قضايا وآراء

السنين إن حكت .. د.شاكر مصطفى و اعتراف خطير لنزار قباني ..

 مسجلة أفكاره بثبات ورقي، قلّ مثيله.. وقد تلمست، أهمية هذا الرجل من خلال شيئين، لازما ذاكرتي منذ عقود .. كان أولهما في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، حينما كنت مراسلاً لصحيفة " الوطن " الكويتية الى جانب عملي الرئيس، مديرا لملحق " جريدة الثورة " .. ففي ذلك الحين زار وفد من الأدباء المصريين بغداد، بدعوة، أظنها كانت من الجريدة، وكان ضمن الوفد المسؤول الثقافي لصحيفة " الأهرام "..

وفي دعوة عشاء على شرف الوفد المذكور، تصادف جلوسي بالقرب من ذلك المسؤول الثقافي، وما ان عرف بأنني مراسل لصحيفة " الوطن " الكويتية، حتى رجاني بأجراء حوار مع المفكر د.شاكر مصطفى، حينما تتاح لي الفرصة لزيارة الكويت.. وقد وعدته خيراً، رغم استغرابي للطلب !

كنت، آنذاك غير مطلع على تراث الدكتور مصطفى، سوى ما كان يرد من شوارد المعرفة البسيطة من الصحف والمجلات ... وفي اليوم التالي كنت عند الأستاذ " عزيز السيد جاسم " طالباً المزيد من أضواء المعرفة عن هذا الرجل الذي حدا بصحيفة عريقة هي " الأهرام " لطلب إجراء لقاء حوار معه من صحفي عراقي !

ومع ضحكة ودودة، مسك " أبا خولة " عزيز السيد جاسم، يدي، ليدلف الى مكتبة بيته العامرة  ليؤشر على رف كامل  أزدان بمؤلفات المفكر ( د. شاكر مصطفى ) ... وأذكر منها : معالم الحضارات، العالم الحديث، حضارة الطين، في ركاب الشيطان، في التاريخ العباسي، العرب في التاريخ وغيرها..

ولم تفتني الفرصة، لأطلب ما كان " أبا خولة " ممتنعاّ عن إعطائه، وأعني بذلك كتبه العزيزة التي لها شئ خاص في ذاته .. طلبت بعض مؤلفات المفكر مصطفى، مع وعد مني بإعادتها بعدة مدة قصيرة .. وافق الرجل النبيل، على إعارة تلك الكتب العزيزة، كما أوفيت بوعدي حيث، أعدتها بتجليد مذهب .

قرات تلك الكتب، فأزدتُ معرفة بأفكار الرجل الموسوعي د.شاكر مصطفى ...

 

حوار وانطباع..

وزرت الكويت في العام 1981 .. والتقيت د. شاكر مصطفى... وجدته، أنساناً ثابت النفس، راجح الحلم، مصيب الفكر... حاورته فوجدته قرشي الأسلوب .. كلامه، صاف، مشرق، لم أجد فيه عوجاً أو أمتاً... وقد خاض في نقاش مسائل فكرية ربما هي عصية على الإفهام لكنه بأسلوبه الممتع، ألأخاذ، البسيط ، تجعل المرء يستوعب ما يرمي إليه ..، وقد أرسلت الحوار ونشر في " الأهرام " .. وتلك كانت بدايتي مع تلك الصحيفة العريقة التي نشرت فيها لاحقاً العديد من الموضوعات الصحفية ..

من الأفكار التي أستمر د.شاكر مصطفى في المناداة بها، هي إن المجتمع العربي بحاجة إلى ثورة على السبات العقلي الذي طبع رجال الفكر العرب في الفترات الماضية ... وقد سبب له هذا الرأي العديد من الإشكالات والمعارك الفكرية لكنه خرج منها منتصراً .. معززا انتصاره بالتأكيد على ضرورة التمرد على الطروحات والأفكار التي أعلن الزمن والتاريخ، وفاتها وحذّر من تلقين عقول وذهنيات النشئ الجديد بأسمال الأفكار البالية، وكذلك من التبعية  لأنها تجعلك  (انت غير ماأنت) أي يصبح المرء ذيلاً للأخر.. كما كان يحذر، باستمرار من الإيقاع السريع الذي يدفع المجتمعات كالحصى امام السيل الهادر، وكان ينادي بالاستقلالية الثقافية مؤكداً إن ذلك هو نقيض التجمد والتحجر، وفي مفهومه ان الاستقلالية ليست الحفاظ على التراث والانكماش ضمن قوقعته، فالثقافة التي لا تتطور تموت .. أنها كائن حي، اما إن تتغير او تموت .والثقافة في منظور د. مصطفى هي تلك التي تعطي للإنسان، موقفاً متميزاً من قيم ومعارف وسلوك وعلوم، ولا أمل للأجيال اللاحقة بأن تكون باهرة ومستقرة إلا بالعلم والثقافة والتكنولوجيا والدأب على ممارسة البحث العلمي ويرى إن التقدم الحضاري مقترن دوما باستثمار العقل  واستثمار كل ما من شانه نهوض الأمة وهذا لا يتم إلا بالوصول الى مواقع الرقي والارتقاء. وان الرهان على المستقبل، يعني عند د. مصطفى الرهان على العلم والمعرفة والثقافة وأسواق هذا المستقبل وسلعه هي الأفكار والمعطيات .

 

الأدب اللاتيني ..

ويدين الأدب البرازيلي للدكتور شاكر مصطفي بالفضل الكبير على مؤلفه، العميق المتمثل بكتابه الفيم ( الأدب في البرازيل) كما قدم أدب أمريكا اللاتينية للقراء العرب من خلال مراجعته موسوعة مترجمة من مجلدين حيث أضاف اليها الكثير من أدب أمريكا اللاتينية ببلدانها المتعددة .. وتعتبر مقالاته التي كان ينشرها تحت عنوان "هل هناك أدب مهجري؟" من أهم ما كتب في مجال آداب أمريكا اللاتينية، حيث فند هذه التسمية من خلال تجربته الشخصية التي استمرت خمس سنوات، وهو من الأوائل الذين وقفوا امام الأدب البرازيلي لمعرفة الترابط بينه وبين اللأدب العربي وقد بشّر قبل عقود من الزمن بان بلدان أمريكا اللاتينيه... قادمة !

لقد لاحظت، ان د. مصطفى يركز، سيما في كتبه التاريخية على الأسلوب الأدبي في التناول، حتى لتخال إن الشخوص التاريخية التي يتناولها كأنها حالة معاشة في الوقت الراهن، والمتابع لنتاجات، هذا المفكر، يلحظ محاربته لأشكال الظلم مهما، لبس من أقنعة الخداع .. وتلك خصلة، قرّبته لقارئه وجعلته، أنموذجا إنسانياً رائعاّ . انه يرى ان الحرية هي أهم معاول هدم الظلم وإنها النسيم الذي تستنشقه روح الحياة وان تعكر صفو الحرية بالظلم، شلّت نبضات القوة في هيكل الحياة ..

وليس في القول من مبالغة عندما نؤكد ان د.شاكر مصطفى من الشخصيات التي تفرض الحب والإعجاب للوهلة الأولى وقد حدثني قائلا انه كان متحررا منذ صباه، شجاعا، قوي البنية وكان ظاهره كباطنه، لم يضمر حقدا ولا حسدا ولا تعصبا وكان أصدقاؤه من مختلف الأجناس، أقربهم إليه أعلاهم أدبا وأكرمهم خلقا.

 

نزار قباني..

ولعل من الطريف والمفيد، ان أشير هنا، ان د. شاكر مصطفى أطلعني على رسالة كتبها له، الشاعر الكبير " نزار قباني " قال فيها مانصه (.. بالنسبة لي لا قيمة لكتاب يصدر عني ولايجد توقيعك.. لأن لا أحد يعرف قيمة شعري أكثر مما تعرف أنت .. أكتب عني يا شاكر لأني أولد على يديك ثانية)

وعلى هذا المنوال، كتب نزار قباني مقالة عن إصدار للدكتور شاكر مصطفى قال فيها ما لم يقل سابقاً بحق أحد ... قال: " لا أدري لماذا كلما قرأت قطعة لشاكر(..) تذكرت رقص الباليه دون أي فن أخر، فغليان حروفه على الورق ..والتنوع الذي يمطرك به كقطيع نجوم، والغنى والأناقة التي قدم بها أفكاره والزركشات الشعرية التي يضعها في طريقك كالهدايا يقع عليها الأطفال في المدفأة في ليلة عيد الميلاد.. كل هذا يذكرني بلوحات الباليه وبحديث الأرجل وهي تلمس خشب المسرح لمساً حنوناً يشبه طيران الفراش الليلي، وحديث الرسغ والمفصل وصلاة  الأصابع وهي تفتح دربها إلى الله  وحوار الأظافر وهي تمسك نجمة وتفلت  .. نجمه"

وفعلاً، إن د.شاكر مصطفى في مؤلفاته، لا يرمي حروفه على خشبة المسرح، كل فكرة لديه تعرف موضعها وكل نقطة، كل فاصلة تعي دورها وتأخذ مكانها المرسوم لها..

رحم الله د. شاكر مصطفى الذي رحل وترك افكاره ومؤلفاته تدور في سماء العالم، تعطي مدرارها لمن يحتاج ..

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1490 الثلاثاء 17/08/2010)

 

في المثقف اليوم