قضايا وآراء

لبّيك../ محسن العوني

أرض تهوي إليها الأفئدة وبيت يتوجّه إليه الذين أسلموا في اليوم خمس مرّات وأكثر في المشارق والمغارب..

كانت الرحلة إلى البقاع المقدسة وستظل علامة بارزة في الحياة الرّوحية والوجدانية لكل مسلم.. هي تاج الرحلات ومركزها..جمعت بين خير الدنيا والآخرة واستنفرت قوى الجسد والروح كما لم تفعل رحلة أخرى ..وقد ورد في الأثر أنّ الله تعالى أمر خليله إبراهيم  عليه السلام أن يؤذّن في الناس بالحجّ بعد أن أتمّ بناء البيت فقال إبراهيم:"ربّي إن صوتي لن يبلغهم" قال :"عليك الأذان وعليّ البلاغ".

وهاهم يأتون من كلّ فجّ عميق بالطائرات والبواخر والعربات.. ليشهدوا منافع لهم ويكحّلوا عيونهم وينوّروا قلوبهم ويشحذوا عقولهم برؤية بيت جمع المعاني كما جمع الأجناس والألوان واللغات حوّلها إلى كلمة تعلن أشرف وأسمى استجابة.. استجابة الإنسان لربّه الكريم..لبّيك اللهمّ لبّيك.. كلمة عجيبة تحرّك أعماق النفس تماما كما يحرّك التيّار أعماق البحر..وكم هي جميلة هذه الشدّة فوق الباء.. هي شدّة تشدّ الكيان وتوحّده ثم تطلقه في الوجود فاعلا مريدا تتجلّى فيه الحياة كأروع ما يكون التجلّي ويظهر من خلاله إبداع أحسن الخالقين ويترجم حكمة الله وإرادته أبلغ ترجمة..

من ذكريات الطفولة العالقة بالقلب أنّي كنت كلّما تابعت نقلا حيّا من البقاع المقدّسة بلغ بي التأثـّر كلّ مبلغ لدرجة أنّي كنت أطوف ببيتنا ملبّيا بعد أن تنتابني وتجتاحني حالة من الوجد يعجز القلم عن وصفها.. حالة تعاش ولا توصف.. فهي لا تُدرك إلا بالمعاناة لو اعتمدنا عبارة ابن حزم الأندلسي..

إحرام هو إعلان الدخول في المناسك واليقظة الداخليّة والانخراط في ذكر الله« ولذكر الله أكبر »وقطع مع الغفلة والكسلان والتسويف..ثم طواف بالمعاني واستمداد للنّور ثم سعي وضرب في الأرض تحقيقا للخلافة ثم وقوف بين يدي الله في عرفات الله وتذلّل ينتهي بالعبد إلى أعلى درجات الكرامة والعزّة والحرية ويُكلّل بالغفران والرضا من الغفور الودود..ثم رمي وهدي ووداع وما الحياة سوى بدء لا نهائيّ ودورة متصاعدة تصل العبد بسرّ وجوده وأصل كيانه.

اللهمّ لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض.

ولك الحمد، أنت قيّوم السماوات والأرض.

ولك الحمد أنت، ربّ السماوات والأرض ومن فيهن..

أنت الحق ووعدك الحق، والجنّة حق، والنار حق، والمنون حق، والساعة حق.

اللّهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أعلنت وما أسررت.

أنت إلهي..لا إله إلا أنت!

تظل العقول قاصرة عن إدراك حكمة الحجّ وفهم شعائره ما دامت النفوس غير عامرة بالإيمان المطلق وبنعمة الاستسلام التامّ ..وعندما يختلج نور الإيمان في صدر المؤمن وقد مسّته موجات الاتصال بالذات الإلهيّة وهو يطوف حول الكعبة فيعبّ من الأنوار ما قُدّر له أن يعبّ ويستقبل من النفحات ما ناسب قابليّته واستعداده، عندها يستطيع أن يشعر بحلاوة الحجّ وبقدسيّة شعائره وعلوّ مقاصده.. رحلة كلمة السرّ فيها: لبيّك ..استجابة مطلقة لأمر الله وتوجّه بالكليّة نحوه وهي تماما كلمة الجهر لأنها انفتاح على عباد الله وخلقه وتواصل معهم باعتبارهم رفاق الرحلة وشهود المسيرة وقد جاء في الأثر«أفضل الجهاد حجّ مبرور» .

«الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنّة».

 

الحجّ جسر إيماني يُحيي معاني الحنيفيّة السمحة ويجلّي الأخوّة الإيمانية ويئد مظاهر الجاهلية والعصبيّة.

لبيّك يا ربّ أرواح مزنّرة              بالإثم تنشد في مغناك غفرانا

تأثمت بالخطايا فهي مثقلة              تنوء بالحمل فرسانا وركبانا

فأسلمت لك يا ربّي مقالدها             واستعبرت تسكب الأنفاس أشجانا

وترسل الدّمع في ذلّ وفي ندم          وتطلب العفو تسليما وإذعانا

تطوف بالبيت سعيا فهي شاخصة               إلى سنائك سادات وعبدانا

تلوذ بالسذّة العليا ورائدها               مجنّح بالهدى..يهتزّ لهفانا

سبيلها الحق والإيمان شرعتها                   إلى رضاك زرافات ووحدانا

يافرحة النفس باللقيا وما سعدت                 نفس بغير لقاء الله رحمانا

يسمو إلى الخير في ذات الإله فتى     عاف الأذى ومضى في الخير معوانا

وأدرك النور في ذات الإله فما                   ينفك يولي الورى برّا وتحنانا

شعر : سليم الزركلي

 

 ولا يفوتنا أن نتوّجه بالتهنئة لأخواننا الحجيج والمعتمرين قائلين لهم: حجّكم مبرور وسعيكم مشكور وذنبكم مغفور ويسّر الله لكل من نوى حجّ بيته العتيق وزيارة المصطفى.

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1484 الاربعاء 11/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم