قضايا وآراء

تيار (دولة القانون) ومشروع مركزية الدولة والهوية الوطنية / ميثم الجنابي

 فان الأولويات الكبرى تنحصر بقضية مركزية الدولة والهوية الوطنية. وهي المقدمة التي تحدد بدورها ضرورة تدقيق المهمات السياسية الكبرى من اجل دفع العراق صوب استكمال كيانه السياسي الجغرافي، والوطني الاجتماعي، والتاريخي الثقافي. فهو الثالوث الذي تتوقف على كيفية ترتيبه وتطويره آفاق ومستويات وخطوات تقدمه.

فعندما ننظر إلى تجربة ست سنوات بعد الاحتلال وبداية "مرحلة السيادة" بعد خروج القوات الأمريكية من المدن، فان الحالة الأكثر بروزا في عرقلة تكامله الذاتي تقوم في ضعف مركزية الدولة وضعف الهوية الوطنية عند قواه السياسية ومكوناته القومية والثقافية.

فقد كشف التحول العاصف بعد إسقاط الدكتاتورية الصدامية والتوتاليتارية البعثية بأيدي قوى خارجية عن ضعف قواه السياسية "الداخلية" و"الخارجية"، واغتراب اغلب مكوناته، وتحطم البنية التحتية للدولة والمجتمع والثقافة، وانهيار القيم. ووجدت هذه الحالة تعبيرها السريع في اشد الأشكال لا عقلانية وتخلفا في ميدان الصراع من اجل السلطة كما كان ذلك جليا (وما زال يفعل بصورة واعية وغير واعية) في المواجهات الدموية واستفحال مختلف أشكال ومستويات الصراع القومي والعرقي والديني والطائفي والجهوي والفئوي. مع ما ترتب عليه من ضمور الأبعاد الضرورية لفكرة الدولة والهوية الوطنية. بمعنى غياب آو ضعف منظومة الوحدة الضرورية بين الكيان السياسي الجغرافي والوطني الاجتماعي والتاريخي الثقافي للعراق في البرامج والبدائل المعلنة للأحزاب والقوى السياسية.

بعبارة أخرى، إن سبع سنوات من الصراع الدموي العنيف أفلحت في ظل احتلال يتميز بقدر كبير من النفعية والمكر السياسي أيضا، من إفراز الحقيقة القائلة، بان اغلب دوافع الصراع كانت تتمحور وما تزال حول السلطة وليس الدولة، أي غياب أو اضمحلال فكرة الدولة. وهو العطش الكبير الذي عانى ويعاني منه العراق. وليس مصادفة أن يحصل المالكي في الانتخابات المحلية الأخيرة على فوز ساحق. فقد كان شعاره السياسي يحتوي على فكرة الدولة بشكل عام والشرعية بشكل خاص (دولة القانون)، أي كل ما حصل على تمثيل نموذجي للفكرة والشعار والاسم الذاتي للتيار. والشيء نفسه يمكن قوله عن فوزه الساحق (الشخصي) في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (رغم التزييف والتلاعب الذي جرى في النتائج). بمعنى استجابته وتمثله للمزاج الاجتماعي والوعي السياسي. والاهم من ذلك إدراكه الواعي لطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها العراق والمهمات السياسية الكبرى التي يواجهها.

وقد يكون من السابق لأوانه الحديث عن إدراك منظومي عميق ومتكامل في الوعي السياسي العراقي الحالي لأهمية وقيمة مركزية الدولة والهوية الوطنية بالنسبة للأمن والاستقرار والتطور الديناميكي، إلا أنها أصبحت جلية على الأقل في مستوى الحدس الوطني والاجتماعي الذي وجد تعبيره الأكبر والأمثل لحد الآن في تيار (دولة القانون). وهو حدس تراكم في مجرى الصراع الدموي وغير العقلاني لسنوات ما بعد الاحتلال. ومن خلاله بدأت تتضح ملامح الخلل الكبير في بنية الدولة العراقية الحديثة.

لقد كشفت التجربة السياسية للعراق على امتداد خمسة عقود متتالية من هيمنة الفكر والممارسة السياسية الراديكالية عن طبيعة الخلل بين فكرة الدولة والسلطة والأمة. فقد حولت الفكرة والممارسة الراديكالية الوطن والدولة والمجتمع والإنسان إلى أشياء تابعة للسلطة. من هنا صعود الأطراف والأقلية والهامشية كما كان ذلك جليا في الصدامية، باعتبارها النموذج "التام" لهذا النمط الراديكالي السلطوي. وليس مصادفة أن تبرز فكرة السلطة وجوهريتها بحدة مبالغ فيها بحيث تصل حد المرض العضال بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية عند الأطراف والهامشية.

إننا نقف أمام محاولة استعادة نفس التجربة الفارغة، أي أمام نفس القوى الهامشية والاطرافية التي عاشت وتعيش بمعايير أولوية السلطة على الدولة، والعائلة على الجماعة، والقبيلة على المجتمع، والعصابة على المؤسسة.

من هنا أهمية وجوهرية مركزية الدولة المرفوعة إلى مستوى دولة القانون (الدولة الشرعية) والهوية الوطنية في ظروف العراق الحالية. فهو الشرط الضروري من اجل إعادة بناء التاريخ الذاتي وليس اجترار الزمن الفارغ. كما انه الأسلوب الوحيد القادر على تذليل تعارض الدولة والسلطة من خلال وضعهما ضمن سياق فكرة سليمة ومتكاملة عن منظومة الجغرافيا السياسية والإجماع الوطني والثقافة التاريخية للعراق بوصفه كلا واحدا.

فالتاريخ لا يعرف قانونا صارما ولكنه قادر على البرهنة الدائمة على أن الخروج على الحكمة السياسية يؤدي بالضرورة إلى الجحيم. وليس هناك من جحيم بالمعنى التاريخي والسياسي والأخلاقي أقسى من جحيم الانحطاط والتفكك الوطني مع ما يترتب عليه من حتمية صعود مختلف أشكال الصراع والحروب غير العقلانية. وهي نتيجة تؤدي إليها بالضرورة كل الأشكال والمستويات المتنوعة والمختلفة للبنية التقليدية مثل الطائفية السياسية والقومية العرقية والجهوية والفئوية وما شابه ذلك. وذلك لعجزها الذاتي عن صنع الثبات والديمومة على أسس عقلانية عاملة بمعايير المستقبل.

إن العمل بمعايير المستقبل في المرحلة التاريخية التي يمر بها العراق تفترض صياغة مشروع جديد يذلل خلل ما بعد الصدامية في بنية الدولة والنظام السياسي. والصيغة العامة له تفترض القضاء على "ديمقراطية" المحاصصة "التوافقية" و"الشراكة الوطنية" المزيفة، وذلك لأنهما كلاهما مجرد أوجه محسنة لغريزة السلطة المشبعة بقيم الطائفية والعرقية السياسية. من هنا أهمية وقيمة المشروع الحقيقي للبديل المبني على أسس مركزية الدولة وفلسفة الهوية الوطنية العراقية، الذي رفعه تيار (دولة القانون). كما انه السرّ الكامن وراء المعارضة الخفية والعلنية، المؤامرات الصغيرة والكبيرة التي حيكت وتحاك في مجرى ثلاث سنوات من تسلم المالكي للسلطة السياسية، أي في أحلك الظروف وأشدها تعقيدا ودرامية. كما يمكن رؤيتها في الصراع الخنيث الخبيث الدائر حاليا بعد الانتخابات و"إجماع" الأغلبية المزيفة للمرة الأولى على شعار واحد ألا وهو "إسقاط المالكي". بعبارة أخرى إن الإجماع الممكن فيها وعندها وبينها على فكرة الإسقاط فقط. وهذا بدوره ليس إلا الوجه الظاهري لباطن السقوط الفعلي في الرؤية والمنهج والغاية والوسيلة.

لكن هذه الحالة الدرامية العامة أنتجت بدورها اليقين القائل، بان المخرج الفعلي للعراق من أزمته البنيوية المزمنة يقوم في إرساء أسس الدولة الشرعية، أي دولة القانون، عبر التوحيد الواقعي والديناميكي لمركزية الدولة العراقية والبديل الوطني العراقي. وهو مشروع لا علاقة للمالكي به، كما أنهما لا يتطابقان. انه مجرد مشروع المستقبل الضروري.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1479 الجمعة 06/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم