قضايا وآراء

منفذ لأزمة الحضارة المعاصرة (2-3) / برهان الخطيب

واشتداد سباق التسلح بين العملاقين الروسي والأمريكي، بعد انكفاء فرنسا بالهند الصينية، وتراجع إنكلترا من الهند، فابتكار حلف بغداد، ودحر العدوان الثلاثي بحرب السويس، جعل التدخل الأمريكي منتظرا في العراق. كتاب ثورة قاسم لا يذكر ذلك، يمشي تاتي تاتي مع ما حدث فقط، لا ما كان تحت السطح، ترك ذلك لمشاغبين على الأرجح،  الشخصية الكبيرة عامر عبدالله ليس منهم طبعا، قد أخبرني في بيته في الشام وسط الثمانينات بأن أمريكا مستعدة لدخول حرب عالمية من أجل الاحتفاظ بالعراق في يدها. فسألته: ما الحاجة إذن لحزب شيوعي في العراق؟ سكت عامر سكوتا بليغا. أضيف هنا: لذلك لم يشجع السوفيت الحزب الشيوعي العراقي للوصول إلى الحكم، رغم قدرته حين كان وطنيا نهاية الخمسينات أن يفعل ذلك في ليلة واحدة دون خسائر كبيرة، ثم بتأييده عصيان كرد أحسن قاسم إليهم لكن طعنوه حتى استشهد في 1963، إضافة لتسخيفه غيره من الأحزاب كالبعث، بل وحتى الصديقة له كالوطني، تناقضت شعارات الشيوعي، سادت فوضى، ووجد الغرب في ذلك الظرف مَن يعتمد عليه لتوجيه ضربة لقواعده وللثورة في آن، هكذا كُسر ظهر الثورة العراقية، وبدأ أنصاره ينفضون عنه، إنما ليس عن الثورة التي استُبدِل لونها الأحمر بالأخضر في المرحلة التالية، بدأت حالة أخرى من حالات الاستحالة العراقية في تحدي الفناء، ثم شوط آخر للعبة بالعراق بعد 2003 مع طرف آخر ضد القديم، فإلى حالة اللون الأسود اليوم، ولم يبق أمام العراقي سوى جمع تلك الألوان بيده ليصوغ منها لونه الأخير الوطني، الشفاف، لون الاستقرار، و إلاّ استمرار اللعبة والدمار.

يحسن البحث في الظرف الخارجي كما في الداخلي عند معالجة علة، ذلك من أول درس لحلقة ماركسية، لكن لقلة المعلومة فالمفهومة، ولأسباب داخلية وخارجية أيضا، سادت الفوضى، قبل ذلك سادت قوى غير وطنية على أحزاب فالساحة السياسية وسببت الكارثة، يراجعون تفاصيلها التحتانية بمقالات وأحاديث لكن لا يتصدون للقوى فوقها التي استحدثتها، النتيجة أمسكت الفوضى من طرف آخر، جُعلت فوضى خلاقة، صُرفت عليها ملايين عائدها أكبر، لتأتي بنتائج مرجوة، كتشكل نظام كوكبي من سديم عاثر، أو لبن من حليب خاثر، حكمة أم اللبن لا استهين بها حين أشتري منها، قلة المعلومة أو وفرتها اليوم صناعة ثقيلة، يجيدها الأجنبي كصناعة الطائرات لا نحن. احتجت أم اللبن: ليس أقل مما نجيد طبخ كسكسي، فلافل، صناعة التبولة والمهافيف. زبون قربي قال: لذلك تسيّد الأجنبي على ابن المنطقة المتوحد. هدأته: للتوحد أدب خاص له تشجيع، الكلام ضده دخول معركة. الزبون أصر: لم تبق بعد الخيبة غير راية محمد ترفع ولو في وقفة سينمائية ضد الهجمة. لمته: بعض الأفكار الحديثة يقوّي الهجمة، يردد مشاغبون. قال: ومَن يقول الحقيقة غير مشاغبين؟ مزحت: معلهش، البس مثل الفس، مشط مثله، تنجى من الهجمة. الزبون الجار رجل أمن، يساري محبط، بعثي ناهض، وضع العراق يسمح للكل بالحديث، لامني: كلامك نكوص عن التحرير، مرتبط بفشل المثقف لتركيزه على ذاته. قلت ماذا يفعل المسكين ومنذ الستينات أنزلوا عليه الوجودية والعبث واللا معقول والآن التحلل المصقول! أيدني جاري: صحيح، حقنوه بثقافة الغرب وجعلوه غربيا في شرقه. لم أؤيده: كان طليعيا وأصبح سلفيا، تراجعت وطنية تدافع عن البلد والمنطقة. بعد افتراقنا أدركت تكلمنا عن مثقفَيْن، عن اتجاهين، أصبح التقاؤهما صعبا. عدت لتأملاتي وسط ضجيج سيارات الشارع: اختر بين المراوحة في نفس المكان أيها الرجعي المبجل، أو الانكفاء إلى أمام أيها التقدمي المستعجل، وأما أنت أيها الوطني نقطة الارتكاز.. لا أحد يريدك كعكاز. 

 الحق يزداد عدد المهتمين بالوسط، ومن اليسار واليمين، لتحقيق توازن، إذ لا تناغم بين الجناحين لصعود طائرنا العنقاء في الأقل، تخلينا عن طائراتنا، في سعي لنجاح كُسر الجناح الآخر، يُجبر،  يُكسر الآخر بالآخر، غفلة، عمدا، لا يهم، أهل البلد هواة عراك، هكذا يشاع، كأن الغرب ما ضرب الحصن القومي عام 1956 ولا أنزل قواته في لبنان والأردن عام 1958، ولا كانت حرب 2003 معلوم الحصن القومي البرجوازي مَن ضرب الحصن الطبقي لعموم مصر والعراق، ما بقي غير الحصن الأخير إذن، الإسلامي، الأمة كلها ناهضة وراءه، إذن لا تُهزم، صعود تلقائي أمام الخطر الأجنبي، لكن تزحف أخطار حتى إلى هذا الحصن، سني وشيعي، عربي وكردي، فتحاوي وحمساوي، مسلم ومسيحي، اعتدال وتطرف. الحق برأيي حمت الثورة المصرية حتى أمس والتجربة السورية نفسيهما بالوطنية، بتآلف الأبناء، لكن تدمر الثورة العراقية نفسها بعراك الأبناء، حمدا ما زالوا هنا وهناك يطلبون العافية والأمة غير غافية، متزايدة إدراك بأن نظرتها الوطنية تصدر من كل العيون إلى مصلحة للمنطقة ككل، بعد ذلك النظر إلى ما عداها، طائفة، قوم، طبقة، دين، هكذا يصبح الانتماء الطائفي أو غيره، كي لا نلغي الواقع بجرة قلم مثلما يُلغى بفيلم، يصبح امتيازا أخلاقيا، سنيا أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا، حزنا ربما في المظهر وضميرا وحبا للعدالة الاجتماعية في الجوهر، ضمانا لمشاركة إيجابية في رفعة للحضارة من أزمة ثقيلة، حتى لو مات فرع يبقى الأصل، كما في ديمومة الروح العراقية المتحدية للفناء، فلا تقتلوا الأصل رجاءً بتكريس الاهتمام لفرع، مات الأصل ماتت كل الأفرع، لن ينفع جالسا على فرع صياحه أنا الأصل والشجرة كلها فروع، غالبا يكتشف آدمي خطأه متأخرا، اسألوا الأصل آدم. 

 

العربي كنخله

 من فرع وطرف نسمع غالبا: أنا المبجل، وذاك مبتذل. القرود لا تفعلها طبعا، لا تؤمن بصراع طبقي أو قومي أو سواه، هي موحدة مبكرا ضد التصحر، ولعل أحدهم يكتشف يوما أن دارون وضع نظريته بالمقلوب، القرد تدهور وأصبح أنسانا، خاصة في حال لا حَكم منصف فيه للساحة، والكثرة رداحة. وانحطاط الثقافة العراقية بل العربية ظاهر في الكثير، فنحن نقرأ ونسمع ونشاهد لأجنبي أكثر مما منا لنا على وسائل الإيضاح العربية، أقصد وسائل الإعلام، ذلك نتيجة تشرذم السياسة والاقتصاد والفكر في المنطقة، واهتزاز الاستقرار ومعيشة المواطن بالتالي، وهو من أرقى البشر وعيا في العالم، لكن مغلوب على رأيه، ويظل إحساسه الوطني يتصاعد إلى التكامل بالمنطقة، لعله يتجاوز المحنة.

 شجرة ثقافتنا في مهب ريح، أوراقها صفر، تقرأ وتسمع كثيرا والنتيجة منها هب بياض، تتلقى الكلام المعاد، ما مر سابقا من محليات وعولميات يسوَّق فيها المنفر والمقرف ملفوفا بسولفان ضوئي، القيم تتعرض لنهش وقت لو خلت الحضارة من الأخلاق سقطت، الاختلاف حتى على معنى الأخلاق، وعلى الواطئ والنبيل، نعيش في بابل مبلبلة والانسجام مؤجل دائما، لم يعد المحلي صالحا كفاية، ولا الغازي والمعولم قدم الأفضل، ذلك يضع المدرك في اغتراب بل احتراب حيث لم يعد ثمة معنى ومكان لحياد، السؤال ماذا بعد الاحتراب؟ وقبله: كيف يصاغ الاحتراب؟ ونصره لمن وإلى أين؟

 يترادع الفكر الوصفي الآني بالاستراتيجي، من السياسة إلى الأدب، إلى الأخلاق، بحثا عن خيار ثالث، خارج السلفية الحديثة ومستقبلية العولمة الفضفاضة، خيار عصي على التجسيد والتجسد لأزمة الحضارة المعاصرة المشقوقة، المنخرطون في الاحتراب وتأجيج الأزمة أكثر من المصالحين فيها مع انعدام المصالحة، والعداء بين وطنيين على الطرفين تدمير لهم وللوطن، حتى كتاب تموز وغيره يعرض الوقائع لا الحقائق المرجوة كأن العداء حالة أزلية، برأي غريب يقول إن مشاكل العراق (ضمنا الاحتلال) يسير ضمن السياق التاريخي الطبيعي، وهي التعزية الوحيدة الكبرى لما يجري الآن. لكن، 

 

ما يحدث في العراق ليس طبيعيا، بدليل إن ردة الفعل على ذلك رفضه سبع سنوات عجاف، رفض الاحتلال أنتج لا المقاومة فقط داخل العراق بل وأعاد ترتيب الأوضاع في المنطقة برمتها، في ظاهرتين اتضحت منهما الأولى حتى الآن، وهي صحوة الدب الروسي والتفاته إلى وجاره بل أهله في أوراسيا، يناقشون هناك حتى عملة موحدة للمنطقة باسم أوراسي، مع تنسيق استراتيجي مع الصديق القديم الجديد الصين، ونهوض تركيا أيضا سياسيا للعب دور جديد مكافئ لوزنها الحقيقي ومنسجم مع تطلعات المنطقة. بل وتقارب روسيا والعالم الإسلامي من جهة، ومن أخرى تقارب إيران وباكستان وأفغانستان للذود عن المنطقة. ذلك أنتج الظاهرة الثانية، بل وردة الفعل الثالثة، غير المتضحة حتى الآن تماما، تتجلى في ارتفاع نبرة عدم قبول تركيا للإتحاد الأوربي، حتى من عضيد لها كالسويد، وتخفيف أمريكا سياسة التعرض في المنطقة، وكذا خطب ود المسلمين، والسعي لفرض حل الدولتين على حليفتها في المنطقة، إنما دون جدوى، فالحليفة السلفية أكثر من أية دولة أخرى في المنطقة تراوغ وتعربد، في وهم للهيمنة على المنطقة بل على العالم في نهاية، فماذا سينجلي عن ذلك غير التهديد بحرب جديدة على إيران واستثمارها أبعد وأبعد في مستقبل غائم!

    الظاهرة تحفز نقيضها، مقابل التنكر للماضي واحتراب القوى الوطنية في العراق بعد تموز 1958 كان هناك نضج وطني ممثلا بسياسة الحزب الوطني الديمقراطي، الفوضى ابتلعته، وكانت الجبهة الوطنية ما قبل الثورة مقابل امتهان الوطنيين. الحساسية الوطنية تعاظمت منذ تأسيس الدولة العراقية بداية عشرينات القرن الماضي بتنصيب من الخارج في شكل انتخابات، منذ تأسيس الشيوعي بمطبعة من الخارج، ثم رد الفعل على ذلك، البعث، حتى أزاح غريمه في 1963 بقطار خارجي، كما في 2003 أزيح البعث وأعادوا الشيوعي، دولاب هوا قال الحلاق حكّومي يوما لي، لكن لا فرصة لوطني حقيقي يركبه يكرس استقلال البلد وتعددية مذاهبه ومشاربه، حكاية قاسم فوق الميول والاتجاهات معروفة، حتى المالكي بعد اقترابه العقلاني، من طرف مقابل، قليلا، إلى البعثيين، سعوا لقلب البلد عليه منذ قبل الانتخابات الأخيرة، وما زالوا يحاولون ذلك بعد فوزه المبين في بغداد. برأي جهابذة، لا بأس بعودة البعثيين للسلطة، ليجابهوا الطرف المقابل، أكثر من تحقيق الاستقرار المطلوب.

 

 

 

 

في المثقف اليوم