قضايا وآراء

منفذ لأزمة الحضارة المعاصرة (3-3) / برهان الخطيب

العمل على إزاحتهم جار من الغرب، بحجة خطر نووي، كما أزاحوا صدام، الوطني أيضا رغم عنجهيته. إذن تُغير تشكيلات الاحتلال في العراق بانسحاب صوري استعدادا لمرحلة قادمة، تبذل محاولات لإزاحة الدينيين المتعاطفين مع إيران من حكم العراق، الأصح الرافضين ضرب إيران من العراق لمصلحته الوطنية، ثم إعادة البعث إليه ربما للمساعدة في أداء المهمة الجديدة، ولا بأس من توحيد جناحيه استعدادا لتحليقه، ليت ذلك يكون في سماء الوطن الفسيحة للجميع، وفي آن يتراجع الطابع الديني للدولة، علامة الرجعية في هذه المنطقة برأي العم سام، وليبق هناك عند الحليفة المدللة علامة التقدمية، في فهم عن الرجعية والتقدمية بمقدار إخفاء وكشف المعيب.

 التخلص من المعيب ومن تهديد الحروب والفقر بالخروج من وضع متعفن بفساد، بولاءات قديمة، بتأريخ قديم دون نبذ حسناته، عن إدراك بأن الحاضر أكثر أهمية من الماضي، أي بالعودة إلى التجمع بالجغرافيا، إلى مصالحة البعث العراقي وإيران، لا لإعادة كتابة التأريخ بل لكتابة تأريخ جديد، لتصريف أزمة الحضارة المعاصرة، كما فعلت أوربا باتحادها، وروسيا بالعودة إلى مجالها الحيوي أوراسيا، وكما ينتظر من العرب أن يفعلوا ذلك، (بعد مائة عام من العزلة لا يهم، صبرهم بلا حدود رغم أم كلثوم خلاف أرضهم) ها هم شرعوا للتقارب مع الجارين التركي والإيراني، هذا حميد. الجغرافيا تخلق التأريخ لضرورة، والتأريخ لو غيّرها فبعدوان. القوميات تآخت في ظل العثمانية والسوفييت، وتقاتلت لما فرقوها، هل تتآخى من جديد في مرحلة متقدمة من العولمة؟ على العولمة أن تثبت أولا صلاحيتها لاستيعاب وحل المشاكل، وأولها الفلسطينية، وقت يقضي تعنت إسرائيل نتنياهو على كل أمل رغم تغريده بحلول أوان مفاوضات، وليس آخر المشاكل حالة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية، أترك السياسي لأهله. أساسه أخلاقي؟  لتؤسس أحزاب تضع الفضيلة والرقابة منهجا قبل الاقتصاد.

إذا كان سعي ثورة 14 تموز للاستقلال عن الغرب استدعى غضبا عليها ساعد على غدرها بيد أبنائها عن جهل وعصبية فإن حال العراق لم يختلف كثيرا مع الأسف في زمن آخر مع انتشار المعرفة والقدرة، إنه يراوح مكانه، يعود إلى الوراء، بينما تعزز البرازيل وروسيا والصين وإيران وسوريا وغيرها، عن مقدرة فكرية وعن تشبث بالمصالح الوطنية والهوية، مكانتها مع مرور الوقت، وليقل دعاة الهيمنة على الشرق غير ذلك.

يكرر كتاب الثورة القاسمية القول بأن تخلف النظام الملكي سبب قيام 14 تموز، ويستخدم الصراع الطبقي لفهم وعرض تحولات العراق أساسا والصراع الطبقي ليس أكثر من برغي في داينمو التغيير، بل ويقول ثورة تموز داخلية بحت، وأنا أراها حصيلة أحداث خارجية أيضا بعيدة وقريبة بدءا من ثورة أكتوبر الروسية 1917 إلى ثورة عرابي المصرية 1919  إلى ثورة العشرين العراقية، إلى انقلاب بكر صدقي 1936، إلى تأسيس إسرائيل والحرب العربية معها، إلى ثورة يوليو المصرية 1952 وما تبعها تأميم القناة وحرب 1956..  كل تلك الأحداث دفعت نحو ثورة 14 تموز 1958 فكريا ونفسيا، ماديا كانت الأوضاع السيئة في العراق دافعا آخر، وإلاّ كان قادة تموز اكتفوا بالإصلاح داخل النظام الملكي، وهي فكرة مطروحة آنذاك، لكنهم ارتأوا، في جو التحرر الذي توج بسياسة كتلة عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ، تغيير النظام جذريا، جعله جمهوريا، ميالا إلى المعسكر الاشتراكي منسجما مع طلائع التغيير في العالم، التي ظلت فاعلة حتى في أوربا وأنجبت ثورة الطلبة وحركات اليسار الجديد منذ نهاية الستينات وظلت متصاعدة مؤثرة حتى على بزوغ الثورة الخمينية، وطنية في الجوهر دينية في المظهر، حتى حدثت الحرب بل الفتنة العراقية الإيرانية دليلا على عجز العقول التقليدية في فهم المتغيرات الجديدة، مثلما عجزت عقول القادة الشيوخ السوفيت عن فهم ضيق أفق حكم الحزب الواحد وضرورات السوق وخطر الفساد وجيوبه، وخسروا معسكرهم. بعد ذلك ساد القطب الواحد حتى تعثر في العراق بعد غزو 2003 فاستيقظ الدب الروسي من سباته القصير وبدأ نهوضا امتد إلى أمريكا اللاتينية فشعر النسر بتهديد وظهر أوباما داعية سلام مؤشرا لنهاية عالم القطب الواحد، ما يجعل أي تقصير في تغذية هذه المتغيرات يسبب نكوصا على مدى بعيد للقوى الصاعدة.

الاتحاد السوفيتي حين نصر مصر لدحر عدوان 1956 كذلك بحرب 1973 تعاظم كلاهما، وبعد أن لم ينصر عراق قاسم كما يجب إلى ما بعده وانكفأ إلى داخله سقط كلاهما في النهاية، بصورة غير مباشرة اشترك مع الشاه وبريطانيا في دعم تمرد كرد ضد حكم وطني صديق له، حتى بتقديم مقاعد دراسية مجانية لتأسيس انتلجنسيا حاضنة فكرة الانفصال والطرفان الرسميان في أفضل علاقة، ومع عراق البعث قبيل 2003 ومع إيران اليوم ثمة لوضع روسيا بعض الشبه بذاك. هكذا من غير تقارب مصيري بين شعوب البلدان الناهضة، العرب وإيران وتركيا، الكرد ضمنا، وروسيا والصين والبرازيل على أساس الاحترام المتبادل تتعثر مسيرة صعود نصف العالم تقريبا للحاق بنصفه الآخر المتطور رأسماليا.

 

التوازن داخل منطقتنا توازن للعالم كله

 

 العامل الداخلي وحده لا يقرر مسارات الأحداث، وضح ذلك أكثر منذ بدء الحرب الباردة الأولى، نحن الآن في الثانية شئنا أم أبينا، طبيعتها هذه المرة دفاعية أكثر من هجومية، والعامل الخارجي حاسم وإلاّ كانت الدكتاتوريات تداعت من نفسها، التخلف أحد الأسباب نعم لظهورها ودحرها خارجيا، كما يحدث أن يُستغل خارجيا لتحقيق أجندة خاصة لمصلحة الخارج أكثر مما لمصلحة الداخل. ثمة كاريكاتير طريف من 3 أجزاء يصور الأوربي على ربوة عالية ناظرا إلى أمريكا المكتشفة حديثا، الثاني جواره آخر في ملابس سوداء، الثالث ذو الملابس السوداء بمفرده على الربوة (بمعنى: القادم أخيرا كبح المكتشف من على الربوة وأخذ مكانه) ذلك الإقصاء للآخر يصبح طبيعيا في عهد الهيمنة الأبوية سياسيا، والسياسة مثل الطبيعة لا تحب الفراغ، وهناك دائما العامل الحسم يغير الظرف، في ظله العوامل الأخرى، كذلك تقدمت أمريكا على بريطانيا في مصر بعد ثورتها، كما حاولت في العراق لعب نفس الدور، وكلاهما سعيا لإحداث تغيير في العراق في العهد الملكي، بريطانيا ديمقراطيا، تعاطفت مع (الجبهة الشعبية) شبه المعارضة، وأمريكا ثوريا، شجعت حزب الاستقلال على  الانقلاب على الملكية، هذا على السطح، وهناك مَن يتصور ما تحته أنكى وأبكى.

سألني فنان معروف لماذا سقط السوفييت؟ قلت: لأن الرأسمالية أكثر ثورية من الاشتراكية. ذلك إن الصراع الطبقي سلاح التحليل الشائع يخفي ما هو أدهى منه، كالصراع القومي والديني وفي بؤرتهما الأخلاقي، فهو برغي صغير قلتُ في آلة تغيير كبيرة، الماركسيون تصوروه الآلة كلها، من هنا تضخم كتب عالجت التأريخ به على حساب حقيقة متوارية أو مواراة غالبا وراء سجف سرية، ليس نادرا ما تكون دموية.

التركيز على العامل الداخلي لثورة 14 تموز باعتباره الطبقي الحاسم يشبه التركيز عليه في قضية التضامن البولندية، وساحة بكين، وانتخابات إيران، وفي المستقبل قد نرى صراعات أخرى يكتب عنها الكثير ولا يوضح شيئا من الحقيقة، بل وقد تُقلب الصورة لترى الأكفش أقرع ملتحيا، أو العكس. الإعلام وما خلفه مؤثر مثل الدبابات، يُستخدم بفعالية فائقة لتقويض وبناء، وقد تنقضي حياة إنسان وهو لا يعلم صحيحا ماذا حدث حوله وله، حتى قاسم النبيل رحل لا يعلم عن كل المكائد المؤدية إلى فاجعته مع كل أجهزة الأمن له.

 على الشاطئ المقابل هناك دائما ما يخفى عن العين. والكتاب ناجح بمقدار ما يوضح من حقائق ويمنح متعة، تركيبا معنى على معنى، بلا لف يجعل السرد متوالية لغوية، كالقول في تبرير عنف ولو لثورة 14 تموز بأنه لا بد من التمييز بين عنف تستعمله قوى اجتماعية مستغَلة لتغيير نظام العلاقات الاجتماعية باتجاه تقدمي وبين عنف تلجأ له مجموعات معينة للقفز إلى السلطة..

 العنف هو العنف أي استخدام قوة (شرعيتها مطاطة مستمدة من تلك القوة غالبا) لتحقيق هدف، ثانيا القوة الاجتماعية يُعبر عنها بحركة مجموعات معينة. إذن الأمر سيان. انتماء لإحداها لا يبرر شرعيتها العامة، الخاصة ليست قياسا، كقولهم في حارة: أنا وابن عمي على الغريب. وفي دولة فالتة: مع الحزب أصاب أو أخطأ. وفي عالم فالت: لستَ معنا إذن ضدنا. لا موضوعية لا فائدة عامة من تفسير ذاتي لحدث أو نص، يعرض تصورات حقائق مطلقة، ذلك يكرس فوضى في عالمنا. نعم، الموضوعية تكاد تكون مستحيلة، نحن مجبولون على النظر كما تعلمنا، من مصالحنا، لكن لكل منا لحظة يتضح العالم فيها في غير صورته المألوفة، الكتابة الشريفة تنطلق من تلك اللحظة، وهي ليست أبدية، قد تعقبها لحظة أخرى معها مستوى آخر للرؤية، إلاّ إذا كنا نكتب بإرشاد، كموظفين، الكتابة في كذا حال جزء من لعبة، من قناعات ماض خداعة للكاتب نفسه وللقارئ. لقد وضح الكثير منذ بلغنا سن الرشد بعد دمار العراق، لا أقول بعد سقوط السوفييت، ولا بعد النزول على القمر، تلك أحداث لم تحرقنا نحن العراقيين مباشرة ولم تطلب منا إطفاءها ولو بالكلمات.

جريمة ثورة قاسم إنها أرادت استقلال قرارها السياسي، كما تريد الآن إيران وسوريا ودول أخرى ذلك، لكن الصراعات الداخلية والنوايا الخارجية السوداء ساعدت في القضاء عليها من الداخل. الأحزاب العراقية آنذاك رفضت التعاون مع قاسم، ذلك يفضح ضحالتها، وقضى النبيل بسببها. لكن معارضة سورية اتعظت، غلبت تناقضها الرئيس مع الخارج على ثانوي في الداخل مع السلطة، فكسب كلاهما، كذلك فعل الأخوان المسلمون في مصر، بينما تنجز القيادة المصرية بتعاونها الاستراتيجي مع روسيا ما أنجزته سوريا على صعيد تعزيز وضعها الداخلي والخارجي، وتعطي زيارة بشار لأمريكا اللاتينية وكلماته المهمة الطليعية خلالها مثالا ساطعا على إمكانية إلحاق هزيمة بعدو بالدبلوماسية الذكية حسب، ممهدة لرفع كل شباب العرب وأبعد إلى مستوى الإدراك العام إبان العدوان الثلاثي عام 1956 آن أصبح مصير الأمة في يدهم فأحسنوا الاستجابة لناصرهم وهُزم العدوان. إيران ما بعد انتخابات 09 على المحك، تتصرف بعقلانية يعرضها الإعلام الموجه ضدها طيشا. تتغير طبيعة أنظمة المنطقة وما حولها، من العشوائية وغيرها إلى التركيز على الوطنية، في صيغ مختلفة، صيغة دينية في إيران، قومية في سوريا، توفيقية في مصر، طليعية في ليبيا، مشتتة في العراق، توافقية في لبنان، ليبرالية في روسيا، شيوعية معتدلة في الصين، تدرك هذه الدول ثمة ما يجمع بينها مذ سقط الحاجز الإيديولوجي بعد تمزيق جدار برلين، بدأت تتقارب لموازنة الوضع الدولي كله، ولذود عام عن نفسها، أمام أخطار البيئة والتطرف والمخدرات وكتل خارجها وداخلها يصبح لها وزنا كبيرا ضاغطا عليها. مَن يستمع لما يصدر عن قادة هذي الدول يميز خطابا معتدلا بناءا يختلف عن خطاب الخمسينات والستينات والسبعينات الراديكالي الصادر من هذه المنطقة. هذا الاعتدال ضمان نجاح مشروعها نحو تغيير وتقدم منشودين لحل مشكلة الفقر واستكمال الاستقلال في منطقتها واستعادة الجدارة الإنسانية.

 

هم يؤكدون على الحوار، وبوش منذ أعلن من ليس معنا ضدنا ألغى الحوار، كذلك بقمعهم غزة، كذلك بالقول لا تدعوا أحدا يتدخل في شأنكم وهم يتدخلون، ويبقى درس الثورة العراقية المطعونة في الظهر أمس شاخصا أمامنا اليوم: تحريض القوى الوطنية بعضها على بعض أول الخراب، اتخاذ جانب هذا ضد ذاك مواصلة الخراب، ضياع النفس والسيادة. والتحليل بل التحايل بالقول إن منبع العنف في الطبع والجو إنما هو لقتل أول الأمل وآخره.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1482 الاثنين 09/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم