قضايا وآراء

نافذة العنكبوت .. نافذة الآثام المميتة / حسين سرمك حسن

 (...)

(سألني طفل: هل يحلق ملاك شاربيه؟

فوجئت . ولم أعرف أن أجيبه . غير أنني وعدته بأن أستفتي العارفين وأنقل إليه جوابهم)

 (أدونيس)

(الإبرة وهي تجول بالخيط المستكين راحلة به إلى مفصلات اللون تتخذه زوجا وهي تدري أنه في انتهاء الطواف سيُقطع عنقه لاشكّ أن الخيانة تبدأ بإبرة ...)

....................

 الشاعر العراقي

 (إبراهيم البهرزي)

 ديوان (حدائق الشيطان) - مخطوط –

 

تمهيد: إذا أردت رواية (نوبلية)، فهذه رواية نوبلية (تستحق جائزة نوبل) بامتياز .. وإذا أردت رواية بوكرية (تستحق جائزة البوكر العربية أو، حين تُترجم، البوكر الأجنبية) فهذه الرواية (نافذة العنكبوت)* لشاكر نوري تظفر بها باقتدار . هذا عمل كبير من نمط الأعمال الإنسانية الهائلة التي تنطبق عليها قاعدة أن (أدب الحرب الكبير يُكتب بعد الحرب) . رواية موت وخراب ودمار، وأعظم الأعمال الادبية في تاريخ الأدب كانت عن الموت . خذ مثلا مكبث وعطيل والجريمة والعقاب ومدام بوفاري والأحمر والاسود ومرتفعات وذرنج والحرب والسلام والدون الهاديء وغيرها . وليس عبثا أن معلم فيينا يعد أهم ثلاثة أعمال في تاريخ الأدب هي: أوديب ملكا لسوفوكل وهملت لشكسبير والأخوة كرامازوف لدستويفسكي، وكلّها تدور حول قتل الاب، تلك الجريمة المهماز الأساسي لتطوّر الحضارة والآداب والفنون والأخلاق والقانون والتي تناولها شاكر في روايته " نزوة الموتى "، وتحضير المحارم الذي هو محور روايته، نافذة العنكبوت، التي يطرح فيها ثيمة " قتل " الأخ، العقدة القابيلية في تصميم مبتكر وشديد الفرادة . وحين نقول أدب الحرب فنحن لا نقصد به الأدب التعبوي الهتافي والحماسي، بل الأدب الإنساني الكبير الذي يقف فيه المبدع أمام أشباح الموت والخراب، ليكشف لنا الكيفية التي تهز بها الحرب أسس وجودنا بعنف فتجعلنا نصحو من خديعة الحياة لنواجه الحقيقة الوحيدة التي لا غبار عليها في هذه الحياة وهي الموت (بعد الحرب العالمية الثانية أرسل الكثير من الطلبة الأوربيين رسائل إلى رؤساء دولهم يسألونهم فيها: هل هناك داع لإكمال دراستهم الجامعية بعد الذي حصل؟) . وعلى حقيقة هشاشة الإنسان التي تكشفها الحرب، كحيوان يموت ويدرك أنه سيموت، اشتغل شاكر نوري في رواية كتبها بين جلولاء العراقية وباريس الفرنسية في حزيران 1994، أي بعد ست سنوات من الحرب العراقية الإيرانية، وثلاث سنوات من حرب الخليج الثانية (الحرب العالمية الثالثة) . ومرحلة الإختمار – incubation period هذه ضرورية لأدب الحرب الكبير . فللانفعال بالحرب وجهان متكاملان: الأول قريب، حاد، حماسي، تقريري ومباشر يمكن لنا أن نصفه بـ " الخارجي "، والثاني بعيد، مزمن، تراجعي، تأملي وغير مباشر يمكن أن نصفه بـ " الداخلي " . والثاني هو الذي يحتاج إلى إنضاج واختمار . والأديب، كما يقول الأستاذ يوسف ميخائيل أسعد في كتابه " سيكولوجية الإبداع في الأدب والفن ": (كالمصور الفوتوغرافي الذي لا يستطيع أن يلتقط صورة إلا عن بعد معين . وقل نفس الشيء بالنسبة لعملية الإدراك ذاتها التي ندرك بها الأشياء . فأنت لا تستطيع أن تدرك منظرا ما من المناظر بعينك إلا إذا كان بعيدا عنك نسبيا، فإذا ما التصق الشيء تمام الالتصاق بعينك فإنك لا تستطيع حينئذ أن تدرك صورته . على أن الأديب لا يكتفي بالبعد المكاني بل يضيف إلى هذا البعد بعدا آخر هو البعد الزماني ... فهو بحاجة ملحة (بعد الانفعال) إلى فترة نسمّيها " الهضم الخبري " ..) . وهناك خمسة ضرورات لهذا البعد الزماني نعرضها، لأهميتها، بإيجاز وتصرّف، وهي: - إن الانفعال لا يسمح للمبدع إدراك نفسه كذات من جهة وكموضوع من جهة أخرى، بل ذاتا مشتعلة فقط . – الانفعال لا يسمح بإصابة الهدف (التعبير الرصين) بدقة . – الانفعالات لحظية وسريعة التدفق وبالتالي فالإمساك بها يكون مستحيلا . لكننا نستطيع القبض على آثار الانفعالات في نفوسنا (صور الانفعالات البعدية أو التلوية) . – في غمرة الانفعالات لا يستطيع الأديب إقامة علاقات بين تلك الانفعالات وبين غيرها من الخبرات السابقة . – بعد أن يفيق الأديب من انفعالاته فإنه يستطيع ربط صور الانفعالات بثقافته وبالأحداث الجارية وبخبرات الآخرين، أي يصوغ تلك الصور الذهنية في قوالب اجتماعية وذلك لأن الصور الذهنية الانفعالية وحدها لا تشكل أدبا إلا إذا ارتدت أثوابا اجتماعية (1). ولكن شاكر كان وقت الحربين وما تلاهما من سنوات في فرنسا، ويأتي إلى وطنه في زيارات سريعة بسبب طبيعة عمله، أي أننا لسنا أمام بعد مكاني عن حدث عشناه ولكن أمام فجوة جغرافية بين الكاتب والمعايشة اللصيقة للحدث الكارثي، وحسب قاعدة أمهاتنا الحكيمات الذهبية فإن من يبتعد عن تنور الخبز عليه أن يقبل بالصمون . لكن عند هذه المفارقة تتجسد أصالة المبدع واقتداره . وفّر العمل الصحفي مادة هائلة عن أحوال البلاد في الحرب استثمرها الكاتب ببراعة، مثلما كان لا يضيع فرصة في زياراته إلا وقابل فيها المثقفين العراقين الممتحنين الذين كان أكثرهم من مقاتلي الحربين، وكان يستفز جلساءه لإطلاق الكم الأكبر من المعاناة والآلام الجسيمة التي عاشوها في الحرب والحصار (هذا ما لاحظته في جلسة طويلة جرت في التسعينيات في مكتب الشاعر سلمان داود محمد) . والأهم من ذلك أن عين المبدع العضوية ليست مثل عين الفرد العادي . وهناك العين المضافة الخطيرة، عين لاشعوره ومجساته فائقة الحساسية وصندوق ذاكرته الأسود . كل هذه العوامل الإيجابية دعمتها وأصلّتها للفعل الباهر ثقافة شاكر الموسوعية، خصوصا في مجال السينما (والرواية فيلم مكتوب) .

يبدأ الكاتب روايته بالقسم المعنون (أيار) وذلك بوصف حركة الحياة وتفتحها في الربيع: (فاح العطر من باطن هذا الربيع، مزهوّا في أول إطلالته مثل نبات الفطر البري الذي يخرج فجأة، ليتناثر كالأمواج في الهواء المضطرب في محاولة للإختباء بين طيّاته، وتغيير مذاقه – ص 13) . ومن قواعد فعل النفس البشرية هي أن هناك " حتمية لاشعورية " تقودها في أبسط سلوكاتها . لا يوجد عمل عبثي أو مفرغ من المعنى مهما كان بسيطا، كل أفعالنا، حتى ما يبدو تافها منها له معانيه ودلالاته الرمزية، وقد يكشف أحيانا مكبوتات لاشعورية جسيمة . وحين تقطع شوطا في الرواية وتعود لترسم صورتها الكلية فستجد أن صياغة الإستهلال، مبنى ومعنى، محكومة بدوافع مبيّتة حكمت تصميم الكاتب لنصه كاملا . ولكن لأننا لا نؤمن بأن العنوان (أو الإستهلال) هو " ثريا النص " على طريقة المكتوب يُعرف من عنوانه !!، وأنهما لا يضيئان ظلمات النص ولا يفتحان مغاليقه بصورة كاملة إلا بعد الإنتهاء من النص والعودة لرسم صورته الكلية – gestalt، فإننا سنؤجل الحديث عن المعاني الدفينة لهذا الإستهلال ونركز مؤقتا على اللعبة الفنية التي حاول الكاتب من خلالها خلق مفارقة صادمة تتعلق بحالة بطل روايته " عبد الرحمن " – ولا تتكشف شخصية الراوي الفعلية الآن - . ففي الوقت الذي يأتي فيه الربيع بلسما لجراحات الطبيعة، وشارة نماء وخصب وانبعاث كما هو مؤسس في الحركة الكونية، وفي نواميس الحياة البشرية وأساطيرها، نجد جسد عبد الرحمن يضمر ويتحسس من أريج الربيع العطر المنعش، فهو مصاب بحساسية جلدية من الربيع !! تجعل جسده يمتليء بحبيبات حمر ناعمة تأكل مسام جسده وتثير الميل للهرش والحك ولا تهدأ حتى لو مزّق جلده بأظافره . وأيضا وحين تتقدم في قراءة الرواية ستمسك بدرجة من التشفّي " القابيلي " – بعد أن تتكشف هوية الراوي كشقيق أكبر لعبد الرحمن في الصفحة السادسة عشر ص 16 - في وصف الراوي للأعراض المرضية لدى عبد الرحمن بفعل الحساسية حيث يواصل الراوي القول بعد الاستهلال مباشرة: (.. فيما أفاق عبد الرحمن لتوّه من النوم بفعل تسلل هذا العطر المفاجىء إلى تعاريج أنفه المرتخي والمبلل بمخاط شفاف سائل، وهو يتردد في استنشاقه مرة واحدة، كي لا يختنق بزكام الربيع – ص 13) . وبدءا من مفتتح عن بهجة الربيع ومرورا بوصف انتقالي لتهالك جسد عبد الرحمن يوصلنا الراوي قريبا من محيط دائرة جحيم الأخير، الذي تنبه للمرة الأولى أن الليل الذي كان هادئا في مخيلته قبل زواجه، أصبح الآن أكثر ضجيجا من النهار بفعل الكوابيس التي تحاصره من كل جانب وتجهض حاجته للنوم الآمن الهاديء، ثم يضعنا الراوي في مركز دائرة عذاب الأخير الذي عجز عن افتراع زوجته (شيرين) ليلة زفافه، فصار كابوسه خيمة سوداء تظلل البيت بأكمله وتمتد إلى غرفتي الأم التي بنت الآمال على الذرية التي سينتجها زواج ابنها، والأخ الأكبر الذي جاء من القرية البعيدة التي يعمل فيها مدرسا للعثور على حل لمحنة العائلة . ومع إنكشاف طبيعة المحنة، وظهور شخصية الراوي، نستطيع منذ الآن أن نمسك بمفاتيح الإستهلال معنى ومبنى كما وعدنا . لا يبدأ الكاتب مشروعه عشوائيا، إن الفكرة الأساسية بعقدتها الحاكمة التي اختمرت في لاشعوره تسخّر كل ما يصوره من مواقف ووقائع في خدمتها " دون أن يعلم أحيانا "، وتنسرب خفية في عروق مفرداته ومعانيه . عقدة شاكر الأساسية هي: العجز، عجز أخيه عن أداء دوره الزوجي في فض بكارة زوجته، أي الجفاف المطلق لقدرته الإخصابية، (الربيعية)، أو (الإنبعاثية) كما يختزن إيحاءاتها لاشعورنا الجمعي . وعليه فليس عبثا أن وقائع الرواية تبدأ في الربيع في شهر أيار حيث يقيم الكاتب موازاة رمزية مجهضة بين الطبيعة وفعل الفرد المحبط الذي ستسبب فيه متغيرات الطبيعة المزدهرة مضاعفات سلبية تخالف ما هو متوقع . إننا نقف أمام عقدة إنخصاء فرديّة تعكس معضلة كونية عبر تمظهرات دورة الطبيعة . وستتسيد هذه العقدة، وما يلحقها من تفريج للحسد، بل الغيرة القابيلية المميتة (من المتعارف في بلداننا أن الأخ الأكبر يتزوج قبل الأصغر في حين أن ما قامت به الأم خلاف الأعراف الاجتماعية المتوقعة حيث قامت بتزويج الأخ الأصغر) بين الأخوين، على مسارات البناء اللغوي والرمزي في الرواية، المسارات المعبرة عن الخصب واليباس، القدرة والعجز، والجسارة والإنخذال وسط دويّ خراب شامل مدوّ . هناك الصياغات اللغوية والتصويرية المعبرة عن المضامين " الحسّية " لفعل الطبيعة: العطر الذي يفوح من باطن الربيع، نبات الفطر الذي يخرج فجأة، ليتناثر كالأمواج في محاولة للإختباء بين طيّاته، الكوابيس التي تمتص كفايتها من ظلام الليل، البئر العميقة المجوّفة الغارقة في الظلام .... إلخ . اللغة كلها نشأت من أصل جنسي – ولا أقصد تناسلي -، وتحديدا من فعل جسد ووظائف الأمومة المباركة، اللغة أنثى نمت وترعرعت قرب مهد الوليد البشري الأول . إن التداعيات التي تحصل في ذهن الكاتب تنبع من داخله، وليس كما يتوهم الكثيرون، من " الخارج " من خلال تأثيرات المشهد الذي يراه أو الثيمة التي يختزنها في وعيه كذكرى مجردة . أن هذه التداعيات مشروطة بصورة غير مدركة شعوريا، تبزغ بهدوء مسموم . (أنني أفكر بكنيسة معينة فتحضرني حالا كنيسة مشابهة وهذا تداع كلاسيكي بالمشابهة 0 ولكن الشيء الذي تهمنا الإشارة إليه هنا هو أن علاقة التداعي بالمشابهة هذه تفعل فعلها من غير أن تكون معروفة ـ أي أنها لاشعورية ـ ومن البدهي في الواقع أن علاقة من هذا النوع لا يمكن أن تُعرف إلاّ بصورة لاحقة للأشياء التي تصل بينها ولكن واحداً من هذه الأشياء هنا وهو الكنيسة الثانية لمًا توجد بعد في دائرة المعرفة والأمر كله في جلبها إليها 0 فنحن مضطرون إذن الى الاعتراف بأن علاقة المشابهة تفعل فعلها من غير أن تكون معروفة 0 ولو لم يكن الأمر كذلك لكان أي تذكًر بطريقة التداعي مستحيلا 0 وملاحظتنا هذه غنية بالنتائج 0 إن السببية النفسية التي بها تستدعي فكرة فكرة أخرى تمارس تأثيرها فينا من غير أن نحسًه وبصورة لاشعورية فلا نشعر به إلاّ فجأة بعد ذلك 0 بل هل يمكننا القول أننا نشعر مباشرة بالسببية التداعية التي تستدعى الفكرة بواسطتها فكرة أخرى؟ 0 هذا ما لا يبدو ممكنا 0 إن التفكير بالتداعي لا يشعرنا بأي جهد ونحن نشاهد كمتفرجين منفعلين تلاحق الصور وهكذا فأنه يبدو أن سببية الاستدعاء التي تصل بين الصور المتداعية وكأنها مستقرأة لا مدركة مباشرة بالحدس كسببية العقل الإرادي 0 فإذا أردنا معرفة حتمية تداعياتنا لم يسعنا إلاّ ملاحظتها كأية حادثة من حوادث الطبيعة 0 ولما كانت التجربة بالفرضية لا تتدخل في تتابع عمليات التداعي فإن من المنطقي الافتراض بأن العلاقات القائمة بين التصورات المقترنة على شيء من الثبوت 0 لاريب أن هذه موضوعة نفسية ولكنها موضوعة منسجمة مع التفكير العلمي 0 أما أن يكون تيًار الفكر لدينا تغيرا خالصا وأن يجري فينا نهر هيراقليطس فإنه ما من رجل علم ليقبل بذلك أبدا 0 وعلى هذا فإن من المشروع الافتراض بأن للصور رابطة تداعية قوية الصلة أو ضعيفتها بالتصورات التي تنشأ عنها 0 ولئن كان الأمر كذلك فإن هنالك طريقة لتحديد وتعيين أسباب الحلم بأن يتمدًد الشخص ويغمض عينيه ويعدل عن النقد الذاتي 00الخ ونقدًم له صور حلمه (حلم المبدع = نصّه) 0 وعندما سننتهي سنلاحظ بدهشة عميقة أن التداعيات ذات وحدة في الموضوع وأنها ليست أبدا بغبار متناثر عديم الشكل لا يخضع إلاّ لقوانين التداعي التقليدية في المشابهة والتضاد والإقتران بل أنها تؤلف كلاً موحداُ حقا يضع بين أيدينا مباشرة معنى الحلم ـ النص) (2) 0 وعليه فإن المفتتح الذي " اختاره " الكاتب في الحديث عن أفعال ولادة في الطبيعة (العطر من باطن الربيع، الفطر البري الذي يخرج فجأة، تناثر الأمواج، ثم الغيمة المشاكسة التي تحجب نور القمر وتسبب تعثّر عبد الرحمن، الخيوط المخاطية اللاصقة، البئر العميقة المجوفة " ولاحظ حماسة الكاتب لأن البئر مجوّفة أصلا لكنها الدقة المفرطة التي تسيّرها تعبئة الدوافع المسبقة كما سنرى لاحقا "، والإنتقال من ذكرى الأب الذي قُتل اغتيالا، مرورا بالفارس، رمز الأب، الذي يشاهده عبد الرحمن وهو يطعن حيوانا وحشيا برمحه ويجعله ينزف من فكّيه (يخصيه) في صورة السجادة المعلقة (دائما تعلّق صور الأبوة الخاصية في غرفنا ونحن صغار، ملونة، ومبهجة لتمرير تهديداتها)، وتخييل الصقور التي تنقر قضيبه، وانتهاء بالتجديف الماكر عن قدرة الآلهة التي تقول للشيء كن فيكون، وتعجز عن تحقيق " معجزة " ابيضت عينا الأم في انتظارها وهي أن ينتصب قضيب عبد الرحمن ليفض بكارة زوجته وينتج طفلا يشبهه . كل هذه الحلقات التي قد تبدو مفككة ومتضاربة أحيانا محكومة بدورها بالمكبوت المختزن في أعماق الراوي الدفينة (ولا أعلم كيف يموت المؤلف وفق أطروحة رولاند بارت التي تجعل المبدع وكأنه كاتب عرائض يجلس عند باب محكمة الإبداع، ليستمع لشكوى شخص اسمه عبد الرحمن ولمعاناة زوجته وأمه وعداءات أخيه الأكبر ثم يصورها فنيا أحسن تصوير) . إن كل ما يُصب على أوراق النص يأتي من الداخل كما قلنا . صحيح هناك شرارة تأتي من الخارج (حدث خارجي، خبر أو صورة في صحيفة .. إلخ) لتشعل اللهب في حزمة الحطب التي تجمعت في لاشعور المبدع طويلا، لكنها لن تفعل فعلها إن لم تكن ملائمة لـ " مناخ " الداخل . أي أنها تُطوّع من قبل فواعل أعماق المبدع ذاته . وحين نعود إلى مراجعة القسم الاستهلالي (أيار) من رواية شاكر، سنجد أنه حتى اللغة السرديّة متأثرة بالمناخ الداخلي المبيّت . ويهمني أن أقف طويلا نسبيا عند هذه المداورة التحليلنفسية لأنها ستغنينا عن الكثير من الإطالة والشروحات في تناول هذا العمل المهم والمُربك: (أريد أن أستشهـد هنا بـنص طويـل لـ (فلورنـوا الإبن) ويـزيد هــذا النـص عما تعارف النـاس عليه في الاستشهـاد ولكـنه بدا لي أنّ من المستحيـل قـطعـه وفيـه مــن أسـلـوب التـفكير وطريقة العمل ما يستحق معهما أن يُعرف: كان (فلورنوا) يدرس في مقال عنوانه (سيفا آندروجين (Civa –Androgyne) صوراً مختـلفة تمثل إلوهـية هـندية والأشيـاء المستخدمة لعبادتهـا وقـد أوّل ذلك كلـــه تأويلاً جنسياً0 وعندما أنهى دراسته شعـر بالحاجة إلى تسويغ تعليله فسوغه بالكلمات التاليـة:- (ما هـي الفائـدة فـي العثـور على دلالة جنسيـة مفـردة أو مضاعفـة لمختـلف أوصـاف (سيفا) ورموزها؟ ولمَ – إذا كنا باتجاه صورة متخيله – كصورة نهر يتفجر من الشعر- لم لا نكتـفي باعتبارها مجـرد ابتـكار خيالي ولا نبحث عن أكثـر من ذلك؟ وهـل هنالك معنى ما في إقامـة علائق غيـر متوقعـه تجـرح شعـور النـاس بـالجــانب الفيزيولوجي الفـج فيهـا؟0وعدا ذلك فإذا نحن وصلنا إلى نتـائج من هـذا الموضـوع، أَ فليس تحليلنا نـفسه هـو الذي يشوّه الموضوع المُحلـل بدلاً مـن أن يجعـله أقـرب إلـى الفهم؟ ونحن نقبل ولاشـك – أن الخيال وحـده يمكـن أن يخـلق كـل شيء حتى الأساطير والأعمال الفنية واللوحات العجيبـة جداً0ولكن ملكة التخيل هذه،مع ذلك،جزء لا يتجزأ من الإنسان، بمعنـى أن علـى العنـاصـر التـي تعمـل فيهـا أن تـكون بشـكـل أو بـآخـر مستعـارة من مجـال التجربـة الأنسـانيـة0ويحـاول جهـدنـا التحليـلـي أن يكتشـف هـذه العناصر الأساسيـة،علـى أن تكـون أبسـط العناصر الممكـنة على الرغم من التغيرات العديدة التي أضافها الخيال الجمعي والفـردي 0 وليُسمح لي حباً بالوضوح في أن أقــدم أيضاً بعض الأمثـلة المشخصـة البسيطـة جـداً،إنها قد تجـرح – ولاريب – بفجاجتهــا ولكنها تجعلنا أقدر على فهم ما نريد . فالنهر الذي يسقي الهنـد ويخصبهـا يخرج من شعـر (سيفا)0إنّ هذه فكرة خرافيــة واضحـة –ولنـقـل أسطورة –ومـن جهـة أخرى فأنـه توجـد في (بروكسل) عيـن مـاء معروفة جداً باسم (مانكن- بيس) يجري ماؤها من الطرق الطبيعية لغلام يبدو عليه أنه يتبوّل0إنّ هاتين الحالتين تشتملان عـلـى فكـرة أساسيــة مشتـركـة منهـا استوحـى رجل الفن عملـه: أي إخـراج السائل مـن الجسم الأنساني0ولكن أيّ هاتين الحالتيــن تعبر عن الفكـرة بأقـل تـشويـه ممكـن؟ فمتى رأى الرسـام أو الشاعـر الهندي أن الماء يتـدفـق من شـعر امـراة؟ إنهـمـا لـم يريـا ذلـك أبـداً،فيمـا أظـن- وأقـرب ملاحظة إلى أسطورتهما استطاعا القيام بها-ـ شعورياً أ و لاشعورياً-ـ ثم حرفـا فيهـا كمـا شاء لهما الهوى،عندمـا أنشئـا عملهمـا الفني- لا يسعهـا أن تختلـف اختلافـاً كبيـراً عن ملاحظـة مهندس عين ماء (بروكسل)0وإذا نظرنـا إلى (سيفا) من حيث أنـه إله الطاقـات الخلاقـة والمنعـم الكبير بالحياة والمعبود على صورة الـ (لينغا) ومطلق مياه الغانج المخصبة من ضفيرة شعرها فأننا نستطيع أن نتساءل عما إذا كان الخيال المبدع –عندما أخرج السيل المقدس من شعـر (سيفا)- لم يموّه بكل بساطة فكرة ما وراء ذلـك هي أوضـح وأقرب إلـى الفهم0وفي أحدى متاحف الآثار يوجد قطعة موزاييك فاجرة تمثل رجلاً يقذف بذاراً غزيراً-(تذكّر أسطورة الإله (أنكي) ــ وهـو يقـذف منـيه في نهـر الفـــرات ــ الناقد ــ) ولقد عبّر النحات هـنــا بشكل فج ومن دون أي لف أو دوران عــن فـكـرة القــوة الخلاقـة، لكن الأسطورة الهنديـة ــ على العكس ــ تـفجـّر الميـاه مـن شعــر الإلــه (سيفا)0 فأي هـذيـن التعبيريـن ينبغي اعتبـاره الأكثـر بدائيـة والأعـرق أصلاً؟000 وأيهمـا تـلقّـى التمويـه والتحريف؟ أهــو ذاك الذي يثير التـقـزز إلى الـدرجة التي تغرينـا بمدافعتــه وكبته أم هـو الآخر؟0ولنضرب مثلاً أخيراً: إننـا نلاحظ في أحد وجـوه (سيفا) أن الخيـال الأسطـوري يخـرج مخلوقـاً صغيـراً مـن رأس الإلـه الخنثى0 ولقد رأينـا فـي ذلـك واحدة من هـذه الولادات (اللاتناسلية) على مثال تلك التي تُعزى لحواء لدى خروجها من أحد ضلـوع آدم0فهل نرتكب خطأ إذا نحن اعتقدنا أنّ وراء هذه الأساطير عنصراً أجنبياً مكبوتاً؟ وهـل أتاحت التجربة الإنسانية يوماً مـا بأن يخرج إنسان جديـد من جمجمة أو ضلع؟ . ولئـن وصـل الخيال إلى تصورات خرافيـة إلى هذا الحـد،أفـليس الأصح أن نرى فيها غاية الطريق ــ أي إنضاجاً ثانوياً ــ بدلا من أن تـكون بدايته؟00) (3) . ((إنّ هـذه الأمثـلة القليلـة تكـفي لجعلنا نفهـم لماذا يبدو لنـا أنّ من المشروع ــ فـي دائرة العلـم الموثوق ــ ردّ التعابير الرمزية إلى دلالتهـا الأبسط والأقرب إلى الطبيعـة والبحث عن نقطة البداية فيها ــ مهما تكن مبتـذلة ــ حتى لـو جـرحت أحاسيسنــا؟ إنّ هذا المبدأ يبقى هو هـو سواء أطبـق علـى الفـن أو على الخـرافـات أو علـى أي إنتـاج خيالي مرضـي أو عبقـري إذا نحن حاولناـ النفاذ إلى سره واكتشاف ما وراء تعقيده0 وقد لا يكون ضرورياً أن نقول أن بحثاً من هذا النوع لا ينطوي على أية فائدة ولا على أيّ خطر يختلفان عما ينطوي عليهما أيّ بحث علمي أخر000والحق أني لم أعثر في أيّ مكان على نصّ يوضح لنـا بصورة أفضـل روح التحليل النفـسي الفرويدي0 ولا يزيد (فلورنوا) على أن يعود من جديد إلى موضوعة التجريبيين الأولى: - لاشيء في العقـل لـم يوجد قبل ذلـك في الحواس0وقـد كـانت أمثـلتـه واضحـة جداً، وسـواء كانت الصـورة تمثـل رأس امرأة يخرج مـن جمجمة (سيفا) أو كانت – إذا شئنا – (مينرفـا) التي تولــد من رأس (جوبيتر)00فأي معنى لهـذه الأسطورة؟ . إن كلمة (المعنى) هـنا يمكن إن تـفهم بصورتين: فقــد تعني الصورة: إمــا هـــذا الشيء الذي تتجـه إليه، أي (الأثر) بالمعنى الواسع، أو المفهوم المقبل الذي سيصدر عنها، وأما بالعكس هـذا الشيء الذي تـُشتق هي منه، أي سببها، أو الإحسـاس الذي تصدر عنه0 أمّا مــن وجهة النظـر التركيبيـــة أو الغائيـة فأن ولادة (مينرفا) تعني أو تـدل علـى الأصـل الإلهي للحكمـة0 وأمّا مـن وجهـة النظر التحليليـة أو السببيّــــة أو الإرجاعية فإنها انتـقـال للولادة مــن الأدنى إلى الأعلى أي من الفرج إلــى الـــرأس0 ويصّـر التحليــل النـفســي إصراراً كبيـراً على أن المشــــروط هــو إشــارة لـلشــرط ويطلب إلى المعترضيـن عليـه مـا إذا كان في وسعهـم أن يتخيـلـوا لحظـــة واحـدة أنّ فكـرة الولادة (اللاتـناسلية) يمكن أن تـكون هي البدائية أو أن لا تـكون مشـروطـة بفكـرة الولادة التـناسلية0 ونحن ندرك وفــق قـواعـد التحليـل النـفسـي أن الحلـم في مـا يرى (فرويد) ليـس بإشـارة إلى موضوعه المزعوم بل هـو أشـارة إلى أسبابـه0 وهـذا هـو المبدأ الذي يطبقه الدكتور (فـلورنوا) علـى تأويل الأسطورة 00))0(4) . وأتمنى على القاريء أن يضع الإقتباس الطويل السابق في حسابه عند متابعة تحليل وقائع الرواية، ليس من منطلق فرويدي صرف، ولكن من منظور أكثر انفتاحا يعشّق بصورة مستترة التمظهرات الشكلية اللغوية مع جذر الحفزات الآثمة الغائرة في لاشعور الراوي . إن المعضلة البنيوية إذا جاز التعبير في تكوين شخصية عبد الرحمن والتي أوصلته إلى العجز والمهانة ثم إلى الموت (والأكثر دقة الإنتحار ضمن شكل غير مباشر لتدمير الذات – indirect self- destructive behavioure) تتمثل في التثبيت على موضوع الحب الأول: الأم، هذا التثبيت المحارمي الذي جعله طفلي الإرادة، والأخطر أنه غير قادر على التحرر من سطوة موضوع الحب هذا، حيث يتلبسه الإحساس بالإثم عند مواجهة – أو حتى تخييل - أي فرصة للإنعتاق من أسره، والتعامل الحرّ مع أي موضوع حب جديد . لا يُفلح المعصوب المثبّت على الأم والضائع في نسيج شبكة حبّها " العنكبوتية "، في استبدال امرأة أخرى بأمّه، ولا يستطيع النوم بعيدا عن أحضانها . إن الإستعداد للعب دور الرجل – الزوج المستقل يتطلب القدرة على الإنفصال النفسي عن المرأة الأولى الحانية، عن الرحم الفردوسي المعطاء، عن الثدي المطعم بالحنان والإحساس بالأمن . وهذا يتطلب " تدريبا " على الإنفصال المبكر بعد ترسيخه في وجدان الإبن . لكن عبد الرحمن لم يكن ينام مع أمه في فراش واحد حسب، بل كانت تأخذه معها إلى حمام النساء، ويقوم في الفرقة المسرحية المدرسية بأداء دور فتاة . وكان طيف الأم المطارد يلاحقه حتى في سرير الزوجية: " لاح له وجه أمّي، التي باركت زواجه بدعاءاتها وصلواتها عند بدء الليلة، لكنه كان يتمنى، كأي طفل نزق أن تنام معهما على سرير الزوجية، لكنه شعر بالخجل من هذا التفكير – ص 27 " . صحيح أن التحسّب من مسؤوليات الليلة التي زرعها المقربون منه في نفسه: الحذار من الليلة الأولى (الأم الميدوزا)، شيطانة السحر، وإغواء الأنثى للذكر، ومدجّنة العتاة، قد أشعل القلق في نفسه وذلك من خلال صورة الأنثى الخاصية (وللأم وجه خاص التهامي: الميدوزا)، وهذا القلق " يربط " الرجل ويُضعف قدرته على الإنجاز، فالقاعدة النفسية تقول أن الانتصاب يبدأ في الدماغ، وكلما كان الدماغ مشغولا بمخاوف وقلق كلما شُلت القدرة على الفعل الجنسي الحر (ولهذا يكون الفلاحون أكثر الناس قوة أداء في فراش الزوجية وأطفالهم نائمون حولهم، في حين أن المثقفين هم الأضعف في هذا المجال رغم تبجحاتهم الإبداعية التعويضية والتكوينية العكسية – reaction formation . وتتحدث أناييس نن في مذكراتها عن ارتباطها بهنري ميلر الذي دوّخنا برواياته الجنسية الهائلة وبتصريحاته بأنه قضيب يفكر، وكيف فوجئت بآلته الصغيرة !) . لكن هذه المخاوف لا تربط إلا من لديه "الإستعداد" لأن "ينربط" في أغلب الأحوال . وهؤلاء الذين لديهم مثل هذا الاستعداد هم " الرضعاء الدائميين " كما يصفهم معلم فيينا، أباطرة إمبراطوريات أحضان الأمهات، هؤلاء لم يُقطع حبلهم السري الذي يربطهم برحم الهناءة الحامي رغم أنهم سيُصبحوا – بل حتى بعد أن يُصبحوا – أزواجا . هؤلاء تستثار مشاعرهم بالعجز والإنخصاء من ملاحظة أبسط الأفعال المذكّرة بالإنكسار القديم المكتوم . فشيرين الزوجة المخذولة، في الصباح التالي لليلة العجز، جلست إلى طاولة الزينة، وانهمكت بتقشير ظاهر أظافرها المطلية بالصبغ الأحمر بمقص صغير . هذه الحركة الشخصية البسيطة أزعجت عبد الرحمن فصرخ في وجهها لإيقافها عن تلك الحركة . ليست الحركة المجردة هي التي تستفزه، لكن معانيها الرمزية المؤولة هي التي تستثير المخاوف الدفينة، مشاعر العجز الضارية . حركة بسيطة لا معنى لها جعلت ذكريات الإندحار المكبوتة تتناسل (راجع المقاطع 2 و3 و4 المقتبسة من كتاب العقيدة الفرويدية والتحليل النفسي) .

جاء عبد الرحمن من حرب حدودية معروفة لا يُصرّح بها شاكر لأنه يعتقد – وهو محق في اعتقاده – أن الجهد الإبداعي الخلّاق ينبغي أن لا يُستنزف في تعريف ما هو معرّف أولا ولا في تفصيلات التسميات الواقعية المحلية الصرف التي قد تُضعف، ثانيا، بعضا من صفاء ملامح المشروع الإنساني العام للمبدع . جاء الجندي من حرب ماحقة أحرقت زرع الوجود ويبست ضرع الإرادات، ليدخل حربا مضاعفة تمسخ وجوده وتتلاعب بمقدراته . وأداء الواجب الزوجي ليلة الزفاف هو في طقوسنا الشرقية حرب فعلية ينبغي عدم الاستهانة بها . إنها معركة دموية ينبغي أن ترفع على هضاب انتصاراتها الرايات الحمراء أمام أعين الجميع الراصدة لمنح المحارب شهادة الظفر التي تزكي اكتمال الرجولة . وحتى مصطلحات هذه العملية حربية الطابع: إختراق، افتراع، تمزيق، شق، دم .. وببلاغة مبسّطة يضع شاكر تعبيرات تكشف هذه الحرب التي اجتاحت البيت الصغير على لسان الأم الموجوعة بمهانة ابنها أمام الآخرين: (إبني قل لي ما الذي جرى؟ ما الذي مات فيك؟ سأذهب إلى قائد الثكنة العسكرية وأمدّد إجازة العرس حتى تنتصر . أقول لهم بأني أحارب مكانك لكي تبقى بجوار شيرين وتفضّ بكارتها وتلطّخ الشراشف البيضاء كلها بالدماء .. دماء .. حتى يرى الجميع الدماء .. إلعن الشيطان واخرج من سجنك – ص36و37) . إن محنة الأم الخاصية الملتهمة نسجها – عنكبوتيا – شاكرنا بانامل حاذقة عبر نقلات محكمة تتكرر بين موضع وآخر بصورة مدروسة توفّر التأثير النفسي والفكري الأكبر . يقع قسم من الروائيين، وبعضهم علامات بارزة في تاريخ الرواية منهم سرفانتس صاحب دون كيخوتة، في مأزق عدم حساب " المسافة المطلوبة " في استعادة الأفكار أو المشاهد التي عالجها قبل صفحات (وهذا الأمر جعل سومرست موم في كتابه المهم " عشر روايات خالدة " لا يضم رواية دون كيخوتة ضمن أفضل عشر روايات في تاريخ الأدب العالمي لأن واحدا من مقاييسه هو أنه يقس قيمة الرواية بعدد الصفحات التي نقفزها للتخلّص من الملل، هذا موجود أيضا وبدرجة أقل في " موبي ديك " لهنري ملفيل أيضا)، لكن شاكر نوري مخطط ومهندس روائي يحسب المسافات المطلوبة بين المشاهد بعقلية رياضية شديدة التبصّر، وأعتقد أن هذه السمة المباركة من عطايا تخصصه السينمائي . خذ مثلا النقلة التعبيرية الهائلة فنيا عن محنة التثبيت هذه والذي يبدأ بتساؤل غبي يطلقه عبد الرحمن: - ماذا لو ظل يعيش في كنف أمّ كانت تدفعه إلى عتبة الجحيم دون أن تدري؟ . لكن التساؤل مخالف لواقع هيمنة القبضة الأمومية الممسكة فعليا بخناق تطوّره النفسي وتجعل عملية الانتقال من أحضان الأم "المقدّسة" إلى أحضان الزوجة "المدنّسة" مساحة مفروشة بالجمر الذي يكوي راحتي قدمي الروح: (بدا له ذلك اليوم بعيدا ... إذ لم يفكر لحظة واحدة بأنه يقفز من عالمه الأمومي الآمن إلى عالم أنثوي معبّأ بالهواجس والإغراءات المستحيلة . كان على هذا الصبي الشقي المحكوم بالعجز، أن يقطع تلك المساحة المفروشة بالجمر المتقد، بقدمين عاريتين من أحضان الأم إلى مخالب الزوجة – ص 122) . إنه ظاهرا يعيش معضلة التساؤل عن الإنطلاقة من مقدس إلى مدنس، ولكنه في الباطن يعيش محنة التحول من حضن مدنس " ثمرة محرمة " إلى حضن مقدّس يشيع البلادة المقدّسة . وليس مثل الأحلام " طريقا ملوكيا نحو اللاشعور "، إنها الشاشة "الشعورية" التي ترتسم عليها مشاهد الرغبات والصراعات والمخاوف اللاشعورية الدفينة بعد تظهيرها مستعيرين التعبيرات السينمائية . وفي العادة يأتي المضمون الظاهر – manifest content للحلم أي " شكله " مفككا ويثير السخري وعدم التصديق في الكثير من الأحايين، ولكن الصبر التحليلي على تفاهته يوصلنا إلى مضمونه الكامن – latent content الحكيم المعبّر عن أقسى الدوافع اللاشعورية الآثمة، وهذا ما يحصل مع حلم عبد الرحمن الذي زاره وهو يحتضر على فراش الموت . هل كتبه بنفسه وهو يلفظ أنفاسه؟ طبعا الجواب بالنفي . وهذا يطيح بأهم ركائز أطروحة رولان بارت حول موت المؤلف، لأن الحي الذي لا يموت هو المؤلف، شاكر نوري عالم غيب اللاشعور والعارف بهسيس الرغبات المكبوتة . رأى عبد الرحمن في الحلم (أنه يتناول العشاء بصحبة زوجته في أحد المطاعم الواقعة على ضفاف نهر ديالى، وهما يرتديان ثياب العرس الجديدة . إلا أن هذا الحلم سرعان ما انقلب، وهو يرى حلما آخر أقرب إلى تلك اللحظة، ماسخا كل أحلامه السابقة، وقد تحولت شيرين إلى حشرة عنكبوت (لنا وقفة ضخمة مع العنكبوت كغريزة وكحرب وكأم وكمحارم وكأب خاصي وكرواية وأسلوب سردي، وكجوهر للفن وكقرآنيات، وكتشكيل .. إلخ) ضخمة معلقة في سقف غرفته، وهي تسخر من قواه الجنسية العديمة، تتأرجح بخيط ضئيل يكاد يكون غير مرئي، مثل خيوط تحرّك عرائس المسرح، يحملها بأطراف حافاته الدقيقة، ويهتز جيئة وذهابا فوق رأسه، ويكاد ينقطع بمجرد لمسة يد أو هبوب ريح خفيفة من النافذة . وبتنامي اللحظات وتلاشيها العابر في خزّان الماضي، بدأت حشرة العنكبوت تتضخم تدريجيا – ص 148) . ومن قواعد التحليل النفسي أن حلم نوم الليل يتأسس على بقية نهارية، على حدث أو فعل أو قول حصل في النهار واختزنته ذاكرة الحالم ليستثمره عمل الحلم – dream work ويشيد بناءه المركب على ركيزته التي قد تبدو واهية احيانا . فما هي البقية النهارية التي اختزنها عبد الرحمن في النهار الذي سبق ليلة الحلم وهو ممدّد على سرير الاحتضار؟ في النهار جاءت النسوة كأمواج متلاطمة تحاول تقديم العزاء المبكر لأم المتوفى المخصي . لم يكن هذا الإنسان يستطيع الحركة بعد أن حطم أخوه الأكبر كبرياء وجوده بفعلته الآثمة الجسور، واكتفى بأن يهز للنساء المواسيات برأسه، محاولا الابتسام بمشقة كبيرة، والأهم أنه (لم يكن يتذكر منهن سوى تلك المرأة ذات الشعر الرمادي والوجه المشرق: أمّي (ولاحظ أن النسبة: أمي وليس أمه كما يفرض السياق اللغوي الذي يتحدث فيه الراوي عن أخيه عبد الرحمن بصيغة ضمير الغائب، تكشف ضغوط الحرقة القابيلية في نفس الراوي من ناحية، مثلما تكشف أن الحفزة المحارمية التي تلوب في أعماقه، والتي توجهت نحو شيرين كحلقة ثأرية وسيطة تجاه الأم التي زوّجت الأصغر مهملة الإبن الأكبر ومعلنة تفضيلها الأوديبي "المضاد" إذا جاز التعبير(المشكلة أن الكهنة – ولاحظ أن هذه الواقعة حصلت قبل أوديب ملكا – قد حذّروا الملك أبا جلجامش بأن ابنه المقبل سوف يقتله ويستولي على عرشه، فقام برمي جلجامش الطفل خلف أسوار أوروك دون أن يتأكد من فعل أو نوايا هذا الطفل " البريء ") وذاك الشعر الرمادي هو الذي يلتف كأفاع مرعبة على أنا الإبن فيشله، أو يتحوّل إبداعيا – أسطوريا بشكل خاص - إلى تلك الأفاعي التي تتشكل من خصال شعر الميدوزا الخاصية .، أو يصبح حشرة العنكبوت الضخمة التي تنسج "خصال شعرها " كشبكة عنكبوتية مميتة على وجود وإرادة عبد الرحمن، وليس جسده حسب . وقد صاغت لنا عبقرية عمل الحلم تكوينا أنثويا مركبا ذا دلالات محارمية، حيث جعل حشرة العنكبوت تتكون من جسد شيرين المعلق بخيوط هي تحويل لخصلات الشعر الطويل، ثم لتتكشف الأم العنكبوتية في نهاية الحلم التي تأسر شيرين بعنف كفعل رافض لاستئثارها بابنها / موضوع حبّها الأصيل . وفي وصف الراوي لحلم أخيه عبد الرحمن النهائي وكيفية انتقاله من هذا الكابوس إلى لفظ أنفاسه الأخيرة والموت، برودة سردية فولاذية إذا جاز التعبير، تعكس حدّة التشفّي المبيّت: (بدأ السقف يهتز، وتدلّت الخيوط بالعنكبوت، وانتشرت كخيمة ضخمة، مبعثرة، لزجة على أنفه وفمه، وأغلقت مسالك تنفسه، فانغلقت عيناه، فيما انشغلت النسوة بتسخين قدور الماء الكبيرة وأحضر الرجال طاولة غسل الموتى من المسجد المجاور – ص 149) . وفي هذا الكابوس يتجسد الأنموذج الأبرز لسمة سردية مهمة تسم أسلوبية شاكر نوري وهي المزاوجة بين الحلم والواقع، بين الخيال والحقيقة، بصورة خلاقة تجعل المشهد طافيا، رجراجا، محلقا أحيانا بين أرض النص وسماوات المخيلة . في كل أعمال شاكر يأتي الواقع خاطفا وسط تكوينات مشهدية أسطورية من جانب أو أن التشكيلات الأسطورية والغرائبية تلتبس بأذرعها الهلامية بجسد الصورة الواقعية من جانب آخر . فمن تساؤلات عبد الرحمن المحتضر عن زحف دقائق الموت الباردة والبطيئة إلى الحلم المنعش بصحبة عروسه شيرين، فتحوّله إلى كابوس مرعب تضخّم وقعه المخيف دوي قصف القنايل وحركة الطائرات، فالغوص من جديد في ظلمات الكابوس الذي يوصله إلى أحضان المثكل الحنون: (كان يعرف الموت أكثر من أي إنسان على وجه الأرض، فهو مهما يكن أقل رعبا من حيرته أمام عجزه، وعليه أن يتحايل على شيء ما لغرض انتزاعه من رأسه، غير عابيء إلّا بحركة الزمن البطيئة الزاحفة، والمتجهة نحو النهاية، دون أن يصدّق مشاعره، كأن الموت يمازحه في تقرير مصيره . وقد رأى في الحلم بأنه يتناول العشاء بصحبة شيرين ... إلا أن هذا الحلم سرعان ما انقلب ماسخا كل أحلامه السابقة، وقد تحوّلت شيرين إلى حشرة عنكبوت ضخمة معلّقة في سقف غرفته .. تتأرجح بخيط ضئيل ... وإثر دوي قصف القنايل وحركة الطائرات الحربية الأجنبية، اهتز سقف غرفته، وتبعثر أثاث العرس الجديد، وكادت الخيوط تنقطع لتتهاوى العنكبوت من السقف الشاهق على وجهه وتخنق أنفاسه .... وقبل أن يغيب في سكرة الموت، هذا الدهليز المظلم، بدأ السقف يهتز، وتدلّت الخيوط بالعنكبوت، وانتشرت كخيمة ضخمة .. أغلقت مسالك تنفسه، فانغلقت عيناه، فيما انشغلت النسوة بتسخين الماء ... وأحضر الرجال طاولة غسل الموتى (في أعراف المدينة يتم تغسيل الميت في مغسل الموتى لكنه نزوع الروائي الحرفي السادي لاستكمال مشهد الرعب - ص 147 – 149) . ولكن الحلم البليغ الذي يزاوج بين التهديد الميدوزي للنسوة الخاصيات " الغريبات " والفعل الإنقاذي الذي ينتظره عبد الرحمن على يدي الأم الرحيمة هو حلم فيه الأخير وهو (مسجى في العراء، تحيط به نسوة، يمددن رؤوسهن، على جسده الخامد، فتنزل شعورهن الطويلة الملساء على وجهه، وتطلق رائحة معطرة بالحناء والعرق، تكاد تخنق أنفاسه ... غابة نساء شرهات، تملأ أذنه بضجيج الموتى وعويل الثكالى . ولم يبصر من كل هذا الظلام الكثيف سوى بريق عيني أمي، وضفائر شعرها، تلتف حول جسده، مثل لفائف حبال قويّة، وتنتشله من هذا الجمع الأنثوي المتكاثر . وحين يصحو من كابوسه، ويخرج ممن غرفته متوجها نحو المراحيض يقع في " زلّة " حركة " غير مقصودة في الظاهر " حيث يتجه نحو غرفة أمه بدلا من أن يتجه نحو غرفته .

لكن الأم المفجوعة والمذلّة أمام نسوة الحي والتي تأخرت السماء كثيرا في الإستجابة لدعواتها الملتهبة، تنحدر تدريجيا على منحدر اليأس والتجديف المسنّن . فقد ترمّلت وهي في ذروة شبابها – في الثلاثين من عمرها – بعد أن تم اغتيال زوجها , ومذذاك رفضت الاقتران بأي رجل آخر، ولذلك جاء زواج ابنها وعدا آسرا بالتعويض عن السنوات العجاف التي أهلكت شبابها . وبالقدر نفسه جاءت صدمة العجز والخيبة . لكنها لم تستسلم، وبدأت رحلة المواجهة الحاسمة، بالتلصص على العروسين من خلال ثقب حفرته في جدار غرفتها الملاصق لغرفتهما . وهنا يتجلّى جانب من ألعاب اللاشعور الماكرة، فتحت غطاء الحرص على معرفة سرّ عجز الإبن يتم إشباع الرغبات الجنسية التبصصية . وبعد أن فشلت تعاليمها وتحفيزاتها وشروحاتها الملاشرة في التأثير في ابنها، اتجهت نحو الله في دعاء غريب: - يا إلهي، ابعث البرق في جسد ابني !! . ولأن الإنسان المخذول المحاصر يريد فرجا عن أي طريق فإن الأم والإبن سرعان ما يؤلان استجابة الطبيعة بفعل لعبة المصادفة وكأنها رد إيجابي سريع من السماء على تضرع قلب الأم الممزق، حيث لم تمر دقائق على دعاء الأم حتى رعدت السماء وانطلق قوس قزح، راسما في فناء المنزل شكل سيف متألق تحت وهج النيران . رأت الأم في هطول المطر في حزيران الصيف معجزة ربّانية ستحل عقدة العائلة . وقد تأكد الإبن الراوي من ذلك عندما انتهز فرصة نوم الأم وتلصص على العروسين فشاهد أخاه وقد التحم بشيرين (فأدركت حينئذ بأن حسّ المرأة الغريزي لا يخطيء أبدا – ص 48) . ولكن فعل المصادفة والربط السحري هذا بين الظواهر، وهو حال الإنسان عندما تحاصره معضلة لا خلاص منها، ثبت بطلانه عندما تأكدت الأم أن ابنها لم يستطع افتراع شيرين، وحالهم في البحث السحري عن منفذ للخلاص تكرّر عندما اجتمع أفراد العشيرة بطلب من الأم لمراجعة شجرة العائلة التي رسمها الإبن الأكبر على أرضية صحن المنزل، ليمسكوا بذاك السلف الذي زرع جرثومة العجز في عروق عبد الرحمن، فوجدت إحدى العجائز أن أحد الأسلاف يشبه عبد الرحمن – ولاحظ النبرة المتشفية الهادئة التي يصف بها الراوي سمات أخيه -: (اكتشفت إحدى العجائز أن أحد الأسلاف عيناه جاحظتان، أنفه طويل ومدبّب، وجنتاه مقعرتان، وجهه مدوّر وأملس، رقبته طويلة، فمه متهدل، يشبه أخي في كل شيء . ومن عجيب المصادفات أن هذا الشبيه كان يحمل اسم عبد الرحمن – ص 82و83) . (وعندما تلد شيرين جنين الخطيئة يتفق الجميع على أن يكون اسم الوليد عبد الرحمن أيضا، لتكتمل سلسلة العجز من السلف إلى الخلف، فوق أن اسم عبد الرحمن يحمل مفارقة أن عبد الرحمن لا تصيبه الرحمة من رحمانه) . وعندما تعلن هذه العجوز أن ذاك السلف انتحر عندما اكتشف عجزه ليلة عرسه، تطردها الأم شرّ طردة واصفة إياها بالعجوز " الشمطاء " – (وأحيانا، عندما يحب المبدع شخوصه وينفعل بعمله، فإنه يدخل بذاته مسرح الرواية ليضع على لسانهم عبارات عالية مثل قول الأم البسيطة إن شيرين حُبلى برياح الخريف الصفراء –ص 91) – فالأم لا تريد لابنها أن ينتحر . إنها تريده حيّا، وبعيدا عن المخاطر، ولذلك رفضت أن يلتحق بوحدته في جبهات القتال، ولم تكتف بتمزيق إجازة العرس وتهديده بأنها ستحرق نفسها إذا التحق حسب، بل ألقت بزّته العسكرية في التنور لتقضي على آخر أثر عسكري في المنزل . لكن هذا الفعل أشعل القلق في نفوس الجميع من فرق الإعدام الجوّالة التي كانت تنصب الأفخاخ للهاربين وتقيم لهم حفلات الإعدام العلنية . فعادت من جديد تكافح من أجل شفاء ابنها، فبدأت بتجريب الأدوية والأعشاب والرقى والتعاويذ، والاستعانة بما هو محظور أخلاقيا ودينيا في مجتمعها ممثلا باللجوء إلى مضارب الغجر (حيث العاهرات عقاقير ذهبية – ص 113) . فشلت كل وسائل الأم في استنهاض همة ابنها، فقرّرت الذهاب لزيارة أضرحة الأولياء والصالحين لتطلب منهم العون لإنقاذ فلذة كبدها من عجزه المهين، وحين قدّمت دعاءها التحرّشي الغريب العجيب انسحب حارس الضريح فورا، فهو لم يسمع مثل هذا الرجاء طوال حياته، وحتى الأم نفسها كانت تسأل ذاتها برهبة: كيف تتجرّأ امرأة مثلي أن تطلب من الأولياء أن يبعثوا الحياة في ذكر ابنها؟! وتساءلت في سرّها: هل يُعقل أن أطلب هذا المراد من ولي طاهر قد لا يعرف طعم المرأة في حياته؟! – ص 131) ويعلق الراوي الابن الأكبر على موقف أمه الحائر قائلا: (لم تكن أمّي تفكّر لحظة واحدة بأن الأولياء والأنبياء كانوا يضاجعون ويتغوطون ويبولون ويتقيئون ويتآمرون .. ويتقاتلون مثلنا .. في هذه الحرب – ص 131) . وفي مشهد سينمائي ساحر وانتقالي من مشاهد مسيرة نفض الأم يديها من تراب الرحمة يقول الراوي: (وقفت على عتبة الضريح، وأرسلت نظرها إلى السماء التي انفطرت فجأة إلى نصفين، وظهر لها وجه الله يتقطر حزنا رهيبا، كآبة إلهية رأتها لأول مرّة، فيما أحاطت به الملائكة المحلّقة، تهزّ مراوحها السماوية لتخفّف عن وجهه وطأة الحزن، وتمتمت في الفناء الممتد: - هل وصلت حالة ابني إلى أن يحزن عليه الله؟! – ص 129 و130) . وتحت غطاء الأسى السماوي المشارك نمضي خطوة واسعة على طريق توصيف الخدعة التي تؤسطر فيها سلطة الأب وتنقل إلى السماوات " أبانا الذي في السماوات " و " أطيعوني طاعتكم آبائكم "، فالأسى تعبير عن العجز عن الإنقاذ الأمر الذي يجعل الأم تتساءل بصوت عال عن احتمال أن الآلهة تتآمر في الخفاء ضد ابنها مادامت تتحكم بالمصائر سلبا وإيجابا فألصقت به أحقر الأمراض وهو العنة الجنسية . ومع تطاول المحنة وعدم وصول أي رد عبر بريد السماوات الجوي السريع، بدأ إيمان الأم يتزعزع .. ثم يتهاوى ويتحطم .. لتصل إلى الإعلان النهائي الساحق: لا يجيد الله سوى صنع الكلمات – ص138) .

أما شيرين الجميلة بتبرّجها الريفي ليلة الزفاف فقد كانت رحلتها من القناعة بالأقدار المرسومة إلى التشكيك بكل المرجعيات المؤسسة في الوجدان العام أكثر تعقيدا . لقد استقبلت صدمة عنيفة حين شاهدت عجز زوجها عن القيام بواجبه الزوجي المنتظر ليلة عرسهما . علقت الشرشف لتجف قطرات بول عريسها الخائب .. وفي أول فعل ناقم محمل بالإيحاءات الرمزية (راجع المقتبسين التمهيديين) قامت به صباح ليلة الزفاف مزّقت بأظافرها الطويلة الحادة صفحة الورق الشفاف الذي يغطي المرآة مما أحدث شرخا فيها (لكنها كشفت عن طبقة المرآة الصقيلة، فظهر شعرها أكثر تألقا وإشعاعا من السابق حتى أنها لم تتمكن من إخفاء ابتسامة الإعجاب بالنفس . نزل عبد الرحمن من سريره ودقق النظر في المرآة .. فلاحظ آثار أظافرها العصبية المهتاجة، أحدثت شرخا في المرآة كأنها إشارة خفية لانفصال عالمين متأهبين للصراع القادم .. سألها: - هل رأيت الكابوس مثلي – 24 و25) . يتوقع عبد الرحمن ببقايا أفكاره الطفلية السحرية أن الزوجين يريان كوابيس واحدة ماداما يضعان رأسيهما على وسادة واحدة . وعليه فإن العصبية والتوتر الناجم عن الكابوس جعل شيرين تمزق غطاء المرآة . ويرى الراوي – ومن ورائه الكاتب طبعا – أن حركات شيرين كانت عبثية لكنها وفرت لها فرصة لانتعاش نرجسيتها الجريحة . ولكن أفعالنا تتشكّل كمتنفسات للصراعات الدفينة التي تغلي في مرجل أعماقنا . ومحور خيبة شيرين تتمثل في خيبة الإفتراع، التي شكلت صورتها الممزوجة بالنقمة الفائرة طبعا من خلال تمزيق سطح المرآة بأظافرها . ولأن الرواية علم والقصة القصيرة فن كما قلنا في الدراسة السابقة عن رواية شاكر: " كلاب جلجامش "، فإن على الروائي أن لا ينسى حلقات وقائع سلسلة روايته، وبعض الروائيين ينسون، فمثلا نسي ماركيز كيف قُتل ابن الكولونيل في روايته " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه "، وهل قتل بسكين أم برصاصة، فيتناقض في موضعين . لكن شاكر لا ينسى، ويمسك حلقات وقائع روايته بإحكام، ولهذا يعود لاستثمار دلالات شروخ المرآة تلك في موضع آخر بعيد من الرواية، بعد أكثر من (120) صفحة حين يصف حزن أخيه المحتضر: (مما ضاعف هذا الحزن مرآة طاولة الزينة، التي عكست نورا مشروخا إثر انغراس أظافر شيرين فيها ليلة العرس الأولى مما أحدث جداول وترعا غير منتظمة على عروق وجهه، الذابلة والمضمورة، وزاد من حدّة تجاعيده، كأنها خنادق قتال مهملة بعد انتهاء الحرب - وتأمل الصورة البليغة التي وفّرتها الحرب - ص 146) . وكلما أوغلت شيرين في تعقيدات محنتها التي دفعها في مهاويها عجز زوجها، كلما امتلأت كأس اليأس في روحها وفاضت (هكذا بسطت أنوثتها، بطنها المنتفخ مثل قائد منتصر، يتبختر بعصاه، بين أشلاء القتلى الغابرين وهي تتمتم: - العجز .. شرك، حفرة، مستنقع وعندما رفعت رأسها عاليا إلى رقعة السماء من نافذة غرفتها، لم تر ذلك النسيج الخادع الذي غطّى المخلوقات الأرضية – ص 117) . ومن السمات الأسلوبية الحاسمة التي تلاحظها في أدب شاكر نوري الروائي عموما، وفي هذه الرواية تحديدا هي الروح التجديفية المباركة التي تتطلب إرادة جسور وروحا تعرّضيا تمزقان التابوات المقيدة بله المخيفة (والخاصية) التي تغرس نواهيها في نفوسنا الطرية منذ طفولتنا وتشّل جرأة المبدع في التحرّش بالثوابت الخانقة . وقد قلنا منذ منتصف التسعينات أن الأدب العراقي المقبل سيكون تحرّشيا وشديد الصلافة من ناحية وعنيفا من الناحية الثانية . في أي مشهد سردي " أفقي " يؤجج شهقته النفسية شاكر " عموديا " من خلال تمزيق ستارة ما هو مؤسس خاتل خوفا من التحرّش بالمرجعيات . في أي لحظة يحضر فيها التجديف يحضر الشيطان الذي هو أكثر أهمية لبهاء الحياة ولنضارة الإبداع من الآلهة – يتألق فعل السرد في نفوسنا، ولا تتصورنّ أن راسكلينكوف وجوليان سوريل ومدام بوفاري والأمير مشكين وأورليانو بوينديا ملائكة، إنهم شياطين، الشياطين الضروريون للحياة البشرية حالهم حال إبليس رواية نافذة العنكبوت الرائع، راويها الذي أشعل لهيب الوقائع بروحه المحارمية: (ولحسن الحظ، أن غشاء البكارة ليس من ابتكار الله بل من ابتكار غرائزنا . فلو كان من ابتكار الله لما كان له كل هذه القيمة – ص 39) .

وقفة: درس من رسول حمزاتوف: في كتابه الرائع " داغستان بلدي " يقول رسول حمزاتوف أن أباه، لكي ينمي موهبته الشعرية، أرسله وهو طفل إلى قرية مجاورة ليلتقي بشيخ شاعر يحفظ آلاف الأبيات . وعندما عاد في اليوم التالي في طريق سهوب شاسعة هجمت عليه كلاب الرعاة الضخمة الشرسة لتفتك به، صاح الرعاة على رسول بأن يضطجع على الأرض ويتظلهر بالموت إلى أن يصلوا وينقذوه، ففعل .. وصل الرعاة وطردوا كلابهم .. يقول حمزاتوف: (أمسك أحد الرعاة بياقتي وأوقفني على قدمي وسألني: ما الذي تفعله في هذه المنطقة الخطيرة؟ فقلت له: أنا عائد إلى قريتي بعد أن بتّ في بيت الشيخ الشاعر، فسألني: وما الذي تبغيه من مبيتك في بيت الشيخ الشاعر؟ فأجبته: أريد أن أصير شاعرا .. هنا – والكلام لحمزاتوف – ألقاني الشاعر باستهانة وقال ضاحكا: هه .. هه .. يريد أن يكون شاعرا ويخاف من الكلاب !! .

 

عودة:

.... وحين نولد نصاب برعب المواجهة العارية لمؤثرات الواقع الخارجي المؤلمة وصدمة الإنفصال عن الرحم الأمومي حيث كنا فيه الملوك النائمين، تستولي علينا مشاعر العجز والإعتماد المهينة . لكن تحصل لحظة عظيمة في ازدهار النرجسية العاتي وإلغاء مشاعر العجز تتمثل في البدء بامتلاكنا اللغة، حيث نحوز إمكانات إله يقول للشيء كن فيكون، الأم التي كانت تختفي وندعوها بالصراخ والألم صارت تأتي بكلمة بسيطة " ماما "، حرفان بسيطان مكرّران ينطلقان من الشفتين يُحضران كيان آدميا كاملا يستجيب لحاجاتنا الملحة ويشبعها . لكن بعد هذه النهضة النرجسية يبدأ بريق اللغة المعزّز لقدراتنا الكلية – omnipotence بالإنطفاء بفعل الرتابة والإعتياد والمشاركة البليدة في شأن جمعي لا امتياز لنا فيه . تصبح اللغة منافقة، وتفقد سحرها الأولي الصادم . لكن أين تحتفظ اللغة برقية سحرها الباذخ الذي يثير في نفوسنا تلك المشاعر المنعشة؟ . إنها تحتفظ بها في المجالات التي تمزّق قواعد "الاستخدام" البليد، تحتفظ بها في " الاستخدامات " المارقة، في الشعر، والعبارات البذيئة خصوصا ما يتضمن الأعضاء التناسلية، والنكات الجنسية والتجديفية تحديدا، وعبارات التجديف (لعنت اليوم الذي أعادني إلى مدينتي وحثّني على التفكير: أين الله الشبقي الذي لا يوقف أحاديثه عن الجنس والنكاح والذرية وعذراوات الجنّة؟ قلت والدمعة تنفجر من عينيّ: - ألم تكن أمي على حق حين رفضت أن يتحول ابنها نموذجا لتجاربه الخارقة؟! وأجهش الإثنان ببكاء مرير، وهو ينظر إلى صحن المنزل الذي غسلته أمي بدموعها، وهي تتمتم: - لا يجيد الله سوى صنع الكلمات أغمض عينيه فرأى الملائكة تندفع على شكل أفواج، إلى صحن المنزل لتشنّ آخر معاركها مع عجزه، بينما كان الله يقهقه من برجه السماوي وينظر إليه كأحدى تجاربه على الأرض ساخرا من عذاباته الآدمية الزائلة - ص 138و139) . إن نفض اليد من عون السماء ليس أمرا يسيرا، إنه يتطلب جسارة حقيقية، لأن هناك عنكبوت الشعور بالإثم المفزع الذي يتهددنا حين نفكر، مجرد التفكير لأن الأنا الأعلى يحاسب على النوايا وليس الأفعال فقط . فمن يجسر على تحطيم قيود الضمير المعاقب المهدّد؟ تتحدث إحدى الأساطير الأغريقية عن شاعر مات لأن إلهين أحبّاه . هذا الأمر لا يُصدق لأنه خلاف طبائع الآلهة . إن الجسور التحرّشي هو المبدع . ولكن ليس أي مبدع . إنه المبدع ذا الروح الإقتحامية، مبدع يحمل روح إله حسود مجدّف . مبدع من حملة الرايات الحمر الذين يصطف خلفهم الغاوون يوم الحساب . يتمادي اليأس في حزّ جذور شجرة المقدّسات العنكبوتية التي عشّشت في نفس عبد الرحمن ونسجت شبكتها الخانقة على إرادته، لقد نفض يديه مرّة واحدة من تراب آماله في أن يخترق ذاك الغشاء الرقيق، وفي أن تخترق حيامنه حصن بويضة شيرين لينتج شبيها له يحمل رايته بعد موته، مثلما نفض كفي نزوعه الروحي، بعد أن ازرقت عيناه من النظر إلى السماء وهو يطلق دعاءاته المتلاحقة (شبكة الحرب العنكبوتية) بلا رجاء . لكن العملية الأخيرة وبسبب إثارتها لمشاعر الذنب الحارقة لا تأتي فورا، بل عبر انتقالات تدريجية تتخللها ردّات ومخاوف وصراعات متضادة ممزقة بين السلب والإيجاب والإقدام والإحجام . يبدأ عبد الرحمن أولا باندفاعة توسل عنيفة نحو الله في ليلة زفافه كي يخلّصه من مأزق العنّة المخجل . ولكن بعد أن تتطاول المحنة ولا يتسلم ردّا ناجزا على شهقات روحه يبدأ بالتساؤل: هل الجحيم، جحيمه الشخصي هذا، من ابتكار الرب أم من ابتكار البشر؟ . وهي خطوة ليست هينة على طريق إستقالة أناه من ثوابتها الروحية، فهو وتحت غطاء "بريء" من الجهل يتساءل عن مصدر العذاب، فيسنده منكرا إلى الله . لكن العقلنة آلية حاضرة كدرب للردة التكفيرية التي تعلق بها خيوط " تفلسف " لزجة موحية . هل الفلسفة صدى الوجدان الآثم؟: (أدرك عبد الرحمن أن كل ما خلقه الله وهم، حتى أجسادنا، وتساءل: - أليس الزهّاد أقوى العاجزين على الإطلاق؟ - لماذا؟ - لأنهم أدركوا بأن العصيان ضد هذه الإرادة هي نقل اللذة من أجسادهم إلى عقولهم - ص 120) . لكن هذه الردّة التكفيرية تعيدها إلى صراطها المستقيم سياط العجز ومخالب اليأس التي تنهش روحه فيبدأ بإطلاق تساؤلات حوارية هو الذي يقدم لها أجوبة افتراضية: - هل العجز الذي يقوّض داخله من ابتكار الله؟ فإذا كان هذا هو الأمر، يعني أن تصرّفات الله الذي آمن به طيلة حياته، دون أن يحتاج إليه مرّة واحدة، وصلت إلى حدّ اللامبالاة، بل الإستخفاف بالطاقة البشرية العظمى – ص 123) .

وحين نراجع القاموس اللغوي الذي استخدمه الروائي في روايته، فسنجد أولا – وبالإستناد إلى قواعد النصين المقتبسين من جديد – أن الأسماء والأفعال والصفات من ناحية، والصور التي يشكلها منها، وبمسارات تحليلية التفافية، مشتقة من المعضلة المركزية في الرواية، معضلة الصلات المحارمية والتي تنضوي تحت خيمتها مشكلات العجز عن الإفتراع، وفض غشاء البكارة وما يتفرع عنها من تمزيق ودم وحيامن ولزوجة وأنسجة وبئر وأفاع و.. و .. و عناكب . فرمز العنكبوت الذي استخدمه شاكر وأحسن توظيف معانيه الرمزية، صار رمزا كونيا هائلا . فالرغبات المحارمية تنسج شبكتها في أرواحنا بطريقة عنكبوتية لزجة، خانقة، ومحاصرة لا تترك للفرد مفرا، فهو أما أن يكبتها، وهو المتوقع، فتنسرب في مسارب الإبداع والعلاقات اليومية بخفاء مسموم وشديد الدهاء كما حصل في رواية شاكر، وأما أن يقترفها الفرد فتكون الطريق المستقيمة نحو الكارثة، لأنها هي التي ابتدأت بها قصّة الخليقة، ورحلة أعمارنا الشقية، لأهميتها الحاسمة . والخطيئة هي التي جعلت للحياة البشرية، وحتى لله، معنى وأصالة . فلو لم يخرق آدم وحوّاء حدود الأمر الإلهي بإثمهم المحارمي وتحت أنظار الله (مثل لص يمد يده في جيب الشرطي الجالس بجواره !!) الذي كان ممكنا أن يزعق بهما فينتهي كلّ شيء، لما امتد نسغ الغواية الباذخ في عروق أرواحنا . وحين أقول أن الخطيئة الأولى هي من طابع محارمي فلأنها، إجرائيا، لو لم تكن كذلك (في دلالاتها الرمزية العميقة) لما استحقت سخط الآلهة على فعل متوقع بين زوجين أولا، ولأن خلق حوّاء الزوجة من ضلع آدم كناية (مقلوب رمزي) عن أنها أخت – وفي تأويل أعمق أم ثانيا . يقول جيمس فريزر صاحب الغصن الذهبي: (إننا لا نرى جيدا ما الذي يحيج غريزة متأصلة إلى أن تُعزّز بقانون . إذ ليس هناك من قانون يأمر الإنسان بالطعام والشراب أو ينهاه عن وضع يديه في النار . والناس يأكلون ويشربون ويبعدون أيديهم عن النار بصورة غريزية خوفا من العقوبات الطبيعية . وهذا الذي تحرّمه الطبيعة وتعاقب عليه ليس بحاجة لأن يُعاقب بقانون . ولهذا فنحن نستطيع أن نقبل بلا تردّد أن الجرائم الممنوعة بقانون هي حقا جرائم يرتكبها بسهولة كثير من الناس بحكم الميل الطبيعي . ولولا وجود الميول السيئة لما وجدت الجرائم، ولولا وجود الجرائم لما كانت هناك جدوى في منعها) . إن الميل المحارمي هو غريزة أصيلة مخيفة، ولأنها غريزة نحتاج لأن نلجم اندفاعتها الجامحة بقوانين رادعة وعقوبات جسيمة . وفي المتحف العراقي، قبل نهبه من قبل الأمريكان الغزاة، رقم طيني سومري يصوّر رجلا وامرأة عاريين وبينهما شجرة وقد التفت عليها أفعى تهمس في أذن المرأة . بماذا تهمس في أذنها؟ بالشيء الذي كان لفؤاد التكرلي الريادة في أن يكتب أول رواية عنه في الأدب العربي وهي روايته " بصقة في وجه الحياة " عام 1949 . وبالشيء الذي صرخ به شاكر نوري في آذان وجداننا حتى مزق غشاء طبلتها .

إن اقتراف الخطيئة الأولى، كان مفتاح كل الخراب الوجودي الذي نعانيه منذ آلاف السنين، فبسببه طردنا من الفردوس، وهي كناية عن أن لفظنا خارج الرحم الأموي، وقطع صلاتنا الحبية (المحارمية) بالأم، يعني العيش في شقاء مديد قوام سعيره النزوع المجهض للالتحام من جديد بموضوع الحب الأثير إثما . لكن هذا النزوع يوازي الموت كمكافيء رمزي وفعلي . رمزيا تحويل الإلهة الأم إلى مومس تتكفل الأساطير بوصفها بالبغي المقدّسة لاستعادة هيبتها، وفعليا فإن تحويل الموضوع المحرّم إلى موضوع جنسي عملي يعني موته في أرواحنا، لأن قيمته مستمدة من منعته على أذرع الغريزة الآثمة الأخطبوطية (ولنقل العنكبوتية بصورة أكثر إحكاما) وما جسّده الروائي هو عين الخراب المتوقع . فغريزة سفاح المحارم كما يصفها جيمس فريزر، وكما تصفها الواقعة الدينية لن تنتهي إلا بالموت . يقترف الإبن الأكبر فعلته فيفترع زوجة أخيه العاجز الذي يموت في النهاية كسيرا منخذلا . ثم يقوم الخطّاء الآثم بقتل زوجة أخيه شيرين، بطعنها بسيف في قلب العنكبوت، العنكبوت المرسوم على ثوبها بين النهدين والركبتين، والذي لم يكن متأكدا هل هي حقيقية أم رسما !! . وهذا الإستيهام نابع من الآلية نفسها التي قُلبت فيها أسطورة الخطيئة الأولى ليلقى اللوم على أكتاف حوّاء المسكينة: (ودون إرادتي، ذهب تفكيري صوب شيرين، إذ أنها لم تهدأ بعد الإنجاب بل تحولت إلى نمرة جريحة، تاركة باب غرفتها مفتوحا على مصراعيه (....) اكتشفت بأنها امرأة لا تستطيع مضاجعة الرجل سوى مرّة واحدة في حياتها أشبه ما تكون بزوجات العناكب المفترسة التي داهمت مخيلتي في إحدى ليالي الشتاء الطويلة على صفحات كتاب قديم – ص 155 و156) . لكن العناكب الآثمة نسجت شبكتها المميتة في روح الراوي، قبل أن تُسقَط على شيرين . وعند هذه اللحظة، لحظة قتله لشيرين، يكتشف الراوي أن أخاه الراحل العاجز كان يمضي زمنا في غرفة العناكب قبل لجوء شيرين إليها . وهنا – وعودة إلى التوليد الرمزي الذي قدمه النصان المقتبسان – نقف أمام التعددية الدلالية اللاشعورية – التي تصب في نتيجة الخراب النهائي الواحدة – لفعل العنكبوت . فقد نسجت الأم أولا شبكة التثبيت العنكبوتية حول وجود ابنها فأوصلته إلى العجز والفناء . كما نسج الإبن الأكبر شبكة المحارم العنكبوتية حول وجود العائلة برمتها فأوصلها إلى الدمار الشامل، الذي لم يستثنه هو ذاته، فقد انحفر اسما عبد الرحمن وشيرين في ذاكرته إلى الأبد كعلامتين على وجدانه الآثم، وتجاهل سرّ ابنه غير الشرعي (الذي لا يعرفه سوى أمي وتلك العناكب وربّما الله .. ومنذ ذلك اليوم أنظر إلى العالم عبر نافذة العنكبوت لأن المنافذ كلها، على ما يبدو، قد انغلقت أمامي بإحكام في تلك البقعة النائية، مدينتي – ص 160 و161) . وشيرين بدورها، اختارت غرفة العناكب، لأن في مثل هذه الغرفة، يتوفر المناخ الملائم لانطلاقة الغرائز المحرّمة . فليس غير اضطراب العلاقات والمواقع في نسيج الأدوار العائلية من فرصة لانفلات المكبوت المحرّم مثل حضور ظروف ضاغطة تعيد إلى اللاشعور تلك الحاجة الأصيلة للصراع على موضوع الحب الأصلي بين الأبناء ولاشتعال المنافسة القابيلية التي هي في جوهرها منافسة إثبات كفاءة أمام طيف الأم المحاسب، الأم التي أشعلت نار المنافسة والإنجراح والنقمة في نفس الإبن الأكبر لحظة إرسالها الرسالة التي تدعوه فيها لحضور عرس أخيه / ابنها الأغر، بل إنها زرعتت هاجس الخطيئة في أعماقه لحظة تسلمّه تلك الرسالة . إن الأخ الأكبر يتمتع بمشاعر أب تجاه الأخ الأصغر: (الأخ الصغير ما هو إلا مخلوق ضعيف، أجثم عليه بظلّي الثقيل، أب آخر في صورته الهزيلة، أدركت بأن فض البكارة كان سلاحي الوحيد في معركة غير متكافئة مع أخي الصغير – ص 63) . وهذه " الحرب " التي تبدو صغيرة هي التي أشعلتها الأم " من حيث لا تدري " بين الأخوين، تلك "الحرب" التي حسمها الابن الأكبر في افتراع زوجة أخيه، وتوليدها الشبيه المنتظر، ثم قتلها . لكن كل ما قلناه لا يمثل سوى مثقال ذرة من الخراب الشامل الذي فرضته العنكبوت الأكبر، عنكبوت الحرب الفعلية، وخرتيتها، العنكبوت المعلقة صوره – كما يقول الكاتب – على جدران كل البيوت . محنة الإنخصاء الشاملة التي خلقتها الحرب أصابت الوطن والمدينة والجماعة والفرد على حد سواء . خرّبت الوجود كلّه بصورة شاملة، وجعلت أهل المدينة جميعا يرزحون منخذلين تحت أقدام العنكبوت الهائلة التي جردتهم من أي بادرة للفعل والمواجهة، لا أحد حاول تمزيق هذا النسيج الخادع (لا أحد . لأن من كان يتجرأ على هذا الفعل يُقتل في الحال ويُملأ فمه بالرصاص . وكلما أصاب هذا النسيج نوع من التمزق أو الشقوق بادر الأزلام المدججون بالسلاح إلى نسج خيوطه الواهنة في أوقات نومنا أو قيلولتنا أو راحتنا، ونحن لانزال نبحث عن المعاني التي ضيعناها في زحمة البحث عن الطعام – ص 116) . لقد غار مبضع العجز عميقا، وعميقا جدا في لحم الإرادة حتى لم تعد تفلح أي صيحة نخوة أو صرخة استنهاض . لم تنفع حرقة الأم / أم عبد الرحمن وهي تصرخ في وجوه النسوة في الحمام وتعلن لهن أن الحرب حوّلت حيامن الرجال إلى سموم قاتلة تنتج الأجنة برؤوس الأفاعي (ماذا تريدون أكثر من هذه اللعنة الربانية؟! ماذا دهاكم حتى تصمتوا هكذا؟ إصرخوا .. إصرخوا .. اللعنة على الثدي الذي أرضعكم – ص 119) . لقد خنقت قبضة الطغيان الباطشة كل متنفس للنهوض، فصار أهالي المدينة المذلون المهانون، يسقطون عجزهم على حالة عبد الرحمن، وكأنه الوحيد الذي تسببت الحرب في خذلانه، في حين أن حالة الإنخصاء الفاضح عامة ولم توفر أحدا . كانوا يقفون أمام مراياهم بلا خجل ليتأكدوا من صحة ذكورهم، متناسين ومتغافلين عن أن نذير الخراب قد وصلهم من خلال عجز عبد الرحمن، هذا العجز الذي لن يفلت من أذرعه الأخطبوطية أحد . والمصيبة أن لا مأساة إنخصاء عبد الرحمن هزّتهم، ولا موته . فماذا ينتظرون؟ . وهذا التراب الأحمر الذي كان عبد الرحمن يسمّيه الوطن والذي اختلطت به حيامن أصدقائه الجنود الشهداء، لم يكن يدري ماذا يعني له سوى مقاطعات وأقاليم ومناطق مدججة بالأسلحة . أما مدينته المحتضرة تحت وابل من المطر الأسود، فقد ابتلعت غولة الحرب رجالها وأبناءها وأصبحت الدولة الفاسدة " تدلّل " للزواج من أرامل الشهداء مقابل قطعة أرض وعشرة آلاف دينار . وهذا ما اقترحته نسوة المدينة على الأم . وقد شلّ الخوف إرادات كل الرجال: (ومثلما كان أخي يتضاءل تحت عجزه كانت مدينته تتآكل تحت عبء تاريخها القديم الذي تحاول استعادته، لكنها في كلّ مرة تسبح في دماء أبنائها الطيبين، المخذولين، المهانين، في القلاع التاريخية المنتشرة هنا وهناك، وقد تحولت الى شاهد عيان على ذلّ الهزيمة التي لم يتجرأ أحد من الأبناء أن يسميها باسمها - ص109 و110) . لكن عنكبوت الحرب المرعبة مسؤولة عن تفاقم محنة عبد الرحمن وإيصال العلاقات العائلية إلى هاوية الإنحراف والموت، فقد كتب في دفتر المذكرات الصغير الذي تركه لأخيه الكبير الآثم يكشف فعل غولة الحرب التي لحست راحتي قدمي قدراته النفسية والجنسية: (اعتقدتم جميعا بأن عجزي نزل من السماء، لذا ارتضيتم به تماما كما ارتضيت أنا بمصيركم: أنتِ وأخي الكبير وشيرين . هكذا ارتضيتم بعجزي لكني لم أرتض به لأني أعرف سره، وهو ليس الله كما توهمتم طيلة تسعة أشهر .. .. إدارة المستشفى العسكري طلبت إنكار عجزي، وأحاطت تقاريرها بسرية تامة .... في لحظة خاطفة، نفذت شظايا ملتهبة تائهة مثل سهام نارية إلى خندقنا واستقرت في رؤوس رفاقي الجنود الخمسة، فيما لصقت شظايا أخرى بين فخذي، حاولت دفعها والخلاص منها، دون جدوى لكنها استقرت في ألياف ذكري وعروقه، وحوّلته إلى جلدة رخوة رقيقة مشلولة متدلية بين فخذي المحترقين – ص 151 و 152) . لقد لاحقته ضغوط الحرب الكارثية بدوي قطاراتها الليلية المخيفة في الكوابيس التي أقضت مضجعه، وأصابته بالإنخصاء النفسي قبل الجسدي الفعلي . وفوق ركام هذا العناء المفزع فقد جلدت هذه التأثيرات وجدانه بسياط الشعور بالذنب حين بدأ يشعر يوما بعد يوم، وهو يرى أصدقاءه الأحبة من الجنود تجتثهم الشظايا العمياء ويذهبون إلى آلهة الحرب كالقرابين . لكن المضاعفات الأكثر تحطيما والتي تترتب على العجز الفظيع أمام عنكبوت الحرب – وهذه رسالة شاكر نوري – تتمثل في أن العاجزين المحطمين مشلولي الإرادة حين يعجزون عن ردّ العدوان الساحق الموجه إليهم، فإنهم يبدأون كالعناكب بأكل بعضهم بعضا . التقطوا كبش فداء مهشّم هو عبد الرحمن الضحية ليصبّوا كل عدوانهم عليه من خلال تساؤل هائم يدور في غياهب ليل المدينة السرية / ليل الخطايا المتواطأ عليها: - ما الذي فعله بنا عبد الرحمن؟ . وضمن فعل نصفه دفاعي ونصفه الآخر انخذالي آثم، قام الإبن الأكبر بفعلته الدرس ليثبت – عن طريق مداورة مضللة – أن لابدّ لأحد من الأبناء أن يقوم بدور الشيطان، أن يقتل العجز بصورة إبليسية مدوّية لعلها وعساها أن تدق ناقوس الصحوة .. أن يضاعف من فاجعة المهانة والإنذلال ليعالج الداء بداء أشد صعقا وتمزيقا للوجدان المستكين .

وقفة: نبوءة أم استشراف؟:

وفي ما يشبه النبوءة، أو لنقل الإستشراف التحليلي الممزوج بالحدس الساخن، تتوقع الأم الخبيرة أن حربا مقبلة أخرى قادمة، رغم أن المتسلطين ينقلون صورة كاذبة عن هذه الحرب الراهنة . وفي الحوار لا يُفصح الروائي بشكل قاطع عن الجانب الخاص من هذه الحرب والذي يوحي بأنه سيجري على أرض بيت العائلة من خلال مراقبة الأم لشيرين ولخيوط العناكب التي تتدلّى من نهايات أظافرها كرمز للآثام التي ستعصف بأسس علاقات هذه العائلة، بل يموّهه من خلال تغليفه بالهاجس العام وتوسيع دائرة التوقّع لتكون هذه الحرب شاملة تفجّر الداخل (عالم العائلة الملغوم بعقدة الإغواء والخطيئة) والخارج (عالم الوطن / المدينة الذي مات معظم أبطاله دون صخب، هناك في جبهات القتال، ودفنوا بأكياس مطاطية في الخنادق التي حفروها بأيديهم – ص 111)، ويقدم صورة حوارية مربكة يحصر فيها استشراف الحرب العامة المقبلة، بل الهزيمة المحتمة فيها، بين مقوسين، تمهيدي وختامي، عن شرارة الحرب الخاصة التي ستمزّق حياة العائلة الآمنة، حرب العناكب في الخارج ستفترس كلّ شيء، وتقضي على كلّ شيء، وسيكون تأثرها الأهوج الأكبر هو في حرب عناكب الداخل، عناكب النفوس: (كانت أمي كما يبدو تراقب شيرين، وخيوط العناكب تتدلّى من نهايات أظفارها الطويلة، وتمد جسورها بين بعضها، وتنقل مؤنها إلى زوايا الغرفة البعيدة كأنها تترقّب وقوع حرب لم يفكّر بوقوعها ألمع الخبراء . - لماذا؟ - لأن خبراء الحرب لا يقرأون تجاعيد الحرب تحت أقدامهم . - كيف؟؟ - لأنهم ينقلون الأخبار المزيفة عن هذه الحرب - أية حرب؟- هذه التي نحن فيها ... " وتلك القادمة " - سنخسر ما دامت أصناف الآلهة لا تريد سماع الأخبار السيئة آمنت بآراء أخي وجميع مسوّغاته في عدم الالتحاق بجبهات القتال . هذه هي حربه، انتقلت بكل عتادها وضجيجها ودخانها المميت إلى منزلنا . ومن العجيب أن أمي حذّرتنا مرارا من حرب العناكب، وسيرتها الغادرة التي تتآمر في الخفاء وتكافح لتمد خيوطها اللزجة على أنوفنا وأفواهنا لتخنق أنفاسنا وتقضي علينا، دون أن تتزعزع خيالاتها عن حمّى فض البكارة، وهي تجبرنا على النهوض فجرا، كل يوم، لنطرح على أنفسنا سؤالا ببرود: - هل فضّ هذا اللعين بكارتها حقا؟ – ص 60 و61) . ولم يأت هذا الاستشراف المستقبلي الكارثي عفويا بل محكوما بقصدية عالية، لأنه يعود ليتكرّر على لسان جنين السفاح في حواره المربك أيضا مع الراوي / أبيه الفعلي: (- أبي الذي أعرفه جيدا .. أنت تُلقي بي في هذا الكون دون مسؤولية - أية مسؤولية؟! - مسؤولية إنجابي .. أنت لا ترى .. - ماذا أرى؟ - هذا المطر الأسود النازل علينا من السماء .. هذه الأطنان من الأسلحة المكدسة في بطون الجبال . - عن ماذا تتحدث يا بني، أيها الجنين الذي لم تتكون عظامك بعد .. عن هذه الحرب؟ - كلّا عن الحروب المقبلة .. - لا أعتقد بوقوع حرب أخرى بعد هذين الحربين . - كيف لا تعتقد وأنت وأمثالك يعدون لها من وقود الأبناء ما يكفي لإشعال المئات منها – ص 101و102) . ومثلما استنام الجميع إلى خديعة أن الحرب الأولى سوف تستمر لأسابيع، وكانت النتيجة سنوات طويلة من شلالات الدم وطوابير الشهداء والقتلى والجثث المتفسخة، يدق الكاتب ناقوس تحذير مدوّ عن أن الحرب الثانية ليست آخر الحروب، وأن هناك حروبا مقبلة، وهو ما لم يكن يريد أحد تصديقه آنذاك في نوع من الإنكار، وأحيانا العقلنة، المطمئنة . يأتي التحذير الصادم من الجنين، جنين الآثام المغدور . الحكمة على لسان الكائن الذي لم تكتمل أعضاؤه ولم تنضج أداة الحكمة في جمجمته الهشّة، في مفارقة مبعثها أن الراشدين " الحكماء" كانوا - حسب الجنين الحكيم - يغذّون محارق الحرب الهائلة بوقودها من الأبناء / الديدان، رغم أن شهية الإنجاب قد قلّت بسبب (موت الأبناء الواحد تلو الآخر بالرصاص الرخيص المستورد بمئات آلاف الصناديق، ولم تكن مهمة هؤلاء الأبناء سوى صنع الأعداء، سواء بالتقارير السرّية على الورق أو في الواقع . واكتظت بلادنا بالخنادق والمتاريس والملاجيء والحفر والأبنية الغامضة واللافتات والصور والمشاريع القومية . وتعالت أصوات المذياع لتعلن ثمن المكافآت لصنع مزيد من الأبناء – ص 103 و104)

 

عودة ثانية:

ومن السمات الأسلوبية الأخرى للفن العراقي الذي يكتب بعد الحرب هو شيوع المفردات والصور الحربية في استخدامات الكتاب في الأجناس الإبداعية كافة . فلا يوجد نص كُتب في أثناء أو بعد الحروب الكونية الثلاث الأخيرة التي دمّرت العراق واكتوى بنيرانها أدباء المحنة، لا تتسيد فيه مفردات عسكرية وحربية تعبوية وسوقية تُستخدم في مواضعها المناسبة لتمنح النص زخما انفعاليا محتدما وعاصفا، وتوفّر المادة التصويرية الشديدة الإبهار التي تقدّم الوقائع بصورة شديدة التأثير ودقيقة التعبير . وفي رواية شاكر نجد مفردات مثل: الملاجيء، الشظايا، الخنادق، الحرب، النصل، الانتصار، الجثث، العتاد، السلاح، المعركة، العتاد، الأرتال الألغام .. إلخ . كما أن لغة النص الجديد صارت عنيفة مزحومة بالألفاظ التي تعبّر عن دوافع العدوان والموت: الدم، التمزيق، الخنق، النخر، التفسّخ، الحرق، النهش، التعذيب، الأكفان، القبور، الديدان، القيء، البول ... إلخ .

ومن الناحية الزمنية، جعل الروائي وقائع الرواية تدور على مدى تسعة شهور (من أيار إلى كانون الثاني) وهي الرحلة الزمنية التي يتشكل فيها الإنسان من المني إلى المنية إذا جاز لنا استعارة بيت شعر يقول فيه " توفيق صايغ ": هذا أنت .. من المني .. إلى المنية " . وعلى ساحة هذه الفسحة الزمنية القصيرة تدور رحى حرب وجودنا بما تحمله من أقدار مرسومة تحيط بنا كشبكة عنكبوتية ضخمة ولزجة نحاول عبثا الخلاص من آلامها الجسيمة . وقد تنقل الكاتب بعواصف الأحداث بين الفصول الأربعة مبتدئا بالربيع ومنتهيا بالشتاء ليرسم متضادات إيحائية واسعة الدلالة، فمع الربيع، شهر النماء والانبعاث تقع أولى نذر الكارثة التي ستستفحل في الصيف والخريف، ولن يطفيء ألسنة لهيبها زخّات المطر الذي جاء أسودا بلون غريب صبته سماوات الفاجعة الكالحة .

ولا يمكن أن تستكمل أي رواية سماتها البنيوية من دون ما أسمّيه بـ " فسح التأملات السردية " التي نمت وتعزّزت مع تنامي اشتراطات الحداثة في السرد . فلو افترضنا أن الروائي – أي روائي – ينطلق بنا بقطار الوقائع من البداية حتى النهاية، دون أن يتوقف بنا في محطات محسوبة لمراجعة التحولات التي حصلت في أعماق الشخصيات وسلوكاتها، وتأمل الدوافع التي أشعلت الصراعات والأفعال الآثمة، وفعل وتأثيرات المكان في المتغيرات التي تصيب شخوص الرواية، والكيفية التي ينظرون فيها إلى المعضلات الوجودية الأساسية وأهمها معضلة الحياة والموت فلن تكون بين أيدينا رواية، بل مجموعة قصص وأحداث متسلسلة أو متراكبة . فلم تكن أهمية رواية الجريمة والعقاب تكمن في قتل راسكولينكوف لليهودية المرابية، فهي جريمة تحصل في الحياة البشرية، وقد قرأها دوستويفسكي نفسه خبرا منشورا في إحدى الصحف الروسية . الأهمية تكمن في الكيفية التي قام بها الروائي العظيم بمراجعة الخراب الذي خلقته الجريمة في حياة راسكولينكوف، والمناقشات حول العدالة والقانون والقوة التي طرح فيها آراء حول عدالة النبي محمد (ص)، ثم، وأعتقد أن هذا هو الدرس الأساسي الذي أراد دوستويفسكي تقديمه إلى الإنسانية ويتمثل في أن أي تغيير – وفق المشروع الراسكولينكوفي الثوري - يبدأ بالدم سوف ينتهي بالدم . ومن نافل القول أن نذكّر بأن عظمة رواية الأحمر والأسود لا تكمن في " الحكاية " بذاتها، حكاية الحب الممرض بين ماتيلد وجوليان سوريل ومحاولة الأخير قتل مدام دو رينال في الكنيسة، لكنها تتمثل في مراجعات سلوك الجزويتيين المنافقين وصراع الحب والكره والموقف من الموت . يقول جوليان سوريل قبل لحظة إعدامه بالمقصلة: يا إلهي .. وأنا في طريقي إلى المقصلة تأتي إلى ذهني كل أبيات الشعر الجميلة !! . هذا يكفي . وقد أدرك شاكر أهمية هذه الفسح التأملية السردية في الغوص في أعماق شخوصه وتفحص معضلات الوجود، فكان يقف بين كل حدث وآخر ليراجع المغزى الوجودي العميق لما قامت به الشخصيات من أفعال، وما وقعت فيه من عداءات وساعات نحس، وكيف تشكلت مواقفها المختزنة من السلطة والموت والله .. إلخ:

- ينتقل الروائي من الفردي إلى الجمعي، من تلصص أمه وهو على الإبن وزوجته ليراجع دوافع الأم منتقلا إلى فضول الآخرين ليكيّف أدبيا معطيات نفسية تحليلية تسهم في سبر أغوار لاشعورنا: (.. انفجرت الدموع في عيني أمي، وخرج منها نحيب يفصح عن حكمة باطنية، فهمت منها أن من يتدخل في شؤون الآخرين يدس أنفه في عفونة نفسه ! الآخرون يتدفقون على منزلنا ليتلصصوا على حياة العريسين، ولكل واحد منهم فتوى، يواصلون حياتهم ويتغذون بأخبار الآخرين، حشرات طفيلية تعيش على دماء الآخرين .. وكلما أصابت ضحية، تتفتح شهيتها لضحية أخرى، وفي بحثها المسموم عن الضحايا لا تجد في النهاية سوى أقرب الناس إليها، وحين لا تجدهم تصبّها في جسدها ثانية لتموت مسمومة، هذا السم تسلل إلينا خفية – ص 40 و 41) . وحين نكمل الرواية، ومن المؤكد أننا نتماهى مع معاني وشخوص أي عمل نقرأه في ظل المهيمنات الاجتماعية التي نكتوي بها، فسنجد أن الكاتب قد لخص بهذه الفسحة التأملية الناقمة أحوال حياتنا المنافقة .

- ومن السقطات المعروفة في الأدب السياسي هي المباشرة في لعن الطاغوت وشتم الطغاة بالأسماء دون استثمار هذه المحنة لاستكشاف الكيفية التي تتشكل فيها العلاقة بين الجلاد وضحيته، والموقف من الإنخذال الجمعي وتأويله سماويا من خلال شخصنته: (سيبذل هذا الجنين جهودا هائلة لفهم ما كان يجري في مساحة عقولنا، ولربما سيحتاج إلى قراءة مئات المؤلفات العلمية والنفسية والاجتماعية .. ربما لفهم دمعة ذرفتها أمي .. ولا أقول ما أحسست به من مشاعر باطنية، عسيرة الفهم في ربط الخيانة باللذة بالخطيئة . بدأ العجز يتجسد في كل شيء: جدران منازلنا، المرايا، العناكب، الأكفان الجاهزة لقتلى الحرب .. أرضنا المشعة بالنلوث الكيميائي ... يا إلهي من أين جاء هذا العجز؟ إذا كان سماويا فلا نمتلك إلا مباركته لأننا حين اخترنا الحياة، قبلنا بالعذاب، هذا الوخز، النصل الذي ينزل من سماء مجهولة، ليستقر في أجسادنا كحشرة شرهة، وإذا كان أرضيا آتيا من شخص أو شيء ملموس، فلابد لنا من لعنه ... ومابين حدودهما تنهار روايات وتظهر أخرى – ص 106 و 107) .

لكن شاكر لا يكتفي بتقنية الفسح التأملية السردية، بل يوظّف مكافئا سرديا مبتكرا يتمثل بما يمكن أن نسمّيه – وهذه سمة أسلوبية في روايات شاكر كلّها - بـ " الفسح الحوارية التأملية "، التي يوقفنا مرارا لنسترجع أنفاسنا اللاهثة بفعل تلاحق الخيانات والمعاصي اللذيذة بفعل تمويهها وتعطيل انكشاف ألغازها، ليقدم حوارات سريعة لا تربو أحيانا على سطرين أو ثلاثة، يضعنا من خلالها وسط شبكة عنكبوتية من التساؤلات المحيّرة التي تفضح عجزنا وآثامنا معا . وفي أكثر الحوارات الموجزة هذه لا نعلم بدقة هوية الطرفين المتحاورين، كما أنها تأتي في أحيان أخرى كمونولوج داخلي معذّب:

- (- من يتجرأ على إنقاذ شيرين من قبضة العناكب غيري؟

 - من أنت؟

 - مغامر شجاع لا يفكّر بالمحرمات

 - لكنك لست مغامرا ولا شجاعا

 - المحرمات نزوة من نزوات الآلهة

-- كيف تتجرأ أن تجعل أخاك العاجز غريما لك .. يا مجنون؟

 - مجنون !!

 - أجل ..) (ص 61 و 62) .

- (- من يدري متى يولد فينا هذا الوحش؟

 - فات الأوان لقد ولد وعاش

 - في أي لحظة من الزمن؟

 - في لحظة لا تعرف بدايتها ولا نهايتها

 - وماذا نفعل الآن؟ ....) (ص 68 و69)

 - (- هل يمكن أن تتصور رجلا يبلع قيأه؟

 - أجل الخنزير وحده قادر على ذلك

 - من بين جميع الكائنات؟

 - أجل

 - وهل ثمة من ينقذ جلده؟

 - في هذه الحرب؟

 - أجل

 - الحرب قيء صباحي مباغت) (ص 69) .

ولكل مداخلة حوارية سريعة موجزة ومغربة ومموهة وظيفة تحليلية أو فنية درامية توغل في تلغيز التساؤلات الكبرى التي تنطوي عليها الواقعة التي تخطف في أحشائها . فكلما هبط إيقاع موجة السرد ليستقر عند قاع الطمأنينة، أشعله الكاتب بحوار سريع، قد يأتي في صورة تساؤل مقتضب، واخز، يخز خاصرة الموجة السردية المتطامنة فتثب نحو أعالي الدهشة والترقب فتوقظ بصيرتنا التي استرخت وقتيا .

وبفعل ثقافة الكاتب النفسية الواسعة – والروائي يفشل إن لم يكن محللا نفسيا غير مجاز طبعا، تصوّر أن دستويفسكي استخدم مصطلح المحلل النفسي قبل فرويد حين جعل المدعي العام في رواية الإخوة كارامازوف، وبعد أن دوّخته وقائع جريمة قتل الأب، يقول في المحكمة: إن هذه القضية لا تحتاج مدعيا عاما، بل محللا نفسيا !! – أقول بفعل ثقافة شاكر النفسية الواسعة فقد استخدم الكثير من قواعد التحليل النفسي بصورة " عفوية " تعشّقت تلقائيا في نسيج السرد فمنحته بهاء الكشف المعرفي الناجز، مثل توظيفه للعبة القرين المعادي، " الهو " المورّط المتسفّل الذي لا يعترف بقيم ولا بحدود ونواه، وذلك في أكثر من موضع:

(قلت في نفسي محاولا اجتثاث هذه الثمالة النجسة العالقة:

- كيف يمكن أن يفكر هكذا إنسان مثلي أحب أمه وأخاه؟

ثم انتبهت صارخا في هذا الليل الخاوي:

- إنتبه، أيها الشيطان، وابتعد عني فهذا ليس يومك الذي تحتال فيه علي

... كان علي أن أصفع قريني الذي يتحداني، نصفي الدنيء الذي يحثني على اقتراف الذنوب والأخطاء دائما:

- يا إلهي .. هل يصل العهر بالمرأة أن تضاجع العناكب؟

- هل اللذة عهر؟

- كلا

- إذن لماذا الكتب السماوية تتحدث عن ملذات الرجل الكبرى دون أن تذكر لذة واحدة للمرأة؟

ثم تلاشى قريني في صفحة المرآة – ص 58 و 59) .

وتلتهب السردية الموفقة في الرواية بالصور الشعرية الرائعة والدقيقة في التعبير عن الأبعاد الغائرة للموقف الصراعي المعني . تأتي التشبيهات خصوصا، شديدة العزم البلاغي والتأثير النفسي الناجز، موجزة وسريعة كإطلاقة بندقية أو لمعة مدية في الظلام – أقول ذلك مادمنا في مجال دائرة التصوير الشعري الحديث -، وفي العادة تستلزم الصورة فهما للون وانعكاساته النفسية ولعبة الضوء والظل، ومساحة المقارنة، وتناسق إيحاءات الصورة الحركية، واستثارة المعاني الرمزية من المشبه به وغيرها الكثير . ولنأخذ أمثلة بسيطة على ذلك:

- (يتعثر بأطراف دشداشته الفضفاضة، وهو يسحب جسده كجرذ أطبقت على قدميه مصيدة – ص 87) . قد نجد في تاريخ الأدب صورا كثيرة تعبر عن اليأس والتسليم النهائي للمصير المحتوم، تلصق بأذهاننا حتى الموت مثل لحظات يأس إيما بوفاري مثلا وهي على الشرفة وقد خذلها الجميع فحاولت الانتحار بإلقاء نفسها إلى الرصيف، لكن الأخير يرتفع إليها . لكنك تستطيع أن تلحق صورة شاكر هذه برهاوة . إن تحويل الإنسان المقهور إلى جرذ يسحب مصيدة عذابه بساقه المكسورة ببطء وانخذال مع إيقاعات صوت ارتطام المصيدة بالأرض الأمر الذي يثير قلق الانكشاف والدمار الأخير . لا يمكن تخيّل هذه الصورة إلا بصورة مشهديّة سينمائية . القاريء الفطري سوف يصبح خطرا على الأدب الحديث، مثلما لن تُسعف الفطرة – التي كانت ذخيرة للشاعر القديم – اقتدار الشاعر الحديث وتمكنه .

- (رأى بأم عينيه، قضيبه، غابة العروق اللانهائية، يتحوّل إلى زائدة لحمية، جلدة واهية، خالية من الشعيرات، تكسوه بثور حمر اندملت وبقيت قشورها، حاول أن يداعبه وهو في الحجرة القطنية – ص 122) .

- (وكلما نظر إلى لذته الميتة، أبصر فيها صورة الله الذي أمسك بقدره مثلما يمسك شيخ متآكل الوجه خرز مسبحته القديمة – ص 125) . ومن دون إدخال وصف تآكل وجه الشيخ الممسك حتى الموت بخرز مسبحته القديمة على الفعل التشبيهي التحرشي، لن تحقّق الصورة فعلها العنيف – والرواية عنيفة منذ بدايتها حتى نهايتها محكومة بعنف الواقع الذي شكل المناخ الكتابي – الذي يعكس بجلاء مهارة الكاتب في التقاط وتوظيف المفردات والصور اليومية أولا .

- (عادت أمي إلى المنزل بعد أن أمضت ثلاثة أيام في زيارة الأضرحة .. وكان لون قماش جدران الأضرحة الأخضر مازال لاصقا على وجهها مثل فيض عشبي أخضر، طحالب خضراء مضاءة بحزمة ضوء في قاع البحر، وقد تصلب إثر اقتحام أذنها صوت خرج من تحت أحد الأضرحة مخترقا القبة الذهبية الشاهقة – ص 132) . وهنا يبرز مزيج من اللعب اللوني التشكيلي على تدرجات اللون الأخضر، الذي يتأسس على إدراك موفق لفاعلية الضوء وهو يسقط على اللون الأخضر بعد أن تخترق حزمه الصفراء ماء البحر .

- (وبعد أن تيقن من خواء جسده، هذا الذي يشهد على احتضار مدينته تحت وابل المطر الأسود، ولا يكف عن الهطول على جسده من ثقوب السقف، فيملأ مساحات جلده الدقيقة مثلما تملأ بقع الزيت الطافية رئات الأسماك – ص 128) . تكتسب الصورة فرادتها الإبداعية الخلّاقة أحيانا من صعوبتها، خصوصا حين نسأل أنفسنا: كيف فكر هذا الكاتب بهذا التشبيه النادر: بقع الزيت الطافية في رئات الأسماك، وكيف غاص في أعماق بحر التشبيهات ليلتقطه؟! .

أما المشهدية الصورية السينمائية التي هي أم الفنون – وليس الموسيقى كما يرد خطأ – فلنأخذ أولا مشهد الرعب الذي يرسمه الكاتب حين تبلغ حرقة اليأس في نفس عبد الرحمن منتهاها، فيرمي من الشباك بالرقى المقدّسة وما يترتب على ذلك من مخاوف تجعله يتخيل أوراقها وقد تحولت إلى شظايا حديدية تغرزها الرياح الهوجاء في وجهه:

- (نظر عاليا إلى صندوق الأحجية الذي لفته أمي بقماش حريري أخضر، وقذفه من النافذة، فتناثر مصيره في أوراقه الصفراء الجافة، وتطايرت حكمة الله في أدراج الفناء ... ثم جال بنظره عبر النافذة ثانية، وارتعدت أوصاله لفعلته المشينة، وتوقّع أن تتحوّل أوراق الأحجية المكتوبة بالآيات القرآنية، إلى صفائح وشظايا حديدية تقذفها الرياح في وجهه وتحرق ملامحه .. فتناهى إلى سمعه صوت رياح هوجاء كأنها تهدّد باقتلاع غرفة عرسه، وترمي سرير الطهارة في الأوحال، وتعيد الدواليب والصناديق والكراسي الخشبية إلى جذوع أشجار وحشية ضخمة، وتبادر إلى ذهنه أن أول ما يطير من غرفته، السقف القرميدي، وينكشف عريه الكامل أمام الله، وتحسّس الكون بملمس يده عندما تلمّس قضيبه في تلك اللحظة – ص 126 و 127) .

ولنترك الكاتب يصوّر مشهد اللحظات الأخيرة من الرواية التي قتل فيها شيرين وردود أفعال عناكب غرفتها الحارسة / حارسة الآثام: (حاولت أن أستل أداة جريمتي من صدرها الهامد، لكن جسدها الطري أصبح قطعة فلّين أو كتلة مطاطية، فيما اصطفت العناكب على هيئة تشكيلات جنود، بانضباط وهيبة على الجدران، أضاف إلى موتها معنى مضطربا يصعب تصنيفه بين خانات المشاعر والأحاسيس، بل وذهبت بإخلاصها إلى أبعد من ذلك حين تجمعت على ألواح نافذتها الزجاجية، تلوّح بأكفها الضعيفة، الواهنة، استكمالا لتوديعها لمأواها الأخير – ص 158) . إن عدم امتلاك متلقي الفن الحديث للعين السينمائية سيفقده لذّة التلقي الحقيقية من ناحية، مثلما يضعف لديه البهجة الحكيمة في استيعاب النصوص المطروحة والاستمتاع بها من ناحية ثانية . وسوف يلتصق رمز العنكبوت بحوّاء شيرين ظلما كرمز للغواية، كما ارتبط بها رمز الأفعى (الحيّة من الحيا الذي يعني الطين وفرج المرأة والحياة) . تآمر على هذه الوصمة الجديدة ببراعة المبدع شاكر نوري الذي خلق أسطورة خطيئة جديدة جعلنا جميعا ننظر إليها بعذاب من خلال نافذة العنكبوت .. نافذة الآثام .

 

................

هوامش:

* نافذة العنكبوت (رواية) – شاكر نوري – دار الفارابي – بيروت – الطبعة الثانية – 2009 .

1و2و3 و 4– طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية – رولان دالبير – ترجمة د.حافظ الجمالي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة الأولى .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1484 الاربعاء 11/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم