قضايا وآراء

دولة القانون وقانون الدولة / ميثم الجنابي

بمعنى أن ديمومتها وطبيعة تطورها محكوم بالأسس الأولية التي جرى إرساءها عليها. وذلك لما في هذه الأسس من قاعدة تتوقف على متانتها أو ضعفها، شأن كل بنيان، قدرة الدولة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. ومن ثم مدى قدرتها على تنظيم قواها وتجاربها الذاتية في البحث عن بدائل عملية قادرة على الحفاظ على الثروة الذاتية وتنميتها. إضافة لذلك، أن أسس الدولة هي مصدر ديمومتها ونوعية تغيرها وتبدلها. وهي حقيقة يمكن رؤيتها في تاريخ الدول جميعا. ولا يغير من هذه الحقيقة زوال الدول التاريخي. فهناك نوع من الدول باقية في الضمير والوعي الاجتماعي والقومي، بينما يضمحل الآخر كما لو انه لم يكن شيئا. والفرق بينهما هو كالفرق بين الأشباح والأرواح. فالأولى عرضة للزوال والبقاء في ذاكرة خربة أو خرفة (كما نراها على سبيل المثال في حكم الحجاج أو صدام)، بينما الثانية هي العمود الفقري للذاكرة التاريخية (كما نراها في حكم الإمام علي والخليفة المأمون)، أي القوة المتغلغلة في كل مسام الوجود الاجتماعي للأفراد والجماعات بوصفها الرصيد الذي لا ينضب بالنسبة لشحذ الهمة والإرادة في مواجهة إشكاليات وجودهم التاريخي.

وعندما نتأمل هذه الحقيقة على مسار التاريخ الفعلي للدولة الحديثة، فان الأسس المتينة للدولة ليست إلا تلك الأسس المقترنة بفكرة الشرعية والقانون. بعبارة أخرى، إن حقيقة الدولة العصرية أو الحديثة هي الدولة الشرعية أو دولة القانون. وهذا بدوره ليس إلا الصيغة الأكثر تجريدا للتجارب الإنسانية القائلة، بان الضمانة الكبرى للوجود الإنساني الحر يقوم في سيادة فكرة الحق والحقوق والقانون. ومن ثم ليست دولة القانون سوى الصيغة الأكثر كمالا لهذه الحقيقة. وذلك لأنها تجسد من حيث مقدماتها وغاياتها وأساليبها الصيغة الأكثر تطورا للرؤية الإنسانية.

إن فكرة القانون وجوهريتها بالنسبة للدولة هي الغاية التي يتحكم بها بصورة خفية وعلنية منطق التطور العقلاني والإنساني للأمم. ففيها ومن خلالها فقط يمكن خزن وتطوير واستعمال وتوسيع الآفاق غير المتناهية في تراكم الخبرة والاحتراف والتجربة الذاتية للأمم. وعلى العكس من ذلك يصبح تاريخ الدولة مجرد زمن السلطة، أي كل ما يعبث وينثر بلا رحمة تجارب الأمم وخبراتها واحترافها.

وعندما نضع هذه الحقيقة على محك المسار الفعلي للدولة العراقية الحديثة، فان الأسئلة التي يمكنها البروز للوهلة الأولى بهذا الصدد هي: ما هو سر خراب الدولة العراقية الحديثة؟ ولماذا لم تشكل الدولة نموذجا أو مثالا يمكن الاعتداد به في الضمير الاجتماعي للعراقيين؟ وعلى العكس من ذلك يجرى توظيف شخصية ونموذج حمورابي في كل الصيغ الواقعية والخيالية بالنسبة لوعي الذات والاعتداد الحضاري؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة يمكن اختصارها بعبارة بسيطة وواضحة يقوم فحواها في فكرة الحق والقانون. إذ ليس حمورابي سوى الشخصية المترادفة والموازية والمتطابقة والممثلة والمتمثلة لفكرة الحق والقانون. الأمر الذي جعل منها منارا ليس لفكرة الدولة والحضارة والأخلاق والنزعة الإنسانية بل ولكل الحقائق الكبرى المرتبطة بالوعي الثقافي العالمي. ولا يغير من أثرها وقيمتها المادية والمعنوية بهذا الصدد ابتعادها بمعايير الزمن. على العكس أن مرور السنين والأعوام يجعلها اشد قربا بمعايير التاريخ الفعلي للدولة ومسار تطورها الفعلي ومستقبلها. كما أن مرور الزمن يعمق من حيويتها بالنسبة لفكرة المرجعية القانونية والأخلاقية بالنسبة للدولة والثقافة على السواء. بمعنى تحولها إلى معلم وعلم ومصدر من معالم وأعلام ومصادر الإجماع العراقي بغض النظر عن تباين العقائد السياسية والمشارب والأهواء والمفاهيم والقيم. بينما لا يحظي التاريخ العراقي الحديث بشخصية سياسية قادرة على الارتقاء إلى مصاف "المرجعية" الفعلية بالنسبة لحقيقة الدولة والأمة.

إن السبب يكمن أولا وقبل كل شيء في فقدان العراق لفكرة ونمط وتراث وتقاليد "رجل الدولة"، أي فقدانه للنخبة العامة والسياسية القادرة على تمثل فكرة المصالح العامة للأمة. وهذا أمر مستحيل دون إرساء أسس الدولة الشرعية، أي دولة القانون، بوصفها القوة المنظمة للنظام والحرية.

وعندما نتأمل مسار الدولة العراقية الحديثة ضمن هذا السياق، فإننا نلاحظ اقترانها بثلاثة تحولات كبرى جرت في عام 1921 وعام 1958 وعام 2003. ولكل تحول أو انقلاب صفة جوهرية تلازمه فيما يتعلق بفكرة الدولة. التحول الأول (1921) اقترن بفكرة بناء الدولة، والثاني (1958) بتخريب الدولة، والثالث (2003) يقترن بالاحتمال المتنوع في مصير الدولة. فالأخير يشبه الأول من حيث المقدمات والآفاق. بمعنى أن التحول الأول جرى من خلال تحطيم بنية العثمانية المتهرئة بمساعد قوى أجنبية (بريطانية)، ومن ثم وضع احتمال فكرة بناء الدولة الحديثة. أما الثاني (1958) فقد كسر مسارها المتقطع والمشوه لحد ما من خلال جعل الراديكالية السياسية أسلوب التحكم والتسلط بالدولة وليس إدارتها بمعايير الكفاءة والاحتراف وتراكم الخبرة، أي انه كسر مسارها الطبيعي. من هنا صعود مختلف نماذج الحثالة الاجتماعية وأسلوب المغامرات والمؤامرات (الانقلابات العسكرية). أما الثالث (2003) فقد جرى هو الآخر بمساعدة قوى أجنبية (أمريكية) من خلال تحطيم البنية الدكتاتورية الفئوية الجهوية الطائفية المتهرئة.

إن هذه الصورة المجردة من تعرجات الآلام المعذبة والدماء الهائلة تعكس من الناحية المجردة طبيعة الخلل في بنية الدولة العراقية. وفيما لو اختصرنا كل مقومات وأشكال وأساليب وأنماط هذا الخلل، فانه يقوم في فقدان أسس الدولة للشرعية، أي خلل بناء دولة القانون. وهو الخلل الذي جعل من تاريخ العراق الحديث زمنا فارغا لا معنى فيه ولا قيمة. بحيث رجع العراق بعد قرن من الزمن إلى الوقوف أمام نفس إشكاليات بناء الدولة والمجتمع والفرد والثقافة وفكرة الهوية والوطنية وكثير غيرها. وهي حالة قابلة للتكرار في حال عدم كسر فكرة الزمن الفارغ للسلطة عبر إرساء أسس الشرعية في بناء الدولة ومن خلالها إعادة بناء الكل الاجتماعي والوطني للعراق على مستوى الإدارة والحكم.

بعبارة أخرى، إن قانون الدولة الحديثة يقوم في إرساء دولة القانون. وهي الفكرة التي جرى رفعها للمرة في تاريخ العراق الحديث إلى مستوى الشعار السياسي والاسم المتماهي مع تيار (دولة القانون). الأمر الذي يجعل منه ممثل فكرة الديمومة الفعلية للدولة والمجتمع المدني والتطور المستديم. وفي هذا تكمن القيمة التاريخية والفكرية والسياسية لتيار دولة القانون بوصفه مشروعا وليس تيارا أو حزبا سياسيا. كما تضعه أمام الامتحان التاريخي الأكبر في تاريخ العراق الحديث. بمعنى انه يقف أمام مهمة جعل الاحتمال المتنوع في مسار الدولة ومستقبلها احتمالا واحدا فقط، ألا وهو يقين بناء الدولة الشرعية والقضاء على الخلل البنيوي في الدولة العراقية الحديثة، أي إخراجها من دوامة الصراع الفارغ والتحلل الدائم إلى طريق الحرية والنظام، ومن ثم إلى طريق التطور الديناميكي المحكوم بقيم المرجعية الوطنية العراقية. 

***

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1477 الاربعاء 04/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم