قضايا وآراء

باحة الضـــــــوء.. / محسن العوني

من المشاق الجسام وما يندلع فيه من الحرائق في سبيل الفوز بكتابته وإظهاره للعالمين فإن لم يكن له ذلك هلك دونه قرير العين لمجرّد معاينته فداحة المعنى!؟..

هذا البحث لا ينفصل عن تساؤل المشتغلين بالكتابة حول جدوى ما يكتبون قياسا بهول ما يجدون ووجه الارتباط بين كل ذلك ومعنى فعل القراءة لدى القارئ والكاتب والمجتمع الإنساني – لا المجتمع الذي ينتمي إليه الكاتب فحسب – ولو عمّقنا البحث في هذا السياق ولو أمعنّا النظر في هذا الاتجاه لخلصنا إلى القول بأن إيمان الكاتب بما يكتب وتحمّله المسؤولية كاملة في ذلك هو الدافع المنطقي القويّ للكتابة فضلا عن كونه المبرّر المعقول لاجتراح فعلها...

"في يوم.. في شهر.. في سنة.. لن يتأخر لقائي بالأستاذ الكبير عزرائيل وأخشى أن يسألني ماذا صنعت بحياتي الطويلة فلا أجد غير شيء واحد: عبثت بقلم على ورق، فليغفر لي الله وليسامحني الناس".

نصّ طريف عميق للأستاذ توفيق الحكيم وجدته مكتوبا بخطّ يده فوق صورة له وهو بصدد إعداد فنجان القهوة المضبوط وقد جاء متناغما منسجما مع شخصيّة الحكيم الذي تميّز بميله إلى الفكر الحيّ وإثارة الإشكالات الفلسفية والحضاريّة معتمدا في ذلك التساؤل مع نزعة أصيلة لديه نحو الصّراحة والفكاهة وشيء من السّخرية.. أديب كبير ورجل فكر بارز وصاحب مدرسة في الكتابة أنتج ما يزيد عن سبعين مؤلفا في حقول عديدة (مسرح – رواية – قصّ – سيرة – مقال – فكر) عُرضت مسرحياته في باريس وستوكهولم وباليرمو وغيرها من عواصم الدّنيا ومدنها وترجمت أعماله إلى عدد كبير من اللّغات الأنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والروسية والعبرية والسويديّة والرّومانيّة.. يخشى أن يسأله عزرائيل عليه السلام ماذا فعل بحياته المديدة فلا يجد غير إجابة واحدة : عبثت بقلم على ورق.. ويطلب الغفران من الله والصّفح من الناس!؟..

هذا الموقف لا يصدر إلا عن الحكيم الذي يدرك أن ما كتبه وأبدعه وأثرى به المكتبة والمخيّلة لا يعدو أن يكون قياسا بعظمة الفكر وعمق الوجود وفداحة المعنى – سالف الذكر – سوى عبث بقلم على ورق وهو بذلك إنما يعيد للحقيقة اعتبارها الرّاجع إليها ويفسح المجال الحيوي أمام أعماله.. مجال حيوي اسمه الصدق ويعترف لله تعالى بحقّ محاسبة كل من لا يلتزم بتبعات مسؤوليّته الأخلاقية في ما يقدّم من أعمال كما يعيد الاعتبار للجمهور ويعطيه حق محاسبة كل من يسيء إلى الذوق العام بإنتاج أعمال رديئة لا ترقى إلى آفاق الحق والخير والجمال وتكرّس الضحالة وانعدام الذوق والسّقوط.. لا بدّ لكل مشتغل بالكتابة أن يطرح على نفسه مثل هذه التساؤلات المتعلقة بقيمة ما يكتب ومدى جدارته بالقراءة والنشر على أوسع نطاق أو حتى أضيقه؟!.. لعل هذه التساؤلات هي التي تمنح المشتغل بالكتابة صفة الكاتب وتلحقه بهؤلاء الذين ينالهم شرف تشكيل وعي الناس وضمير الأمة.. هؤلاء الذين يضعون العلامات على الطريق فمن ضلّ بعد ذلك فهم المقصّرون وإنهم المسؤولون.. أو هو هالك أو شقيّ.؟!..

حقل الكتابة وعالم الفكر بمثابة باحة الضوء التي تسبح فيها المعاني والحقائق بكل حرية ودونما التباس أو شبهة.. باحة تبسط فيها أشياء الحياة تحت شمس الفكر فتغدو جميعها في عين الحقيقة ذلك أن خالقها يكره الزيف والمغالطة وهو يحقّ الحق بكلماته.. من أخطأ فليعترف وليصحّح.. ومن اشتبه عليه أمر فليتثبّت وليحقّق.. ومن ظلم فليعد الحقوق إلى أصحابها.. ذلك أن الرّجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والحقّ أحق أن يتّبع..

"إني استغفر الله عز وجل عمّا بدر مني خلال سنوات الشباب وأوقات الطيش وفترات التمرّد على النّظم والنواميس والجنوح.. وأحيانا عندما يقع تحت عيني قول ينسب لي أنظر إليه وكأنه لغيري ولا أشعر بأيّ زهو أو شيء من هذا القبيل.. فقد تجاوزت تلك المرحلة وأعترف بكل أخطائي وأعتذر عن جميع زلاّتي وأعود إلى الله في جميع الأحوال ولا أصرّ على ما فعلت شأن الحمقى والجاهلين.. "هذا ما صرّح لي به أحد الكتاب والشعراء العرب البارزين وكم ازداد احترامي له بسبب ذلك وكم تتأكد حاجتنا إلى بيان البراءة من الأخطاء الفكرية والتوبة عنها – لا الاستتابة – فالأولى أكرم بكثير من الثانية وأجدر بالمشتغلين بالفكر والثقافة والإعلام للاعتبارات التي لا يجهلها أحد ولأنهم قدوة ومثال أو المفروض أن يكونوا كذلك..

باحة الضوء مرشحة لأن تتوسّع في ذهن وضمير كل إنسان كما أنها مرشحة لان تتقلّص فتغدو مثل نقطة الضوء ثم تنعدم وعندها يموت البصر في العيون والبصائر ويضيع الطريق في الخطوط والدوائر ويهتف هاتف "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا".  الحديد13

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1482 الاثنين 09/08/2010)

 

في المثقف اليوم