قضايا وآراء

حاتم المكي.. بين جاوة وقرطاج / محسن العوني

هائل بينما آلاف العيون تحدّق فيه بين خوف ورجاء وانبهار وتوجّس وحذر وهو يمسك عصاه المعدنيّة التي هي سرّ محافظته على ذلك التوازن الهش القائم على نقطة ارتكاز يوشك أن يفقدها في كل لحظة.. إنّه رجل السيرك الذي يحتال على قوانين الفيزياء بمغامرة مدروسة وقد مدّ الشباك تحته تحسّبا من مكرها ودفعا للمكروه.. يبدو أنّ الفنّان خاصة والإنسان عامّة واجد في حال رجل السّيرك ترجمة عملية لسعيه الدائب الذي لا يهدأ ولا يفتر لتحقيق توازن لا بدّ منه وهو يقطع أسفار عمره باحثا عن ظل لرأسه المصطلي حقيقة ومجازا..

كنت أجد هذه التداعيات وأنا أقرأ كتاب :"من جاوة إلى قرطاج" للفنان التشكيلي المتميّز حاتم المكي الصادر ضمن سلسلة أبعاد عن دار البستان للنشر - تونس -

"لئن كنت مصوّرا فليس لأن التصوير حرفتي التي لا أحسن غيرها وما كنت لأرضى بأن أكون مصوّرا لمجرّد حاجة معاشي بل أنا أصوّر اضطرارا لأني قد وهنت وعييت : أعياني كياني وأوهنني كوني إنسانا عاجزا لا طموح له إلا القضاء على نفسه، أودّ لو أتخلص من نفسي وأفرّ منّي وإلى الأبد ومع ذلك فأنا أخاف الانتحار، أخشى أن لا يكون فيه فرار، وقد علّمتني الحياة أن أحذر وأحتاط من الموت وغشّه كحذري وحيطتي من شيكات التجّار المفلسين" وجدت هذا النص الوجودي الفلسفي البديع مكتوبا بخطّ الفنان حاتم المكي على صفحة الغلاف وقد دوّن عليه تاريخ ومكان كتابته.. تونس 1944.

كنت أقرأ الكتاب مستعيدا صورته عندما كان يمرّ بجانبي بهيئته اللافتة للانتباه وتلك اللحية البيضاء المدببة والملامح التي تشبه ملامح سكان الشرق الأقصى.. ولد بجزيرة "جاوة" الواقعة في أندونيسيا سنة 1918 لأب تونسي من الجريد وأم أندونيسية".

تبدو حياته لوهلة وكأنها أسطورة من الأساطير القديمة.."الأب شلبه والأم قاروص طلع حيّ ينكّز" كما يقول المثل الشعبي التونسي.. أندونيسيا تبعد عن حلق الوادي عشرين ألف كلم.. فتح عينيه فوجد نفسه في محل كبير جدا جزء منه مطبعة والجزء الآخر بيتهم (آل المكّي) على اعتبار أن والده محمد الهاشمي بن عثمان المكي كان صاحب امتياز جريدة يحرّرها كلّها بنفسه وكان اسمها "بروبودور" ومعناها بلاد الآثار العظيمة وكانت فعلا حضارة عظيمة.. جدّة لأمّه من غرب الصين من "سين كيانغ"  وقد سافر إلى الصين ونزل ضيفا على "ماوتسي تونغ" وهو يُرجع نبوغه في فن التصوير إلى العنصر الأندونيسي فيه الذي يمتاز بموهبة التصوير، فقد كان الفلاّح الأندونيسي عندما ينتهي من العمل في الحقل ينصب المسند ((Chevalet ويصوّر المناظر الطبيعيّة على اعتبار أن الرسم كان غريزة فيهم وهو يذكر أن أمّه وخالته كانتا تصوّران كل عشيّة على القماش بما يسمّى "الباتيك" أي الشمع الأصفر وهو اختصاص أندونيسي وكل النساء كنّ يجتمعن في العشيّ ويرسمن وقد نشأ في تلك البيئة المليئة بالألوان والعصافير على اختلاف أنواعها.. يعشق الدهن إلى درجة الشهوة العارمة وهو مسكون بهاجس الواقع المعيش بكل مشاكله المأساويّة وهو يستمد مواضيع رسوماته من الشارع.. أثناء رحلة ثقافية قام بها إلى مصر طلب منه في الديوانة أن يملأ استمارة ولمّا قرأ كلمة "الجنس" لم يفهما فكتب بخطّه الجميل الذي تعلمه على يد الخطاط محمد صالح الخماسي "جنس بشري" وإذا بالجماعة ينطلقون في ضحك هستيري لم يفهم سببه وقتها.. كان مرة جالسا وراء "المسند" في حقول جبال الآلب الثلجية يرسم منظرا طبيعيّا وإذا برجل يقف وراءه متأمّلا في اللوحة أمامه.. ثم قال له :"أيها الشاب إنك تمسك الذهب بين أصابعك، خذ هذه بطاقة زيارة وحاول أن تتّصل بي عندما ترجع إلى باريس" وكان سنة لا يتجاوز 21 أو 22 ربيعا.. كلّفه مدير مجموعة الصحافة الفرنسية وهو يهودي تونسي بتصوير رسوم شخصية لكل الكتّاب الفرنسيّين تقريبا منهم "أندريه جيد" و"ألبير كامو" وغيرهما كما طلب منه أحد الفلاسفة الكبار "باشلار" أن يصوّره وبعدما انتهي من عمله قال له :"كنت أنظر إليك وأنت تصوّر وأتأمل حركاتك وانفعالاتك، كنت حقا تمثّل كأنك فوق الرّكح ولقد وجدت فيك ما كنت أبتغيه لأنني أريد أن أكتب موضوعا عن تأثر الرسام وتفاعلاته مع اللوحة" وقائع وأحداث حياته تعكس ملامح عصر بكامله فضلا عن كونها تقدّم عيّنة لما يعتمل في النفس من انفعالات وأحوال عجيبة وما تنطوي عليه من ممكنات لا تدخل تحت حصر..

عود على بدء.. ليس أصعب وأعزّ منالا من التوازن النفسي والعقلي لدى الفنان.. إذا كان الأمر كذلك فلا أقلّ من حدّ أدنى منهما يضمن له قدرا من الاستقرار وفسحة للإبداع وذريعة للحياة وهو ما يمثّل بحدّ ذاته فضلا من الله عظيما وخيرا كثيرا.. وقد أسندت لجنة المعرض العالمي ببراغ سنة 1962 جائزة الشرف إلى الفنان التونسي المتميّز "حاتم المكي" ولعل اختيار رسّام تونسي من بين الفنّانين المتعاملين مع أربع وسبعين إدارة بريدية في العالم يعكس أصالة أعمال هذا الرجل الفذ الذي جعل من فضاء الطابع البريدي فسحة للخصوصيّة والطرافة والتجديد بما أودعه من الأفكار المدهشة والبراعة وخفّة الروح.

"ينبغي للجمهور أن يفهم أن ليس من همّ الرسّام أن يخلق الجمال في عالم متعطّش إلى العدالة والسّلم.. الرسّام لسان المدينة، لا يوجد في رسومه إلا ما أوحت به إليه المدينة.. على الرسّام أن يشعر أن لفنّه وظيفة تاريخيّة لا نفسانيّة"..

هكذا تكلم حاتم المكي..

محسن العـــــــونــــي

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1470 الثلاثاء 27/07/2010)

 

في المثقف اليوم