قضايا وآراء

السياحة في العراق حتى 2003 / نبيل قرياقوس

 بمهنة السياحة ظهر في العهد الملكي حيث عين (احمد شوقي الحسيني) اول عراقي يدير دائرة سياحة عراقية وتبعه لغاية 2003 قرابة اربعة عشر مسؤولا .

 

العامل المشترك بين كل اولئك المسؤولين الذين ولوا على السياحة كان عدم حمل اي منهم لتخصص اكاديمي في علوم السياحة ومبادئها، وجميعهم عينوا بتكليف لكونهم مقربين من السلطة الحاكمة، فمنهم من كان قانونيا او عسكريا او مهندسا . كانت الفترة من 1958 لغاية 1978 حافلة بالمتغيرات السياسية المتلاحقة في العراق وذلك ادى الى عدم نمو نشاط الدولة في المجال السياحي الذي اقتصر معظمه على تقديم الخدمة البسيطة للعراقيين الذين يصطافون في مدن شمال العراق من دور سكن ومطاعم صغيرة شيدت هناك، اضافة الى خدمة المأكولات والمشروبات في القطارات السائرة بين بغداد وكل من البصرة والموصل .

كانت امكانات الدولة المادية في تلك الفترة في وضع لا يشجع على الاستثمار في السياحة مع ظروف انكماش العراق على نفسه بسبب ازمات السياسة الداخلية والمشاكل المستمرة مع معظم دول المنطقة، ورغم كل ذلك فاننا نعتبر تلك الفترة، من ناحية الاهداف، هي فترة السياحة الحقيقية الوحيدة التي ظهرت في تاريخ العراق حتى العام 2003 لانها كانت سياحة تهدف بالدرجة الاساس الى خدمة جميع العراقيين الفارين من (حر) وسط وجنوب العراق الى شماله صيفا، بينما كانت البصرة هي الوحيدة تنعم بخدمة فندق مطار البصرة بكوادر خدمية تتلمذت عمليا على ايدي الاجانب .

بدأ تخرج السياحيين من معهد بغداد للسياحة والجامعة المستنصرية مطلع السبعينيات لم يسعف السياحة العراقية بعناصر مهنية لها قدرة استيعاب واقعنا السياحي والانطلاق به نحو افق التطور على نحو جدي، فافضلهم أوافضل من تولى مسؤولية السياحة في العراق هو من اكمل سني عمله باقل صدامات مع بقية الكوادر الوظيفية بسبب مهنة جديدة وسط عراقيين لهم ازدواج شخصية في حياتهم الاجتماعية عموما (كبقية الشعوب الشرقية) فكيف في مهنة اكثر ما تحويه هو المتعة والطعام والجنس بحكم وجود اماكن المنام ؟

هكذا بقيت اّبار السياحة العراقية مدفونة تحت الارض بخزائنها الطبيعية والاثرية والدينية لاسباب أهمها :

 أ . عدم تولي شخص مهني،غير مسيس، ادارة دفة السياحة في العراق .

ب .معظم الطلبة المقبولين في معهد السياحة والجامعة المستنصرية هم من الذين لم يستطيعوا الحصول على معدل جيد في الاعدادية لضعف قدراتهم الدراسية وربما الذهنية، اضافة لكونهم لم يختاروا هذا النوع من التخصص بناء على رغبة مهنية.

 ج . العناصر المعدودة على الاصابع من التي اظهرت تميزا في ادائها السياحي من خريجي المعهد والجامعة اعلاه، لجموا من قبل مسؤولين رفيعي المستوى في السياحة وفي الدولة، وظهر ذلك بشكل واضح وخطير اواخر السبعينيات عندما اصبح الهدف الاساسي والمعلن لدائرة السياحة في العراق هو انشاء الاماكن السياحية التي تأوي وتقدم الخدمة للوفود الرسمية والسياسية ومسؤولي الدولة وعوائلهم حسب، وليكون العراقيون مستفيدين عرضيين من تلك الاماكن السياحية، فلم يكن هدف استقطاب السواح العراقيين والاجانب وخلق المردود الاقتصادي من ذلك يشغل جانبا مهما في تخطيط القائمين على السياحة العراقية  حينها، وهكذا جاء بناء كل من (جزيرة الاعراس) في بغداد و(مجمع الحبانية) في الانبار من قبل شركات اجنبية، اضافة الى بعض المصايف والفنادق الصغيرة في شمال العراق تلبية لحاجة افراد الحكم السياسي بالدرجة الاولى، بينما وضعت الدولة عام 1978 على محك عدم امتلاك امكانية ايواء الرؤوساء العرب ومرافقيهم المشاركين في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بغداد، قامت الحكومة على اثره  باستملاك فندق بغداد من مالكيه اجباريا مقابل مبلغ غير مرض حدد من قبلها فقط، وتم ربط ادارة الفندق جوهريا بدائرة المخابرات العراقية، كما قامت دائرة السياحة باستئجار بيوت الاهالي في منطقة المنصور - شارع الاميرات واعادة تأثيثها استعدادا لمؤتمر القمة العربية، في وقت كان فندق المنصور في جانب الكرخ قيد الانشاء، كما ان اّمال انعقاد قمة دول عدم الانحياز في مطلع الثمانينيات ببغداد جعل الدولة تتجه لأقامة ( 5 ) فنادق رئيسية كبيرة في بغداد وفندقين في كل من البصرة والموصل عن طريق شركات اجنبية، بينما ظلت كل مدن العراق الاخرى وخاصة تلك التي تحوي  اماكن أثرية او دينية مهمة ومشهورة، بفنادقها القديمة والمحدودة العدد والسعة .

اكتمل بناء الفنادق الحديثة منتصف الثمانينيات وهي منتصف فترة الحرب مع ايران، وزجت الدولة عناصرها الأمنية والمخابراتية بشكل واسع في اماكن العمل السياحي عموما كما عمدت الى نقل او تعيين عناصرها الحزبية في دائرة السياحة لمساندة عمل العناصر الأمنية .

الذي حصل حينها وعند افتتاح فندق الرشيد وقصر المؤتمرات، ان مقربين من رأس الحكومة حينها نقلوا صورة سوء الادارة والخدمة في ذلك الفندق المتطور والحديث، وذاك ما حدا الى احالة ادارة جميع الفنادق المبنية حديثا الى شركات سياحية اجنبية معروفة، كما قامت السياحة بأيفاد موظفيها من خريجي معهد السياحة والجامعة بدورات تدريبية سياحية في عدة دول اوروبية، وكان لتلك الخطوتين اثرهما في نقلة نوعية كبيرة جدا في تاريخ السياحة العراقية حيث برزت عناصر سياحية عراقية ذات مستو لا بأس به في مجال العمل السياحي بعد ان تفهمت بعض الاصول السياحية في خارج العراق، الا ان تلك العناصر لم ترتق الى درجة القدرة على ادارة دفة حركة السياحة في العراق طموحا او تخطيطا .

كان تأثير كوادر الشركات الاجنبية التي ادارت عمل الفنادق الرئيسية في العراق كبيرا على الكوادر السياحية الدنيا والوسطى من العراقيين العاملين معهم، لكن الادارة والتخطيط في مقر دائرة السياحة بقيتا بعيدتين عن كل تقدم بل كانتا عنصري اعاقة لعمل الشركات الاجنبية العاملة في مواقع الفنادق .

د . عدم تقبل العراقيين لأمر (خدمة الزبون) نتيجة اوضاع شخصيتهم الاجتماعية التي تطرقنا اليها في مطلع مقالنا المنشور سابقا، فالخادم العراقي في مجال السياحة يتقبل العمل على مضض وليتصرف وكأنه صاحب الفضل على الزبون، بينما يتنافى ذلك مع ابسط المبادئ السياحية التي تفترض في الزبون كل الفضل الى درجة يقال فيها : الزبون على حق دائما وان كان على خطأ.

في هذا المجال، اضطر حينها كثير من العراقيين للتأقلم مع نمط سلوك الاجانب العاملين معهم في الخدمة السياحية، لانهم كانوا مهددين باعادة إلحاقهم بجبهات الحرب مع ايران في حالة عدم رضا المسؤول السياحي الاجنبي عنهم، ثم ما لبث ان عاد معظمهم الى السلوك القديم بعد انتهاء الحرب مع ايران العام 1988، وخروج الشركات السياحية الاجنبية مطلع التسعينيات من العراق .

هـ . عدم وجود قدرة رأسمالية للقطاع الخاص للنهوض بحركة سياحية متميزة في العراق اضافة الى انتفاء الخبرة، عدا ما بني من فنادق ومطاعم مقبولة المستوى في العاصمة وبعض المدن العراقية في السبعينيات والثمانينيات ، كما ان البعض من القادرين على انشاء مرافق سياحة خاصة (على نمط فندق بغداد) لم يقتحم هذا المجال تخلصا من مشاكل الجهات الامنية للدولة التي كانت تتغلغل في كل نمط سياحة ليكون لها رافد اساسي للمعلوماتية، وكذا تخلص من الجهات الضريبية والسياحية في الدولة والمعروفتين حينها بتخبط قراراتهما وبالاتجاه الذي يضر السياحة وطموحها .

في العام 1989 اتخذت الدولة العراقية قرارا بـ (وأد) السياحة في العراق، فبدلا من توسيع دائرة السياحة وتطويرها الى وزارة فعالة بعد توقف الحرب مع ايران، بيعت الفنادق الكبرى (عدا فندق الرشيد  الذي ربط بأمانة العاصمة ! ) وتم تحويلها الى شركات مختلطة بقانون خاص ثبتت فيه فقرة تؤكد عدم تدخل الدولة في شؤون اداراتها، وقامت السياحة اثرها بتسريح المئات من موظفيها ونقل البعض الاخر منهم الى دوائر وزارات اخرى، وتم تقليص هيئة السياحة الى (مديرية) حيث ابقي فيها القليل من الكوادر الوسطى التي كانت تضم عدداً محدود جدا من العناصر الجيدة وبوضع لا حول لها ولا قوة، بينما كانت الاغلبية الباقية مزكاة باستسلامها باندفاع لكل قرارات واجراءات رأس الدولة ومن يمثله على رأس دائرة السياحة، وكأنها فرمان الهي، اضافة الى عناصر اخرى معروفة بابداعها في اتقان فنون (الروتين)، اما الموظفون الذين تم تسريحهم، فمنهم من امتهن مهنة اخرى ومنهم من التحق بالعمل مع الشركات المختلطة في الفنادق الكبرى حينها .

بعد حرب الخليج العام 1991 انفصلت سياحة كردستان عن ادارة الدولة المركزية (سنأتي بتفاصيلها في مقال لاحق)، فيما انتكس عمل الشركات السياحية المختلطة في بغداد والبصرة والموصل وهجر معظم الكوادر الذي سرحوا من السياحة عملهم في تلك الشركات ايضا بعد تدني اجورهم وسوء تعامل ادارات تلك الشركات معهم في ظل ظروف الحصار التي خنقت معظم شروط  ومتطلبات السياحة، اضافة الى اسباب اخرى منها :

1- عدم وجود خطوط واضحة تفصل بين صلاحيات ومسؤوليات كل من المساهمين كطرف وادارة السياحة كطرف اخر، ففي حين اعلنت الدولة في قانونها انها لن تتدخل في ادارات تلك الشركات فانها سارعت بعد مرور اقل من عامين الى تعيين موظف عضوا في مجلس ادارة كل شركة مختلطة بل واحيانا ينسب ذلك الموظف رئيسا لمجلس ادارة تلك الشركة !! وحال كذا اقرب تشبيهه بمن يدل على اذنه اليسرى  بيده اليمنى الملفوفة خلف رأسه !

2- ضعف اداء دائرة السياحة في موقعها كطرف مساهم رئيسي مفترض به ان يكون صاحب قدرة وخبرة، في وقت كانت السياحة قد فرغت من معظم كوادرها النشطة نسبيا، وبذا صارت السياحة عبئا ثقيلا على الشركات المختلطة .

3- الرؤوس الكبيرة في مجالس ادارة الشركات المختلطة من المساهمين معظمهم اناس غير سياحيين، واغلبهم (تجار شورجة) اتصل بالكثير منهم شخصيا (عبد التواب الملا حويش) مهندس التصنيع العسكري الذي تولى تصفية مديرية السياحة العام 1989 عارضا عليهم الاشتراك بصفقة تجارية الا وهي شركات السياحة المختلطة .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1479 الجمعة 06/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم