قضايا وآراء

في زمن الاشتباك / محسن العوني

المتعجّل فكيف بالقارئ المتأمل المتذوّق المبتلي بحبّ المعنى واقتفاء أثره الذي قاده إلى حبّ  المبنى.. تذكر القصّة – وهي تحت عنوان: الرفع من جاه الفقراء – أن رهطا من الرجال كانوا في دكان حلاّق بالقيروان ينتظرون دورهم للحلاقة والتجمّل وإذ برجل حسن الهيئة تبدو عليه علامات النّعمة والثّراء ينزل عن فرسه مترجّلا بمساعدة مرافق له لعلّه خادمه وقد نعته الكاتب بعبارة "رجل دنيوي" ناسبا إيّاه إلى الدنيا ليدلّ على وجاهته وغناه وكأن أهل الآخرة لا ينبغي لهم أن يكونوا على ذلك الحال وتلك الهيئة أو كأنّ أهل الثراء وذوي المكانة في الدنيا لا يمكن أن يكونوا ممّن سبقت لهم من الله الحسنى..!؟.

ترجّل "الدّنيويّ" ودخل دكان الحلاّق.. فما كان من صاحب المحلّ إلاّ أن أمر الزبون الذي كان بين يديه بأن يتنحّى عن الكرسيّ وطفق ينظّفه من بقايا الشعر مرحّبا بالرجل الدنيويّ داعيا إيّاه للجلوس وبدأ يحلق له متفنّنا متفانيّا في خدمته والإقبال عليه وقد عقدت الدهشة ألسنة الحاضرين الذين كان بينهم أديب شاعر من ذوي الفضل والشرف والنّباهة.. لاحظ الموقف وأدرك أبعاده وأسرّ في نفسه أمرا لم يُبده للحلاّق المهرول وقد حرص على معرفة كميّة المال التي سيقدّمها الرجل الدّنيوي له لقاء كلّ ما فعل ومقابل "اجتهاده" وعندما جاء دوره الذي كان من المفروض أن يكون قبل "الدّنيويّ" أعطى الحلاّق من المال بعد أن حلق له ضعف ما أعطاه سالف الذكر وأمام دهشته وحيرته واستغرابه قال له: إنّما أعطيتك ضعف ما أعطاك لأرفع من جاه الفقراء – وأنت منهم – وحتى تعلم أن جارك الفقير أبقى لك من العابر الغنيّ..!؟.. هل أدرك الحلاّق الخفيف المهرول أبعاد ما قال وفعل الأديب النّبيه!؟.. هل أخذ العبرة والدّرس من ذلك؟ هل أقلع عن هرولته احتراما لنفسه وللآخرين؟.. هل أدرك الحاضرون مغزى الموقف وأبعاد ودلالات تصرّف الدنيوي والحلاق والأديب!؟. أم أن جميع ذلك كان أشبه بقطرة ندى انزلقت عن ورقة ملساء في ليلة ظلماء غاب عنها القمر!؟.. تساؤلات أثارها هذا الموقف الواقعي الذي يقدّم نموذجا حيّا لما هو سائد بشكل أو بآخر في مجتمعات تبحث عن صوابها الغائب وإنسانيّتها المهدورة كلّ يوم بل كلّ ساعة.. لم تستفد من ماضيها ما يمدّها بنسغ الحياة ولم تقتبس من حاضرها ما يرفعها في مدارج المواطنة المؤسّسة على احترام آدميّة الإنسان!؟..

لو تحدّثنا عمّا كان يجب أن يكون لقلنا: ما كان ينبغي للرجل الدنيوي أن يقبل بتصرف الحلاق وما كان ينبغي للحلاّق أن يتصرّف بذلك الشكل السخيف الخالي من اللياقة والسلوك الحضاري واحترام الذات.. وما كان ينبغي للزبون الجالس بين يدي الحلاق أن يطيع أمره بالتنحّي عن المقعد والدور دوره والحق حقه.. وما كان ينبغي للحاضرين أن يسكتوا أمام هذا الموقف برمّته وكان عليهم أن يعيدوا الأشياء إلى نصابها ويصحّحوا هذا الإنحراف السلوكي.. البقعة المضيئة في الموقف كلّه.. تصرّف الأديب الذي أراد أن يقوم بالتصحيح ويغيّر المنكر على طريقته.. الأكيد أنّ عدد الذين يشبهون الدّنيوي والحلاق والحاضرين باستثناء الأديب أكثر بكثير من عدد الذين يشبهون الأديب وذلك بعض معنى مقولة:

"الإنسان أعظم الثروات وعمادها وفقر الرّجال أشدّ من فقر الموارد".

أشدّ المجتمعات جناية هو ذاك الذي لا يضعك في صراع مع جهة معلومة أو عدوّ محدّد واضح.. وإنّما يضعك في اشتباك متواصل مع ذاتك بتناقضاته ومفارقاته وانعدام معروفه واختلال موازينه وسيطرة اللاّمنطق واللاّمفهوم والنّزعات البدائية الحالقة لكل معنى وقيمة فتجدك وبعضك يمزّق بعضك يمزّق بعضك كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.. فحذار أن تستسلم لنزعة التدمير الذاتي واعمل بنصيحة غسّان كنفاني التي لم يعمل بها على الأقلّ في حرفيّتها!؟..

"في زمن الاشتباك عليك أولا أن تحافظ على حياتك.. ولمّا كنّا في اشتباك دائم مستمر فليس هناك ثانيا ونبقى في أولا: عليك أن تحافظ على حياتك.. لأنك عندما تموت تموت الفضيلة معك ولكي تظل الفضيلة عليك أن تبقى..".

النّوستالجيا أو الحنين دافع قويّ للإبداع وحافز أصيل قديم للكتابة.. حنين إلى ما يجب أن يكون من حق وخير وجمال وحياة ومحبّة وكرامة.. والكاتب حارس متطوّع لهذه القيم الخالدة عليه يقع عبء  الدّفاع عنها وصيانتها من مقصّات الحلاقين المهرولين وما أكثر هؤلاء في كلّ زمان ومكان..

.. وأنا مكتظّ بالكلمات وبي..

قيّدت الرّيح وقلت لها

لك كل الحريّة.. !

وعليك.. – وأنت مقيّدة –

أن تكتشفي أحوال العصفور

وأنا مكتظّ بالكلمات وبي

أطلقت الشّاعر في الشارع

وهمست له:

لك كلّ الحرّية..

وعليك – وأنت تعود من الشارع –

أن تشرح لي

أحلام الإنسان

---

شعر: يوسف رزوقة

ديوان: بلاد ما بين اليـــدين

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1472 الخميس 29/07/2010)

 

في المثقف اليوم