قضايا وآراء

بصقة في وجه الحياة: فؤاد التكرلي ... اختصاصي المحارم / حسين سرمك حسن

على أن الريادة الفنية في مسيرة الرواية العراقية الناضجة قد رفع لواءها الروائي العراقي الراحل «غائب طعمة فرحان» عندما أصدر روايته: «النخلة والجيران» و«خمسة أصوات» ببغداد عامي 1965 و1967 على التوالي.. فقد وفرّ «غائب» الشروط الفنية لرواية عراقية مقتدرة تجاوزت السرد الحكائي الكلاسيكي الأولي الذي كان يقترب من السذاجة أحياناً، والذي تجسد في النماذج التي كتبها «جلال أحمد السيّد» و«ذنون أيوب» و«عبد الحق فاضل». ورغم أنني قد دعوت في دراسة سابقة إلى ضرورة التوقف عند رواية «الرسائل المنسية» لـ «ذنون أيوب» والتي تختلف عن كل ما كتبه الأخير من روايات بفنّيتها العالية وحبكتها المحكمة ومدخلها الجديد وتقدمها في الرؤية على الواقع وتكثيفها السردي وتخلصها من الاستطالات، إلاّ أنني أجد الآن – وبصورة لا تقبل اللبس – أنّ الريادة الفنية ينبغي أن تمنح للمبدع «فؤاد التكرلي» عن روايته هذه «بصقة في وجه الحياة» والتي بدأ بكتابتها في حزيران عام 1948 وانتهى منها في آب سنة 1949، أي قبل ما يقارب العقدين من صدور رواية «غائب» «النخلة والجيران». فرواية «التكرلي» رواية متكاملة فنياً تقريباً رغم أن «التكرلي» نفسه يعتبر نصّه هذا فجّاً فنياً وسوقياً وذا لغة ركيكة (ولا يوجد سند لأي من أحكام الكاتب هذه، وهو أمر لابدّ أن يتوقف عنده الناقد المحلل). نحن نقف الآن، أمام رواية نفسية مركبة غير مسبوقة في السرد العراقي حتى ذلك الحين، رواية يسيطر عليها تيار من صراعات اللاّشعور وتستكشف فيها أغوار المكبوت في أعماق الشخصية المركزيّة، التي يوظف الكاتب، من أجل تصعيد توتر الوقائع الدرامي، تقنيات فنّية متفردة آنذاك مثل المونولوج الداخلي والأحلام والاستعادات السريعة والمديدة وتداخل الأزمان وإهمال المكان (كان بلزاك يصف كل المقاهي والشوارع والمحلات التي يمر بها بطله حين يسير لشراء فرشاة أسنان مثلاً) وإثراء السرد الفكري وثانوية الحوار الذي كان يعتبر سرداً ووصفاً خارجياً بدلاً من أن يكون أداة في تنمية واستثارة صراع الإرادات وإضاءة العوالم الداخلية المعقدة بمركباتها المحتدمة، لكن الأهم من ذلك كلّه هو أنها تصدت وبجسارة لمعالجة واحدة من أخطر التابوات في مجتمعاتنا وهي عقدة السفاح بالمحارم. ومن يعالج تاريخ القصّة العراقية سيجد هذه المعالجات المبكرة، خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، للدوافع المحارميّة، ويتجلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، في قصص «يوسف متّى» قبل أن يعتزل النشاط الأدبي ويتفرغ للنشاط السياسي – بصورة عامة، وهذا الانهمام الواسع، نوعاً وكماً، من قبل «فؤاد التكرلي» في التناول المكثف ومتعدد المقتربات لموضوعة العلاقات الجنسية المحرّمة بصورة خاصّة. ويمكننا القول إن «التكرلي» هو أكثر الكتّاب العراقيين والعرب اقتداراً وجرأة في طرح هذه المسألة الشائكة التي تعدّ من المحرمات الدينية والاجتماعية. في قصصه القصيرة هو أكثر مَنْ عالج هذا الأمر كما هـو الحال في قصص مثل: (همس مبهم، الدملة، المجرى، التنور، أمسية خريف، القنديل المنطفئ، الغراب...وغيرها). أمّا في مجال الرواية ففوق أنه صاحب الكم الأكبر في الإنتاج الروائي العراقي في هذا المجال: (الرجع البعيد، خاتم الرمل، المسرّات والأوجاع)، فإنه صاحب السبق في مجال الريادة على المستوى العربي، كما أشار إلى ذلك الناقد الراحل «د. عبد الإله أحمد» في كتابه «الأدب القصصي في العراق» وذلك في معرض حديثه عن رواية «التكرلي» هذه «بصقة في وجه الحياة»، حيث قال : (إننا لا نعتقد أن عملا قصصيا يتناول هذه العلاقات الجنسية الشاذة على النحو الذي تناولتها قصة (بصقة في وجه الحياة)  يمكن أن يتقبله واقع المجتمع العراقي، إن لم نقل واقع المجتمع العربي الحديث عامة، في الفترة التي كتب فيها. فنحن لم نجد عملاً قصصياً في أدبنا العربي الحديث، بجرأته في تناول هذه العلاقات ومحاولة إيجاد المبرّرات لها، حتى تاريخ كتابته، ولعل ذلك يكفي سبباً لدراسته (...) بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من جرأتها على طرح مضمون يتناول الجنس بشكل لم يجرؤ عمل قصصي على طرحه في الأدب العربي الحديث حتى تاريخ كتابتها.. قد نجد ذلك في الشعر، في بعض قصائد «إلياس أبي شبكة» التي نشرها في ديوانه: «أفاعي الفردوس». لكن من الهام الإشارة إلى أن ريادة «التكرلي» العربية في طرح موضوعة المحارم لم تكن تاريخية وفنيّة حسب بل فكرية أيضاً حيث حاول تسريب قناعاته الفلسفية المسمومة التي تبغي تجاوز جسارة، بل شراسة كشف أغطية المكبوت المحرّم إلى وضع تأصيل نظري صادم ينسف القناعات القائمة ويؤسس لمقدّس جديد يبزغ بمخادعة تخديرية من رحم المدنّس. ويمكن القول إنّ «الـتـكرلي» قد رسم مسار روايته هذه لتكون الخطوة التنظيرية والمدخل الفلسفي لمشروعه التعرضي هذا، وهي خطوة لم يكررها بعد ذلك لا في قصصه ولا في رواياته وكأنه قد نفض يديه من مسؤولية (الإقناع) وتأسيـس ركـائز الـديانة المحارمية الجديدة إذا جاز التعبير، ففي جميع نتاجاته التي أعقبت هذا النصّ، وهذا ما لاحظه الناقد المبدع «عبد الإله أحمد»، نجد أن أبطاله يندفعون في تيار ممارسة العلاقات الآثمة أو الانحدار المذعن مع مجرى دوافعها حتى الخراب النهائي دون أن يناقشوا، ولو للحظة، ما تعنيه هذه العلاقات والدوافع من خرق لما هو قائم وتدنيس لما هو قابع في حياتهم وحياة المجتمع الذي يحيط بهم. إنّه أي «التكرلي» يبدو وكأنه قد أنجز – وباقتدار كما يرى هو نفسه – بلورة الصيغة الفلسفية للديانة الجديدة وحدّة الملامح الدقيقة لقوانينها العلائقية في روايته هذه؛ وعليه فإنّ النصوص اللاّحقة ستكون تشخيصاً لسلوك (مؤمنيه) الجدد ووصفاً أميناً لحياة مريديه الذين كانوا أقوياء صلبي الإرادة في تنفيذ اختياراتهم المحارمية وممارستها بلا تردّد رغم معرفتهم بالنتائج الكارثية التي تترتب على ممارسة هذه الاختيارات الجحيمية لأنهم يستمدون أسباب قوتهم من معين قوة (خالقهم) الذي عبّر عن مشاعر (الانتصار) والقوّة التي تملكته عندما أنهى نصّه المحارمي هذا وذلك في المقدّمة التي كتبها له: «أنهيت هذا النصّ في آب سنة 1949، وكنت منتصراً قبل أن أدخل المعركة، نجحت في امتحاني العسير لأنني كنت قوياً خلاله. وكنت قوياً لأنني أكملت عملاً استثنائياً من أعمال تصفية الذات». لقد أكمل «التكرلي» «طقس التطهّر و(العبور) النفسيين لـ(الانتقال) إلى فردوس الجحيم الوجودي الجديد الذي أنكر طويلاً من قبل السلاسل الطويلة من الأغبياء وقصيري النظر» كما يصفها «التكرلي» الذي يعد إنسانه البطل في النصّ القصصي ظافراً رغم أن انتصاراته وقتية وناقصة «ليس من حق الإنسان بطبيعة وجوده أن ينتصر دائماً وبشكل تام وعليه إذ يدرك ذلك أن يسعد بانتصاراته الوقتية الناقصة – المقدمة». لكن دعوة «التكرلي» لمريده المحارمي إلى أن «يسعد» بانتصاره الوقتي الناقص، فوق أن هذا النقص والوقتية هي طبيعة بشرية وجودية، نابعة من إدراكه النافذ والحكيم للقدر الكارثي المرسوم للنهاية الحتمية التي (تتوج) الظفر والمغيّب والنشوة الآسرة المتأججة الناجمة عن اقتراف إثم قطف الثمرة المحرّمة، هذا السرّ هو المضمون النفسي الباهر المتخفي والمكبوت في لعبة الثمرة المحرّمة التي يترتب عليها، كسلوك انتحاري، الطرد من الفردوس، فما الذي يستحق النبذ واللعنة في سلوك جنسي عادي بين ذكر وأنثى في الفردوس؟ خصوصاً وأنّ الآلهة هي التي قدرت حاجة «آدم» المستوحش المحاصر بالوحدة فخلقت له امرأة من ضلعه (الأعوج)، ولا يمكن فهم خلق الأنثى من ضلع «آدم» إلاّ بكونه كناية عن (أم) أو (أخت) ولا اعوجاج الضلع ومن ثمّ غضبة الآلهة وحكم الطرد إلا على أساس أنه ممارسة محارمية آثمة. وما المعنى الرمزي لعملية الطرد من الفردوس إلا تعبيراً عن (موت) وجودي يتضمن الانتصار الناقص والوقتي الذي رسمه «التكرلي» الذي هو تلطيف لقدر الخراب «الأوديبي» الذي رسمه «سوفوكليس» ببراعة في (أوديب ملكاً)، فقد قتل الأب بفعل دوافع الابن الآثمة وهو في طريقه للظفر بموضوع الحب المحرّم: الأم، هذا الظفر، الانتصار المؤقت والناقص، الذي انتهى بأن فقأ الابن (المنتصر) عينيه بأسياخ الحديد المحميّة وشنقت الأم (المأثومة) نفسها. أي أن الدمار الكامل كان هو المآل الأخير لأطراف المثلث «الأوديبي» الثلاثة: الأب والأم والابن. لكن «سوفوكليس» قدّم لنا هذا المصير كقدر أعمى مرســوم لا يرد ولا تطوّعه إرادة وذلك من خلال نبوءة عرّاف «دلفي» للملك «لايوس» بأن الابن الذي سيولد له سيقوم بقتله والزواج من أمّه (زوجة الملك) والحصول على عرشه). إنّ ما سطره «سوفوكليس» في عمله العظيم هذا كان بمثابة عمل ديني رادع مكتوب بضمير جبان كان يستثقل سياط الضمير الجمعي المنافق في كلّ خطوة يخطوها على مسار عمله الريادي الباذخ والتحرّشي. لقد جاء «أدويب ملكاً» وكأنه درس رادع، بعد التجريب طبعاً، لمن تسوّل له نفسه شق عصا الطاعة على ما هو مؤسس كمحرّم ومقدّس. وهنا تتجلى، وبوضوح، أهمية وفرادة الروح التحرّشية «للتكرلي» وتفوقه على نظرة «سوفوكليس»، لقد كان «سوفوكليس» في الواقع مهادناً في حين كان «التكرلي» تعرضياً ومارقاً ومجدًّفا عن سبق إصرار. مأساة «أوديب ملكاً» تحاول أن ترينا النتائج العقابية المميتة لمن تسوّل له نفسه، حتى لو كان ذلك بفضل قدر ماحق وباطش الإرادة، خرق قداسة المؤسس الديني الذي هو «مقلوب» المضمون المحارمي الكامن الذي ترتبت عليه عملية الطرد ورسم الشقاء على الإنسان الآثم كعقاب دائم. وكل وقائع مسرحيّة «أوديب ملكاً» هي سلسلة تمهيدية للوصول إلى هذه النتيجة الرادعة. وتحت هذا الغطاء – وهذا جزء من مكر اللاّشعور – أتاح لنا «سوفوكليس» أن «نجرّب» قتل الأب والفوز بموضوع الحب الأثير، وهي فرصة للتفريغ الذي تحـدث عنه «أرسطو» والذي يوفره الفن للإنسـان كـي يفرّج عن دوافعه وصراعاته المكبوتة، وهذا ما لاحظه «فرويد» حين أشار إلى أنّ المتفرجين الذين يشاهدون هذه المسرحية يكونون مسرورين ومتخففين من أي مشاعر بالذنب عكس ما هو متوقع، وحالهم في هذا حال مشاهدي مسرحية «هملت» «لشكسبير» وقرّاء «الأخوة كارمازوف» «لدستويفسكي»، والأعمال الثلاثة تتحدث عن جريمة قتل الأب. لكن عبقرية «التكرلي» تأبى التبعية والتقليد بفعل محدداتها الثقافية ومكبوتاتها الشخصية وفعلهما الفذّ فأمسكت بجمرة البدايات ومزّقت، وبعنف الأستار عن الدوافع بعيداً عن النتائج المهادنة بطبيعتها الاستباقية المحكومة بمقررات الضمير الانخذالي الذي يجعل الوصول إلى (الهدف) و(النتيجة) تحصيل حاصل رغم مشقات الوصول ومكابدته المدمّرة. إنّ إنجاز «التكرلي» العربي والعالمي حسب إطلاعنا المتواضع ومقيماً وفق المعايير الاجتماعية الرادعة التي كانت قائمة آنذاك هو أنه كان يفلسف ويحرّض في حين أن نصّ «سوفوكليس» كان يردع ويهدّد رغم جسـارته النـسبية لأنّ المجتـمعات الإغريقية كانت تعرف الممارسات المحارمية بصورة أو بأخرى (طبعاً هذا لا يعني أنّ مجتمعاتنا نظيفة وخالية من هذه الممارسات، ففي المؤتمر النفسي الذي عقد ببغداد في العام 2002 قدّم أحد اختصاصي الطبّ النفسي بحثاً عن المحارم تضمن (16) حالة من المحكوم عليها في سجن «أبي غريب» آنذاك، وفي القاهرة اشتغلت إحدى الباحثات على أطروحة الماجستير حول المحارم عام 1994 ولا نعرف نتائجها). لقد غاص «التكرلي» في أعماق لا شعورنا وتوغل في مجاهل ظلماته للإمساك بالجذور الغائرة في حـين اكتـفى «سوفوكليس» بالإمساك ببعض الأوراق السوداء التي نبتت على شجرة السلوك الإنساني الملغز، ولا ينفع في حجب حقيقة وجود جذور، وجذور متينة لشجرة سوداء كلها ومستقلة بالنسبة لموقف «التكرلي»، ما نظهره من آليات نفسية دفاعية، ومن مقاومة، وإنكار، وعقلنة، والأخيرة تصل الذروة المعرفية المحكمة والمخدرة في محاولات تفسير مقتل «هابيل» على يد أخيه «قابيل» بصراع الحضارة والبداوة وانتقالات التطور الاقتصادي والاجتماعي التأريخي في حين أن أصل الجريمة كان محارمياً ويرتبط بإصرار «قابيل» على الزواج من شقيقته (توأمه) (إقليما) التي كانت أكثر جمالاً وفتنة من (توأم) «هابيل» مخالفاً التعليمات السماوية، وهذه الجذور الأفعوانية الدفينة التي أمسك بها، وبحزم «فؤاد التكرلي»، وطرق على موضوعها كمشروع عمر، تلوب دائماً في دواخلنا متحينة الفرص كي تنفلت. ولو لم تكن غريزة لائبة وضاغطة ومخيفة وقابلة للتحقيق لما جاهدت السلطات الدينية في التخويف والتحذير ولما سنّت السلطات المدنية أقسى العقوبات الرادعة التي تتوعد بها من تسوّل له نفسه الآثمة التنفيس عنها واقترافها، وقد عبّر عن ذلك «جيمس فريزر» صاحب «الغصن الذهبي» بتعبير بليغ قال فيه: «إننا لا نرى جيداً ما الذي يحيج غريزة متأصلة إلى أن تُعزز بقانون. إذ ليس هناك من قانون يأمر الإنسان بالطعام والشراب أو ينهاه عن وضع يديه في النار. والناس يأكلون ويشربون ويبعدون أيديهم عن النار بصورة غريزية خوفاً من العقوبات الطبيعية. وهذا الذي تحرمه الطبيعة وتعاقب عليه ليس بحاجة إلى أن يعاقب بقانون. ولهذا فنحن نستطيع أن نقبل بلا تردد أن الجرائم الممنوعة بقانون هي حقاً جرائم يرتكبها بسهولة كثير من الناس بحكم الميل الطبيعي، ولولا وجود الميول السيئة لما وجدت الجرائم، ولولا وجود الجرائم لما كانت هناك جدوى في منعها. وهكذا فإننا بدلاً من أن نخلص من التحريم الشرعي لإتيان المحارم إلى وجود كراهية طبيعية يجب علينا بالعكس، أن نخلص إلى الاعتراف بوجود غريـزة طبيعـية تدفع إلى إتيان المحارم. ولئن كان القانون يحرم هذه الغريزة ككثير من الغرائز الطبيعية الأخرى، فذلك لأن الناس المتمدنين شعروا بأن إرواء هذه الغرائز الطبيعية أمر مؤذ من وجهة النظر الاجتماعية». لكننا لا نستطيع القول إن «التكرلي» في روايته «بصقة في وجه الحياة» كان يريد إظهار «طبيعة» هذه الغريزة المحرّمة فقط. هناك غاية مضافة خطيرة يحاول الوصول إليها من خلال السلوك الشاذ للأب الذي يصف نفسه بـ(المسكين) في استهلال الرواية وهو أرق يسطر أفكاره فجراً: «تن.. تن.. تن. ثلاث دقات رهيبة تعلن اقتراب الصباح، وأنا ذلك الأب المسكين لا أزال جالساً في غرفتي منكمشاً على نفسي. أحاول جهدي أن أتبيّن هذه الكلمات على ضوء المصباح الضئيل البعيد». إنّه يراجع حساب مسيرته الماضية والحاضرة فيجد رابطاً مشتركاً يربطهما وهو: الصمت، ففي الماضي – كما يتذكر – يوم كان معاون شرطة قبل التقاعد، كان يدخل عليه المفوض وعلى فمه ابتسامة كريهة، ويمد يده خلسة «كأنه يستحي ويضع النقود في زاوية معهودة من مكتبي، ثم يروح يشرح القضية التي أتى من أجلها ويقترح الحل كما يريده أصحاب النقود، ثم يسكت وينتظر جواباً مني، كما انتظر هؤلاء الجواب، لكنني كنت اسكت وأطرق برأسي فيخرج بهدوء دون أن أعلم ماذا فهم مني وماذا هو فاعله.. ص16». أمّا في الحاضر فإنه يعتصم بالصمت والسكينة وهو يراقب انحلال عائلته وانفلات بناته الثلاث: «صبيحة وساجدة وفاطمة»: «والآن، إني أرى الأمر كذلك، فتاة – بل فتيات – تُرك الحبل لهن على الغارب؛ فلا أب يسأل، ولماذا يسأل؟... حقاً لماذا؟ ولا أم تسوسهن، فصرن يعبن من لذات الحياة عباً ولا يشبعن من ترفها قط.. ص16». فمع اقتراب دقات الساعة الثلاث التي يصفها بأنها دقات رهيبة – وهذه السمة مسقطة من دقات ساعة الصراع الداخلي، صراع الوجدان الآثم الذي يضخم في الخارج كصدى منذر – عادت «فاطمة» إلى البيت.. أرسلت ضحكة مكتومة قصيرة قبل أن تفتح الباب وتودع الزبون الغني.. ص15». وسواءً كان موقفه هذا سكوت المتواطئ أم صمت العاجز – وهو ما سنبيّنه لاحقاً – فإنه سلوك يوصل إلى النتائج اللاّ أخلاقية نفسها: «إني أعلم أنهن يعملن مـا يشين، ولكن ألم تكن أفعال المفوض المستوحاة من سكوتي، ألم تكن مشينة تلوث الاسم؟ بلى إنها كذلك.. ص17». وقد مضى عليه وهو في حالة السكوت المتواطئ خمس سنوات يبررّها بضعف موارده المالية التي لا تكفي لتموين نصف منـزلهم الفاخر ذي الرياش والأثاث الثمين. وهذا التبرير يطوح به من مرتبة الأبوة الحامية المقوّمة إلى وحل دور الشريك الذي يغطي الانحراف والتحلل الأخلاقي لمن هنّ تحت رعايته . لكن هل العجز المالي هو المبرّر الأوحد لتواطؤه هذا أم أنّه غطاء (شعوري) يتم تمرير الدوافع اللاّشعورية تحته؟ إنه يرزح تحت مطارق الرغبة الآثمة في ابنته «فاطمة».. هذه الرغبة التي ينقلها إلينا على شكل جرعات كبيرة تتفق مع حجم تصميم الكاتب المسبق حيث يعلن أنه معجب بها لا كما يعجب أب بابنته، بل بفتاة صغيرة جميلة تتفجر شباباً ورغبة في الحياة.. إنه يراها فتاة أجنبية عنه.. وهذه من الخطوات الالتفافية التمهيدية في تأسيس العلاقة المحارمية والتي تتمثل في (تغريب) موضوع الحب، أن يفقد الموضوع الصلـة القـرابية الوثيقة التي يتأسس عليها استثارة الشعور بالذنب في حالة التقرب الغريزي الممنوع، حتى لو كان هذا التقرب بالنوايا لأن الأنا الأعلى يتساوى لديه الفعل مع النيّة مهما كانت مكتومة. ولهذا ينظر إلى فاطمة كبنت غريبة جميلة يعيش معها كإنسان كما يصف نفسه: «إن من الجميل هو أن تكون للإنسان فتاة جميلة رائعة يعيش معها..ص18». ويرتبط بهذا «التغريب» الانسحار بسمات الموضوع المغرّب الذي تضفى عليه السمات الباهرة التي تبرّر أمام العين الراصدة الاندفاع نحوه بفعل فرادة خصائصه. وهذه «فاطمة» «إذا تكلمت تلاينت الألفاظ وهي تخرج من فمها وانطبق جفناها بسكون بين آونة وآونة وتحركت يداها حركات ناعمة رشيقة تناسب موسيقى صوتها، فتسحر محدثها وتسحق شخصيته سحقاً بين أناملها الرقيقة..ص17». ويمتزج التغريب بالانسحار حين يتحدث الأب عن أحد (أقربائها) بفصم كامل لعرى أي علاقة تصله بها: «لا أزال أتذكر يوم كان أحد أقاربها – يقولون إنه قريب بعيد – جالساً معنا، أنا والأم والأخوات، كيف كان يتمتم وهو ينظر إليها تحدّثه: سبحان الله.. سبحان الله.. ص17 – 18». ولعلّ عدم انهمامه بسلوك بناته المتحلل – سلوك «فاطمة» خصوصاً – لا يوفر (ابتعاداً) نفسياً عن مصدر قلق وتوتر شديدين ويضعه على تلة المتفرج والمراقب حسب، بل ينقله – بصبر محسوب خلاف التململ الظاهر – بخطوات تهادنية إلى (التكافؤ) العلائقي كـ(إنسان) مع فتاة جميلة. وكانت واحدة من أهم هذه الخطوات هو أن ردود أفعاله لم تكن استجابات أبوية خالصة، لقد لجم رد الفعل الأبوي وصارت انفعالاته مشوبة بـ(غيره) ماحقة. حصل ذلك عندما شاهد «فاطمة» «تلك الابنة الحنون في سيارة بيضاء طويلة لامعة كالمرآة.. يجلس في محل السائق منها شاب أنيق.. وبالقرب منه.. بالقرب جداً.. الابنة العزيزة.. الملاك السماوي.. كانت مرتدية ثوبها الأسود، ملتصقة به وعلى فمها ابتسامة رائعة، أجل هذا هو الوصف الملائم.. رائعة. وفي الخلف تتكوم مخلوقة كالخنفساء.. لم تكن غير «ساجدة».. ص49 -50» لقد أشعل هذا المشهد انفعالاً مدوّياً في داخله جعل عروقه كلها ترتجف وصدر صوت عن احتكاك أسنانه جعله يرتكب الحماقة التي كادت تودي بحياته. لقد قفز – دون إرادته كما يقول – نحو باب الباص المنطلق وفتحه واندفع خارجاً دون أن يخطر على باله أن تفاجئه سيارة مسرعة كادت تدهسه وهذه القفزة اللاإرادية كما يصفها لأن تفسيرها عصي على شعوره، هي حركة (إرادية) قررّها الأنا الأعلى – السلطة القضائية النفسية المعاقبة، بفعل تراكم مشاعر الإثم. هذه المشاعر الممتزجة بالقلق تقف وراء جوانب من معاناته التي قد تبدو غير مفهومة وفي مقدمتها الأرق المعاند الذي يواجهه في أغلب لياليه. إنّ أرق المحارم هو أشد أنواع الأرق مقاومة للعلاج أو التخفيف بالطرق المعروفة، وحين ينام فإنّ نومه يزدحم بالكوابيس، ومن نتائج هذا الشعور المركب بالإثم هو الشعور بالدونية وتقريع الذات. ويتجلى ذلك الشعور بالنقص واحتقار الذات في دخوله المبغى العام حيث اجتاحه الخوف والقلق، فجفّ فمه وتصبب العرق من جسده.. «لعلي كنت أخاف أن يضحكن علي.. يضحكن علي.. ولمَ لم أقـل لأني فزع، جـبان، ركيك، متهافت، شيخ، كلب، حشرة؟ لمَ لم أقل ذلك؟ أيتها القاذورات، أيتها السماوات، اضحكن عليّ، اضحكن عليّ فإنني أنا السخرية الحق.. ص57-58». ومن ذلك أيضاً أنه، وبفعل الشعور بالإثم والمؤسس على الرغبة المحارميّة قد فقد رغبته  الجنسيّة في زوجته بعد أن صارت محاولاته لمواقعتها تبوء بالفشل: «حاولت.. إلاّ أنني فشلت، لم يشعر بفشلي أحد، فكثيراً ما رقدت بجوار زوجتي ساعات دون أن يخطر لها أنني أحاول عملاً فلا أستطيعه. كانت كأنها جثة مشوهة تشمئز منها النفس، فهربت منها وأسرعت فانزويت في ركن من أركان غرفتي لاهثاً.. متعباً، وكنت أحسّ في دخيلة نفسي أن محاولتي المقبلة ستكون كهذه السابقة.. ص27» وهو يحاول تبرير عجزه ومحاولاته الجنسية الفاشلة بقبح زوجته وبرودتها في الاستجابة هو الذي عاشرها أكثر من عشرين عاماً وأنجب منها البنات الثلاث: «كانت كأنها قطعة من جيفة نتنة لا يمكن للمرء أن يقترب مها، فكيف به إذا أراد أن يجد فوق راحته قربها لذة إلهية عميقة؟ ص27» وحين تلاحظ الوصف الأخير: لذة إلهية عميقة، الذي أطلقه على العملية الجنسية التي تبقى فعلاً حيوانياً مهما تلاعبنا في تصويرها شعرياً فسنمسك بواحدة من أكثر ألعاب اللاّشعور مكراً وهو يحاول تصريف ضغوط الدفعات المحارمية الآثمة. كيف يكون الفعل الجنسي الحيواني ذا طبيعة إلهية؟ كيف يمكن أن يصبح المدنّس مقدّساً؟ إننا نقف هنا أمام مداورة لاشعورية شديدة الدهاء، فهذا الفعل الخلودي ذو الطبيعة الحيوانية قد استجلب لعنة الآلهة وما أعقبها من طرد من الفردوس. ولا يمكن تصور طبيعة إلهية لهذا الفعل إلاّ إذا كان ملجوماً ومكفوفاً، أي إذا كان من طبيعة محارمية، حيث يتأسس الإحساس بالقداسة من قساوة سياط المكبوت المدنس، ويكون موضوع الحبّ الذي خلق من ضلع الرجل الأعوج متاحاً في الفردوس تحت رعاية إلهية وكأنه موضوع تابو إلهي، أي أنه بالنتيجة ذو طبيعة إلهية. وهذه الطبيعة لا تتحقق إلاّ إذا أعيدت إلى أحضان الصورة المحارمية الأنموذج المختزنة في لاشعورنا والتي يعبر عنها المركّب الأوديبي، تلك الطبيعة التي عبرت عنها الأساطير العشتارية التي تخاطب فيها الإلهة الأم حبيبها الغائب المختطف: «ضاع زوجي الحبيب... ضاع ابني الحبيب» - راجع أناشيد عشتار –. وهي من أسس ديانة يريد «التكرلي» إحياءها كما سنرى، هذا العذاب يعانيه هذا الأب ويدفع ضرائبه الجسيمة بفعل الانفصال الساحق بين موضوع الرغبة وموضوع الفعل، موضوع الرغبة مطلوب باستماتة.. بقلق.. برعب، في حين أن موضوع الفعل الذي يوصل إلى الرغبة مرفوض ومكروه ومقزّز... تشتعل رغبته حين يشاهد جسد «فاطمة» بأنوثتها الطاغية ونضجها المميت.. لكنها تنطفئ وتصبح رماداً حين يحاول إفراغ توتره لأنّ موضوع التفريغ ليس هو موضوع الحب نفسه الذي أشعل الرغبة: «لم أستطع النوم حتى هذه الساعة من الليل. كانت غريزتي الجنسية ثائرة، ولقد صدمني هذا الأمر لظني بأنها على وشك الخمود إلا قليلاً، فاقتربت قبل ساعات من الزوجة «العزيزة» إلا أنّ اشمئزازاً شديداً فاجأني وطردني عنها فانزويت في غرفتي أكتب هذه الكلمات المعذبة..ص24». ولو عدنا إلى مراجعة الكيفية التي دخل فيها غرفة ابنته النائمة وتأمله جسدها المثير الذي أشعل رغبته، فسنجد أنها نتيجة لمصائد اللاّشعور التي هيأته لدخول غرفة (فتاة جميلة) لم يطرق بابها تحسباً لأي شيء، وقبل ذلك، وهو الأهم تصرّف كـ(إنسان) متفرج أو (وسيط) لينفذ طلب الرجل الغريب الذي اتصل ببيته تلفونياً وطلب منه أن يتأكد هل هي نائمة فعلاً أم لا. كان موقفه المذعن نتيجة لعملية التغريب والنـزوع إلى (تلويث) موضوع الحبّ الذي جعله يتساءل أمام إلحاح الرجل الغريب: «وما يعنيني أنا من هذا الأمر؟» ثم يضع تخريجاً تبريرياً غريباً: «لقد أديت واجبي قبل وقت طويل حين أولدتها وأخرجتها للحياة، وأنا الآن لا أملك إلاّ أن أرقب حياتها كيف تجري وكيف تنقضي..ص21»؟ ورغم أنه يعرف أن «فاطمة» نائمة إلاّ أنه لم يكلف نفسه التفكير في الوضع الذي ستكون عليه، ورغم أنه شاهدها وقد انكشفت أجزاء هامة من جسمها إلاّ أنه لم يخرج، لقد أمسكت به أذرع الرغبة الآثمة الأخطبوطية والتي عبر عنها أفضل تعبير بقوله: «دخلت عليها غرفتها، كانت نائمة، ولقد رأيت ذلك بأم عيني، لكنني مع هذا لم أخرج، في بعض الأحيان تمسكنا أيادٍ خفية سحرية من جميع أطراف الجسم فتسمرنا في أماكننا وتجعل منا جماداً لا حراك فيه، وفي رأيي، ما هذه الأيادي الخفية إلاّ رغبة عميقة في ظلمات أنفسنا تسيطر علينا في لحظات سيطرة تامة فتحيلنا إلى أداة صلدة لا تعمل عملاً غير أن تراقب وهي في ذلك مشلولة الحركة جامدة الذهن.. ص21 – 22» لقد انتهت مهمته عندما تأكد بأنها نائمة لكنه لم يخرج فظلّ، لسبب لا يعرفه، يتأمل شكل ساقها الفذ، الشكل الذي أخذ بمخانق عقله وأجّج في أعماقه نيران العاطفة المحرقة، ثم أنزل عينيه إلى صدرها ليرى شق ثوبها يبدي قسماً من نهدها القـوي، والآن عرف – حسب قوله – سرّ إعجاب هذا العدد الكبير من الرجال بها!! وهو في استجابته لطلب الرجل الغريب وفي معرفته لعدد الشبان الذين يحيطون بها يوغل في عملية (تلويث) موضوع الرغبة ليطيح به من علياء القداسة المحارمية، وهذا التلويث لا يتعارض مع حالة الانسحار الطاغية بل ولا مع (أسطرة) الأنموذج المطلوب والصعود به إلى مصاف الآلهة: «كنت خلال ذلك أسمع صوتها، وقد استيقظت وهي تذهب وتجيء في البيت، تغسل وجهها وتتـزين وتضحك وتتحدث.. وتتحدث في كلّ موضوع. ولم لا؟ إنها ملكـة، إنها سلطانة، إنها دكتاتورة، إنها ابنة السماء، إنها الله..ص42». ولأن هذين الجانبين: الجانب الملوث المدنس والجانب النقي المقدّس هما في الحقيقة، وجها العملة الأمومية في صورتها المختزنة في اللاّشعور، هذه الصورة التي تشتق منها وتقاس عليها كلّ النماذج المحارمية اللاّحقة، ولعل الوصف العشتاري البليغ : البغي المقدّسة، والذي تمظهر في الإبداع في موضوعة المومس الفاضلة، ما يعبّر بدقة عن هذه الوظيفة المركّبة. ولكن في هذين الوجهين المتضادين يكمن عذاب الأب (محيي).. فهما يثيران صراعاً مريراً ومدمّراً في أعماقه، فهناك إقدام وإحجام، إقبال وإدبار، حرب دائمة يجلد فيها بسياط الضمير الذي يحكم بقوانين ما هو مؤسس ومحرّماته، صحيح، هناك مكر اللاّشعور وكيده العظيم ومؤامراته الالتفافية المحكمة. ولعل من أهم أشكال هذا المكر ما سماه الأب (حادثة صبيحة) التي يكفي أنّ صنعتها الفنية الباهرة قادرة على إرباك أكثر القرّاء، دقة وانتباهاً وخبرة. لقد خرج الجميع من البيت وبقي مع «صبيحة» التي ظهرت أمامه وكأنها نبتت من الأرض الصلدة «كانت تلبس ثوباً أبيض تزينه ورود حمراء.. وكان ملتصقاً على جسمها بصورة شاذة بدت عجيبة دون سبب.. ص55» كانت قوى الردع والإحجام مازالت تعمل في داخله ولذلك أبدى عدم ارتياحه منتظراً منها أن تبتعد عنه.. لكنها كشفت عن إصرار غريب حيث سارعت إلى الجلوس قربه لاصقة جسمها الساخن بأعلى ساقه وناظرة إليه نظرة أطارت عدم الاكتراث الذي واجهها به «خفق قلبي رهبة، وأحسست بعد فترة من جلوسها أنني يجب أن أعمل شيئاً لأبعدها عني، أبعد هذه المخلوقة الفتاكة ولكن ماذا أفعل؟ يخيل إلي أنني أعلم الآن، لكنني آنذاك لم أكن أفقه من معاني العالم الذي يخوفني غير معنى القلق اللذيذ والخوف الرائع اللذين كانا يداعبان عواطفي بأيدٍ خفية سحرية، لهذا لبثت جامداً ملجوم اللسان أحدق في عينيها الواسعتين السوداوين.. ص56- 57» ولأنه مازال حتى هذه اللحظة أسير القيم البالية الجبانة كما يسميها فإن القوة الرادعة – وإن ضعفت سطوتها – تشعل في داخله حرباً أشد هولاً من الحرب التي نعرفها لكنها القسوة الرائعة كما يحياها. وهذه كلها خطوات تهدف إلى ترقيق دفاعات الأنا الأعلى الذي يشلّ قواه الآن «لذلك لم يكن مستبعداً بعد أن قامت فجأة وانصرفت إلى غرفتها دون كلام أن تظهر علي إمارات الإغماء وأن أمسك صدري وكأنني أريد تمزيقه وأغمض عيني كمن في لحظات نزعه الأخير.. ص57» حتى الظلام وهو واحد من أهم الإسقاطات التجريدية المعاقبة للأنا الأعلى – ولهذا يثير الليل القلق والتوجس في نفوسنا، ولهذا أيضاً لا يستطيع هذا الأب الرقاد في الليل ويتوسل: متى أنام؟ متى أنام؟ - بدأ يقبض عليه بيديه السوداوين وتكتم أنفاسه وتوشك أن تقطعها إرباً إرباً. وتبدأ الوخزات البسيطة التي تستطيع بتراكم تأثيرها أن تفك لحام عقد أعتى الدفاعات الأخلاقية. ودائماً تبدأ هذه الوخزات بالتساؤلات والاستفهامات والحيرة المربكة «لكن خطئي كان عظيماً، عظيماً لا يغتفر، فلم يخطر لي قط أنني كنت عاجزاً عن الاقتراب منها، فإنها لقادرة على ذلك بأسهل من قتل الإنسان. وقد اقتربت مني... اقتربت حقاً حتى لأوشكت أن تسحقني سحقاً.. ص59» ولأنها هي المبادرة في عملية «السحق» المحارمي فإنه يستجيب لندائها الثالث بعد تردّد ويدخل غرفتها فتطلب منه طلباً مميتاً وهو أن يفك لها عقدة حمالة صدرها!! ورغم أنه يدرك أن لا أحد يختلف في أن كنه العمل الذي سيقوم به هو من طبيعة حيوانية إلاّ أنه يمضي في تنفيذ أمر «صبيحة» أو طلبها وقد اكتسحته عاصفة من الاضطراب الماحق الذي يغشى البصيرة.. «أمسكت بها من أعالي ذراعيها العاريتين بكلتا يدي، وكانت حرارتهما، حرارة الشباب، فبدا خدها الأسمر ناعماً صقيلاً، وظهرت شفتاها حمراوين كالدم المراق.. وتراءى لي ارتفاع نهديها الفتيين من بين فتحة الثوب الرقيق، وكان يبدو مصيري محتم... أحنيت رأسي بهدوء مقرباً فمي من نهاية رقبتها..ص61- 62» ولكن هنا تتجلى واحدة من ألعاب اللاشعور الخلاّقة ذات الدهاء الفذ.. فعند لحظة الالتحام الشيطانية هذه يرتفع صوت أجش يفجر كلمة «لا» قرب أذنه: «قف، حذار، إياك – كل شيء كان يصرخ.. ص62» إنها نهضة عزوم للسلطة الرقابية : عين الله التي يحاول اللاشعور الغرائزي تغييب يقظتها الراصدة.. وبفعلها نجده يدفع ابنته بوحشية فتقع على المرآة أمامه وتكسرها ويرفع راحتيه يسدّ بهما فوهة عينيه الجاحظتين محاولاً إيقاف الدوي العظيم القاسي الذي أمسكه على حين غرة فأحاله حيواناً دونه أشد حيوانات الغابة فتكاً وضراوة.. لكن اللاشعور قادر على إقامة التصافقات المشبوهة التي لا تلفت الانتباه فيحقق نقلة كبرى في تمظهر الرغبة المحرمة عبر مشهدين استيهاميين تجريبيين يسهمان في ترقيق الدفاعات المؤسسة – مثل الفعل الذي تخلقه مشاهدة مسرحية «أوديب ملكاً» أو مثل الدرس الذي قدّمه معلم فيينا والذي كررته كثيراً عن المعلم «الحريص» الذي يدور على الصفوف ويحذر التلاميذ قائلاً: «مَنْ يقول عن مدير المدرسة بأنه سيئ.. وظالم ومرتشي فسوف أعاقبه!!» - «كان دوياً هائلاً، وكنت أحسّ كأني أطفو على سطح الأرض ملأ سمعي سؤال غامض يهمس به صوت مشوّه النغمات صادر من أعماق عميقة لا قرار لها – لمَ لا أنام؟ ثم أخذت تظهر أضواء صفراء تعمي العين وأخرى حمراء كالدم المخفف.. كنت أحلم.. لابدّ أني كنت أحلم، في كابوس مريع.. ثم سكن كل شيء.. سكون السكون.. سكون الموت.. سكون اللون.. سكون الله.. غير أن فترة السكون هذه لم تستمر  إلاّ لحظة، إلاّ ثانية، وسمعت صوتاً نسائياً يسألني بسخرية: أسكران أنت؟ كنت في بيت قحاب..ص63 – 64» لقد تحققت نقلة شديدة الإدهاش من عالم حلم اليقظة – الفانتازي حيث كانت ساحة للمراودة المحرّمة مع «صبيحة» إلى عالم الواقع الصخري الذي كان يخشى أن يُضحك عليه فيه من قبل العاهرات؛ نقلة من «صبيحة»، كبديل غير مقنع عن «فاطمة» إلى المومس التي دخل معها في نقاش مسقط عن وحدتها وتعبها فواجهته بآلية مؤلمة كانت كافية لقطع الشعرة الرقيقة التي كانت تربطه بالعالم.. لم يتصل بها، أعطاها النقود وخرج، فهي أيضاً لم تكن البديل الآسر للموضوع الأصلي. «صبيحة» كانت موضوعاً محارمياً بالدم لكنه لم يكن كذلك بالعاطفة، بالحب المميت.. كان تقرّبه منها مكلّفاً ومدّمراً لأنه لم يتسلح له نفسياً حتى الآن.. لم يتطهر ويخلق ديانة ويجدّف كبطل.. ولذلك أجهضت حتى جسارته الحلمية.. كانت «صبيحة» وكما أعلن هو نفسه في مواقف كثيرة سابقة تعجبه وتستثيره كجسد مغوٍ طافح بالأنوثة والامتلاء الفاحش «كل ما كان بيننا هو أنني كنت أنظر إليها بإعجاب دائم، إعجاب بجسمها لا غير، إعجاب بريء، وإن بدت هذه الكلمة ذات وقع غريب في مثل هذا الجو، غير أن هذا الأمر لا ينفي أن تكون صحيحة، فقد كانت تمثل لي خير تمثيل جسم المرأة القوي الممتلئ، صحة وحيوية ورغبة مشتعلة في الحياة. كنت أعجب بما يزخر به هذا الجسم الفتي من الرغبات الأنثوية الرائعة.. ص46» لكن هل هذا الطغيان الجسدي – وهو محارمي أيضاً – لا يمكن أن يقوم مقام «فاطمة». لعلّ من العوامل الأساسية في هذا المشكل هو «الحصانة» - لاحظ كيف تنتقل العبقرية اللغوية من الحصان إلى الحصن إلى المحصنة إلى الحصانة.. إن الموضوع المحارمي لا يستكمل قداسته إلاّ إذا كان «محصناً».. وعصياً.. وهذا ما لم تكن توفره صورة «صبيحة».. بخلاف «فاطمة» التي كانت تهمله أو (تفتعل) إهماله كما يشعر هو، إنّ دور (المنقذ) هو الركيزة الحاسمة التي يقام عليها الاشتهاء المحارمي.. ولم تكن «صبيحة» التي تلازم البيت مخلصة لدور (الطبّاخة) والتي تحاول استمالة أيّ أحد من أبناء الجيران لتحقيق مشروعها في الزواج والاستقرار قادرة على توفير السمة العصية التي توفر اختراق القداسة، لم تكن «صبيحة» بحاجة لمنقذ يخلّصها من ذئاب بشرية تترصدها مثل «فاطمة» وتشارك الذئب الأبوي. ويصح هذا بدرجة أكبر على المومس التي وأد ابتذالها المفرط وسوقيتها الجنسية كل محاولات التعاطف الإنقاذي التي أبداها نحوها «بعثت في أجزاء جسدها النحيل الظاهرة من وراء ثوبها القصير شعوراً رائعاً بالشفقة والعطف. سألتها بعد برهة من جلوسنا عن اسمها ومن أين أتت؟ أجابتني باختصار... فعدت أسألها  هل تشعر بتعب؟ أغمضت عينيها لحظة بصورة إعياء فظيع وأجابتني بصوت خشن: كلاً، لمَ تسأل؟

- هكذا الناس كلهم متعبون فلعلك أنت أيضاً مثلهم. فقالت ولمعة عينيها جنونية: وما علاقة الناس بي؟ فوقعت كلماتها موقعاً مؤلماً من نفسي، وأحسست بحزن مفاجئ قوي يعصر فؤادي إثر سماعها.. أمسكت بيدها وكانت باردة ومبللة، فاستجابت للمستي وقربت جسمها منـي، فلم أشجعها على ذلك وقلت لها بصوت مرتجف.. مرتجف حقاً: أأنت وحيدة؟ فظهر الملل عليها بغتة وقالت بشدة وشراسة: كلاّ. ألا ترى كم في الدار من البنات؟ هل تريد أن تدخل معي؟ فهززت رأسي.. كانت جملتها هذه قادرة على أن تضرب الضربة القاضية، فأحسست بدوار بسيط يداخلني فيجعل الغرفة تدور تحت بصري..ص65 – 66» لقد نقلته هذه العملية النفسية اللاّشعورية المركبة إلى المبغى الذي كان يخشاه من قبل، وجعلته، ولأول مرّة في حياته يقوم بدور قيادي مبادر مع البغي يشير إليها أن تسكت ويطلب منها أن تقترب وتجلس قريباً منه، يلمس يديها ويستجوبها في محاولته الإنقاذية - وعقدة الإنقاذ تتأسس مرتبطة بالضحية الأمومية كما تصورها الخيالات الأوديبية في الطفولة المبكرة - ثم يقرر أن لا يتصل بها ويعطيها نقوداً ويخرج. لقد تأكد لديه، في سابقة فريدة، أنه قادر على ارتكاب المعاصي الجنسية، وإن إرادته غير ملجومة في هذا السياق. لقد تحرّرت بقدر كبير وهو ينتقل من حالة الالتحام المجهض بالابنة «صبيحة» إلى الافتراق المقتدر عن المومس. لقد تخفف من جانب كبير من أثقال القبضة الكابتة التي كانت تحبس  قواه الغريزية وتشوش صفاء نظرته إلى (البطولة) المرتجاة: «بقيت أسير على غير هدى... حتى لقيت نفسي وحيداً في مكان مظلم ساكن تحوطه الحدائق.. فتذكرت السماء مرة أخرى ورفعت نظري إليها ثم ضحكت بسخرية.. وضحكت بألم.. وضحكت بيأس.. فراغ يحكم فراغاً.. إني أعلم، لمْ يشعر بمثل ما شعرت آنذاك إنسان قط. أيها الإله الموهوم، إني قريب منك في القداسة والوهم. أيها العالم البعيد، إنك لم تعد لي عالماً أسكنه، إني لا أشبه شيئاً فيك، لا أشبه شيئاً البتة، إنني فريد في جوهري لأنني ضيعت كل شيء ولأنني انفصلت عنك إلى غير رجعة..ص67». إنّ هذا الانفصال عن الإله وممثله الأنا الأعلى – رغم أنه مستحيل دون أن ينتج عنه تفكك الجهاز النفسي المدمّر – أو الشعور بالقدرة على اقترافه هو المدخل الحاسم الذي يفضي – حسب فلسفة «التكرلي» أو ديانته – إلى البطولة المحارمية كما نستنتج ذلك. لكن (بطلنا) لم يصل إلى هذه النتيجة – المصير بسهولة. لقد (تطهر) عبر سلسلة من التحولات الجذرية والتمرحلات التي تراكمت بعد عذاب شديد لتبلغه المرتبة التي يرى أنه أصبح فيها قريباً من الإله في القداسة والوهم وأنه انفصل عنه إلى غير رجعة، جوهراً فريداً خسر كل شيء. كيف (امتلأت) روحه بالمعنى الوحيد الجبار بعد أن كان ذاتاً يحكمها الخواء ويستولي عليها الغثيان من العالم والبشر والوجود. كان دائم التفكير في تفاهة حياته التي كان يزيدها تفاهة فوق تفاهة؛ «فإذا دفعني سوء الحظ في لحظة أن أمعن النظر فيها ظهرت كما هي.. سنبلة ينخرها الدود في محيط يسع الأرض والسماء.. ص54» لم تكن لديه كينونة الإنسان الفاعل ولا الحضور الأبوي المهيمن كما يتوقع عادة من أب كان عسكرياً سابقاً. كان بلا وجود ملموس وسط عائلته، يتذكر قصة الشبح الذي عاش بين الناس تسع سنوات طوالاً، يخدمهم ويقضي لهم حوائجهم ولا يأخذ على ذلك منهم أجراً، فيشعر بأنه يعيش مثل هذا الشبح على هامش الحياة، بين أناس لا يشعر أنه منهم ولا يشعرون هم بذلك .. ص44. لكنه تحول إلى ذات فاعلة تشعر الآخرين بها وبوجودها الملموس مادياً ومعنوياً وبقوّة. وقد تعدت هذه الذات الجديدة الآن حدود دائرة الدور الأبوي المفقود. إنها ذات جديدة تماماً كان أول مؤشرات انقلابها شعور من حوله : زوجته وبناته الثلاث بأنه تغيّر ولم يستعد سلطة الزوج والأب فقط «بدأن يشعرن أنني متغيّر، إنني لست كمـا عهدنـني، ولقـد رأيتهن يتفقن على ذلك فيما بينهن خلال نظراتهن التي تلتقي حين أتكلم كلاماً غريباً، وخلال كلماتهن المتناثرة المتقطعة التي يعلقن بها على أفعالي.. ص50». كان الكاشف التمهيدي لتغيراته هما عيناه.. ففي بعض الأحوال تطفح رغبات وصراعات الهو في صورة نظرات شديدة الإيحاء. كانت البنات يقلن لقد تغير أبونا وكأنه لا يعرفنا. لكنهن إذا أمسكن بمظاهر التغير الخارجي فإنهن لم يستطعن حتى الآن إدراك ما يجري هناك، هناك في جحيم الداخل.. هناك كانت الدوافع الغريزية المحارمية تجاه «فاطمة» تشتد لظىً وتستشري سطوة، وعكس المكابرة التي هي شكل من أشكال الإنكار والمقاومة والعقلنة فإن الأفكار والنظريات تتبع ضغوط الرغبات والدوافع اللاشعورية. الشعور وكالة حسّية بائسة.. هذا ما قرّره معلم فينيا. تنهض الغريزة بوجهيها: وجه الحياة، ووجه الموت، والأهم في امتزاجهما الحقيقي (الوجه الثالث للعملة) وتشتد ضغوطها فيتبعها (الفكر) مبررّاً ومنظراً وموفراً الأغطية الباهرة (المنطقية). الإنسان في حقيقته كائن تبريري وليس كائناً منطقياً. (ولو كان الدين يؤخذ بالمنطق لكان مسح باطن القدم في الوضوء أوجب من مسح ظاهره)، كما يقول «علي بن أبي طالب» (عليه السلام) – والآن، على فكر هذا الأب أن يلحق بغريزته. أن يبررّها.. أن ينظر لها.. والأعظم أن يفلسفها. وهنا تتجلى عبقرية «فؤاد التكرلي» وهو يسير بنا خطوة.. خطوة لـ«يشخصن» لنا من خلال بطله أبعاد هذه العملية الخطيرة التي تمس صلب الوجود الإنساني وعصب الحياة البشريّة. وفي العادة تبدأ التحولات الفكرية الكبرى بتساؤلات أهمها التساؤلات المشككة بأهمية ما هو مؤسس في الحياة البشرية من مرجعيات قيميّة، التساؤل عن معنى ما هو قائم من سلوكيات واعتبارات أخلاقية هو المفتاح للإطاحة بها وإنشاء البنى البديلة. هكذا يبدأ الأمر لدى المصلحين والفلاسفة والمفكرين والثوّار. وهكذا بدأ الأمر لدى بطل «التكرلي» الذي قد يرى القارئ أنها تساؤلات مشككة لا يجمعها جامع.. مفككة ومتنافرة.. ولكنها منسجمة مع تململ الغريزة المشوشة في بداية يقظتها.. حتى هو نفسه كان حائراً – في البداية على الأقل في تحديد ما يجري في داخله.. بل كان ينكره ويحاول الهرب منه أحياناً.. «ثلاثة عشر يوماً والشك الفاتك السام يخزني كلّ لحظة من لحظات النهار وكل ساعة من ساعات الليل، وأنا على ذلك صابر لا أريد أن أنظر في دخائل نفسي إلاّ إذا دفعتني الظروف إلى ذلك دفعاً، فلا أكاد ألقي هذه النظرة حتى تدمى جوانحي وتتحرق جروحي فانهزم كالمجنون المتألم لا ألوي على شيء ولا أريد أن أرى شيئاً.. لا أريد إطلاقاً..ص26». لقد كان يخاف من الأفكار التي تريد أن تولد في ذهنه ويخشى الأفكار التي حبلت بها عواطفه زمناً وهي الآن على وشك الوضع كما يصفها بدقة.. ص24. ولكنه يحاول السيطرة نسبياً على هذه المخاوف التي يثيرها تململ الرغبة المحرّمة من خلال التساؤلات التي كلما ازدحمت وتنافرت فإنها ستستدعي الحسم والتنظيم للتخلص من عذاب التشوش والتجاذبات الفكرية: «رباه.. إلى أين تقودني الحياة؟ هذه الحياة القاسية، القاسية حتى الموت التي تظهر لبصري الطريق الفظيعة البشعة وتجبرني على السير فيها؟ ص24».. يتبصص على «فاطمة» وهي جالسة تلبس حذاءها وهي تضع ساقاً فوق ساق بحرية وعدم اهتمام فتظهر أعالي رجليها بصورة جلية وغير مستساغة فيشعر بالحنق على الآخرين (المجهولين) ويتساءل: «هذه ابنتي! أهذه هي وظيفة الرجل؟ إنتاج هؤلاء الدواب لتسلية الآخرين؟ لمَ أرضى؟ ألأنها سُنة الحياة؟ وهل هي نفسها سُنة الحياة التي أعطتني تلك المرأة الضخمة (زوجته) التي لا يمكن لرجل أن يقربها؟ لمَ أذكر هذه التفاصيل كأنني أريد أن أجد مخرجاً مما عملت؟ ماذا أستطيع أن أعمل؟ ص29-30». إنّ التساؤل عن وظيفته كرجل في إنتاج فتاة تسلي الآخرين.. فتاة خارقة الفتنة والتساؤل المقارن بالزوجة القبيحة هما (تفكيك) لنصّ الرغبة الآثمة.. فهما ينطويان على الحرقة بضياع الأحقية بالفتاة التي يجب أن تكون له إذا كانت سُنة الحياة صحيحة وعادلة.. إنّ هذه التساؤلات الشعورية هي مقلوب أجوبة اللاشعور وكأننا أما م تركيب حلمي مشوّه ينبغي تحليل مضمونه الظاهر المرتبك للوصول إلى مضمونه الباطن حيث قلوب الغرائز المكبوتة التي تبحث عن الإشباع. وبعد التساؤلات التي أعقبت عملية التبصص يخرج ويسير وراء فتاة جميلة يقارن بين جمالها وجمال «فاطمة». يركز على فتنة ساقيها العاريتين المتناسقتين في بعض السمنة المثيرة.. فيعتبرهما هكذا: رمية من غير رام ويشكك ويتساءل ويلتف ويناور ليوصلنا إلى معنى في (قلب) اللاّشعور: «لاشك عندها أن أباها، أو حتى أمها، لم يفكر فيما يمكن أن يكون شكل ساقي ابنته. كان همّه أن يوجدها.. لا غير. ولعله لم يخطر بباله مثل هذا الأمر البسيط كذلك، لعله لم يكن يريد سوى أن يتصل بأمّها، أن يشبع رغبة جنسية طارئة أو رغبة في السيطرة، أو لعله اتصل بها لأنها زوجته.. فقط، أو – ولمَ لا؟ - قد يكون محتاجاً لشيء ما تملكه فأراد إرضاءها.. ص33». إنّها تساؤلات وتشكيكات تتستر على قناعة بالغة السميّة. إنّ سمّ القناعة الآثمة مدسوس في عسل جماليات الوصف المسترخي والاستفهامات ذات الفذلكة المخادعة والمبيتة. إنه يرى الآن أنّ لا صلة وثيقة بين سبب وجود الفتـاة – مجيئها إلى الحياة بنـزوة أبيها الجنسية – وبين جمال ساقيها الذي يتمتع به هو الآن وهو يتبصص على بشرتها البيضاء الممتلئة، «ومع ذلك، فهذه هي الحياة بكل أسرارها وغوامضها التي لا تحلّ ولا تفهم. لاشيء سوى صدفة محضة سخيفة ركيكة حقيرة. هذه الحياة التي تخيف وترجف القلوب وتحدّ من أعمالنا وتشذّب من رغباتنا ما هي إلاّ صدفة، ما هي إلاّ أكذوبة صغيرة لا يمكنها حتى أن تضحكنا.. ص33» وبعد هذا النصّ الإشكالي المحارمي الهائل قد لا يمسك القارئ – وحتى الناقد، وهذا ما حصل للأستاذ «عبد الإله أحمد» في نقده لهذه الرواية التي يعدها قصّة طويلة – بمرامي الأب – ومن خلفه «التكرلي» - الشيطانية، فإذا كان «جميس فريزر» في رأيه المتفرّد الذي نقلناه سابقاً يرى أن دوافع السفاح بالمحارم هي غريزة أصيلة في النفس البشرية تبحث جاهدة عن الإشباع وإننا نلجمها بالتحريمات السماوية والقوانين الرادعة الوضعية. فإن «التكرلي» يقدّم ما هو أكثر جسارة من ذلك وتفرداً. إنّه ليس بحاجة إلى هذا التفسير «العضوي» لهذه الدوافع الذي طرحه «فريزر» فهو لا يجد أيّ معنى حتى لوصفها بـ«المحارم». هذا الوصف جاءت به قريحة هذه الحياة السخيفة الركيكة الحقيرة بمحض الصدفة التي لا تثير حتى الضحك. إن تساؤله الجوهري – المدمّر ينسف الحاجة للتهديد والردع سماوياً ووضعياً، إذ ما علاقة سبب وجود موضوع حبّ معين – مهما كان الدافع وراء هذا الوجود، نزوة أو سيطرة أو واجباً – بموقف المسبّب من فتنة هذا الموضوع التي تتأسس لاحقاً؟ أي أن سبب وجود موضوع حبّ ما لا علاقة له أبداً بالافتتان به من قبل مسببّة بعد صيرورته. إنّ الفاعـل المسبّب، وهو الأب هنا، لا يمكن أن يكون سبـباً في فتنـة موضوع يحرم منه لأنه كان سبب وجوده، يبدو كأن الحياة تعاقبه عن هذه الطريق. وهذه نكتة، أكذوبة صغيرة لا يمكنها حتى أن تضحكنا حيث يتأسس منطق ووقائع دينية وقانونية على اساس صدفة محضة سخيفة وحقيرة. لكن من الذي جعل مثل هذه الصدفـة الأكـذوبة تنـمو وتكبر وتترسخ أسسها لتصبح شبحاً مخيفاً يكتم أنفاس رغباتنا؟ إنهم هؤلاء البشر، هؤلاء الحيوانات المطلقة التي تحيا هذه الحياة الناقصة التي صنعها شيء ناقص. «إنّ سوء الحظ حقاً هو الذي أدى بعد ذلك أن يكوّن هؤلاء الأكثرية الأغبياء، جميع المجتمعات البشرية التي يعرفها التاريخ، فيفرضون عليها قيمهم المتفسخة في الحياة والدين والاجتماع ويحطمون من يحاول الخروج عنها تحطيماً تاماً لا رحمة فيه ولا شفقة لأنهم يعلمون أن في الرحمة هذه والشفقة موتهم الأكيد وفناءهم المحقق.. ص73» لقد كان هو نفسه سبباً لـوجـود «فاطمة».. هذا مؤكد، لكن لا صلة له بحرمانه من نعم فتنتها كموضوع حبّ مفضّل حيث لا يقف أي منطق وراء هذا الفصل والحرمان الجائر. إنّ المجتمعات البشرية هي التي تتخبط وليس الحياة، فالحياة لا تعرف آلهة ولا أجداداً كما يقول. إنّ البشر خائري الإرادة هم الذين أضافوا (المنطق) الزائف إلى اللذة. هذه اللذة هي نظرة الوجود وسرّه الحيّ. إنّ على الإنسان أن يبني قيمه في الحياة على الحياة نفسها. الحياة التي تتأسس على اللذة. ومن الغريب بالنسبة له أن تكون هناك علاقة ما بين موضوع اللّذة وتبعات تتأسس على سبب موجوديته بحيث يتحمل هو نتائج مفارقة ليست من جنس الفعل. لقد انتقل (مفكرنا) خطوة أخرى أكثر تقدماً في بناء ركائز فلسفته/ ديانته يستمد مقومها من جوهر الإنسان المعرفي ككائن تبريري. فإشباع رغبته المحرّمة التي انتصبت تماماً الآن على أرضية لاشعوره غير ممكن دون نظرة جديدة إلى اللذة الخالصة: «هنالك نواة، هـي الـتي تجتمع حولها كل حياتنا منذ تكوننا أجنة حتى لفظنا النفس الأخير.. وتلك هي اللذة، ولقد توصلت إلى هذه النتيجة بطريق غاية في البساطة، فقد سألت نفسي وأمامي سيل زاخر من البشر.. سألت نفسي ما سبب وجود كل هؤلاء؟ ولم أتردد برهة؛ إنهم نتيجة عملية واحدة، عملية الاتصال بين المرأة والرجل. فكلنا نتائج إذن، والوجود كله يبدو نتيجة وغاية وليس له طريق يسلكها إلى شيء آخر بعيد كما يُتصور. حسناً، ثم سألت نفسي: ما الدافع إلى كل ذلك؟ ما الذي يدفع الرجل والمرأة إلى تكرار هذه العملية دون ملل أو ضجر؟ اللذة ولاشيء آخر أبداً. فالحياة إذن ذات أساس مكين من اللذة الجنسية التي يجدها الطرفان في اتصالهما.. وكل اللذات بعد ذلك مضاعفات أو مجزئات لهذه اللذة الرائعة. كانت هذه النتيجة التي وصلتها غريبة بعض الغرابة وليست مألوفة إلي من قبل فبدأت أمعن النظر فيها وأجمع أدلة أخرى تؤيدها وتقوي من بنيانيها.. ص71 – 72» لقد أصبح باحثاً ومنّظراً يضع الفرضيات ويعمل على جمع الإثباتات التي تسندها ليخرج بنتيجة مدهشة مفادها أنّ علينا أن لا نلوم رجالاً أفنوا حياتهم في سبيل المرأة.. لأن هؤلاء أدركوا أن فعل الحياة إنما هو كلمة مرادفة للذة الجنسية وهو الجماع. من هم هؤلاء الرجال.. إنهم غطاؤه وهو أنموذجهم في التنفيس عن رغباته الآثمة، فمن دون أن تتربع اللذة على عرش الحياة لا يمكن تسويغ اندفاعته المحارمية. الآن سوف يخطو خطوة نظرية حاسمة أخرى. فما يدعو إليه لا يتعرض للكبت الفردي اللاشعوري بفعل رقابة الضمير/ الأنا الأعلى الذي لا يسمح لغرائز (الهو) الفجة بالانفلات، بل يواجه القمع من جانب السلطات الاجتماعية كلها، وقد أصبح هذا الموقف الرافض عادات وتقاليد جمعية يتم توارثها فما هو الحل الذي يجترحه لتطبيق فلسفته في مبدأ الحياة، مبدأ اللذة كما يسميها؟ إنه يدعو إلى (ثورة) تبدأ بمراجعة كل هذه التقاليد القامعة التي تعطل مبدأ الحياة تمهيداً لسحقها ومحوها نهائياً. إنها في الحقيقة ثورة أوديبية كاسحة في اتجاه معاكس: «يجب أن ننظر إلى تقاليدنا وعاداتنا الموروثة والقديمة منها خاصة، نظرة جديدة نزنه بها بميزان الحق الخالص، فنرمي منها ما يناقض مبدأ الحياة ونتشبث بما يؤيده ويدعو إليه منها، حتى لو أدت بنا هذه النظرة الجديدة إلى أن نسحق كل التقاليد والعادات ونحطم كافة الأديان والمعتقدات فلا يجب أن نتردد لحظة من الزمن. فكل البشر سواسية، سواء أكانوا أجدادنا أم لم يكونوا كذلك، وهم يفرضون علينا آراءهم العتيقة المنبعثة أكثر الأحيان من نفوس ضعيفة واهنة، دون أن يسندهم في ذلك منطق سديد أو عقل راجح، فقوتهم الوحيدة هي أنهم كانوا آباءنا.. ص74». إنها دعوة إلى إحياء الجريمة التي كانت مفتاحاً للحضارة: جريمة قتل الأب التي أسست الحاجة للدين والفن والقانون والأخلاق، لكن هذه الجريمة بالنسبة لبطل «التكرلي» تعاكس الجريمة الأصلية التي تحدث عنها معلم فيينا، فالأخيرة هي التي أفضت إلى الزواج الخارجي وتحضير المحارم، في حين أنّ الأولى – جريمة «التكرلي»، تعود بنا إلى الزواج الداخلي وإشاعة  المحارم (ألم نقل إنها فلسفة جديدة؟). لكن ما الذي سيظفر به على مستوى الوجود الإنساني؟ ما هو الهدف الأكبر الذي سيغرينا به بطل «التكرلي» وهو يحاول أن يمرّر أمام أعيننا أشد الجرائم هولاً وثقلاً على الضمير؟.. إنه يغوينا بالهدف العظيم الذي يمثل خلاصة حركة الوجود الإنساني وهو شعار كل فلسفة وحركة وثورة: الحرّية، حرّية أن لا يخضع لقيم وعادات أجداد يقمعون إرادته بحرمانه من الافتتان بموضوع حبّ عظيم تحت غطاء أضحوكة أنه سبب في وجود هذا الموضوع. وفق هذه القيم سيحيا عبداً إلى الأبد، وما الحياة التي يراها، قبل ثورته، إلاّ سلسلة طويلة من العبيد، وجوهر حريته يتلخص في جملة واحدة «البصق في وجه الحياة التي تمس نواة وجوده». إنه يتساءل من جديد «ففي الحق ماذا يجدي أن أفكر بعمق في كنه الآلهة أو حقيقة الحياة أو طريق الصواب أو سبيل السعادة، إن لم تستطع هذه جميعاً أن تدعني أبصق في وجه الحياة متى ما مسّت نواة وجودي، أليس كذلك؟...ص69». إنّه حرّ الآن لأنه يلبي نداء دمائه المشتعلة ويحيا بسرور إلهي «في بذرة إقبالي وشغفي، وفي المادة المكونة لإقبالي وشغفي حرّية في رفض كل شيء. في البصق في وجه الحياة. في احتقارها والانقضاض عليها بأسرع من لمح البرق حين تمس جوهر شخصيتي الإنسانية.. حرّيتي، حرّيتي التي تمنحني هذا الموقف القوي الجديد، هي التي أرفض كل شيء حين تُمس..ص90 – 91». وهذا المفهوم الجديد للحرّية الفردية كـ«بصقة في وجه الحياة» يحيلنا إلى معطى نظري هام في فلسفته/ ديانته وهو مفهوم جديد للبطولة، إنّ البطل، من وجهة نظره وكتحصيل حاصل للشروط السابقة – مبدأ اللّذة، فصل سبب الإيجاد عن الموجــود، الثورة على القيم، الحرية كبصقة في وجه الحياة.. إلخ – ليس الإله بل الشيطان أو بتحديد أكثر دقة: الإنسان الشيطان، الإنسان المتصالح مع شيطانه الداخلي، وهذا التصالح يتطلب فعلاً عملاً بطولياً خارقاً خصوصاً مع وجود الأنا الأعلى/ الضمير/ عين الله المراقبة التي كان بطلنا يعلن أمامها إيمانه بأفكاره الثورية المجدّفة  «لم تكن هذه الخواطر تمر بفكري كما نمر بأيدينا على سطح الماء، كلاّ كنت مؤمناً بها، وكنت أشعر بها تتلاطم في قلبي وتفيض منه. كنت أرى عواطفي تنطق بها مع دقات فؤادي ونبضاته، وكانت تسير في جسمي مسير دمائي، فهل كان غريباً بعد ذلك عليّ أن أعمل ما أشاء وأن أشعر بقوة لا تواتي الجبابرة ولا الآلهة؟ص53» إنه يشعر الآن، بعد أن أمتلك حرّيته بقوة لا تضاهى.. إنه قوي لا يخشى الحياة «كنت جباراً كالشيطان، ولم يكن يخيفني أمر، وكنت أتمنى لو تشكلت الحياة على شكل ما لعلمت مقدار تلك القوة.. آه تلك القوة ص54 – 55». إنه يشعر الآن بأنه المنطلق الوحيد الذي سيضع قدمه في العالم المخيف الموحــش؛ عالم الحرية والرفض المطلق.. إنه يطالب بإقامة نصب له، لأنه هو البطل – فهو الشخص الوحيد الذي حاول أن يجرد مواضيع حياته مما لصق بها من آراء قديمة ونظرات عتيقة واعتبارات نخرها تراب الأيام. وهو الشخص الوحيد الذي يريد أن يضع نظرته في الحياة فوق كل النظرات وفوق كل التقاليد وفوق جميع الكائنات وهو الشخص الوحيد – كما يقول – الذي احترم نفسه وجرّب أن يطبق قيمه الخاصة على حياته... ص69». ومن هنا ينقلنا مخطط «التكرلي» التآمري إلى مرحلة لا تقل أهمية عن مرحلة البناء النظري للفلسفة/ الديانة الجديدة، مرحلة حاسمة قد تفوق المرحلة السابقة أهمية وتطلباً للطاقة وتحمل العذاب والمخاطر: إنّها مرحلة التطبيق لاختبار الأطروحات النظرية الانقلابية. لقد غرّب موضوع حبّه: «فاطمة» كما قلنا، ثم غرّب نفسه عنها، ألغى صورة الأب/ سبب الوجود كما تفترض الصدفة الركيكة وتحول إلى صديق يخرج معها إلى الحفلات والدعوات ودور السينما متحملاً، كبطل، حتى الأوصاف المخزية التي تلصق به ونظرات الشرر التي تلقى عليه، احتجاجات الأم، واستهجانها لسلوكه الجديد.. كلها لم تكن تهمه وهو في نظر البعض يقوم بدور (القوّاد)، كان يهمه شيء واحد فقط: «فاطمة» موضوع حبّه «المريعة، الجذابة، المخيفة، الفاتنــة، الفظيعة، الرائعة.. ص85». إنّ «فاطمة» تمثل في الواقع مريدة ديانته الأولى وقد تكون، وهـذا ما سيحصل، الوحيدة، وهي كارثة حقيقية. كان يعتقد أنه قادر على أن يمنحها القوّة لتكون إنسانة جديدة مثله.. لكنها كانت جبانة.. جبانة. «وكنت ممسكاً برسغها الساخن وهي جالسة على فراشها مطرقة – أحدثها كلمات كالجمر، مندفعاً ثائراً.. متهدج الصوت.. كانت قلقة تخشى الناس.. تف وبئس المصير. وكانت فزعة تخاف الله.. سحقاً وبعداً.. وكانت لا  تدري بماذا تحس وتشعر. لم تكن تعرف شيئاً سوى أن ترتجف كالسعفة اليابسة وأن تبكي. ولقد رجفت تلك اللحظة أيضاً.. ولقد بكيت كما كنت منتظراً.. فوضعت رأسها ذا الشعر الأسود الناعم على كتفي، فضممتها إلى صدري بحنو ورغبة صادقتين، هل انتهى؟ كلا، كلا.. فما دمتم على الأرض ومادامت السماء فارغة، فلن يحدث ما فيه الحياة، صرخت فجأة كالمجنونة: كلا، كلا، لا أريد، رباه أنقذني. فصرخت فيها محتداً: «اعملي ما تشائين ولكن لا تتصوري أن نداءك يصل قلب هذا المخلوق، كلا.. حتى أنه ليس بمخلوق.. ص87 – 88»، كان بطلنا يعتقد أن «فاطمة» وهي أول مريدة في ديانته الجديدة الخطيرة، وإنها ستلاقيه في نقطة المنتصف متحررة ناشدة البطولة الناجزة وفق التوصيف، الذي رسمه لها. وكانت المصيدة التي أوقعته، «لغوية»، لعبة لغوية بسيطة وبريئة في الظاهر تمثلت في جملة قالتها «فاطمة» بعفوية ولم «تقصد» منها شيئاً. لقد عادوا – الأب وابنتيه: «فاطمة وساجدة» - من السينما بالباص وكان الشبان يتجنبون النظر إلى «فاطمة» الفاتنة لأنهم كأنهم – كما لاحظت «ساجدة» - يحشون الأب. هنا هتفت «فاطمة» بصوت لين وبلهجة عابثة: من يدري، لعلهم حسبوني زوجته!!. هذه «ألعاب إلكترا» التي يجب أن يحذر منها الجميع – حتى الآباء الأسوياء – لقد اعتقد حين سمع هذه الجملة العابثة أنّ شيئاً في الكون قد تغير: «كان الهواء يهب بارداً يحمل رائحة خاصة من الحدائق المجاورة، وكانت الأضواء الكهربائية تلمع من بعيد فتحملنا على الظن بأننا في عالم آخر..ص78». كان الهواء ساحراً ونفسه ثائرة وحبيسة... لقد بدأت لعبة «الصداقة» التي أوغل فيها وضحى في سبيلها بشخصيته وسمعته وسلطته تؤتي أكلها – لاحظ أن بعض الآباء الأسوياء يفخرون بأنهم أصدقاء لبناتهم وليسوا آباء لهنّ، في جانب من هذا الموقف تتخفى مصائد اللاّشعور الماكرة –، لم ينم محيي الأب/ الصديق تلك الليلة وظل في فراشه سهران أرقاً يرقب القمر الشاحب والنجوم الصغيرة. لقد قلبت هذه الجملة حياته واعتبرها «رسالة» المريد التي يعلن عن طريقها – بصورة غير مباشرة – عن إيمانه بالفلسفة/ الديانة الجديدة. رسالة شديدة الإيحاء – حسب استعداده، المسبق المشحون – بحالة التكافؤ العاطفية المؤسسة على التغريب الناجح وطويل الأمد الذي اتبعه وترقيق دفاعات الكبت الستراتيجية والبناء النظري الشعوري الذي أشاده ناسفاً – مغيباً ووفق قناعاته الشخصية – كل حواجز القمع وسدود الردع «لاشيء يمر في فكري سوى تلك الكلمات التي لا يمكنني أن أجد وصفا لها، تمر في فكري مجردة عارية بغير نقش أو زخرف أو إطار لأن فيها هي وحدها كل نقش وكل زخرف وكل إطار: «من يدري لعلهم حسبوني زوجته» من يمنعني لو كتبت هذه الجملة عشرات المرّات، بل مئات.. كم مرت في ذهني المتعب طوال تلك الليلة التي قضيتها سهراناً حتى الصباح؟ ولكن لماذا؟ ما فائدة كل ما أعمل من كتابة إلى تذكر وتخيل وحسرات؟ ماذا كان يحمل استيقاظي الليل بأجمعه؟ ما معنى نزولي عند الفجر إلى غرفتي وكتابتي على ورقة كبيرة تلك الجملة الفريدة: من يدري، لعلهم حسبوني زوجته؟»وهنا يتجلى مكر اللاشعور ودهاؤه (أو حكمته حسب «التكرلي»!!) فهو يستثمر القلق الذي استولى على صاحبنا لأيام بعد أن سمع تلك الجملة (العابثة) فبادر – اللاّ شعور – إلى الطرق على حديد المقاومات وهو ساخن ليمعن في تطويعه فبدأ بفتح صندوق ذاكرة الأب الأسود فصار ساهياً عن نفسه ضارباً في عوالم غريبة لا تصلها إلاّ نفوس فقدت كل إيمان واعتقاد، ومن بين ركام مخزون ذكرياته الهائل لم تحاصره سوى حادثة واحدة كان قد حقق فيها عندما كان مأمور مركز للشرطة في إحدى نواحي أربيل. وهذه الحادثة من جرائم المحارم التي كان المتهم فيها شيخاً جاوز الخمسين سيق إلى المركز بعد شروعه بقتل زوج ابنته، حين حاول هذا الأخير منع الشيخ من معاشرة ابنته – أي زوجة المجني عليه. وقد لبث هذا الشيخ صامتاً كصخـرة لا يجيب على أي سؤال، كما أصرت ابنته وهي في الثامنة عشرة على أنها لا تعلم شيئاً. «سكوته المتعمد أثار أعصابي وأخرجني عن طوري فخطر لي بعد أن علمت من جيرانه حبه العظيم لابنته، أن أواجهه بها علّ ذلك يؤثر فيه بعض التأثير. أنا أعلم أن هذه الحادثة صعبة التصديق، لكن أبعد الأشياء عن التصديق فيها كان ذلك التهدّم المفاجئ والانهيار غير المتوقع الذي بدا على الشيخ حين أول رؤيته لابنته الجميلة.. أين ذهبت تلك القوة الرائعة التي ظل متمسكاً بها عشرين يوماً؟ ما هذا التأثير السحري لهذه الفتاة اللطيفة على ذلك العملاق العجيب.. ص80 – 81». في وقت انهيار الشيخ أحس بالشماتة بهذا الشيخ الآثم وبلذة الانتصار على كبريائه، لكنه الآن، بعد أن أسس فلسفته، وسمع تلك الجملة من المريدة فإنه قد صار في وضع فكري ونفسي يؤهله لإطلاق أحكام جديدة على ذلك الشيخ. إنه يتذكر الآن فيستولي عليه الحزن والكآبة وتفيض دموع حارة صادقة من عينيه... آنذاك، عندما كان عبداً، كان يراه عبداً أيضاً وينظر إلى ما قام به كجريمة – أمّا الآن، وهو يسير على درب البطولة فإنه يرى من الشيخ بطلاً وما قام به كحادثة من حوادث الإنسانية الحقة التي يصعب على بشر أسوياء يؤمنون بالأجداد فقط أن يفهموها ويسبروا غورها..ص82. «ولم تنقض أيام بعد ذلك حتى عدت إلى الدنيا حاملاً بين طيات جوانحي المظلمة العميقة مثلاً عالياً من أمثلة الإنسانية وبطلاً لن تدركه الأجيال قط.. لن تدركه..ص82». لكن هذه الأجيال، ممثلة «بفاطمة» لا تدرك معنى البطولة الحقّة، إنّ الضمير يجعلنا جميعاً جبناء كما يقول «شكسبير» على لسان «هملت». لقد أزاح هذا الأب الله عن طريقه وحياته في الخارج وعن تفكيره الشعوري هناك، فوق.. لكنه ورغم كل محاولاته لم يفلح في إزاحة ممثل السلطة الجمعية الرادعة من داخله والتي تتمثل في الأنا الأعلى.. هو نفسه، ورغم كل أشواط التجديف والنقمة والثورة وانتفاخات البطولة، إلاّ أنه كان يخاف «إني أخاف أحياناً، أخاف إن نبشت قيعان نفسي المظلمة أن أجد الله فإذا بكياني كله زيف وفراغ، وأخاف ألاّ أجد شيئاً فلا يبقى أمامي غير الانتحار.. ص92» ولم يبق أمامه سوى الانتحار.. لقد قام بقتل «فاطمة» لأنها رفضت و(جبنت) حسب وصفه. كانت أمامه كيان واجه في قيعانه المظلمة الله.. قتلها لأنه ينجز بذلك فعل البطولة الأخير في أن يدمّر ذاته، فقد فَقد عقله وجنّ في أعين الآخرين البلداء لكنه في الحقيقة قد وجد حريته مرة واحدة وإلى الأبد حين انهار عقله التابع المتحفظ ليتربع (الهو) بعقله المحارمي على عرش وجوده (ظننني مجنوناً، لكنني لم أكن سوى إله.. ص95» وقد تجلى إنجازه البطولي أيضاً في  أنه قد خط قصة بطولته/ ملحمة لا شعوره حتى النهاية، حتى سطر الخراب الأخير «قضي الأمر. قضيته أنا بمفردي. قتلتها قبل دقائق.. لقد نادوا الشرطة ولابدّ أنهم سيكسرون باب غرفتي ويقبضون علي. فوا أسفا، لو رجعت حية مرة أخرى وبقيت تتذكر أنني قتلتها، لعشت سعيداً معها.. سعيـداً، لم تقاوم أبداً. كان يبدو أنها تفضل موتها على أي شيء آخر، لماذا أبكي، أيتها الدموع الأخيرة؟ لقد أتوا. أظنهم سيقتلونني، حسناً ص95». لقد كان مخلصاً في أن يرينا ولأول مرة في حياتنا «بصقة في وجه الحياة».

يبقى سؤال هام جداً هو ما هي صلة هذه الرواية بحياة المبدع «فؤاد التكرلي»؟ يقول الدكتور «عبد الإله أحمد» في ختام تحليله لهذه القصّة – في كتابه «الأدب القصصي في العراق» - الجزء الثاني - :«ويبدو واضحاً بعد هذا العرض التحليلي الطويل لهذه القصة، معنى ما قلناه عند بداية حديثنا عنها، من أن هذه القصة تعبر عن معاناة القاص نفسه، حين كان يصور معاناة بطلها، وأن القاص يؤمن بكل ما انتهى إليه بطلها من فلسفة، ترى أن الجنس أساس في الإنسان، يكاد يستقطب وجوده، لذلك ليس من مبرّر لإقامة الحواجز والروادع أمامه. وكان هذا الموقف من القاص بداية للتسليم بموقف لا أخلاقي من الحياة، سوف يظهر بشكل أو بآخر في أعماله القصصية الأخرى، ويفسر في الوقت ذاته سبب تعاطفه مع النازعين إلى ممارسة الجنس اللاشرعي الشاذة من أبطال قصصه، وعنايته الخاصة بهم (ص259). ويرد موقف «التكرلي» المتطرف هذا – كما يصفه – إلى أنه «في حقيقته رد فعل عنيف تجاه هذه القيم والاعتبارات الأخلاقية المبالغ فيها : التي كبلت المجتمع الذي يعيش فيه، ومست منذ وقت مبكر حريته الشخصية التي كان يريد لها أن تأخذ مداها من هذه الناحية خاصة (ص259-206)». وأنا أؤيد وجهة النظر هذه فهي دقيقة وحازمة في تشخيصها لكنني أود الوصول إليها من مقتربات أخـرى، لقـد وضـع «التكرلي» عبارة لتكون مفتتحاً للرواية قبل صفحتها الأولى الفعلية، عبارة كتبها هو – بطبيعة الحال – وليس بطل الرواية الذي يبقى استيهامياً مسقطاً من لاشعور الكاتب، ويقول فيها :

«لو قيل عن هذا الرجل أنه قذر شرير لأمكنني أن أقول جازماً بل هو مخلوق شجاع؛ أمّا وصفه بالجنون، فذلك هو الخطأ العظيم الذي لا يغتفر»، أي أنه يستبق ضمنياً كل وقائع الرواية وما يرتبه القارئ والناقد من استنتاجات على سلوك بطلها ويعلن أن بطله الآثم هو مخلوق شجاع واستثنائي، والأخطر هو توصيفه لجنون الأب بأنه هو العقل السليم والإدراك الصحيح. إنه لا يتعاطف هنا حسب بل ينطق بكل ما سيصدمنا به بطله من أطروحات فلسفية محارميّة، يبرّرها ويزكيها ويؤكدها، ويعود «التكرلي» ليعزز ذلك من خلال الاقتباس الذي أخذه عن الروائي الأمريكي «هنري ميللر» والذي يدعو إلى التفرد وتحقيق الذات حتى لو كلف ذلك قطع كل الأواصر التي تربط هذا المتفرد بالجموع التي تتغنى بالفردوس :

«غداً يمكنكم أن تكملوا تخريب عالمكم/ لكنني الليلة أريد أن أفكر في رجل واحد/فرد منعزل/في رجل لا اسم له ولا وطن/ في رجل احترمه لأنه لا يملك مطلقاً/ ما يشترك به معكم/ أنا.../ سأتأمل الليلة في ذلك الشيء الذي أكونه». لكن الأهم هو المقدمة التي كتبها لروايته هذه وعنوانها «مقدمة لنصّ ملعون» حيث يقول فيها: «كل ذلك من أجل أن يولد بعدئذٍ نص ملعون/ غير مقدّس، يرتفع بناؤه الهجين متحدياً بنجاحه كل القيم المتوارثة من خلال التمرغ العشوائي في المحرمات لكي يتوصل أخيراً إلى هدم بنائه بنفسه صارخاً مثل «شمشون»: «عليّ وعلى أعدائي يا رب..ص7» أي أنه قد صمم بدارية القيمة التي تكللت بالدمار الشامل الذي دمر البطل وأسقط معبد المحارم عليه وعلى رؤوسنا بدراية محكمة، ثم يمضي، في المقدمة، ليشرح لنا الكيفية التي كتب فيها نصّه هذا والدوافع التي قادته إليه وكلها لا صلة مباشرة لها بإبداع رواية بهذا المضمون: فما هي علاقة مشاركته في المظاهرات الاحتجاجية وهو طالب في المرحلة الثالثة من كلية الحقوق العراقية، ضد قرار تقسيم فلسطين وتوقيع معاهدة «بورتسموث»، عرضه لقراءته المحددة لكن المتنوعة وأهمية التمثيل الشخصي للمادة الثقافية في الإبداع، ظروفه العائلية – المادية خصوصاً – القاسية بعد وفاة والده عام 1942، حاجته إلى الجنس الآخر الذي حرم منه آنذاك، رسوبه في عشر مواد قانونية متعبة ومزعجة كان عليه أن ينجح فيها بعد رسوبه، وحدته في هذه المدينة المفترسة كما يصفها، مرض والدته ... وبين إنتاج نص محارمي جسور هو الأول من نوعه في العراق، والوطن العربي وهو  (بصقة في وجه الحياة)؟. في ضوء المصاعب والمشكلات الجسيمة السابقة كان من المفروض أن تأتي النتيجة/ النص من جنس السبب/ الظروف، فيكتب مثلاً رواية عن بطل جبار يتحدى كل  الظروف السيئة والحرمانات المتنوعة وينتصر عليها، لكنه لكي يواجه إحباطاته بدأ بكتابة هذا النص الغريب. يقول: «كنت أمام حل وحيد، طريق مفرد هو  الكتابة، وهكذا فعلت في ذلك الوقت من ذلك الحزيران من سنة 1948. ومع ازدياد المصاعب والمحن والتفافها حولي باستمرار كنت أقاوم متشبثاً بطوق النجاة النادر ذلك.. ص113». إنّ سمات سلوكه في السنوات التي سبقت كتابة النص ونظامه الحياتي قريبة جداً من سمات سلوك بطله العامة ونظامه الحياتي (النوم الصباحي اللذيذ، التكاسل، عدم الاكتراث، الهدوء، الوحدة المتعاظمة، الحاجة المادية، الحاجة الجنسية، القلق الذي يأخذ بخناقه دون سبب مفهوم، ونظرته وفلسفته التي فلسفة بطله» التي عبر عنها في الفقرة السادسة من المقدمة: «يتبدى عداء العالم من خلال تقاليد المجتمع الذي تؤسسه سلالة طويلة من الأغبياء وقصيري النظر، ولأن الفرد لا يلمس لمس اليد جوهر هذا الغباء المطبق ولا سببه فإنه يتوجه إلى العالم ككل بلعناته مغتاظاً من عجزه عن تدميره تدميراً كاملاً.. ص112»، ورغم أنه لم يقل لنا ما هو التخريب الحياتي الكبير الذي حدث له في بداية سنة 1948 والذي تبعه إحباط أكبر منه دفعه إلى إهمال دروسه في الكلية والاكتفاء بالنوم الصباحي، فإننا نستطيع تخمين هذا الإحباط الذي أوصل إلى هذا الشكل والمضمون المحارميين المحدّدين في نصّه الملعون هذا الذي اعتبر إنجازه نصراً في معركة وعملاً استثنائياً من أعمال تصفية الذات :

«أنهيت هذا النص في آب 1949 وكنت منتصراً قبل أن أدخل المعركة، نجحت في امتحاني العسير لأنني كنت قوياً خلاله. وكنت قوياً لأنني أكملت عملاً استثنائياً من أعمال تصفية الذات.. ص113». وهناك علامة إجرائية هامة وهي أن «التكرلي» لم يكتب مقدمة لأي عمل من أعماله، القصصية والروائية الكثيرة غير هذا العمل، ويبرّر ذلك بالقول :

«هذا إذن نص نادر واستثنائي في مسيرتي الكتابية وهو الوحيد الذي عنيت بتقديمه لأنه برغم فجاجته الفنية وسوقيته أحياناً وركاكة لغته، لا يزال يذكرني ليس بعالمي الذي اندثر بالكامل بل بوضعي النفس المتأزم آنذاك وبالطريقة الصحية الفذة التي اتبعتها للخروج دون أذى كبير جداً من هذه الأزمة ذات الجوانب المتعددة التعقيد.. ص14».

ملاحظتان ختاميتان:

1-   لقد كتب «سوفوكليس» مسرحيته (أوديب ملكاً) بعد أن حاول ابنه الحجر عليه قانونياً!!

2-   كنت قد كتبت دراسات كثيرة عن مبدع عراقي عالج موضوعة المحارم في أعماله، وكان ينكر أن يكون لها جذر في لاشعوره . وذات مرّة التقيت به مصادفة وبصحبته زوجة ابنه، صافحني بحرارة وقدم لي الفتاة : أقدم لك زوجتي، عفواً زوجة ابني..

         متى يموت المؤلف؟.  

 

حسين سرمك حسن – دمشق

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1481 الاحد 08/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم