفه

ساحلا مدَّت ذراعيها وقد

               مُدَّت الأيدي إليها قاطفه

عمرها خيمة أهل رحَّلٍ

               صبرُها سيفٌ يحنِّي عاصفه

لاذت الأيام في أفيائها

               واستراحتْ، فظلالٌ وارفه

ظللتْ أوراقُها أحلامَنا

               واستعارتها الشفاهُ الناشفه

أكلتْ من طلعها أعوامُنا

               فمضينا، والأماني واقفه

وعلى أغصانها.. أسماؤنا

               أثثتْ مأوى وكانت خائفه

وتمادى نزفها لكنها

               لم تقلْ أتعبني أو آسفه

يا لها صرحاً حقيقيَّ الذرى

               وسواها..فالمعاني زائفه

 

أما أبوه فهو هداه ورؤاه لما على الأشياء أن تكون، وهو الوطن المختبئ إلى أجل غير مسمى، ولذا نجد مفردة (المؤجل) ومشتقاتها سمة لفظية في شعره ابتداءً من (ملامح المدن المؤجلة) و(تجليات مؤجلة) وأيضاً:

 

فعدتُ، لا صبرَ في صدري (يؤجلني)

      ولا لدربي أقدامٌ تطاوعه

 

فالعيد شيخٌ أوثقوه وكلما

               عن ظله فتشتُ قيل: (مؤجلُ)

واخترتُ بدءاً أن (أؤجله)

               لكنه قد فاض وانسكبا

 

ويمتد (الأب) رمزاً بطولياً إلى أبعد ما يكون من السمو كما قال:

وكيف سترتقي لغة عجوزٌ

               إلى عينيه فالكلمات كسلى

فصافَحَهَا وقال لها: سنمضي

               وسوف نفوحُ فرساناً وخيلا

سأتعبُ ثمّ أورقُ كالأماني

               وطعمُ الشعر في شفتيَّ أحلى

 

وهو (تمثال):

تماثيلُ لا صمتهم يستجير

               قدامى، ولا أفقهم يستديرْ

   

فهو، وان كان يأكله التراب، يقف شامخاً في أعالي الأفق لا تزيده العواصف والأنواء والسنين إلا تجسيداً ووضوحاً وبقاءً. وهو أيضاً: الماء والبحر والمدن والطين والمطر والنخل... وهو يظهر مع الرموز العالية المعاني كلها؛ فهو (الحسين) و(النبي):

هل بعد أن هجرت خطاك دروبها

               يوماً تعاودها خطىً ووصالُ؟

لكنها ترنيمة علوية

               مسبيَّة عزفت بها الآجالُ

فارقدْ نبيَّاً، دع تراثك، وارتقِ

               فالأسدُ تحرسُ فجرها الأشبالُ

 

فالأب يقف معادلا للنبي وآل بيته في نسبه وجهاده القدسي وفي صبره واستشهاده.

وله أكثر من موقف شعري يرتقي فيه الحزن سماوات مرتفعة، فينثال الشعر انثيالا كالأتيّ:

تبكي حروفي تشتهيك قصائدي

               لغة وأوجاعُ الكلام تلالُ

 

فانه وقد تدفق البيت تركه بلا فوارز وعلامات ترقيم لكيلا يصطدم القارئ

وقد أكد الشاعر في أكثر من مناسبة أنه شاعر رثائي من الدرجة الأولى، ولكنه غير نمطي؛ لأنه يجعل من مرثيه مرثياً للجميع، فهو لا يندب شخصاً يخصه فقط، بل يندب أمة ووطناً يعيش الكل في ظلاله:

نبيّ وكم أرهقته الدروبْ

               يفتِّش عن وطن في الجيوبْ

 

إذاً هو يضم الوطن في جيبه (داخله) ويفتش، لا لأنه ضيَّعه بل لأنه وضعه. هو الوطن الذي يبحث عنه الوطن:

الحزن بلاد

والدمعُ نشيد

والفجرُ مواعيد

الوطن العربي

يفتش عن وطن عربي

وتجاعيد البحر تساءلُ

من هذا الوطن الراحل في قافلة الأشلاء؟

 

أما الشاعر فهو (على سنّ أبيه) وهو امتداد للبطولة، وان مفردة (النخل) التي استعملها كثيراً رمز السمو والإصرار والتحدي لوالده، تجمع بينهما أيضاً في قصائد كثيرة، فهو كأبيه امتداد نخلي: 

سأظلُّ نخلاً ظامئاً ومدينةً

               عطشى، ولن تسقيهما أقوالُ

فارقدْ نبيَّاً، دع تراثك، وارتقِ

               فالأسدُ تحرسُ فجرها الأشبالُ

 

فهو يرشح نفسه للبطولة القادمة، والإصرار على انتظار الغد:

ويجيء الفجر على فرسٍ

تستيقظ أحلام الفرسان

وتليه الرايات (الخضر)

فتخجل أيامي

وبقاياك

وحزن الخيل

وزينب

وصدى لنخيلٍ مذبوح

 

وهو مؤمن بأن (ليلا مهماً) ينتظره قبل أن تكتحل عيناه بهذا الفجر. وهذا الليل أطول من دموع الشموع، إذاً ستنطفئ الشموع قبل بلوغه، وعليه أن يوقد عيونه للوصول إليه:

وللشمع دمع

سينشف يوماً

وليلٌ مهم بالانتظار

فأوقد عيونك

 

أما شعرية النص فسبر غورها يؤكد أن الشاعر (يغرف وينحت) معاً، وانه حداثي حد النخاع فهو من منظري ومبدعي (قصيدة الشعر). وهو إلى جنب هذا مشدود إلى العصر الذهبي للقصيدة العربية ونوابغها وقممها. كتب على البحور الفخمة التي غرّد عليها القدامى، فكانت مطواعة له وكان ممتد النفس والكلمات مع امتدادها لا يشكو النفاد ولا الجدب كالطويل والبسيط والكامل والمتقارب، كما كتب على البحور التي يميل إليها الحداثويون كالخفيف ومجزوء الكامل المرفل والمتدارك.

كما انه متمكن من القافية بدرجة عالية لم يحققها كثير من شعراء جيله، وانك تتأكد من ذلك بإيراده القوافي الموصولة بالهاء مثل:

 ليلٌ يؤمِّلُ بالصباح نيامَهُ

               ومسافرٌ أكل العناء خيامَهُ

كلَّما مرَّ الخريفُ انتفضتْ

               وأبتْ تلقاهُ إلا واقفهْ

عمرٌ تقضَّى بأنفاسٍ تنازعُهُ

               واحتلَّ صوتي فلا يرضى أقاطعُهُ

 

فهذا الإلزام يصعب على الشاعر إذا لم يكن محصناً بثروة لغوية ودربة شعرية، وربما كان أصعب من (لزوم ما لا يلزم) أو بدرجته، ولا يقدم عليه الشعراء الذين يحتارون في إيراد قافية ذات حرف روي مجرد، وكثيراً ما اختاروا حرف روي ساكناً.

وفي بعض قصائده نتلمس روح المتنبي الذي لا يخفي الشاعر تأثره به وبنفسه البطولي، ولم لا وهما يتشاركان الهم ذاته ويسلكان الطريق نفسه؟ ولنأخذ القصيدة القافية ففيها نقرأ ملامح المتنبي بقوة، وكأنه استحضر روحه الشعرية ونفسه البطولي الشامخ، وطريقته الحماسية اللاهبة، فضلا عن شحنها بمفردات تضاهي مفرداته عنفاً وسمواً مثل: الخيل، النخل، الصرح، الهيبة، الشموخ، الذرى، الطوفان... والقصيدة توضح تأثره وتمكنه، نقرأ منها: 

ولي سفر وعرٌ إلى آخر المنى

               وآخرها شمسٌ وشملٌ وملتقى

وأصعبُ صبراً أن نعطِّش خيلنا

               مخافة أن بالماء تنسى فتشهقا

فأجَّلت خيل الحرب أجَّلتُ صيحتي

               وأسرجتُ أحلامي لأفقك سبَّقا

وسابقتُ نفسي، كان نزفٌ يشدنا

               وقلتُ لظلي: لا تجاملْ فتسبقا

كلانا عراقيٌّ، كلانا تعوَّدتْ

               خطاه اذا ما سار أن تتفتقا

 

لقد شاب رأسُ الصمت والروح طفلة

               أعلّمها أن تشتهيك وتعشقا

سأقلق حتى يطلع النخلُ واقفاً

      على عتباتي.. مستعداً ليسمقا

سأسدلُ أحزاني سأطفئ غربتي

               سأشعل شلال الهموم لتحرقا

فآن أواني أن تصلّي مآذني

               وأن ينتهي حبس القوافي وتعتقا

فجئتك في عينيَّ نهران، لفَّني

               إباؤهما، واستكبرا، وترقرقا

أنا تعبٌ علَّمته أينما رمت

               به الريح أن يسمو وأن يتألقا

وأن يرتقي صرح العذابات فارساً

               ومن طين هذا الصرح أن يتنشقا

كأن لم تكن لولاك للنخل هيبة

               وما كان لولاك الشموخ ليخلقا

وعلَّمتَ صبر الأرض أن يستفزَّها

               فتنجب قمحاً وانتصاراً وزنبقا

تفيض فيلغي البحر هيبة صمته

               ويصبح طفلا في رِداك تعلَّقا

وتمشي على الطوفان يا أكبر الذرى

               وتأمره أن يستقيلً ويغرقا

ولو أخطأ التاريخ مدَّ مطأطئاً

               لنا قيده والمعصمين ليوثقا

منايَ عسيراتٌ وصوتي مدلَّلٌ

               وليس لمن مثلي سوى أن يعلَّقا

صلاة على سور العراق ودمعة

               وعصفور عشق أيقظوه فزقزقا

وإذا أوغل كثيرٌ من أدعياء دعاة الحداثة في الرطانة والتردي الشعري، والحفر في عظام الألفاظ بحثاً عن الدسومة، فان الشاعر نوفل أبو رغيف شاعر اشتغل على اللفظ والمعنى، وكان من شعراء الصورة التي يتخلف أو يتخاذل كثير من الشعراء في التقاطها وتحقيقها. وحسبنا بعض الأبيات التي اخترناها، وأبياته المختارة نعدّ منها ولا نعدِّدها: 

مرَّ الزمان على جدار جراحه

               ورآه ليلاً مائلا فأقامَهُ

فمن غيري أعار البحر دفقاً

               وهل غيري أعار الدرب طولا

كأنَّ كفيه سور بينه عنقي

               ووزعت حول أنفاسي أصابعُهُ

 

وهو يختار لمعناه أليق الألفاظ به، حتى انك إذا غيَّرتَ لفظة ما في البيت اختل المعنى ومال قليلاً أو كثيراً ولم يرسم ملامح الشعر والشعرية التي رسمها البيت في ذوق ونفس المتلقي لان كل كلمة تستقر في مكانها من البيت تماما، فلفظة (تناثر) مثلا لا تستطيع أن تجد لها بديلا لفظيا يلبس المعنى نفسه، في قوله:

وحين تأكّد أن المجيء

               بعيداً، تناثر خلف الغيوب

 

وهذا يعني انه بنّاء لعبارته كالمتنبي وأضرابه، وقد قال المتنبي عن لفظة (ألغت) في قوله:

(ألغت) مسامعه الملام وغادرت                 سمة على أنف الكرام تلوحُ

 

انه اختارها من أخوات لها عشر.

      وتظهر ثقافته الشعرية أيضاً في تأثره بمعاني القدماء فقوله:

قد ملت في شفتيَّ بوحٌ يانعٌ

               (وتكسرت فوق النصال نصالُ)

مأخوذ من بيت المتنبي:

فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ      

               تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ

 

وفي قوله:

لم لا؟ وأهلي هم ضياغمها

               والله كانوا فتية عجبا

 

تناص مع بيت أبي نواس:

لن يخلف الدهر مثلهم أبداً

               هيهات هيهات أمرهم عجبُ

 

ولكنه شاعر حداثوي في ألفاظه ومعانيه وأسلوبه؛ فمن معانيه قوله:

ينكسر الوجه

فيختلط الندم بصمتٍ قاسٍ

وتنام الأوجاع

ويبقى الهمّ الأحدب

 

ومن أساليبه الحداثوية قوله:

يا كالخريف يمرُّ بي

               فتصيحُ أوراقي ووردي

 

فالمعروف أن (يا) يأتي بعدها منادى، فحذف المنادى بعدما دلَّ عليه، وجعل بعده (كاف التشبيه) ومجرورها (صفة المنادى). وقوله:

متعلقون بها ومولعة

               (لو ما) صعدنا فالسماء ستنزلُ

 

فـ(لو ما) استعمال جديد.

وفي مجال اللفظ تكثر عنده لفظة (فزَّ) أي: استيقظ فجأة. وهو معنى استعمله الحداثويون كثيراً، وقد جاء توفيقه في استعماله مزدوجاً في قوله: 

وقامَ ففزَّ فجرٌ واستعدَّت

               تعاويذ المسا لتعود عجلى

 

فهو وصف دقيق لنهوض الفجر؛ فان الفجر يأتي فجأة، ثم يتنفس من رئته الصبح فيتدرج بالظهور والضياء. واستعمال (فزَّ فجر) جاءت نبوءة من الشاعر أيضاً؛ فان الفجر العراقي (القادم) جاء بسرعة كما يفزّ النائم.

ومن الألفاظ التي كان رائداً في استعمالها، وكان حدسه الفني صائباً في شاعريتها، أو أنه منحها الشاعرية فطاوعته فكانت مقبولة في الشعرية الحداثوية، لفظة (السيسبان). والسيسبان نبات تتوزع على غصونه الدقيقة وريقاته الخضر من الجانبين، فهو غزير الخضرة، وهذا ما كان الشاعر يبحث عنه، فهو يلح على ألفاظ الخضرة ودوالها ومدلولاتها، لأنها تعني: الأمل والنجاح والغد المشرق، ومن ايراداته له:

ها أنت تزرع (سيسبان) الذكريات

 

وقوله:

الغمام المسافر

و(السيسبان) المقيم

والمواعيد يا سيدي

يا أمير الأديم

 

وما يميز الشاعر نوفل أبو رغيف تصرفه في نسب اللفظ والمعنى، فهو يضع مقادير دقيقة من اللفظ والمعنى في صياغته البيت، وهذا جعله متمكنا في تطويع مفرداته في التعبير الشعري وهي سمة فريدة حقاً لا يمتلكها إلا الشاعر الكبير. فهو قد يزيد في معنى اللفظة كقوله:

كل القرى نامت وغطت وجهها

 

               والليل (علَّق) فوقهنَّ ظلامه

 

فلفظة (علق) مزاد فيها على معنى التعليق، ومن دون هذه الزيادة لا تتم الفكرة والصورة التي ارادها الشاعر بالضبط، ولاصبح المعنى بليداً وامكن ابدالها بغيرها كنشر أو عمم ...الخ.

      وقد يقلل من معنى لفظة بعد القائها في لوحة البيت، كما يضع الرسام لوناً صارخاً ثم يخففه بمقاربات لونية اخرى حتى يتحقق الانسجام وهكذا نوفل، انظر قوله:

أنا تعبٌ علمته أينما رمت

               به الريح أن يسمو وأن يتألقا

 

فلفظة (تعب) تؤشر حالة سلبية، ثم جاءت بقية البيت فأكلت معنى اللفظة والتهمته فأصبحت تؤشر حالة ايجابية.

وبعد، فليس ما كتبناه يحتوي كل تجربة الشاعر المبدع نوفل أبو رغيف، بل هي لحظات تعني ولا تغني، أردنا بها أن نقول: ان الشاعر نوفل ابو رغيف هو شاعر حداثوية الرثاء البطولي، رسم الشموخ فناً صادقاً ونابضاً حياً، فكان بطلا قاتل بالحرف، ووقف في مرابد الطاغية يرثي أباه البطل والوطن المؤجل ويصفق له جمهور (المَعَ والضد) لصدقه الواقعي والفني، ولعل هذه الدراسة لا تقف فقط عند حدود الفن بل تنفذ إلى تاريخ الشاعر وسيكولوجيته. ويجمع القول فيه أبياته التي تقول:

لا غير آلهة الكلام تزوره

               وتلفُّ بالهمس القديم منامَهُ

يغفو فتوقظه السطور مخيفةً

               هجمت عليه وحاصرت أقلامَهُ

فتراكضت نحو الحروف فؤوسه

               واستنفرته فحطمت أصنامَهُ

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1461 الاحد 18/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم