قضايا وآراء

الصورة الأسطورية للنظام الكوني في الفكر الفرعوني / زهير صاحب

الذي يتحرك في منطقة ربما تكون سابقة للمنطق العلمي، لما في ذلك من فعل هام، في رفد دراستنا التحليلية للاعمال الفنية التشكيلية بميكانيزم تساعد في كشف هذا النوع من الانظمة التجريدية والبناء الرمزي للوحدات التصويرية، والتي تصل بمنطق التعبير الى الخيالي واللامحدود والمتعدد التأويلات.

 

وفي هذا الصدد، لم يخلف لنا قدماء المصريين، تشكيلا متجانسا موحدا للفكرة، نستطيع الاستفادة منه كنواة للاستقصاء. ونحن اذ ننتقي مزقا من الافكار من مصادر شتيتة، انما نشفي غليلنا العصري الى النظام المؤتلف الواحد. أي ان ميلنا العصري الى تصيد صورة واحدة متجانسة، امر فوتوغرافي عديم الحركة. في حين ان صورة المصري القديم سيالة متحركة. فمثلا نود ان نعرف في صورتنا، اذا كانت السماء محمولة على اعمدة كائنة في الافق، او ان احد الالهة الجليلة يرفعها. وجواب الفكر المصري على ذلك يكون : اجل انها محمولة على اعمدة، او ان احد الالهة يرفعها -  او انها مرتكزة على جدران، او انها بقرة ترصع بطنها النجوم، او انها الهة جميلة ذراعاها وقدماها تمس الارض. ولذلك سوف ننتقي صورة واحدة لنظام الكون، الا انها ليست القصة الوحيدة.

570-zuher

 

تمثل الفكر المصري الارض كطبق مسطح له حافة مموجة، وقاع هذا الطبق هو سهل مصر الغريني المسطح، وحافتي الطبق المموجتين هي حافة البلاد الجبلية التي هي الاقطار الاجنبية. وهذا الطبق طاف على الماء، فمن تحته مياه الهاوية، وعرفت باسم (نون) وهي مياه العالم السفلي التي ولدت منها الحياة في البدء، والشمس تولد من جديد كل يوم منها، والنيل يجري دافقا من كهوف تصب فيها (نون)، وهي ايضا المياه المحيطة بالدنيا. ولذا كان من الجلي، ان الشمس بعد رحلتها الليلية تحت الدنيا، يجب ان تولد من جديد فيما وراء الافق الشرقي من تلك المياه المحيطة بالدنيا، كما ان الالهة ولدت جميعها في الاصل من (نون) العظيمة.

وفوق الارض يوجد قدر السماء المقلوب، وهو الحد الخارجي لاقصى الكون، وحيث عشق المصري نظام التناظر، واحساسه بان المكان محدود، فتامل سماء مقابلة اخرى تحت الارض، حيث تحيط بحدود العالم السفلي، ذلك هو الكون الذي يتحرك ضمنه الانسان والالهة واجرام السماء. وهنا يجب على الفور ان نستدرك بعض هذه الصورة، فصورتنا تعطينا قبة السماء كشيء معلق فوق الارض بقوة رافعة فيها. غير ان المصري القديم يرى خطرا في ذلك، فيطلب دعامة للسماء يستطيع ان يراها، وهو كما قلنا يرى دعائم متباينة في افكاره المتباينة، ويتجاهل ما فيها من تناقض. وابسط ما يتصوره لذلك، قوائم اربع مغروسة في الارض تحمل ثقل السماء، وتوجد هذه القوائم في اقاصي الارض، ولعل العدد اربعة يدل على انها موضوعة عند نقاط البوصلة الاربع.

الا ان السماء، قد يكون هناك ما يرفعها غير هذه القوئم. فقد كان بين السماء والارض، اله الهواء (شو)، ومهمته الوقوف على الارض بثبات وحمل عبئ السماء. وهناك صورة اخرى لهذا التمثل، فيها تحريف له مغزاه ذراعا (شو) تحت (نوت) لكي يحملها، لان السماء كانت بالطبع تمثل بالهة هي (نوت) يصورونها منحنية قوق الارض، والشمس والقمر والنجوم تزين جسمها. وفي وضع كهذا قد تحمل هي ثقلها، او قد يتلقى بعض هذا الثقل اله الهواء شو بيديه المرفوعتين.

 570-zuher2 

ثم ان قبة السماء، قد تمثل ببطن بقرة سماوية، مرصعة بالنجوم، وفيه المجرة التي تمخر سفينة الشمس بمحاذاتها. ولم يجد الفكر المصري خيرا في ان الصورة الواحدة، انما هي بديلة للاخرى. في النص الديني قد تذكر كل هذه الصور المتباينة عن النظام الكوني، فكل فكرة منها تروق له، ولها ميزتها في كون سيال لا يستحيل فيه على الالهة شيء، ان لديه (انسان مصر القديمة) مقاييسه الخاصة للصدق والاقناع، وبموجبها لا يرى نفسه مناقضا لنفسه. فصورة للسماء وحاملاتها تملؤه بالثقة عوضا عن الشك، لانها كلها ثابتة باقية، ولان الصورة الواحدة يمكن اعتبارها مكملة للاخرى وليست مناقضة لها.

 

د. زهير صاحب - 2009

أستاذ مادة تاريخ الفن القديم

كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1466 الجمعة 23/07/2010)

 

 

في المثقف اليوم