قضايا وآراء

بندقيّــة الحبّ!../ محسن العوني

وقد صار مجرّد ذكر السّلاح ومفردات القوّة يثير الغثيان ويستدعي وجع الكبد في سياق وضع عالميّ صار فيه الاستعراض والتبجّح والتهديد والوعيد لغة متداولة لدى البعض وطاغوتا يخضع له الكثيرون..

البندقيّة التي نعنيها وتعنينا هي مدينة المياه.. مدينة القوارب والجسور.. مدينة الحبّ والمحبّين والفنّ والزّهور.. تلك المدينة المثقلة بالتاريخ والرّموز.. فليطمئن القارئ ولتقرّ عينه.. إنها المدينة التي ورد ذكرها في قصة "تاجر البندقيّة" لشكسبير وفي لغة الرّمز يوجد ارتباط بين الماء والحبّ.. فالماء حياة وأمان وخصب.. وجميعها تصبّ في الحبّ وهو يحتويها ويزكيها.. وما الحياة إلا أن تُحبّ (بضم الأول وجرّ الثاني) وتُحبّ (بضم الأول وفتح الثاني) وتُغني الحياة محبّا ومحبوبا وتحسّ معناها بين جوانحك.. في صميم فؤادك.. وقد جاء في طرائف الأعراب أن أحدهم جاء إلى شيخ أعرابيّ وقال له : أدرك ولدك.. لقد أحبّ؟!.. فقال الأعرابيّ : وما له ألاّ يحبّ.. إنه إن فعل نظُف وجمُل وأقبل على الحياة.. فليتك تفعل كما فعل!.. لله درّ هذا الأعرابيّ.. لقد سطا عليه برقة كلامه وجعل السّحر ينقلب على السّاحر.. وغدا الطالب مطلوبا والمحتجّ محجوجا!؟

كانت البندقيّة المدينة العائمة فردوسا أرضيّا وحديقة سرّية وملاذا للقلب المتعب لعديد المشاهير ليس أوّلهم كازانوفا وليس آخرهم الرئيس الفرنسي السّابق فرنسوا ميتيران.. تذوب في مياهها الأحزان والعُقد والأزمات وتسبح في لجّتها الرّغائب معلنة أن البقاء للحياة وقد قال الشابي :

"إنّ ابن آدم في قرارة نفسه

عبد الحياة الصّادق الإيمان".

الجسور في البندقيّة من المعالم المميّزة لهذه المدينة الفريدة.. فهي تستوقف الناظر بهندستها وطريقة بنائها ومواد إنشائها التي توحي بالقدم والعتاقة والأصالة حتى تغدو وكأنها جسور داخلية تصلنا بعالم الروح.. جسور نطلّ منها على رمز الحياة.. الماء.. فتتأجّج فينا رغبة الحياة وتدعونا احتفاليّتها فننزل ونركب القوارب ولا نقتصر على الفرجة والمشاهدة فمن لا يرى الحياة ولا يحسّها في داخله.. لم يرها ولم يحسّها حتى وإن مرّت أمامه.. وهي لا تدعو أحدا.. فهي منك وإليك وفيك.. غير أن شدّة القرب تولّد الخفاء واقتراب المسافة جدّا يُعطل الرّؤية.. جسور البندقيّة تُرينا الحياة وقواربها تقرّبنا من معينها العذب ومن لا يرى الجسور والقوارب لن يجد سوى جسرا واحدا هو جسر التنهّدات حيث يظلّ رهين المحبسين : قصور النفس وحصار الخطيئة والكراهية.. وجسر التنهّدات من معالم البندقيّة وهو يقع بين قصر باذخ وسجن مظلم شديد الرّطوبة وكان كلّ من يغادر القصر أو السجن يتنهّد ويزفر فأطلق عليه هذا الاسم الدال.. مدينة البندقيّة لها تقاليد عريقة في الانفتاح على العالم بأجناسه وأديانه وثقافاته ولغاته وكيف لا تكون كذلك وهي مدينة الجسور عنوان التواصل واللقاء وما يثمره ذلك من ثراء حقيقة ومجازا ويبقى الحب أقوى الجسور وأدومها وأجملها.. جسر بين العين والعين.. بين القلب والقلب.. بين العقل والعقل.. بين الأمس واليوم.. تماما كما أن أفضل الشرائع شريعة المودّة والإخاء الإنساني لأنها تضمن السّيولة والبهجة.. سيولة المياه وبهجة اللقاء..

 

محسن العوني

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1474 الاحد 01/08/2010)

 

في المثقف اليوم